266
2016 )9(
العدد
أن تقرأ رواية في شهر العطلة وتطوي الصفحة الأخيرة منها
وأنت يتملّكك إحساسٌ عارمٌ بالكتابة عنها، من دون أن يكلّفك
أحد بذلك، هذا يعني، أقلّه بالنسبة إليّ، أنّ الكاتب قد أصاب
فعلاً في بلوغ أهدافه. لقد تمكّن الراوي ليس فقط من أسر قارئه
منذ الصفحات الأولى ليلازمه مسار تطوّر أحداث الرواية، إنما
أيضاً من استفزاز وعيه ليطرح عليه ألفسؤال وسؤال.
ليست «شهوة الترجمان» قصة عادية تنتهي إمّا بموت البطل،
أو بزواجه من حبيبته، أو بانتصاره على أعدائه الكثر. جاءت
ناية الرواية فعل تفكير بجدوى الكتابة، بكونا مجالاً حيوياً
يربط المتباعدين، ويضيء المتخفّي، ويهدّئ القلِق. انتهت الرواية
بإبراز ما للوحدة التي يختبرها الإنسان المعاصرمن صفات حيوية
ومفاعيل فكرية راقية.
شربل داغر، الذي نحارُ عادة في تصنيف ما يكتب، ويضعنا
دائماً في حال إرباك تجاهه، أوقعنا في حبال روايته. هل هو ناقد
أدبي وفني، أم شاعر، أم مترجم، أم مؤرخ، أم راوٍ، أم فيلسوف
متخصص بالجمالية؟ هل إنّ كلّ هذه الأبعاد في شخصيّته الفكرية
لعبت دورها في جريان أحداث الرواية وتركيبشخصياتها؟
تسبقك الرواية إليك لتواعدك في عمق أناك، وتستدرجك
رويداً رويداً لتجلس برفقة نفسك وتختلي بها من دون تكلّف.
تمدّدك على أريكة ماضيك كما في جلسة تحليل نفسي، تدعوك
للاسترخاء والتمتّع بجمال اللوحات الفنية والطبيعية المحيطة بك
لتنقضّ عليك فجأة بالأسئلة الموجعة، وتقصفك بعبارات من
العيار الثقيل، إن في دقتها أو فصاحتها أو حِرَفيتها. أسئلة تجعلك
«شهوة الترجمان»
موعد مع الذات
شغوفاً بما سيأتي وحذراً في الوقت عينه. أسئلة قد تبدو أنا لا
تعنيك ظاهراً، إنما تعني البطل، هذا الترجمان المتفوق، الحاصل
على عقد تدريس لمدة سنة في إحدى جامعات ستراسبورغ. لكن
سرعان ما تكتشف أنك متورّط في أسئلته، في مراجعاته المتكرّرة
لذاته بأفكارها وسلوكاتها، متورّط في خياراته، في شكوكه
وتخيلاته.
إطار الرواية يغشّ القارئ فعلاً، إذ تبدو الأمور فكرية،ً
أكاديميةً، غارقةً ببرودة البحث اللغوي والتنقيبفي يومياتٍ شبه
منسية. الهمّ الفكريّ الظاهر، كما يبدو، يكمن فيما إذا كانت الترجمة
بذاتها فعل تأليف أم تكتفي بالنقل بتصرف، بالإضافة إلى الأجواء
الأكاديمية، بما فيها من محاضرات وأبحاث وتوثيق وغير ذلك.
«ألف ليلة وليلة» من جديد تحت الضوء بحجة البحث في
ترجمتها إلى الفرنسية، لكنّ ما يتوصّل إليه القارئ في النهاية يجعله
يعي أنّ نساء الرواية الأربع هنّ منافسات شهرزاد، إنن شهرزاد
بقناع عصري، ويبدو الترجمان هنا قد توشّح بعباءة شهريار. هنّ
يتوكلنّ بقصّ أحداثحياتهنّ ومحطاتها الغنية بالمعاناة، وهو يروي
شغفه بالاستماع والمشاركة. مثل رجل التحرّي، ينهمّ بالكشفعّ
بقي مستوراً في كلّ رواية. شهريار داغر لا يتلقّى القصة وحسب،
إنما يترك لنفسه أن تنزلق في مطباتها. قصص النساء ترافقه حتى
في أوقات راحته، تقضّ مضجعه وتثير حشريته، وتوقظ لديه
الرغبة في خوض المغامرة للوصول إلى الحقيقة. إنّه على الرغم
من محافظته على المسافة الكامنة بينه وبين شهرزاداته نجده يبحث
جاداً عن مخارج لقصصهن، ويشارك البطلاتفي كتابة السيناريو.
هذا الترجمان يتقن فنّ المراقبة والتسلل إلى حيث يحلو للمرأة
أن تحكي قصتها، أن تبوح بمعاناتها، أكانت تنتمي إلى الشرق
أدب وفنون: نقد
أكاديمية من لبنان.
*
*
نايلة أبي نادر




