النبيّ يعقوب في سفر التكوين


فئة :  مقالات

النبيّ يعقوب في سفر التكوين

مقدّمة

يعقوب هو ابن إسحاق بن إبراهيم، ويعد ثالث آباء اليهود، وتوأم عيسو، وترجع تسميته بيعقوب لكونه ولد ويده ممسكة بكعب عيسو، جاء في سفر التكوين: "فلمَّا اَكتملت أيّامُ حَبلِها تَبيَّنَ أنَّ في بطنها توأمَينِ. 25 فخرَج الأوَّلُ أسمَرَ اللَّونِ كُلُّه كَفَروةِ شَعْرٍ فسمَّوهُ عيسو. 26 ثُمَ خرَج أخوهُ ويدُهُ قابضةٌ على عَقِبِ عيسو، فسمَّوهُ يعقوبَ"[1]. وشخصية يعقوب حسب سفر التكوين شخصية ذات أهمية كبرى نظرًا لأهمية الأحداث المتعلقة بها كما تبين هذه الدراسة.

- عيسو ويعقوب والطبيخ الأحمـــر:

بحكم ولادة عيسو أولا، فإنّه يعتبر الابن البكر، وبالتالي فحق البكورية من نصيبه، وليس من نصيب يعقوب، وقد "كان للبكر امتيازات كثيرة على إخوته منها: أنّه كان ينوب عن أبيه في غيابه، ويأخذ مركزه في رئاسة الأسرة أو القبيلة بعد موته وكانت له بركة أبيه، وكان يأخذ نصيبًا ولحدًا من ميراث أبيه أكثر من كل إخوته".[2]

إلاّ أنّ عيسو، كما يسرد سفر التكوين، باع بكوريته مقابل الطبيخ الأحمر، لأنّه عاد من الحقل، وهو جائع ولم يستطع الصبر على ذلك، يقول النص: "وطَبخ يعقوبُ طبيخًا، فلمَّا عادَ عيسو مِنَ الحقلِ وهوَ خائِرٌ مِنَ الجوعِ 30 قالَ ليعقوبَ: «أطعِمني مِنْ هذا الأدامِ لأنِّي خائرٌ مِنَ الجوعِ». لذلِكَ قيلَ لَه أدومُ. 31 فقالَ لَه يعقوبُ: «بِعْني اليومَ بَكُوريَّتَكَ». 32 فأجابَ عيسو: «أنا صائِرٌ إلى الموتِ، فما لي والبَكوريَّةُ». 33 فقالَ يعقوبُ: «احلِفْ ليَ اليومَ». فحَلَفَ لَه وباعَ بَكُوريَّتَه لِيعقوبَ. 34 فأعطى يعقوبُ عيسو خبزًا وطبيخًا مِنَ العدَسِ، فأكلَ وشربَ وقامَ ومضَى. واَستخفَ عيسو بالبَكُوريَّةِ".[3]

ما يمكن أن يسجل هنا هو أنّ يعقوب إنسان يتميز بالاستغلال، لأنّه انتهز فرصة تعب أخيه عيسو وجوعه، فبدل أن يكون له خير مُعِين ويقدّم له الأكل والشرب، طلب منه بيع بكوريته له مقابل الطبيخ.

- البركة المسروقة:

يحكي سفر التكوين قصّة تتعلق بطلب إسحاق من ابنه عيسو أن يصطاد له صيدًا ويهيّئه له كي يباركه قبل موته، إلاّ أنّ رفقة لما سمعت ذلك حاولت أن تمنع حدوث تلك المباركة من نصيب عيسو، تقول التوراة: "1 ولمَّا شاخ إسحَقُ وكلَّت عيناهُ عَنِ النَّظَرِ دعا عيسو اَبنَهُ الأكبرَ وقالَ لَه: «يا اَبني»، قالَ: «نعم. ها أنا». 2 فقالَ: «صِرتُ شيخًا كما ترى ولا أعرِفُ متى أموتُ. 3 فخذْ عُدَّتَكَ وجعْبَتَكَ وقوسَكَ واَخرُج إلى البرِّيَّةِ وتصيَّدْ لي صَيدًا، 4 وهَيِّئْ ليَ الأطعمةَ التي أُحبُّ، وجئْني بِها فآكلَ وأبارِكَكَ قَبلَ أنْ أموتَ». وكانَت رِفقةُ سامعةً حينما كلَّمَ إسحَقُ عيسو اَبنَهُ. فلمَّا خرج عيسو إلى البرِّيَّةِ ليصطادَ صَيدًا ويجيءَ بهِ إلى أبيهِ، 6 قالت رِفقةُ ليعقوبَ اَبنِها: «سَمِعتُ أباكَ يقولُ لعيسو أخيكَ: 7 جئْني بصيدٍ وهَيِّئْ ليَ أطعمةً فآكلَ مِنها وأباركَكَ أمامَ الرّبِّ قَبلَ موتي. 8 والآنَ يا اَبني، اَسمَعْ لكلامي واَعملْ بِما أُوصيكَ بِه. 9 اذهبْ إلى الماشيةِ وخذْ لي مِنها جديَيْنِ مِنْ خيرةِ المَعَزِ، فأُهيّئَهُما أطعمةً لأبيكَ كما يُحِبُّ. 10 فتُحضِرُهما إلى أبيكَ، ويأكلُ لِيبارِكَكَ قَبْلَ موتِهِ». فقالَ يعقوبُ لرِفقةَ أُمِّهِ: «لكنَّ عيسو أخي رَجلٌ أشعَرُ وأنا رجلٌ أملَسُ. 12 ماذا لو جسَّني أبي فوجدَني مُخادِعًا؟ ألا أجلِبُ على نفْسي لعنةً لا برَكةً؟» 13 فقالت لَه أمُّهُ: «عليَّ لعنَتُكَ يا اَبني. ما علَيكَ إلاَ أنْ تسمَعَ لِكلامي وتذهبَ وتجيئَني بالجديَينِ. 14 فذهبَ وجاءَ بهما إلى أُمِّهِ، فهيَّأت أطعمةً على ما يُحبُّ أبوهُ. 15 وأخذت رِفقةُ ثيابَ عيسو اَبنِها الأكبرِ الفاخرةَ التي عِندَها في البَيتِ، فألبسَتْها يعقوبَ اَبنَها الأصغرَ 16 وكست يَدَيهِ والجانبَ الأملَسَ مِنْ عُنُقِهِ بِجلدِ المَعَزِ. 17 وناولت رِفقةُ يعقوبَ ما هيَّأتْهُ مِنَ الأطعمةِ والخبز".[4]

هكذا دبرت رفقة القضية عن طريق الحيلة كي ينال يعقوب البركة وتمنعها عن عيسو، وهي في الحقيقة حيلة تبدو مثل النكتة أو الخيال لا غير، وباقي فقرات القصة تؤكد هذا. يقول النص: "فدخلَ على أبيهِ وقالَ: «يا أبي»، قالَ: «نعم، مَنْ أنتَ يا اَبني؟» 19 فقالَ لَه يعقوبُ: «أنا عيسو بِكرُكَ. فعَلْتُ كما أمرْتَني. قُمِ اَجلِسْ، وكُلْ مِنْ صَيدي، واَمنَحْني برَكَتَكَ». 20 فقالَ لَه إسحَقُ: «ما أسرعَ ما وجدْتَ صَيدًا يا اَبني!» قالَ: «الرّبُّ إلهُكَ وفَّقَني». 21 فقالَ: «تعالَ لأجسَّكَ يا اَبني، فأعرفَ هل أنتَ اَبني عيسو أم لا». 22 فتقدَّمَ يعقوبُ إلى إسحَقَ أبيهِ، فجسَّهُ وقالَ: «الصَّوتُ صوتُ يعقوبَ، ولكنَّ اليدَينِ يَدا عيسو». 23 ولم يعرِفْهُ، لأنَّ يَدَيهِ كانتا مُشعِرتَينِ كيَدَيْ عيسو أخيهِ. فقبلَ أنْ يباركَهُ. 24 قالَ: «هل أنتَ حقًّا اَبني عيسو؟» قالَ: «أنا هوَ ». 25 فقالَ: «قدِّمْ لي مِنْ صَيدِكَ، يا اَبني، حتى آكُلَ وأُبارِكَكَ». فقَدَّمَ لَه فأكَلَ، وجاءَ بخمرٍ فشربَ. 26 وقالَ لَه إسحَقُ: «تقَدَّمْ وقبِّلْني يا اَبني». 27 فتَقَدَّمَ وقبَّلَه، فشمَ رائحةَ ثيابِه وباركَه وقالَ: «ها رائحةُ اَبني كرائِحةِ حقلٍ بارَكَه الرّبُّ 28 يُعطيكَ اللهُ مِنْ نَدى السَّماءِ ومِنْ خصوبَة الأرْضِ فَيضًا مِنَ الحِنطةِ والخمرِ! 29 وتخدُمُكَ الشُّعوبُ وتسجدُ لكَ الأُمَمُ! سيِّدًا تكونُ لإخوَتِكَ، وبَنو أُمِّكَ يَسجدونَ لكَ. مَلعونٌ مَنْ يلعَنُكَ، ومُبارَكٌ مَنْ يُبارِكُكَ!".[5]

بعد أن هيّأت رفقة الطعام دخل يعقوب على أبيه إسحاق، ولما سأله عن اسمه أجاب كذبًا بأنّه عيسو، لكنّ إسحاق طلب منه أن يجسّه للتأكد هل هو فعلا عيسو أو يعقوب. فاكتشف إسحاق أنّ الصوت صوت يعقوب واليدين لعيسو. وبعد ذلك أكل ما قدّم له يعقوب وباركه على أساس أنّه عيسو وليس يعقوب، وبالتالي فالبركة التي أخذها يعقوب هي بركة مغتصبة مبنية على الحيلة والخداع.

وتجدر الإشارة إلى نقطة جد مهمة، وهي ما دام أنّ ما عرفه إسحاق من أنّ الصوت صوت يعقوب فكان من الضروري إذّاك أن يلعنه لأنّه خدعه، هذا من جهة، ومن جهة أخرى فقول النص إنّ يعقوب لبس الجلد، فهذا مما لا يعقل قبوله؛ أولا ليس لدينا ما يؤكد أنّ يعقوب كان ذا شعر كثيف إلى درجة جلد الحيوان، ثانياً لا شك أنّه لو جس إسحاق يعقوب، فإنّه سيكتشف أنّ الجلد جلد حيوان لبسه يعقوب، ثالثاً إنّ الجلد فيه رائحة الحيوان وكان من الطبيعي أن يكشف إسحاق ذلك لما اقترب منه يعقوب قصد جسّه. وبناءً على هذا تكون القصة مفبركة لا غير لعدم تناسقها وبعدها عن الواقع وقربها إلى الخيال.

- اكتشاف عيسو الخيانة:

بعد نيل يعقوب للبركة عن طريق الحيلة والمكر الذي دبّرته رفقة، جاء عيسو بالصيد. يقول النص: "فما إنْ فرَغَ إسحَقُ مِنْ برَكتِه، وخرَج يعقوبُ مِنْ عِندِه حتى رجعَ عيسو أخوهُ مِنَ الصَّيدِ. 31فهيَّأَ هوَ أيضًا أطعمةً وجاءَ بِها إلى أبيهِ وقالَ لَه: «قُمْ يا أبي، وكُلْ مِنْ صَيدي، وبارِكْني». 32 فقالَ لَه أبوهُ: «مَنْ أنتَ؟» قالَ: «أنا اَبنُكَ البِكرُ عيسو». 33 فاَرتَعَشَ إسحَقُ اَرتعاشًا شديدًا، وقالَ: «فمَنْ هوَ الذي صادَ صَيدًا وجاءَني به، فأكَلْتُ مِنه كلِّه قَبلَ أنْ تجيءَ وباركْتُه؟ نعم، بارَكْتُه ومُبارَكًا يكونُ». 34 فلمَّا سَمِعَ عيسو كلامَ أبيهِ صرَخ عاليًا بِمرارةٍ وقالَ لَه: «بارِكْني أنا أيضًا يا أبي». 35 فأجابَه: «جاءَ أخوكَ بِمَكْرٍ وأخذَ برَكَتَكَ». 36 فقالَ عيسو: «لأنَّ اَسمَهُ يعقوبُ تعَقَّبني مرَّتَينِ؟ أخذَ بَكورِيَّتي، وها هوَ الآنَ يأخذُ برَكتي». وقالَ: «أما أبقيتَ لي برَكَةً؟» 37 فأجابَه إسحَقُ: «ها أنا جعَلتُهُ سيِّدًا لكَ، وأعطيتُه جميعَ إخوتِه عبيدًا، وزَوَّدْتُه بالحِنطةِ والخمرِ، فماذا أعمَلُ لكَ يا اَبني؟» 38 فقالَ عيسو: «أما لكَ غيرُ برَكةٍ واحدةٍ يا أبي؟ بارِكْني أنا أيضًا يا أبي». ورفعَ عيسو صوتَه وبكى".[6]

لقد تفاجأ إسحاق لما جاءه عيسو بالصيد الذي طلبه منه، وكان على إسحاق أن يقول لعيسو إنّ يعقوب هو من خدعني فمنحته البركة، وهذا منطقي جدًّا بدليل أنّ إسحاق عرف أنّ الصوت صوت يعقوب. وليس كما يقول النص: "وقالَ: «فمَنْ هوَ الذي صادَ صَيدًا وجاءَني به، فأكَلْتُ مِنه كلِّه قَبلَ أنْ تجيءَ وباركْتُه؟ نعم، بارَكْتُه ومُبارَكًا يكونُ»". ويبدو أنّ كاتب القصة في سفر التكوين حاول استدراك هذا الأمر بالقول على لسان إسحاق: "جاءَ أخوكَ بِمَكْرٍ وأخذَ برَكَتَكَ".

ثم إنّ الصواب والأنسب والأصلح والأعدل أن يلعن إسحاق يعقوب بعد أن تبين له استعمال المكر لنيل البركة، ويمنح البركة لعيسو لكون هذا الأخير هو من كُلِّف بالصيد وتجهيزه طعامًا لأبيه، كما أنّه ليس له أيّ ذنب كي يحرم من البركة. لكن هذا لم يحصل فصارت البركة حسب النص ليعقوب نالها عن طريق الخداع.

- هروب يعقوب من عيسو:

يسرد سفر التكوين حدث هروب يعقوب من عيسو كالتالي: "فَحَقَدَ عِيسُو عَلَى يَعْقُوبَ مِنْ أَجْلِ الْبَرَكَةِ الَّتِي بَارَكَهُ بِهَا أَبُوهُ. وَقَالَ عِيسُو فِي قَلْبِهِ: «قَرُبَتْ أَيَّامُ مَنَاحَةِ أَبِي فَأَقْتُلُ يَعْقُوبَ أَخِي». 42 فَأُخْبِرَتْ رِفْقَةُ بِكَلاَمِ عِيسُوَ ابْنِهَا الأَكْبَرِ فَأَرْسَلَتْ وَدَعَتْ يَعْقُوبَ ابْنَهَا الأَصْغَرَ وَقَالَتْ لَهُ: «هُوَذَا عِيسُو أَخُوكَ مُتَسَلٍّ مِنْ جِهَتِكَ بِأَنَّهُ يَقْتُلُكَ. 43 فَالْآنَ يَا ابْنِي اسْمَعْ لِقَوْلِي وَقُمِ اهْرُبْ إِلَى أَخِي لاَبَانَ إِلَى حَارَانَ 44 وَأَقِمْ عِنْدَهُ أَيَّاماً قَلِيلَةً حَتَّى يَرْتَدَّ غَضَبُ أَخِيكَ عَنْكَ 45 وَيَنْسَى مَا صَنَعْتَ بِهِ. ثُمَّ أُرْسِلُ فَآخُذُكَ مِنْ هُنَاكَ»".[7]

قصّة هذا الهروب هي نفسها مشكلة؛ فالنص يقول صراحة: "فَحَقَدَ عِيسُو عَلَى يَعْقُوبَ مِنْ أَجْلِ الْبَرَكَةِ الَّتِي بَارَكَهُ بِهَا أَبُوهُ. وَقَالَ عِيسُو فِي قَلْبِهِ: قَرُبَتْ أَيَّامُ مَنَاحَةِ أَبِي فَأَقْتُلُ يَعْقُوبَ أَخِي". والسؤال الذي يطرح هنا: من الذي أخبر رفقة بكلام عيسو؟ لأنّ عيسو قال في قلبه سأقتل أخي ولم يصرح بذلك لأحد. بل إنّه كان يناجي نفسه كما تذكر الترجمة البولسية: "وَحَقَدَ عِيسُو عَلَى يَعْقُوبَ مِنْ أَجْلِ مَا نَالَهُ مِنْ بَرَكَةِ أَبِيهِ. فَنَاجَى نَفْسَهُ: «قَرِيباً يَمُوتُ أَبِي، وَبَعْدَئِذٍ أَقْتُلُ أَخِي يَعْقُوبَ»". إذا فقضية طلب رفقة من يعقوب الهروب من عيسو تبقى مسألة معلقة.

- خيانة لابان ليعقوب:

بعد تنفيذ يعقوب طلب والدته رفقة ذهب عند خاله لابان، جاء في النص: "15 وَقَالَ لاَبَانُ لِيَعْقُوبَ: «هَلْ لأَنَّكَ قَرِيبِي تَخْدُمُنِي مَجَّاناً؟ أَخْبِرْنِي مَا أُجْرَتُكَ؟» 16وَكَانَ لِلاَبَانَ ابْنَتَانِ، اسْمُ الْكُبْرَى لَيْئَةُ وَاسْمُ الصُّغْرَى رَاحِيلُ، 17وَكَانَتْ لَيْئَةُ ضَعِيفَةَ الْبَصَرِ، وَأَمَّا رَاحِيلُ فَكَانَتْ جَمِيلَةَ الصُّورَةِ وَحَسَنَةَ الْمَنْظَرِ. 18فَأَحَبَّ يَعْقُوبُ رَاحِيلَ. وَأَجَابَ يَعْقُوبُ خَالَهُ: «أَخْدِمُكَ سَبْعَ سِنِينَ لِقَاءَ زَوَاجِي بِرَاحِيلَ ابْنَتِكَ الصُّغْرَى». 19 فَقَالَ لاَبَانُ: «أَنْ أُزَوِّجَهَا مِنْكَ خَيْرٌ مِنْ أَنْ أزَوِّجَهَا مِنْ رَجُلٍ آخَرَ، فَامْكُثْ عِنْدِي». 20 فَخَدَمَ يَعْقُوبُ سَبْعَ سَنَوَاتٍ لِيَتَزَوَّجَ مِنْ رَاحِيلَ بَدَتْ فِي نَظَرِهِ كَأَيَّامٍ قَلِيلَةٍ، لِفَرْطِ مَحَبَّتِهِ لَهَا.[8]

لقد اتفق يعقوب مع خاله على أن يزوجه ابنته راحيل ذات الجمال والمنظر الحسن، وكان نظير ذلك هو أن يخدم يعقوب خاله سبع سنين. فهل فعلاً تم تنفيذ هذا الاتفاق؟ أي زواج يعقوب من راحيل.

النص يقدم لنا الجواب كالآتي: "فَخَدَمَ يَعْقُوبُ سَبْعَ سَنَوَاتٍ لِيَتَزَوَّجَ مِنْ رَاحِيلَ بَدَتْ فِي نَظَرِهِ كَأَيَّامٍ قَلِيلَةٍ، لِفَرْطِ مَحَبَّتِهِ لَهَا. ثُمَّ قَالَ يَعْقُوبُ لِلاَبَانَ: «أَعْطِنِي زَوْجَتِي لأَنَّ خِدْمَتِي قَدْ كَمُلَتْ فَأَدْخُلَ عَلَيْهَا». 22 فَجَمَعَ لاَبَانُ سَائِرَ أَهْلِ النَّاحِيَةِ وَأَقَامَ لَهُمْ مَأْدُبَةً. 23وَعِنْدَمَا حَلَّ الْمَسَاءُ حَمَلَ ابْنَتَهُ لَيْئَةَ وَزَفَّهَا إِلَيْهِ فَدَخَلَ عَلَيْهَا 24 وَوَهَبَ لاَبَانُ زِلْفَةَ جَارِيَتَهُ لِتَكُونَ جَارِيَةً ِلابْنَتِهِ لَيْئَةَ. 25وَفِي الصَّبَاحِ اكْتَشَفَ يَعْقُوبُ أَنَّهُ تَزَوَّجَ بِلَيْئَةَ، فَقَالَ لِلاَبَانَ: «مَاذَا فَعَلْتَ بِي؟ أَلَمْ أَخْدِمْكَ سَبْعَ سَنَوَاتٍ لِقَاءَ زَوَاجِي مِنْ رَاحِيلَ؟ فَلِمَاذَا خَدَعْتَنِي؟». 26 فَأَجَابَهُ لاَبَانُ: «لَيْسَ مِنْ عَادَةِ بِلاَدِنَا أَنْ نُزَوِّجَ الصَّغِيرَةَ قَبْلَ الْبِكْرِ. 27أَكْمِلْ أُسْبُوعَ لَيْئَةَ ثُمَّ نُزَوِّجُكَ مِنْ رَاحِيلَ، لِقَاءَ خِدْمَتِكَ لِي سَبْعَ سِنِينَ أُخَرَ». 28فَوَافَقَ يَعْقُوبُ، وَأَكْمَلَ أُسْبُوعَ لَيْئَةَ، فَأَعْطَاهُ لاَبَانُ رَاحِيلَ ابْنَتَهُ زَوْجَةً أَيْضاً. 29 وَوَهَبَ لاَبَانُ بِلْهَةَ جَارِيَتَهُ لِتَكُونَ جَارِيَةً لابْنَتِهِ رَاحِيلَ. 30 فَدَخَلَ يَعْقُوبُ عَلَى رَاحِيلَ أَيْضاً، وَأَحَبَّ رَاحِيلَ أَكْثَرَ مِنْ لَيْئَةَ. وَخَدَمَ خَالَهُ سَبْعَ سِنِينَ أُخَرَ".[9]

إنّ لابان لم يف بوعده، بل قام بخداع يعقوب؛ فبدل أن يقدّم له راحيل زوجةً له كما اتفقا من البداية، قام بتزويجه ليئة، وكان جواب لابان بعد أن قال له يعقوب إنّك خدعتني، هو: "لَيْسَ مِنْ عَادَةِ بِلاَدِنَا أَنْ نُزَوِّجَ الصَّغِيرَةَ قَبْلَ الْبِكْرِ". فكان الحل لكي يتزوج يعقوب راحيل أن ينتظر مرور أسبوع على زواجه من ليئة، ثم يتزوج راحيل شريطة أن يخدم خاله سبع سنين أخرى. ويعد بمثابة جزاء ليعقوب جراء خيانته لأخيه عيسو، ثم إنّ خاله لابان أراد استغلاله في الخدمة، وإلاّ كان عليه منذ البداية أن يقول له لا يمكنك الزواج من راحيل بحكم التقاليد عندهم أي لا تتزوج الصغيرة قبل البكر، لكن لابان لم يفعل هذا.

- يعقوب والصراع مع الله:

يقول سفر التكوين عن حدث هذا الصراع: "ثُمَّ قَامَ فِي تِلْكَ اللَّيْلَةِ وَصَحِبَ مَعَهُ زَوْجَتَيْهِ وَجَارِيَتَيْهِ وَأَوْلاَدَهُ الأَحَدَ عَشَرَ، وَعَبَرَ بِهِمْ مَخَاضَةَ يَبُّوقَ، 23 وَلَمَّا أَجَازَهُمْ وَكُلَّ مَا لَهُ عَبْرَ الْوَادِي، 24 وَبَقِيَ وَحْدَهُ، صَارَعَهُ إِنْسَانٌ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ. 25 وَعِنْدَمَا رَأَى أَنَّهُ لَمْ يَتَغَلَّبْ عَلَى يَعْقُوبَ، ضَرَبَهُ عَلَى حُقِّ فَخْذِهِ، فَانْخَلَعَ مِفْصَلُ فَخْذِ يَعْقُوبَ فِي مُصَارَعَتِهِ مَعَهُ. 26 وَقَالَ لَهُ: «أَطْلِقْنِي، فَقَدْ طَلَعَ الْفَجْرُ». فَأَجَابَهُ يَعْقُوبُ: «لاَ أُطْلِقُكَ حَتَّى تُبَارِكَنِي». 27 فَسَأَلَهُ: «مَا اسْمُكَ؟» فَأَجَابَ: «يَعْقُوبُ». 28 فَقَالَ: «لاَ يُدْعَى اسْمُكَ فِي مَا بَعْدُ يَعْقُوبَ، بَلْ إسرائيل (وَمَعْنَاهُ: يُجَاهِدُ مَعَ اللهِ)، لأَنَّكَ جَاهَدْتَ مَعَ اللهِ وَالنَّاسِ وَقَدَرْتَ». 29 فَسَأَلَهُ يَعْقُوبُ: «أَخْبِرْنِي مَا اسْمُكَ؟» فَقَالَ: «لِمَاذَا تَسْأَلُ عَنِ اسْمِي؟» وَبَارَكَهُ هُنَاكَ. وَدَعَا يَعْقُوبُ اسْمَ الْمَكَانِ فَنِيئِيلَ (وَمَعْنَاهُ: وَجْهُ اللهِ) إِذْ قَالَ: «لأَنِّي شَاهَدْتُ اللهَ وَجْهاً لِوَجْهٍ وَبَقِيتُ حَيّاً». 31 وَمَا إِنْ عَبَرَ فَنُوئِيلَ حَتَّى أَشْرَقَتْ عَلَيْهِ الشَّمْسُ فَسَارَ وَهُوَ عَارِجٌ مِنْ فَخْذِهِ 32 لِذَلِكَ يَمْتَنِعُ بَنُو إسرائيل عَنْ أَكْلِ عِرْقِ النَّسَا الَّذِي عَلَى حُقِّ الْفَخْذِ إِلَى هَذَا الْيَوْمِ، لأَنَّ الرَّجُلَ ضَرَبَ حُقَّ فَخْذِ يَعْقُوبَ عَلَى عِرْقِ النَّسَا".[10]

أُسنِدت إلى هذا النصّ عناوين عديدة من ترجمات "الكتاب المقدس"، مثل: يعقوب يصارع الله. تقول الموسوعة الكنسية لتفسير سفر التكوين عن هذه القصة تحت عنوان مصارعة الله:

"بعد أن سارت قافلة زوجاته وأولاده مسافةً في طريقهم إلى مقابلة عيسو، وكان ذلك أثناء الليل، بقى يعقوب وحده ووقف يصلي طالبًا معونة الله في مقابلته لعيسو ليصرف غضبه ولا ينتقم منه. وفيما هو يصلي أراد الله أن يطمئنه، فظهر له بشكل ملاك أو أرسل إليه ملاكًا له صورة إنسان، فشعر يعقوب أنّه كائن سماوي فأسرع ليمسك به ويطلب معونته، فتظاهر الملاك كأنّه يريد أن ينصرف عنه. أمّا هو فتشبث به طالبًا بركته، لأنّه شعر أنّه مرسل من الله".[11]

تذكر الموسوعة أنّ سبب تخلف يعقوب عن عائلته هو الصلاة وطلب معونة الله في مقابلته لأخيه عيسو، وأنّ الله ظهر له في شكل ملك، أو أرسل إليه ملاكًا له صورة إنسان.

لكنّ النص صراحة لم يذكر أنّ يعقوب تخلف عن عائلته قصد الصلاة، وبدون مقدمات تقول إنّه صارعه إنسان، ولم يذكر أنّ الذي صارعه هو الله.

تضيف الموسوعة أيضًا: "وظل يعقوب يتضرع إليه متشبثًا به طوال الجزء الباقي من الليل حتى طلع الفجر، وتظاهر الملاك بالضعف أمام يعقوب كأنّه غير قادر على التخلص من التشبث به وذلك ليشجعه، وهو مستمر في طلب بركته ومعونته، بل يقول له: "لا أطلقك إن لم تباركني" لأنّي محتاج جدًا أمام قوة عيسو المقبل علي. وفي النهاية، لم يباركه الملاك فقط بل ضربه أي لمسه على حقّ فخذه فانخلع الفخذ جزئيًا من البدن، فتألم يعقوب ولكنّه ظل ممسكًا بالملاك طالبًا معونته. وهذا يظهر مدى تمسك يعقوب بالله وإحساسه بضعفه واحتياجه".[12]

وهذا التفسير تحريف للنص، لأنّ يعقوب لم يكن يتضرع إلى ذاك الإنسان أو الملاك وإنّما كان يصارعه. وشتّان بين التضرّع والمصارعة من فروق. وطلب المباركة في النص كان بعد ضربه فخذ يعقوب وليس قبله بدليل النص، "ولَمَّا رَأَى أَنَّهُ لاَ يَقْدِرُ عَلَيْهِ ضَرَبَ حُقَّ فَخْذِهِ فَانْخَلَعَ حُقُّ فَخْذِ يَعْقُوبَ فِي مُصَارَعَتِهِ مَعَهُ. 26 وَقَالَ: «أَطْلِقْنِي لأَنَّهُ قَدْ طَلَعَ الْفَجْرُ». فَقَالَ: «لاَ أُطْلِقُكَ إِنْ لَمْ تُبَارِكْنِي". ثم كيف يعقل إذا كان الله فعلا يريد مباركة يعقوب أن يكون ذلك مقابل ألم؟. فما دام سيباركه فيعني أنّ له - ليعقوب - منزلة عند الله، ومن له منزلة عند الله فلا شك سيحميه لا أن يعذّبه. وهذا ما يجعل القول بمصارعة يعقوب لله غير صحيح.

وزيادة في الإيضاح وكشف التخبط في تفسير النص السالف الذكر، أذكر ما جاء في أحد التفاسير أيضاً، يقول نجيب جرجس: "ويرى بعض المفسرين أنّ الإنسان الذي صارعه هو ملاك العهد أي الله الكلمة جاء بصورة إنسان ليفتح أذهان البشر لعقيدة التجسد، على أنّ الأرجح أنّه كان ملاكًا عاديًّا أرسله الله لتشجيع يعقوب في الوقت الذي كان خائفًا فيه من أخيه عيسو.[13]

فالذي صارعه يعقوب هو ملاك وليس الله المتجسد، وقد قال ذلك صراحة القمص تادرس يعقوب: إذ اجتاز يعقوب وأسرته نهر يبوق انفرد للخلوة، وكأنّه كان يستعد للقاء عيسو خلال لقائه مع الله، وقد ظهر له إنسان، يرى غالبية الدارسين أنّه ملاك على شكل إنسان، وليس كلمة الله.[14]

ومن الملاحظات جدّ المهمّة في النص إذا كان فعلاً ملاك الله هو الذي أُرسل إلى يعقوب فما كان له أن يصارعه، بل ستكون معاملة تليق بملاك مرسل من الله. كما أنّه في المقابل يكون عالمًا باسم يعقوب لا جاهلاً به.

ومن التناقضات بين النص والتفسيرات؛ ففي النص حديث عن تغيير الاسم من يعقوب إلى إسرائيل هو نتيجة المباركة. أمّا التفسيرات، فتذكر أنّه كان يصلي ويتضرع قصد التغلب على أخيه عيسو، وهذا غير موجود في النص.

ومن الملاحظات أيضاً كيف يكون ذلك الإنسان الملاك- الله حسب اعتقاد البعض كما أسلفت- وجوده مرتبطًا بالليل وليس النهار؟ (وَقَالَ: أَطْلِقْنِي لأَنَّهُ قَدْ طَلَعَ الْفَجْرُ). والتفاسير السالفة الذكر لم تفسر هذا الأمر.

ثم إنّ قول يعقوب إنّي نظرت الله وجهًا لوجه "دَعَا يَعْقُوبُ اسْمَ الْمَكَانِ «فَنِيئِيلَ» قَائِلاً: لأَنِّي نَظَرْتُ اللهَ وَجْهاً لِوَجْهٍ وَنُجِّيَتْ نَفْسِي"، فيه تناقض مع التفاسير والكتاب المقدس، لأنّ من يرى الله يموت، جاء في سفر الخروج: لأَنَّ الْإِنْسَانَ لاَ يَرَانِي وَيَعِيشُ[15]. فقول يعقوب رأيت الله وجهًا لوجه لا يستقيم والكتاب المقدس.

يقول ليوتاكسل: "يقول النقاد: إنّ اسم إسرائيل الذي منحه يهوه ليعقوب هو، اسم أحد ملائكة المثيولوجيا الكلدانية. وتفيد الخرافة اليهودية بأنّ، اسم إسرائيل يعني "القوي ضد الله".[16] وقد ذهب عبد الوهاب المسيري بعد حديثه عن يعقوب، إلى القول: "والقصة تشبه قصصًا مماثلة في الحضارات الوثنية، مثل الحضارة اليونانية".[17]

خاتمة

بعد هذا العرض لأهم الأحداث الخاصة بيعقوب وفق رواية سفر التكوين أخلص إلى القول:

- تتسم شخصية يعقوب بالاستغلال المتمثل في أخذه بكوريه عيسو مقابل الطبيخ.

- استفادته من مباركة إسحاق عن طريق المكر والخداع الذي دبرته رفقة.

- تعرضه للخديعة من لدن خاله لابان؛ فبدل أن يخدم سبع سنين ليأخذ راحيل كلفه ذلك 14 سنة من الخدمة لخاله.

- قصة صراعه مع الله قصة تتسم بالغموض وعدم الواقعية، لذلك تم إرجاعها إلى ما هو مثيولوجي.

لائحة المراجع:

- تفسير سفر التكوين، نجيب جرجس.

- الموسوعة الكنسية لتفسير سفر التكوين، إعداد وتفسير مجموعة من كهنة وخدام الكنيسة، كنيسة مار مرقص القبطية الأرثوذكسية مصر.

- ليوتاكسل، التوراة كتاب مقدس أم جمع من الأساطير.

- عبد الوهاب المسيري، موسوعة اليهود واليهودية والصهيونية، دار الشروق مصر، ط3،2006

المواقع الإلكترونية:

-http://st-takla.org/pub_Bible-Interpretations/Holy-Bible-Tafsir-01-Old-Testament/Father-Tadros-Yacoub-Malaty/01-Sefr-El-Takween/Tafseer-Sefr-El-Takwin__01-Chapter-31.html


[1]- سفر التكوين 25/24-26

[2]- تفسير سفر التكوين، نجيب جرجس، 286

[3]- سفر التكوين 25/2934

[4]- سفر التكوين27/1-17

[5]- سفر التكوين 27/18-29

[6]- سفر التكوين 27/30-38

[7]- سفر التكوين 27/41-45

[8]- سفر التكوين 29/15-20

[9]- سفر التكوين 29/20-30

[10]- سفر التكوين 32/22-32

[11]- الموسوعة الكنسية لتفسير سفر التكوين، إعداد وتفسير مجموعة من كهنة وخدام الكنيسة، كنيسة مارمرقص القبطية الأرثوذكسية مصر، ص: 242

[12]- نفسه

[13]- تفسير سفر التكوين، نجيب جرجس، ص 331

[14]- http://st-takla.org/pub_Bible-Interpretations/Holy-Bible-Tafsir-01-Old-Testament/Father-Tadros-Yacoub-Malaty/01-Sefr-El-Takween/Tafseer-Sefr-El-Takwin__01-Chapter-31.html

-[15] سفر الخروج 33/20

[16]- ليوتاكسل، التوراة كتاب مقدس أم جمع من الأساطير، ص 135

[17]- عبد الوهاب المسيري، موسوعة اليهود واليهودية والصهيونية، دار الشروق مصر، ط3، 2006، م1، ص 401