الظاهرة القرآنية عند محمد أركون


فئة :  قراءات في كتب

الظاهرة القرآنية عند محمد أركون

قراءة في كتاب:

"الظاهرة القرآنية عند محمد أركون"

تأليف أحمد بوعود، سلسلة شرفات 28، 2013


صحيح أن كتابة محمد أركون هي كتابة مثيرة للنقد، وقد تعرضت بالفعل لانتقادات مختلفة، ولكنها أيضا تبقى من أبرز الكتابات الجديدة عن التراث الإسلامي، وهي تثير من الأسئلة أكثر مما تقدمه من الإجابات.

في المقدمة، نجد أنفسنا تلقاء قراءة غير مستحسنة لمن تراه "يتطاول" على الوحي، ملاحظة كثرة "الدعوات إلى قراءة عصرية جديدة للقرآن"، وذلك بالاستعانة بآخر ما توصلت إليه العلوم اللغوية. ولكن لا بأس، خصوصا وأن الكثير من الكتابات عن العلوم القرآنية"بحاجة إلى مراجعة وتجديد"، وبدلا من رمي أصحابها بالكفر، فإن الأجدى "بيان صدقها من خطئها".

يقول الباحث: إن محمد أركون "من أبرز هؤلاء الداعين إلى تطبيق الإنسانيات والألسنيات المعاصرة في قراءة القرآن ".

سيناقش الباحث في الفصل الأول من الكتاب ماذا يقصد محمد أركون بالعقل الإسلامي، كما سيناقش وجهة نظره في "العلمانية" و"الإسلاميات التطبيقية". وفي الفصل الثاني، سيتناول "الإطار النظري لتحليل النص القرآني "- كما سيتناول مسألة جمع القرآن وترتيبه و"اللا مفكر فيه" ـ و"الأسطرة " والأسطورة ـ ثم مفهوم "التاريخية"- وأسباب النزول ـ والإعجاز- و"العجيب المدهش " أو العجائبي ـ والقراءة اللاهوتية بدل اللسانية.

في الفصل الأول، يقدم لنا الباحث سيرة "موجزة" لـ محمد أركون وتآليفه.

وفي الفصل الثاني، يتساءل الباحث : "ماذا يقصد أركون بنقد العقل الأسلامي ؟"

1. مفهوم العقل الإسلامي (في لسان العرب: العقل = القلب، وهو يعقل صاحبه من التورط في المهالك؛ أي يحبسه، وهو ما يميز الإنسان عن الحيوان. وعقل الشيء؛ أي فهمه).

2. أما ماهية العقل في الفكر الغربي(فهو يكتسي صبغة معرفية إبستيمية "وقد حددت وظيفته فيما هو حسي فقط").

3. العقل الإسلامي عند أركون : لا يقصد به استخدامه السائد عند الفلاسفة المسلمين، بل يقصد به "القوة الفكرية المتطورة المتغيرة بتغير البيئات الثقافية والإيديولوجية"، وهي خاضعة للتاريخية. كما يعني "المنهج "، ثم إنه ليس "جوهرا ثابثا". إن العقل الإسلامي لا ينفصل عن الوحي في الإسلام، بينما العقلانية في الفكر الحداثي، تعني "عدم الخضوع لأية سلطة غير سلطة العقل".

لقد نجم عن غياب نقد العقل الإسلامي "اتساع دائرة اللا مفكر فيه"، وهو يبدأ من تفكيك العقل الإسلامي، إنه - محمد أركون- يريد تفكيكه والقطع مع الميتافزيقا "بالتموضع داخلها وتوجيه ضربات متتالية لها من الداخل" .

(يرى الباحث أن أركون قد "أغفل نقطة مهمة لا يمكن تجاوزها لمن يريد التاريخ للفكر الإسلامي [ ...]، وهي مرحلة سد باب الاجتهاد").

يمثل أركون العقل الإسلامي الكلاسيكي بالقرآن والسنة ورسالة الإمام الشافعي، فضلا عن الإجماع والاجتهاد. يعرض الباحث لرسالة الشافعي، باعتبارها تمثل "العقل الكلاسيكي"، إنه العقل الذي يحض على طاعة الله والإيمان به، والمعرفة هنا لا تنفصل عن الإيمان، إن أصلها هو معرفة الله ومعرفة كونه (الإنسان) سيُبعث، فإذا لم تؤيد المناهج الحديثة هذه الحقيقة، فهي غير ذات موضوع.

ومرحلة تشكله (القرآن والبدايات الأولى في القرآن الذي يتخذ طابعا إبداعيا وليس حجاجيا، وإن كان يدعو للعقل، فإن مفهومه للعقل لا ينفصل عن الإحساس والخيال والشعور).

مرحلة العقل الكلاسيكي (التي تمتد من مرحلة نشوئه، ولقد انبثقت العقلانية العربية الإسلامية من خلال الصراع ضد المعرفة الأسطورية، أو ضد المتخيل الديني).

العقل السكولاستيكي (أو "الضيق"، لإلغائه للفكر الفلسفي في سبيل دفاعه عن مذهب خاص). مرحلة النهضة، حيث استفاق العقل التقليدي أمام الحداثة العقلية الغربية التي حصلت في أوروبا منذ القرن السادس عشر.

.3 الخطاب الإسلامي المعاصر الذي ظهر بعد النهضة وبعد الفكر القومي، محاوره، فرضياته، (الشروط اللغوية والتاريخية للتأويل الصحيح )، وموضوعاته ص52.

4. الإسلام والغرب: العلمانية (هي في فلسفة الأنوار إقامة الفصل بين السلطة السياسية والسلطة الدينية). يرى أركون أن هناك في الإسلام فصلا بين الديني والدنيوي.

هذا وينتصر محمد أركون للعلمنة في فرنسا التي لا تصل إلى الرفض الجذري للدين، (ويؤاخذ عليه الباحث كون أنه تكشفت العلمانية فرنسا في حملتها على الحجاب).

على الرغم من اهتمام أركون بالجانب المعرفي، فإن المحدد هو الجانب الإيديولوجي : يبحث عن علاقة الدولة الإسلامية والشريعة، إنه يدافع عن "العلمانية" ... لكي يأخذ الناس بالعلمانية يتعين عليهم "التخلص من القيود النفسية واللغوية والإيديولوجية "، إن القول بخلق القرآن عند المعتزلة، إنما يعني "الاعتراف بمسؤولية الإنسان" وبدوره في ابتكار تجربة خاصة. وإن العلمانية عنده هي سلاح "لمجابهة السلطة الدينية " بالمنهج التحليلي التفكيكي للشريعة التي يعتقد الناس أنها ذات مصدر إلهي، والتي تشكلت "تدريجيا بفضل ممارسة القضاة" الذين تمخضت نصوصهم عن أربعة مذاهب (المالكية والحنفية والشافعية والحنبلية). فيما أن عمل القضاة كان "يستوحي [..] الأعراف [..] السابقة على الإسلام" ص67. هكذا تكون العقلانية عند أركون تقوم – يقول رضا حمدي :"في مقابل الرؤية الدينية الإيمانية المتسمة بالتسليم والطاعة ".(د . رضا حمدي : قراءة نقدية ... عالم الفكر ، المجلد 14 ع.4 . يونيو أبريل 2013 ص79 )... ترى ما هي المسافة الحقيقية بين المعرفي والإيديولوجي؟ المحاولات التي رامت تأصيل التراث كلها دافعت عن "تجذر العقل في التراث"، لكن تبقى الأهداف مختلفة: مثلا معرفية عند الجابري، إيديولوجية عند أركون، كمثالين مشهورين في موضوع التأصيل للعقل.

ينتقد أركون الإسلاميات الكلاسيكية، لأنها تحصر اهتمامها في الإسلام، مثلما تمثل في كتابة الفقهاء وإهمالهم ما تبقى، لقد "ارتبط الإسلام السني ارتباطا وثيقا بالسلطات السياسية التي كانت قد تعاقبت منذ الأمويين"، و"أما ما عداه [ الإسلام السني] فبدع وهرطقات" ص70

يريد تصحيح الأزمة التي أصابت الإسلاميات الكلاسيكية التي مثلها الاستشراق. يقرر الباحث أننا لا نعرف ما الذي يقصده بهذا الاسم، لكننا نحس أن هذا هو الجواب. إن "الإسلام التطبيقي" هو كل ما أهمله الإسلام الكلاسيكي والاستشراق؛ أي التعبيرات الشفاهية للإسلام والمعاش والمحكي غير المقال وغير المكتوب وغير اللغوي المشكل للحقل الديني المزود بالمناهج المعرفية والسيميولوجية الجديدة لقراءته.

يلاحظ الباحث أن أركون يعتمد على المستشرقين في الوقت الذين كان ينتقدهم(يعتمد عليهم في الأمور التاريخية).

من الثغرات الأخرى التي يكشفها الباحث هذه التي تتمثل في نحت أركون لمفهوم " الإسلاميات التطبيقية" نفسه، الذي تسبب فيه انبهاره بمفهوم "الأنثروبولوجيا التطبيقية " عند روجي باستيدف "نحت المفاهيم وتركيبها له شروط وقواعد تقتضي شرح المفهوم أولا وبيان حدوده ومحدوديته وإمكانياته وامتداداته وقدرتها على الانسجام مع الإطار الجديد . أما الانبهار بالمفاهيم والتقليد، فلن يفيد البحث العلمي في شيء".

ومحمد أركون ـ بحسب الباحث ـيدعو أيضا إلى مقاربة التراث انطلاقا من العلوم الإنسانية و"الاجتماعية"، في حين أن هذه "وليدة تصور غربي" تتضمن قطعا مع الغيب "والآخرة" وتصورا مختلفا للإنسان والطبيعة والعلم التي "لا يتقبلها العقل السوي"، كيف؟ كالمسلمة "الدوابية الداروينية"؛ فهذا" التصور هو نتاج معركة مع الدين بالأساس"، ولا يصح نقل مثل هذه "المعطيات إلى ساحة الفكر الإسلامي رغم اختلاف الشروط"، لأنه أمر يجافي العلمية نفسها.

في الفصل (أو المبحث، وفق تعبير الباحث) الثاني "الظاهرة القرآنية " يتساءل :

لماذا يفضل محمد أركون هذا التعبير نظرا لكون الكلمة "قرآن"هي كلمة"مثقلة بالشحنات والمضامين اللاهوتية والممارسات الطقوسية والشعائر الإسلامية "...وهي لذلك تحتاج إلى تفكيك . ص92 . كما تحتاج لذلك من أجل "الكشف عن المستويات والدلالات التي كانت قد طمست " من قبل التراث الإيماني، ومن قبل التأويل الحرفي.

(هذا وينفر من الوحي الذي يبدأ بالعبارة "قال الله تعالى" وينتهي بـ"صدق الله العظيم") .

ـ إن الانتقال من المرحلة الشفهية إلى مرحلة الخطاب المكتوب هو أمر لم يؤخذ بعين الاعتبار حتى اليوم، والوحي هو ما عبر عنه النبي طيلة عشرين سنة، ولا سبيل إلى معرفة هذه الحالة الأولية للخطاب، لأنها انتهت بوفاة أصحابها. ثم إن الانتقال من المرحلة الشفهية إلى مرحلة النص المكتوب (المصحف) لم تخل من تلاعب لغوي (حذف وانتخاب وفقد وضياع، مثلما ضاع مصحف ابن مسعود ...)

مصحف ابن مسعود (الذي كان يحذف المعوذتين ويعتبرهما ليسا من القرآن، لأنهما مجرد دعاء. لم يسلم بقوله أحد حتى من تلاميذه، وأجمع الصحابة على قرآنيتهما(المعوذتين)، وعدم إثباتهما واختلافه عما سار عليه كل الصحابة هو بتر).

وعملية جمع القرآن تمت بحسب أركون في ظروف مضطربة، وفي ظل صراع سياسي على السلطة والمشروعية. كما انتقد ترتيب السور والآيات ثم وجد صعوبة الانتقال من القول الشفوي إلى النص المكتوب.

ترتيب الآيات والسور: لا يخضع ـ بحسب أركون ـ لأي معيار زمني أو عقلي ص 102. (كان الرسول ينبه الصحابة إلى أماكن وضع الآيات). ترتيب السور (كان الصحابة يختلفون في ترتيب سور مصاحفهم، إما حسب النزول كمصحف علي، أو بحسب السّور المكية والمدنية أو بالتدرج في الدعوة .

اللا مفكر فيه في علم القرآن

يهدف أركون إلى "إغناء تاريخ الفكر" عامة و"تنشيط الفكر الإسلامي المعاصر، وذلك بتركيز الانتباه على المشاكل التي كان قد استبعدها، والمحرمات (التابوهات)التي أقامها والحدود" التي اختطها. وعند تناوله لعلوم القرآن يستخرج نموذجا للا مفكر فيه يتمثل في "الإتقان في علوم القرآن " لجلال الدين السيوطي.

ويعيد تقسيمه إلى مجموعة من اللحظات : الأولى هيلحظة الوحي، والثانية هي لحظة جمع المصحف، ثم زمن الأورثوذوكسية.

وفي الفصل الثالث المعنون بـ( المنهجيات الثلاث في دراسة الظاهرة القرآنية ) يقسم محمد أركون الدراسات القرآنية إلى :

1. القراءة الإيمانية: وتهدف إلى ترسيخ الإيمان، وتقوم هذه القراءة على مسلمات لاهوتية "يصعب مناقشتها"، وهي تشمل عدة مبادئ :اعتبار الوحي كلام الله، وهو أزلي ولا نهائي وغير مخلوق.

كما تنطلق "القراءة الإيمانية من أن الوحي الذي نزل على محمد هو آخر وحي، وهو يكمل ويصحح الأخطاء التي وقع فيها الوحي الذي سبقه.

إن القراءتين اللاهوتية الإيمانية والتاريخوية الاستشراقية تتصفان بعيوب كثيرة؛ لذا يقترح محمد أركون منهجية جديدة في قراءة النص القرآني باستخدام المعارف اللغوية والسيميائية والنقدية .

وفي طرحه لمفهوم التاريخية، يعني أن القرآن مرتبط بظروفه التاريخية. إنه " خطاب ذو بنية أسطورية. "إن أسباب النزول هي التاريخ الحقيقي للقرآن الذي يعني أن الآية أو السورة نزلت استجابة لظرف زمني" وحلا لحالة يعاني منها الناس" ص143.

أما مسألة إعجاز القرآن، فقد حظيت "في الفكر الإسلامي بتراث وافر" من الكتابات. والإعجاز بالنسبة للرسول يشكل "الحجة التي يقدمها لخصومه ليعجزهم بها ". أما بالنسبة للدين، فهو يشكل "وسيلة تبليغه"، وهو عند محمد أركون "العجيب المدهش"، وبقدر ما يتركب القرآن من العجيب والمدهش، فهو يتركب أيضا من القصص القرآني الذي لم تتم دراسته بواسطة المناهج الأدبية واللسانية الحديثة.

في الفصل السادس : ملاحظا ب نقدية

1. يلاحظ الباحث أنه سبق لكثير من المستشرقين إبداء نفس الأفكار. كما أن إثارته (محمد أركون) لبعض القضايا تعوزها الدلائل والبراهين . أما لجوؤه إلى التعبير:"الظاهرة القرآنية " بدل التعبير المألوف"القرآن" ، فلأنه تعبير مثقل بالشحنات الدينية.

2. أما قضية جمع القرآن فليست قضية جديدة، بل سبقه إليها العلماء المسلمون(يذكر الباقلاني).

3. هناك الكثير من القضايا التي رفض العلماء الخوض فيها، لأنها تنتمي للمجال السياسي لا العقدي، وبفعل قمع السلطة.

4. يرى أركون أن القراءة اللاهوتية للقرآن هي مجرد ترسيخ للإيمان، إن الهدف من وراء دراسة القرآن هو ترسيخ الإيمان. أما القراءة اللسانية، فتهدف إلى قراءة القرآن كأي كتاب عادي؛ فمنطلق السيميائيات كان هو دراسة الحكاية الشعبية، مما يجعل تطبيقها على القرآن عملية فيها الكثير من المغامرة. ولذا، فإن "هدف أركون من الدراسة الألسنية السيميائية هو الوصول إلى تاريخية النص القرآني. لكن مع ذاك، فإنه يساوي كلام الله تعالى بكلام البشر"، إنه وحي (ومن هنا، فهو قول لن يخدم هدفه)، ووحي معجز، يرفض محمد أركون كلمة "إعجاز" ويستخدم بدلها عبارة "العجيب والمدهش".

يخلص الباحث إلى أن أركون يستند على منهج التفكيك "الذي ابتكره الفرنسي جاك ديريدا والذي يهدف إلى هدم وتقويض كل ما له علاقة "بالميتافزيقا" [ أو الإيمان]، وهو منهج "يرفع كل قدسية" عن القرآن الذي يصير مساويا لأي نص بشري.