أجساد معذَّبة وأقوال محتجَزة


فئة :  مقالات

أجساد معذَّبة وأقوال محتجَزة

أجساد معذَّبة وأقوال محتجَزة([1])

تقديم:

عشرون عاما بعد الترجمة الأولى لهذا النص، تلقي نظرة جديدة عليه بثقلها على واقعنا المعكَّر والمكفهر. ترجمتُ النص قبل 20 سنة، وأعدتُ اليوم ترجمته من جديد، وفق معطيات جديدة، وخطورة جديدة. إنه علامة على كل الأجساد المنكَّل بها. يتحدَّث هذا النص عن كتابة عنيفة تقول هزالها وهشاشتها، لأن العنف نقطة عمياء، حليفها القوة، وعدوُّها العقل؛ والقوَّة تُغذِّي نفسها بنفسها؛ أي تبرّر ذاتها من خارج أدوات العبارة ومشتقَّات التعقُّل والتفكير.

بنصّه هذا، كان ميشال دو سارتو يقصد أدوات التعذيب تحت الأنظمة الفاشية أو الحركات والتحزُّبات الأيديولوجية في عزّ الحرب الباردة؛ وينطبق هذا الأمر اليوم على ما يقع للعرب والمسلمين تاريخاً وتجمُّعاً بشرياً. التعذيب أو تعنيف الجسد هو «أدائي» (performatif) بالمعنى التداولي للكلمة، «يقول ما يفعل» بنكران إنه «يفعل ما يقول». ترجمة ذلك، أنه يُنفي انتسابه للعنف بتعنيف الجسد؛ أي بالمفارقة التي تفضح نظام تمنطقه بالاستدلالات والبراهين. وكم من مرَّة خرج الناس يندّدون بمن يصفهم بالكراهية والتعصُّب، بأن يُنجزوا فعلياً ما ينفونه عن أنفسهم!

بينما يستعمل أهل الهمّ المعرفي أدوات الحجاج ومقارعة الأفكار، يستعمل أهل الهمّ الأيديولوجي وسائل الترهيب والتخويف

نقرأ في هذا النص تجليَّات العُنف على الجسد رقناً ورقماً؛ أي خطًّا وكتابةً. يُكتب القانون على الجسد من باب قضاء العقوبة؛ ويُكتب العنف على الجسد من باب التنفيس عن ضغينة. التَّماسُّ الأوَّل بالعالم هو البَشَرة التي سُمي على أثرها البشرُ بشراً، كما سبق لي أن حدَّدتُ ذلك في أكثر من دراسة ومقالة. البَشَرة هي الغلاف الحسّي للبَشَر، تلاقي الإنسان والعالم. تمرُّ الحقيقة عبر البَشَرة بخدشها أو حرقها أو تبريدها ونزع الكرامة عنها لتقتلع اعتقاداً أو اعترافاً؛ كذلك يمرُّ العنف عبر البَشَرة، لأنه ينزع منها ما يخشاه أو يتوقَّاه، وهو تناقضه أمام دعاواه الأخلاقية وادعاءاته والتحلي بالتسامح والإحسان.

وجدنا الغلاف الحسّي والقصدي للبشرية وهو «البَشَرَة»، مثلما هي عليه الأرض من غلاف جوّي (الأوزون)، يُحيط بها ويُوفّر لها مقوّمات الحياة. لكن غلاف البشرية وهو «البَشَرَة»، معرَّض للتَّلف أو الإقصاء أو نزع الكرامة بفعل حميَّة أو مخدِّر اعتقادي أو أنَفَة أو سوء فهم أو ضغينة. إنه غلاف هشّ، إذا انتفى المتنفَّس الإدراكي في شكل القُدرة على التعبير بالضمانات القانونية والإنسانية في حُرية الرأي والاعتقاد، فإن هذه البَشَرَة تختنق، مثلما يختنق البَشَري أو الآدمي في البيئة الملوَّثة. أهي لوثةُ الفكر حلَّت بنا؟ يعترف دو سارتو ككل فلاسفة الاختلاف، الشُكَّاك المعاصرون في النوايا الحسنة للأنوار، بأن العقل يخلّف نفايات يتخلَّص منها، كالجسم تماماً بالمقارنة مع العرق والقيء والمخاط والبراز؛ والنفايات التي يتخلَّص منها العقل، هي ما يُشخّصها في المريض والمعتوه والفقير والقذِر.

لوثة الفكر عندنا، هي أن ما يُعوّض العاهة والحُمق والفقر والقذارة (نفايات ما يتقزَّز منه العقل الغربي ولا يريد النظر إليه)، هو الزنديق والمرتدّ والكافر، نفايات الاعتقاد الصحيح (حسب الخطاب الأيديولوجي والطائفي) التي يتوجَّب التخلُّص منها. تعدَّدت الأشكال (النازية بالنسبة إلى الحس الوطني المتفاقم، التطرُّف بالنسبة إلى التديُّن المفرط...)، غير أن الأساليب هي نفسها: كتابة قانون الإكراه والإخضاع على الجسد الفردي والاجتماعي. ينتفي الإنسان بتعنيف البَشَرة، الصفحة الوحيدة، المرئية والفينومينولوجية التي يكتب عليها التاريخ دماً أو القانون عقوبةً أو العُرف حدًّا، لأنها السطح الوحيد الذي يقول نظام غَوْره وعُمقه الرمزي. كل سطح هو مبتذل. فقط سطح البَشَرة، غلاف البشرية ومنفى الإنسانية، هو من العُمق والغَوْر ما يُسبّب الدَّوخة للمؤرّخ أو الأنثروبولوجي؛ أي القارئ أو المؤوّل لهذه النصوص الغريبة التي وُشمت عليها قوانين نزع الاعتراف.

لا نترجم نصّاً؛ أي لا نقرأه ونؤوّله، سوى في مرآة ما نحن عليه من شرط إنساني وتاريخي. عندما نقرأ نص دو سارتو، نقف عند تشاكُل أساس، هو في الوقت نفسه تماثل والتباس، في أن صناعة اللوغوس الغربي لأمكنة «خالصة» من أجل استبعاد الظلال والهوامش والكوابيس المزعجة، التي تتمثَّل في المحروم والمعتوه والمجنون والكريه والأجنبي والمستعمَر، لم يكن ليختلف في أسّه وأساسه عن صناعة العقل العربي الإسلامي لأمكنة «خالصة» هي القداسة نفسها، المنطقة المحظورة (no man’s land)، الخالية والمقرفة، التي لا ينبغي أن تطأها أقدام القراءة العلمية والعالمة، مغبَّة أن تُرشق بسهام الاتهام بالمروق والارتداد. هذا ما نراه بين الحين والآخر: الولوج في هذه المنطقة الملغَّمة هي على حساب أمن وسلامة المغامر إليها. الداخلون فيها قليل (الحلاج والسهروردي بالأمس، فرج فودة وبختي بن عودة اليوم) والخارجون منها دون خدش أو كلوم هم أقل.

المعركة على هذه المنطقة المحظورة، هي في الوقت نفسه مادية ورمزية؛ لكن بينما يستعمل أهل الهمّ المعرفي أدوات الحجاج ومقارعة الأفكار، يستعمل أهل الهمّ الأيديولوجي وسائل الترهيب والتخويف. مقاصد الهم الأول هي تحرير الكلمة المحتجزة والتذكير بالضمانات القانونية والإنسانية التي ينبغي أن تُوفَّر لحماية الكلمة من كلوم العدوان والتشهير، بينما نوايا الهم الثاني هي الوصاية على الكلمة بحجزها وحجرها عن التعبير. المعركة كما يُقال هي معركة «التنوير»، بين السعي نحو الرُشد العقلي والنضال من أجل الإبقاء في الطفولة العقلية، تحت الوصاية الطائفية أو العشائرية، ذات الأهداف السياسية والوسائل الدينية. هكذا نُدرك حجم المعركة الناشبة اليوم أمام أبواب هذه المنطقة المحظورة، من يريد اقتحامها لتحريرها من الألغام والأوهام، ومن يستميت في الدفاع عنها، بتصنيمها وإقفال أبوابها.

***

الترجمة:

أصبح التعذيب «ممارسة إدارية» منتظمة في مختلف الدول، «رتابة» و«وسيلة في الحكم»؛ دليل على أن الأمر لا يتعلَّق بظاهرة وحشية فحسب، بل أيضاً بظاهرة متأخرة وصلت إلى منتهى جوانب الحضارة كاستثناء وتراجع. فهو يمتدُّ في كل الأنحاء وليس فقط في أبعاد الزمان (النازية) أو المكان (عسكر البرازيل أو التشيلي)؛ والتي تساعدنا على استبعاد انتشارها السَّريع؛ فهو يكبر على وتيرة التمركز التكنوقراطي (ليس الجيش سوى شكل) بدلاً من أن يؤسِّس منفذاً نحو ما يمكن اعتباره قديماً. فهو يُشكِّك في ضماناتنا الأيديولوجية حول «القيم» و«التقدُّم». ليس التَّعذيب سمة خارج الحضارة المعاصرة، والرجوع إلى الماضي هو شرٌّ يمكننا نسيانه أو علاجه كورم الذَّاكرة؛ فهو علامة داخل السلطة؛ يحتاج إلى لغة رمزية وتنظيمات «خاصة» (إدارية، عقلانية) تفترض انتهاكات مبهمة للأجساد.

الحديث عن التعذيب:

أسئلة خطيرة نتوقَّاها بإسنادها إلى جمعيات متطوعة مثل منظمة العفو الدولية أو حركة المسيحيين لإلغاء التعذيب (ACAT)؛ وكأن المتطوّعين وحدهم يمكنهم الولوج في مناطق التعذيب. لا يريد المجتمع (مثل سلطاته) أن يعرف ذلك أو يصدِّق بذلك. على أثر هذه المقاومة التي يبديها الرأي العام، هل يمكن تقديم سبب آخر؟ من الممكن أن الخاضعين للتعذيب يُحرّكون في سجونهم ومعتقلاتهم، وعن غير درايتهم، الآلة الاجتماعية التي نستفيد منها. إنهم الصورة المعكوسة والشرط المسبق. إننا مدينون لهم بالضمانات وجملة الاعتقادات الراهنة، إذا كان صحيحاً أن معاناتهم في الليل وفي الملجأ الذي يقيمون فيه، هي بالنسبة إلى القانون استيلاء على الجسد، وأن اعترافهم هو بالنسبة إلى السلطة عبارة عن إيهام (simulacre). تحمل النوادر التي تعود من السجون والمعتقلات رسالة غير مسموعة لأولئك الذين أفلتوا من التعذيب؛ بمعنى أن النظام الاجتماعي الذي نستفيد منه يتدعَّم بعلاقته مع الإجرام. يُشكّل شعبٌ ذو ضحايا مجهولين هذا التاريخ المنسي والهمس المتواري.

الحديث عن التعذيب هو إدخال الجسد في اللغة؛ هو تحطيم التحوُّل اللامحدود للتشابهات الأيديولوجية أو العلمية أو السياسية في نقطة معيَّنة

تنجرُّ عنه بعض «الحالات»، عندما يكون المعذَّبون شخصيات معروفة، أفراداً من عائلات شهيرة، وتُضاف بعض الملفَّات التي تفلت بالمصادفة عن كل إبهام أو المنتشلة من الصراع، حيث تختفي آثار الجريمة. حشد معيَّن يُهضم في هذا الوقت. لا يبقى منه سوى حُطام الكلمات على السطح. يُدفَع بَاوْ Bao وهو شخص خلاسي أو ملوَّن، المعروف باسم جون باسكاليني، إلى معتقلات العمل، حيث يقيم ستة عشر مليون سجين؛ حيث كان موضوع اهتمام زملائه. لماذا إذن؟ في حقول الأرز الصينية، حيث يشتغل الآلاف من المساجين، يشرح له «سون»: «لا أحد من هؤلاء المساجين يمكنه أن يخرج من السجن، بمن فيهم أنا... إنك الوحيد الذي يختلف باو! من الممكن أن يأتي اليوم الذي تخرج فيه من الباب الكبير. يمكن أن يحدث هذا الأمر لأجنبي مثلك، لكن ليس نحن. إنك الوحيد الذي يمكنه أن يتكلَّم إذا خرجت. لهذا الغرض، ارتأينا أن نحافظ على حياتك يا باو!» (جون باسكاليني، «سجين ماو: سبع سنوات في معتقل العمل في الصين»، باريس، غاليمار، 1975، ص262).

يحمل الرفقاء فوق أجسادهم ثمن إمكانية كلامٍ يحمل صمتهم، وقد أرهقهم الجوع والعذاب الجسدي المسلَّط عليهم في هذا المكان. تماماً مثل الإيهام أو السيمولاكر، تخرج هذه الإمكانية من ألم بعضهم الآخر (كثير منهم يقضي نحبه ليحافظ على حظ الكلام)، غير أن مقدارها إرادي، لأن عليها أن تتحدَّث عن التعذيب، وليس عن النظام. يُشكِّل تعنيف الجسد في السجون والمعتقلات منذ المعذَّبين في البرازيل إلى آرثر لندن (Arthur London)، المعفى من دعاوى ومحاكمات براغ، شرط إنتاج الكلام المختلف ووسيلة لنفوذه خارج الجدران. يناضل الحديث عن التعذيب ضدَّ من يتَّصف بالتطابق في الحقل المغلق للجسد المتفجِّر. ينبعث نظام اجتماعي جديد للغة من هذه العلاقة بالوحشية أو بالدم كما يقول أنطونين أرتو (Antonin Artaud)؛ فهو يصدر عن الوظيفة السياسية للتعبير: الحديث عن التعذيب هو إدخال الجسد في اللغة؛ هو تحطيم التحوُّل اللامحدود لـ«التشابهات» الأيديولوجية أو العلمية أو السياسية في نقطة معيَّنة. إنه إعادة التوافق للعمل التاريخي؛ بمعنى للألم الذي يُحدث قطيعة داخل «أوهام» المعرفة وفردوس السعادة – أو يكون مكبوتاً. يستبعد الألم التآلف الذي يُعبّر بوضوح عن عدمية اللغات (السيمولاكر) وعلى تلاشي الأشياء (الموت). فهو يقع بين الممنوع والمنسي: عودة الواقعي.

لم يعُد موضوع القانون سوى خطاب لجسده القابل للتعذيب أو المعذَّب. ها هنا يبدو في سخريته خطاب الاحترام الأخلاقي الخاص بالوصف الوحشي (tératologique)، الذي يثور دون جدوى من أجل النفوس الطيّبة، ويعرض الرعشة الكبرى للخلاعيات المشاهَدة؛ أو الخاص بالتسليح الاجتماعي والسياسي الذي يَعِدُ بتغييرات وهمية ويضمن «تماسُك» المؤسسات المشيَّدة. لإعادة إدماج الارتباط الكائن بين اللغة والعنف الممارَس على الجسد الفردي والاجتماعي. وللحديث عن التعذيب، لا يكفي إلقاء مواعظ أخلاقية أو وصف فظائع أو الإعلان عن المخططات. ينبغي كما قال ذات يوم ميشال ديغوي أن يكون جسد اللغة في حدِّ ذاته «مُفكَّكاً». على النص أن يعترف بدَيْنه للتعذيب وصيرورته مرسوماً لكلمة بسيطة؛ البداية الهشَّة التي ليست إيهاماً (سيمولاكر) وإصراراً على الرَّفض (non) داخل منظومة الجسد الطيِّع. أصبح إخضاع اللغة من بيكيت (Samuel Beckett) إلى جونيه (Jean Genet) مسرحاً للتعذيب وقوله الفصل.

التاريخ مسجَّل على صفحة الجسد، باعتبار هذا الأخير ضحيَّة مساومات وتواطؤ بين العقل التقني وعُنف السلطة. هذه الوصية الصامتة هي نتاج تآلفهما. إنه الوثيقة (archive). ينسى المؤرّخ باستمرار هذه الوثيقة المشوَّهة، ويستبعدها خارج حقله الوثائقي. لا يدري كيف يذكرها ولا يعرف كيف يستشهد بها. يكتب المؤرّخ على الورق ما يكتبه التاريخ على الجسد. على الحدود التي يزول منها الاختصاص التاريخي، أريد إنجاز مهمَّة سياسية قبل أوانها، وهي قراءة الاعتراف الذي يُعلنه النظام على الأجساد.

صناعة الإيهام بالألم:

كتابة قانونٍ شامل على الجسد لإنتاج الاعتراف: يقع التعذيب في العلاقة الثلاثية للجسد الفردي والجسد الاجتماعي والكلام المقبول الذي يتسلَّل بينهما عقداً. تنقُش حركة الجلاَّد على الجسد النظام الذي يسعى لانتزاع الاعتراف. تسعى السلطة للحصول على الاعتراف كما هو، معيارياً ومشروعاً من ضحاياها ومن الجماعات التي تُدخل عبرها الرُّعب والوشاية. لا يكتفي الجلاَّد بتحريك آلته كاتباً على الجسد القانون الذي يقرأه المحكوم عليه بجروحه، مثلما هو الحال مع التنبُّؤ الجديد لكافكا «مستوطن الاحتجاز». فهو يحتاج إلى «نَعَمْ». يقتضي العنفُ التأييد، ويعمل على اقتلاع التأييد من الألم. فهو يفتح ويثقب ويحرق ويُعذِّب ليستخلص من الأقوال إيهاماً (سيمولاكر) للعقد الاجتماعي. التعذيب هو أسلوب تقني تحصل السلطة عبره على هذه المادَّة الأولية التي دمَّرتها، والتي تنقصها: القُدرة على حمل الآخر على الاعتقاد. على الجسد المتشظِّي الذي ينبثق الكلام من ثناياه أن يسدَّ هذا النقص؛ فهو يُستعمل وسيلةً للحصول على التسلُّط عبر السلطة.

مثلما أن الأجساد استُغلَّت لتنتج الصناعة المتطوّرة والتحكُّم في الطبيعة بالعقل التقني؛ كذلك استُثمر ألم الأجساد المعذَّبة لإنتاج الرضى والطواعية. يحتاج العنف الشامل إلى الموافقة، ويسعى علمياً إلى صناعة بدائل (Ersatz) بالأجساد الحيَّة. غير أن بالاختلاف عن السوابق التاريخية، لا يفترض الاستعمال الراهن للتعذيب سوى أن يكون كلام الإنسان موثوقاً، وأن تُولد الحقيقة من ثنايا التعذيب. إنه يكتفي باستحداث الإيهام. لا يترك اختفاء الاعتقاد من الإنسان سوى الإفك. حينئذٍ لا يفصل التمييز الصحيح الأخطاء عن الحقائق، وإنما يفصل المنحرفين عن الملتزمين. يُعتبر استبدال حكم الكلام في آنٍ واحدٍ مبدأ وإنتاج الجلاَّدين الذين يكتفون بالبدائل: فيما يتعلَّق بالاعترافات، ليس ثمَّ بالنسبة إليهم سوى الإيهام المعدَّل عبر العمليات التقنية الممارَسة على الجسد الفردي، مثلما هو الحال في العمليات الممارسة على الجسد الاجتماعي التي تُغيِّر الرأي العام. يبقى أن نعرف لماذا تحتاج السلطة الاستناد إلى حقيقة الألم لصناعة الإيهام الذي يعترف بعكس ما هو كائن.

التاريخ مسجَّل على صفحة الجسد، باعتبار هذا الأخير ضحيَّة مساومات وتواطؤ بين العقل التقني وعُنف السلطة

طهارة السلطة أو قانون التطابق:

البحث عن الدوافع القديمة للتعذيب، هذا أوَّل عُنصر يفرض نفسه. تُظهر السلطة الشمولية (totalitaire) طموحاً عريقاً مدعَّماً من طرف الأنتلجنسيا التي تبرهن اليوم عن امتدادها الرهيب: الطموح في إنشاء مكانٍ خالص. أبرز التجاوز والارتباط التاريخي بين السلطة المبدعة للنظام والمعرفة الخلاَّقة للعقلانيات عن إمكانية التضخُّم الاجتماعي للمؤسَّسات العالمة التي كرَّست القدرة على تأسيس حقول «خالصة» وتنظيم كل العمليات. يكشف تسييس (politisation) النموذج العلمي عن لُبس هذا «الخالص»: عليه أن يُنظِّم السيادة وعليه أن يستبعد جُملة العناصر لتأسيس النظام ومراقبته. وبالامتداد السياسي لهذا النموذج، فالمجتمع نفسه قد يُنتج كنظامٍ مقابل الإقصاءات المؤسِّسَة لمكانٍ خالص. دون أن تتأخَّر، تُضخِّم هذه العملية المسعى العلمي. فهي تُحقِّقُ المشروع الذي هيَّأته إلى حدٍّ كبير الطوباويات من القرن 16 إلى القرن 18م: تحديد المجتمع بالعقل وإنتاجه كنص. لقد بيَّنت هذه الطوباويات من قبلُ، أن عقلنة اجتماعية مماثلة كانت تشترط إمكانية إقصاء كل ما لا يمت إلى النظام بصلة. كان عليهم معالجة مسألة هذه البقايا.

ماذا نفعل بالنفايات التي أنتجها العقل؟ الخضوع، القمع، تنظيم المجارير، كانت هي الأساليب الحِرَفية أو الطوبوغرافية لإزالة الانحرافات وإقصائها. ففي التكنوقراطية المعاصرة، يقع التعذيب بدقَّة في ضمِّ ما يمكن إقصاؤه لكي يسود النظام. كل مصطلحاته التقنية تعلن عن ذلك: يتعلَّق الأمر باستبعاد «القذارة». ترتبط القذارة (saleté) دائماً بتحديد ما هو «خالص». يهتم البرنامج أو الفرد بهذا التعريف بتأدية الدور الذي أنجزته الحقيقة قديماً في الوقت الذي أقصت فيه شيئاً ما (آلهة مزعومة، الخطأ، الهرطقة، الشيطاني). الصورة الشاملة لهذه الحقيقة ما زالت كائنة اليوم، غير أن محتواها قد أصبح نظاماً اجتماعياً-سياسياً. ما زالت سلطتها في حمل الآخر على «الاعتقاد» متواصلةً، لكن متكررة بقوة التنظيم التكنوقراطي. لا يزال الأصل المذهبي يتمتَّع بأهمية قصوى. تكشف إحدى الكتب المرموقة في الأنظمة الشمولية (totalitarismes) عن هذه الأهمية.

منذ «كفاحي» (Mein Kampf) [لهتلر] إلى «الجيوسياسة للبرازيل» للجنرال سيلفا، ثمة نص يسعى لإعلام الجسد (الاجتماعي) وفرض صورته عليه. لدينا إذن بالتقريب المخطط نفسه الذي نجده في «مستوطن الاحتجاز»: نموذج أيديولوجي مدعَّم كتابياً بما ينبغي للآلة الإدارية والأمنية القيام به إزاء الجسد، مثلما عند كافكا: يرسم المشط على جسد الضحيَّة ما هو مكتوب على الورق. بصيغة أخرى: إنه الكلام المقترن أو المستبدل بالنص الذي يزعم أنه كلمة السيّد «الإيحائي» المبدع للكوسموس أو التعريف بالمجتمع، وأنه المعيار لما هو خالص أم لا. مهما يكن من أمر هذه السوابق الدينية والتربوية والمدرسية، ثمة أسطورة مذهبية تصنّف الشرعية وتُحدّدها. يقع التعذيب في حقل التطوُّر الأيديولوجي الذي يُعوّض التعددية الاجتماعية بثنائية تشميلية بين ما هو «خالص» (طائفي، سياسي، اجتماعي) وبين سمة الخارجية (extériorité) التي تُحدّد كل اختلاف.

تُنظّم التسمية عملية التصرُّف. فهي تبيد الآخر بقلب قيمه، عندما تحوَّل الفيتنامي إلى غوك (gook) والمغربي إلى بونيول (bougnoul) واليهودي إلى يوبين (Youpin) أو يود (Jude)[2]؛ وتحرمهم من الاسم الشخصي ولا تمنحهم سوى نعت احتقاري. تقتطع مواقع اللغة العمليات الأمنية بمنحها أو رفضها الوجود لمن له الحق في ذلك، بتحويل الحدث إلى الشرعية أو غير الشرعية؛ بتهيئتها لحكم ما يظهر، واعتبار ما تقوله أمراً واقعياً؛ وتُحدّدُ أخيراً المكانة الرمزية التي ينبغي للمتَّهم أن يتكلم من خلالها. ما يقوم به التعذيب هو وضع المعذَّب في «مكانه» وجعله يتأكَّد من الوضعية التي حدَّدتها له اللغة المذهبية، وإلزامه بأن يكون مع جسده، حيث سُجّل اسمه عبر الخطاب. فهو لا يعاقبه، بل يضعه حيث يمكن أن يوضع. ينفتح هكذا على اللغة التي تُسمّي. بالاختلاف عن التشريعات القانونية، لا تهتم الروايات المذهبية بما يفعله الشخص، بل بما هو عليه - ليس بنشاطات (مسموحة أو ممنوعة) بل بمقام أو وضعية (مشروعة أم لا). فليس بسبب ما يفعلونه، وإنما بسبب ما هم عليه، عُذّب الشيوعيون في البرازيل والهوتو في بوروندي والباميليكي في الكاميرون والغالا في أثيوبيا وشهود يهوه في المالاوي. حدثٌ فريد وغريب من نوعه. يتحصل الخطاب على سلطة تقطيع الجسد ويُحدّد ما يمكن قبوله أم لا، ويوضّح في أيَّة جهةٍ ينبغي لسكّين التَّعذيب أن تمرَّ. فهو يحيل إلى بنية الخطاب التشريعي؛ إنه إعادته واستئنافه.

[1] Michel de Certeau, «Corps torturés, paroles capturées», in Michel de Certeau, sous la direction de Luce Giard, Cahiers pour un temps, Centre Georges-Pompidou, Paris, 1987, p. 61-70

[2] تعبّر هذه التسميات عن نعوت استهزائية واحتقارية تجاه الأجنبي أو المختلف في العرق أو الديانة. وما تسميات الهرطقة والزندقة والكفر سوى سهام الاتهام تُرشق لجرح الجسد والنفس، بما تخلّفه من ندوب وكلوم (المترجم).