إشكالات المصالحة السياسية


فئة :  مقالات

إشكالات المصالحة السياسية

إشكالات المصالحة السياسية*


كيف تتعامل الدول والمجتمعات مع إرث ماضيها السياسي العنيف، إرث الجرائم السياسية التي ارتكبتها أو ارتكبت باسمها؟ حتى سبعينيات القرن العشرين، كانت الأجوبة المتراكمة عن هذا السؤال هي إما المحاكمة أو النسيان. لنبدأ بالمحاكمات؛ عملت أنظمة منذ قرون على تقديم من اعتبرتهم مسؤولين عن جرائم الماضي للمحاكمة، ونفذت في حقهم أقصى عقاب، كما حدث بالنسبة لإعدام الملك البريطاني تشارلز الأول في منتصف القرن السابع عشر أو الملك الفرنسي لويس السادس عشر في نهاية القرن الثامن عشر. وفي منتصف القرن العشرين، وعلى إثر الحرب العالمية الثانية، تم تبني خيار غير مسبوق، وهو محاكمات المسؤولين عن جرائم الحرب، ليس باسم قوانين ومؤسسات الدولة الوطنية، ولكن من طرف هيئة مارست مهمتها في إطار القانون الدولي الإنساني لمحاسبة المتهمين الذين قدموا لمحكمتي النوربورغ (جنوب ألمانيا) وطوكيو عن جرائم اعتبرت أنها لم تكن موجهة ضد أفراد يحملون جنسية دولة محددة؛ ولكنها ارتكبت ضد الإنسانية جمعاء. لكن ظروف الحرب الباردة حالت دون استمرار هذه التجربة الجديدة، ولم تستأنف إلا في سنة 1992 وبعد سقوط حائط برلين، لمحاكمة المتهمين بارتكاب جرائم حروب يوغسلافيا المقسمة منذ 1991. وتتالت منذئذ محاكمات زعماء سياسيين متهمين بارتكاب جرائم ضد الإنسانية من طرف محاكم دولية استهدفت قادة من كل من رواندا، سيراليون، تيمور الشرقية، الكوسوفو، كامبوديا، والسودان. ومنذ 1985، عرفت بعض الدول اللجوء إلى محاكمها الوطنية لمتابعة قادتها في الجرائم التي اتهموا بارتكابها في كل من اليونان، والأرجنتين، والشيلي، أو في العراق الذي حُكم على رئيسه السابق صدام حسين بالإعدام شنقا نُفّذ في حقه في نهاية 2006.

لكن المحاكمة، كجواب على جرائم الماضي، تعرضت لانتقادات كثيرة، باعتبار أنها لم تحترم شروط المحاكمة العادلة، بل كانت تجسد عدالة المنتصر، أو أنها كانت انتقائية، أو أنها لم تقدم الجواب المناسب لكيفية التعامل مع جرائم الدولة. استخلص أوتو كرشهايمر من دراسته المستفيضة لمحاكمات الزعماء السياسيين منذ الملك شارل الأول إلى محاكمات النوربورغ، بأن وظيفة المحاكم في النزاع السياسي ليست تحقيق العدالة، بل "القضاء على الخصم السياسي للنظام الجديد اعتمادا على قواعد مهيئة مسبقا."[1] ومارك أوزيل اعتبر هذا النوع من المحاكمات، مركّزا على حالتي النوربورغ وطوكيو، عديم الفعالية كوسيلة لترسيخ ذاكرة جماعية معادية لعنف الدولة.[2] وجيم مالموت كوتي، أحد منظري تجربة المصالحة في الأرجنتين، تراجع عن موقف سابق حول الموضوع، ورأى أن محاكمات جلادي بلاده لم تحقق أهدافها، لأنها نُظمت في ظل نفس الثقافة السلطوية التي كان من المفروض تجاوزها.[3] هذا بالإضافة إلى الانتقادات الموجهة لمحكمة العدل الدولية لكونها أنها انتقائية، لا تحاكم إلا جلادي إفريقيا والدول الضعيفة، أو أن تكاليفها الباهظة غير عملية، ولا تسمح بتعميمها.

وفي تلك الحالات الثورية التي لم تشهد محاكمات، كانت الثورات السياسية أو ثورات حركات التحرير هي المقابل لتحقيق العقاب على المسؤولين عن النظام القديم، والتي أعطت الانطباع بأن النظام الجديد والحصول على الاستقلال هو الجواب الشافي لتحقيق العدالة، حتى في غياب طقوس المحاكم ومساطر تنفيذ العقوبات.

إلا أن المحاكمات لم تكن إلا أجوبة استثنائية، جد محدودة عدديا لجرائم الماضي؛ إذ أنه ومقابل الملايين من الجرائم التي ارتكبت باسم الدولة حتى حدود مطلع القرن الواحد والعشرين، لم يتجاوز عدد الأحكام التي صدرت بهذا الشأن المائة، ولم تنفذ العقوبات إلا في حق 17 رئيس دولة، معظمها كانت لتهم ارتكاب جرائم مالية، وليس لانتهاكات حقوق الإنسان.[4]

لهذا، فإن نسيان الجرائم السياسية وليس العقاب على ارتكابها، كان ولا يزال، المقترب السائد الذي اتبعته الدول والمجتمعات، لتدبير هذا الإرث المحيّر. حدث هذا بغض النظر عن نوع النظام السياسي؛ فإذا كان متوقعا من الأنظمة السلطوية والشمولية أن تعمل على إخفاء أسرار ماضيها عن طريق وسائل الرقابة والتحكم التي تمتلكها، إلا أن الديمقراطيات أيضا لم تكن أكثر استعدادا لمواجهة إرث تاريخها العنيف، كما يعكسه التصلب الذي ظلت تظهره القوى السياسية المهيمنة في إسبانيا، حتى بعد انتقالها للديمقراطية، في معارضة فتح ملفات الماضي الدموي لحربها الأهلية. ولا تزال فرنسا لحد اليوم مصرّة على نسيان ماضي جرائمها في الجزائر.

تم تبني المصالحة كممارسة سياسية على ضوء التجربة الأرجنتينية الرائدة في مسار الانتقال الديمقراطي سنة 1983 كخيار بدليل للمحاكمة وللنسيان، أو كحل مؤقت في انتظار تحقيق شروط المحاكمات كإحدى المكونات الرئيسة للعدالة الانتقالية، عوض العدالة العقابية، في تدبير الماضي السياسي الأليم. وتشمل هذه الصيغة العمل على تطبيق عدالة تعويضية في حق ضحايا جرائم الدولة والبوح بالحقيقة، والاعتراف من طرف الدولة بالظلم الذي ارتكبته، وإعادة الاعتبار للضحايا، والقيام بالإصلاحات المؤسساتية التي تحول دون تكرر الجرائم. ولهذا الغرض، أنشئت هيئات اشتهرت بهيئات الحقيقة والمصالحة وتبنته حوالي أربعين دولة. وتراكمت لدينا اليوم تجارب في المصالحة لفترة تناهز ربع قرن عرفتها دول مختلفة عبر العالم. ونظرا لكون التجارب المؤسسة لفكرة المصالحة تبنتها بداية الدول التي كانت تعيش مسلسل ومخاض التحول الديمقراطي، فقد ارتبط هذان المصطلحان، المصالحة والانتقال الديمقراطي، في الأدبيات السياسية حول هذا الموضوع. يُفسر هذا الترابط بخصائص هذا الانتقال الديمقراطي الذي طبع التغيير السياسي الذي شهده العالم منذ بداية الثمانينيات، والذي تميز بتحول الأنظمة السلطوية إلى ديمقراطيات بدون ثورات، وبصيغ تم فيها تهييئ المشاركة المجتمعية الواسعة عن طريق الانتخابات ومأسسة فصل السلط، ولكن بدون التصفية الجذرية لبقايا النظام القديم، بل عن طريق الاعتراف لرموز النظام السلطوي ونخبه بمكانتها ودورها في التشكيلة الديمقراطية المستحدثة. كانت الرموز المعبرة بشكل واضح عن هذه الوضعية هي أوغوستو بونتشي ودكليرك. فبيونتشي الذي ارتبط اسمه بالجرائم التي ارتكبت في الشيلي، منذ الانقلاب الشهير لسنة 1973 استمر في منصب رئيس الدولة حتى 1990 وكقائد لللقوات المسلحة حتى تقاعده سنة 1998، وحافظ على مقعده كسيناتور مدى الحياة إلى حين وفاته سنة 2006. وبالرغم من المحاولة الشجاعة والمثيرة إلى جره للمحاكمة التي قادها القاضي الإسباني بلتازار كارزون (Baltazar Garzon) بتهم الجرائم السياسية التي ارتكبها، إلا أنها كمحاولات عددية مشابهة أخرى، فشلت جميعها، لينتهي الأمر بببينوتشي أن يموت وقد أفلت من العقاب. وعاشت جنوب افريقيا وضعية مشابهة، حيث إن دوكليرك، F.W. de Klerk آخر رئيس لجنوب إفريقيا العنصرية، أصبح ما بعد الأبارتايد نائب الرئيس لمدة سنتين. وتتويجيا للانتقال الديمقراطي غير الثوري وغير المسبوق الذي عرفته جنوب إفريقيا، حيث يتصالح فيه الضحايا مع الجلادين، وهم يتعايشون جنبا إلى جنب في ظل النظام الديمقراطي الجديد، حصل كل من ماندلا ودوكليرك، الضحية السابق جنب الجلاد السابق، على أكبر اعتراف عالمي من طرف العالم الليبرالي بحصولهما معا على جائزة نوبل للسلام سنة 1993.

خلقت هذه الوضعية تعايش الضحية مع جلاد لم يلق أي عقاب في ظل نظام سياسي يرد الاعتبار للجلاد، إشكالات قانونية وفلسفية وأخلاقية محيرة. ونُظم سنة 1988 لقاءا عُرف بندوة آسبن، وهي بلدة في وسط أمريكا، جمعت عددا من المتخصصين في العلوم السياسية والقانون، للبحث عن إجابات لهذه الإشكالات، وانتهت ببلورة مقاربات المصالحة في ظل عدالة انتقالية تقدم بدائل لمعاقبة المسؤولين عن جرائم الماضي، وتسمح بتحقيق التعايش السلمي بين الجلاد والضحية، وتوفر المشروعية الأخلاقية والسياسية لهذه الوضعية المتناقضة.[5] وكانت هذه الوصفة تهدف إلى تحقيق المصالحة التي تضمن الانتقال الديمقراطي، وتجنب العنف الثوري وتبعاته. وبالرغم من أن هذه البراغماتية السياسية التي انبنت عليها فكرة المصالحة، فقد ساعدت على الانتقال السياسي إلا أنها لم تضع حدا للإشكالات الفكرية التي لا تزال موضوع جدالات وتقييمات.

على المستوى القانوني، ظلت العدالة العقابية تشكل ركنا أسياسيا في صلب مبدإ العدالة. وتعتبر العدالة الأنوارية التي أسهم الفيلسوف إيمانويل كانط في التنظير لها، أن الجريمة يجب أن تعاقب لأن الجرائم متنافية مع فكرة العدالة، وجزاء الجريمة هو العقاب الجنائي، وأنه وانطلاقا من المساواة، وهو مبدأ أنواري آخر، فلا يمكن أن يكون هناك تمييز بين مرتكبي الجريمة. وبما أن الجميع متساوون أمام القانون، فيفترض أن يشمل مبدأ المساواة هذا الدولة، الدولة أيضا عندما تكون مسؤولة عما ترتكبه، وأن تتلقى الجزاء المستحق عن أفعالها.

ولم تجد بدائل العدالة العقابية موقعا لها في العدالة الليبرالية. ولذلك، فإننا لا نعثر على إحالات مباشرة لفكرة العدالة الانتقالية في النصوص الرئيسة حول الموضوع. ليس هناك إشارة لها مثلا في النقاش العميق والغني حول العدالة بين جون رولس[6] وأمارتيا سن.[7] لكن، وبالرغم من هذه اللامبالاة من طرف الفلاسفة، إلا أن مقاربة أمارتيا سن العملية، تسمح بمنح الاعتبار للعدالة الانتقالية، انطلاقا مما تتمكن من تحقيقه من إنجازات على الواقع،وليس من معيار الطموح الطوباوي لفكرة العدالة المثالية التي يتبناها رولس وينتقدها سن.

وجد الفلاسفة صعوبة في ترسيخ فكرة المصالحة. اعتبر كل من جاك داريدا[8] وبول ريكور[9] بأن الدين، ونصوص وطقوس الديانات الإبراهيمية بالخصوص، وفرت مخرجا لعجز الفلسفة العلمانية على ترسيخ فكرة المصالحة. لكن يبدو أنهما بالغا في تأثير الدين على مسلسل المصالحة التي شهده العالم منذ الثمانينيات. إذ، وباستثناء جنوب إفريقيا، فإن باقي التجارب لم تستلهم ممارساتها في المصالحة من الدين إلا بشكل ثانوي، أو أنها، وكما الأمر في المغرب، وهي الدولة الإسلامية السباقة في هذا المجال، كانت تجربة في مصالحة علمانية بامتياز.

على المستوى السياسي، كانت فكرة العدالة الانتقالية غير مسبوقة ليس في دفعها للتعايش بين الأعداء فحسب، والتي هي حالة عادية في الممارسات السياسية، ولكن في كونها لم تنزع المشروعية السياسية بشكل كامل عن جلادي الأمس، بل حُصرت الانتقادات الموجهة لنظامهم في حجم العنف المبالغ فيه، وفي جسامة الانتهاكات التي أشرفوا عليها أو سمحوا بها، أو خططوا لها وبرروها، والتي أعفي جلهم من تبعاتها القانونية. تميزت تجربة المصالحة عن سابقاتها بكون أن التعايش بين الجلاد والضحية الذي حققته، لم يكن اعترافا بالهزيمة من أحد الأطراف المتخاصمة، بل اعتُبر مخرجا ضروريا لتحقيق عملية التجاوز السلمي للسلطوية، ولترسيخ شروط الانتقال إلى الديمقراطية. من الممكن قراءة هذا التعايش الذي تم تحمله على مضض، كمظهر آخر للسياسة ما بعد- الحداثية، والتي لا ترفض مبدئيا التعايش بين الأضداد في ظل ممارسات التعددية، والتسامح، والحرية الفردية، والاختلاف بين الهويات، والنسبية، واللامبالاة الأخلاقية، واللا- تسيس. في هذا الموزاييك من التناقضات، فإن التعايش السلمي بين الجلاد والضحية لا يثير نفس حدة الاستنكار والرفض والمعارضة التي تتسم بها السياسة الحداثية أو التقليدية.

لكن التقييم الأكثر أهمية لتجارب المصالحة لن يقتصر على مظاهر السياسة ما بعد- الحداثية هاته، والتي بدأت علامات عيائها تظهر في تراجع ثقافة التوافقات والحلول الوسطى، إلى تبني الصراع والمواجهة الحادة. يبرز هذا التحول سواء في الكونغريس الأمريكي المنشق بين جمهوريين وديمقراطيين لا يتفقون على شيء، أو في الساحة المصرية بعد الربيع العربي القصير العمر والعودة المفاجئة للاقتتال وللاعتقالات السياسية والمحاكمات العسكرية. إن تقييم تجارب المصالحة، باعتبارها مقتربا سياسيا للتدبير السلمي لعملية التغيير السياسي، وللتفكيك الدؤوب للمؤسسات وللأجهزة السلطوية، ولتعويض ثقافة التحكم والتسلط سواء على مستوى الدولة أو المجتمع بقناعات التعايش التعددي في ظل الحرية والتنافس السلمي، يتطلب قراءة وتحليل إنجازات وإخفاقات تجارب المصالحة في الميدان. يتطلب أيضا تحديد مدى توفر الحاجة إلى المصالحة في سياقات سياسية وتاريخية مختلفة عن سياقات نشأتها، وهي سياقات الدمقرطة في أمريكا اللاتينية وجنوب إفريقيا.

أريد أن أنبه إلى أنه بالإضافة إلى سياق الانتقال الديمقراطي، فإن تجارب المصالحة تم تبنيها أيضا كوسيلة لتدبير الخروج من حروب أهلية دموية، والبحث عن تحقيق التعايش السلمي بين فئات مجتمعية عاشت فترة الاقتتال فيما بينها، وتوصلت إلى ضرورة وضع حد له والبحث عن صيغ لطي صفحة الماضي الدموي دون اللجوء إلى العدالة العقابية التي لم تكن ممكنة بسبب فظاعة حجم الجرائم والضحايا، والأعداد الهائلة للمتهمين بارتكاب المجازر. في رواندا مثلا، شهدت إبادة جماعية سنة 1994 ذهب ضحيتها حوالي مليون من مجموعة التوتسي، وهو ما يعدل 20 في المائة من سكان هذا البلد الإفريقي المنكوب. وشاركت في عملية القتل أعدد كبيرة من ميلشيات الهوتو، وبلغ عدد من ألقي عليهم القبض منهم لتقديمهم للمحاكمة 130.000 متهما، دون احتساب أعداد كبيرة إضافية من الهاربين، وهو ما جعل من اللجوء إلى العدالة أمرا مستحيل التحقيق، ودعت إلى البحث عن بدائل للعدالة العقابية وعن صيغ عملية للدفع إلى التعايش السلمي بين الجلادين والضحايا.

كانت أهم إنجازات المصالحة هي أنها واكبت الانتقال الديمقراطي، وجنبت مجتمعاتها المواجهات الدموية التي هناك قناعة بأنه ما كان بالإمكان تجنبها كثمن للتغيير السياسي، ووفرت في حالات الحروب الأهلية مخارج من أوضاع بالغة التعقيد. ارتكز الجدل في قراءة هذه التجارب في مرحلة أولى على مدى كون أن إفلات الجلادين من العقاب كان هو الثمن الضروري للمصالحة، لكن، في البلدان التي قُدّم للمحاكمة فيها مسؤولون كبار عن جرائم سلطوياتها على غرار الأرجنتين والشيلي، خفت حدة هذا الجدل أو تغيرت إشكالاته للتساؤل عن جدوى المحاكمات وشموليتها ودورها الفعلي في ضمان ترسيخ ثقافة العدالة الليبرالية.[10] أما بالنسبة لجنوب إفريقيا، والتي تجنبت المحاكمات، فإنه، وفي الوقت الذي لا يزال مانديلا يمثل رمز النهاية السلمية للأبارتايد، ويحظي من أجل ذلك بالكثير من التقدير، إلا أن حصيلة إنجازات دولة ما بعد الأبارتايد لا زالت هدف انتقادات حادة، ليس فقط لكونها شرعنت إفلات الجلادين من العقاب، ولكن أيضا لأن المصالحة لم تقدم بدائل مقنعة للتفاوت الاجتماعي بين السود والبيض، والذي كان يعتبر أبرز مظاهر العنف البنيوي المؤلم في النظام القديم، واستمر مترسخا في ظل النظام الديمقراطي الجديد.

تخرُج تجربة المصالحة في المغرب عن سياق المصالحة ما بعد الحروب الأهلية، لأنها لم تعش تطاحناً مجتمعيا في ظل دولة ضعيفة أو غائبة. وتختلف التجربة المغربية عن أمريكا اللاتينية وجنوب إفريقيا، لكونها لم تتم خلال مرحلة ترسيخ الدمقرطة، بل إنها تمت في إطار "لبرلة السلطوية"، والتي تعني الإصلاحات التي تهم توسيع حرية التعبير والتنظيم والتعددية الحزبية وإجراء انتخابات تشريعية ومحلية. إلا أن هذه الإصلاحات لا تمس صلب النظام السلطوي الذي يبقي في يد حاكم مركزي غير منتخب يحتكر القرارات الاستراتيجية، ومؤسسات لا تعرف ممارسة فعلية لفصل السلط، وانتخابات لا تهدد هذه الاستمرارية السلطوية.

وكما كان الأمر بالنسبة لتجارب المصالحة على المستوى العالمي، فإن الفكرة كانت جديدة كل الجدة على المؤسسات والممارسات والثقافة السياسية في المغرب. يقترب تبني مسلسل المصالحة في المغرب من منطق فكرة الانتقال، والتي تبلورت بدايتها مع تحقق قناعة لدى الإصلاحيين في قلب النظام السياسي بقيادة الملك، والمعتدلين البراغماتيين من فصول المعارضة بقيادة ادريس بنزكري، واللذين كان لهم الدور الحاسم في تدبير مراحل المصالحة إلى حدود وفاة بنزكري سنة 2007.

وعلى غرار ما حصل على المستوى العالمي، فإن الأفكار المرتبطة بالمصالحة والعدالة الانتقالية والحقيقة كانت تخلو في المغرب من ترسيخ فلسفي، وظل النقاش محصورا في المغرب في الجدل حول المساطير القانونية وحول تأويل وتقييم حسابات البراغماتية السياسية. لكن الطابع المميز على المستوى العالمي للصيغة المغربية للمصالحة هو تفردها بأنه تم تبنيها في ظل نفس النظام القائم، بالرغم من أنها اعتبرت أن مهامها والتوصيات التي خلصت إليها تشكل خطوات عملية في خلق توافق بين المجتمع والدولة حول ضرورة التخلص من ممارسة العنف اللا- مشروع، وتبني حقوق الإنسان كإطار للتدبير السياسي، وهي كلها التزامات توفر مبدئيا أرضية عملية صلبة لانتقال ديمقراطي سلسل عند تبنيه.

على المستوى العالمي، ظل الجدل حول قيمة تجارب المصالحة في العالم ينصب على تقييم مدى مساهمتها في مواكبة الانتقال الديمقراطي الذي كان انطلق قبلها، وبدورها في تضميد جراح الحروب الأهلية وإعادة ترميم التلاحم الوطني السلمي، وبأهمية التكاليف التي تطلبتها هذه المصالحة على مستوى التضحية بالعدالة العقابية وبالمساواة الاجتماعية. أما بالنسبة للمغرب، فإن الجدل حول تجربة المصالحة ظل يركز على مدى كون المصالحة، وضعت حدا نهائيا لعنف الدولة اللا- مشروع، ودورها في إعطاء انطلاقة لانتقال فعلي للديمقراطية، أم أنها لم تكن لا توهيما سياسيا سعى إلى شرعنة سلطوية ودفعها إلى تبني إصلاحات شكلية تعفيها من الرضوخ لشروط الدمقرطة التي تتطلب فصل السلطات وتقييد كل الفاعلين بسلطة القانون.

إن المختبر السياسي المغربي لا زال لم يفرز بعد إجابات جازمة. وحتى الإصلاحات التي تبناها دستور 2011، وتجربة أول انتخابات وحكومة في ظل الدستور الجديد، لا تسمح باستنتاجات نهائية محسومة. بالرغم من ذلك، يمكن الإقرار بأن الصيغة المغربية للمصالحة تُعرف على المستوى العالمي بإنجازاتها في مجال جبر الضرر، حيث إن جل الضحايا حصلوا على تعويضات، على خلاف التعثر الذي شهدته باقي التجارب الدولية في هذا المجال.

بالمقابل، لا يمكن الجزم في كون أن أسباب التعثر الذي يعرفه التنفيذ الكامل لتوصيات الهيئة في مجال الإصلاحات المؤسساتية المتعلقة بالأجهزة الأمنية، ومشاريع حفظ الذاكرة، تعود إلى موقف مبدئي نهائي رافض لهذه البرامج، أو إلى بطء بيروقراطي لا يحتاج تجاوزه إلا للمتابعة المثابرة.

لكن الإشكال الأكثر أهمية يتعلق بالعلاقة بين المصالحة والدّمقرَطة على المستوى النظري، وعلى مستوى التحولات السياسية التي يشهدها العالم، منذ نهاية موجات الانتقال الديمقراطي للأنظمة العسكرية اللاتينية، ونهاية الأبارتايد، تسمح الأحداث السياسية المرتبطة بالموضوع بإثارة قضايا جديدة. إن مسلسل الانتقال الديمقراطي الذي عرفته أوربا الشرقية على إثر سقوط حائط برلين، أظهر غياب الحاجة إلى فكرة المصالحة؛ ففي الوقت الذي انهار فيه النظام الشمولي، لم تتبن أية دولة في أوروبا الشرقية خيار المصالحة. وعوض مساءلة جرائم الدولة الشمولية، فقد عملت أوربا الشرقية، مع بعض الاستثناءات، على طي صفحة الماضي بسرعة.

وفي الاتجاه المعاكس، فإن مسار المحاكمات الدولية لم يحقق إلا نجاحات محدودة، إذ لا يزال العديد من رؤساء الدول المتهمين بارتكاب جرائم ضد الإنسانية يتمكنون من التحصن بحدود دولهم، وبحماية حلفائهم للإفلات من العقاب. وبالرغم من الحماس الذي يعبر عنه المدافعون عن المحكمة الجنائية الدولية، والتفاؤل الذي يبدونه بشأن آفاق المحاكمات الدولية كأداة لمواجهة جرائم الدولة، بديلة أو موازية لمسارات المصالحة والعدالة التعويضية، إلا أن هيمنة القوى الكبرى على مسلسل المحاكمات الدولية، واستمرار توفر الإمكانيات للدولة القومية للتهرب من القانون الدولي وحماية رؤسائها، يؤدي إلى التوظيف الانتقائي والمحدود، بل والمتنافي أحيانا مع شروط المحاكمة العادلة والشاملة.

منذ مطلع 2011، نادت العديد من الدعوات في غمرة الرجة الثورية التي يشهدها العالم العربي إلى تبني المصالحة والعدالة الانتقالية كوسيلة لتدبير الانتقال السياسي ومعالجة ماضي الدولة العنيف في تونس، ومصر واليمن وليبيا. إن مصير هذا التوجه نحو المصالحة في هذه البلدان يبقى غامضا، بسبب التقلبات السريعة في مواقف الفاعلين الرئيسيين ما بين البحث عن صيغ التعايش السلمي في ظل التعددية والعمل على إضعاف وإنهاك الخصم، بل واستئصاله. في حالة أجرأة خيار المصالحة، سيكون التحدي هو الدور التي ستلعبه في تدبير مرحلة ما بعد الحرب الأهلية، أو مواكبة الانتقال الديمقراطي. سيبقى النموذج المغربي في المصالحة متميزاً على هذين المسارين، ذلك أن الظروف السلمية البعيدة عن التطاحن السياسي المتوتر الذي يصل إلى الاقتتال الدموي الذي أفرزته الثورات، سمحت في المغرب بالاستقرار المناسب للتفكير في شروط المصالحة وتهييئها وأجرأتها. إن المصالحة سمحت في المغرب بالتعرف على حقيقة عنف الدولة، وأسهمت في توسيع الوعي بآلام هذا العنف وضرورة نبذه، وهذه كلها شروط ضرورية لتفكيك الاستبداد وثقافته، وبالرغم من أنها لا تضمن انتقالا ديمقراطيا سلسا وبدون توترات ومخاطر، إلا أنها وبكل تأكيد، لا تعرقل تحقُّقه.


*- مجلة يتفكرون، العدد 2، منشورات مؤسسة مؤمنون بلا حدود للدراسات والأبحاث، خريف 2013

[1]- Otto Kirchheimer. Political Justice: The Use of Legal Procedure for Political Ends. 1961

[2]- Mark Osiel. Juger les crimes de masse: La mémoire collective et le droit. Paris: Seuil, 2006. Titre original: Mass Atrocity, Collective memory, and the Law. New Brunswick, New Jersey, 1997, p. 422

[3]- Jaime Malamud-Goti. Game Without end: State Terror and the Politics of Justice, Foreword by Libbet Crandon-Malmud, Norman: University of Oklahoma Press, 1996

[4]- Ellen L. Lutz and Caitlin Reiger, "Introduction," in Ellen L. Lutz and Caitlin Reiger, Prosecuting Heads of State, Cambridge: Cambridge University Press, 2009, pp.1-24

[5]- Hazan, Pierre. Judging war, Judging history: Behind Truth and Reconciliation, Stanford, California: Stanford University Press, 2010

[6]- جون رولز، العدالة كإنصاف: إعادة صياغة، بيروت، المنظمة العربية للترجمة، 2009

[7]- أمارتيا سن، فكرة العدالة، بيروت، الدار العربية للعلوم ناشرون، 2010

[8]- جاك دريدا وآخرون، المصالحة والتسامح وسياسات الذاكرة، (ترجمة حسن العمراني) دار توبقال، 2005، صفحات 7-37

[9]- بول ريكور، الذاكرة، التاريخ، النسيان، بيروت، دار الكتاب الجديد المتحدة، 2009، (ترجمة جورج زيناتي)، صفحات661-728

[10]- Malamud-Goti, Jaime. Game Without end: State Terror and the Politics of Justice, Foreword by Libbet Crandon-Malmud, Norman: University of Oklahoma Press, 1996


مقالات ذات صلة

المزيد