البابا والفاتيكان، حق إلهي أم احتكار ذكوري؟ رجال كهول يقصون النساء والشباب باسم السماء

فئة :  مقالات

البابا والفاتيكان، حق إلهي أم احتكار ذكوري؟ رجال كهول يقصون النساء والشباب باسم السماء

البابا والفاتيكان، حق إلهي أم احتكار ذكوري؟

رجال كهول يقصون النساء والشباب باسم السماء

على الرغم من أنني لست متديّنًا، إلا أنني أقدّم التعازي الحارة لكافة المؤمنات والمؤمنين الكاثوليك بوفاة البابا فرنسيس- خورخي ماريو بيرجوليو -، والتهنئة على الاتفاق بين الكرادلة على اختيار بابا جديد هو ليو الرابع عشر - روبرت فرنسيس بريفوست. إن هذه اللحظة الروحية لها مكانتها واحترامها، بوصفها تعبيرًا عن علاقة الإنسان الكاثوليكي بربه، وهي علاقة شخصية لا يجوز التدخل فيها أو فرضها على الآخرين.

لكن، وفي لحظة تاريخية تتطلب إعادة النظر في كافة أشكال السلطات الاستبدادية، يبرز مشهد انتخاب بابا الفاتيكان بوصفه نموذجًا صارخًا لإقصاء النساء والشباب عن مراكز القرار الروحي داخل المؤسسات الدينية. فالعملية ما زالت محصورة في الكرادلة الذكور الكبار في السن، ضمن منظومة دينية تقليدية لا تتيح للمرأة لا الترشح ولا التصويت، كما تقصي عمليًا فئة الشباب، رغم غياب نصوص واضحة تنص على ذلك. وهذا يحدث في وقت تشكل فيه النساء والشباب الأغلبية في صفوف المؤمنين والمؤمنات الكاثوليك حول العالم. إن اقتصار اختيار من يُفترض أنه يمثل – المسيح والكاثوليك – على الأرض على الرجال الكبار وحدهم، لا يعبّر فقط عن استمرارية منظومة أبوية، بل يعكس أيضًا تجاهلاً كبيرًا وابتعادًا واضحًا عن روح العصر فيما يتعلق بقيم المساواة والتحرر الإنساني.

اليسار والموقف من الأديان

قبل الدخول في الموضوع، لا بد من التطرق إلى رؤية اليسار الإلكتروني للدين، حيث يدعو، في الظرف الحالي، إلى تحييد الدين عن الدولة دون المطالبة بفصله تمامًا، مع ضمان حرية التدين والعقيدة كحق شخصي غير قابل للمساس. احترام المعتقدات الدينية لعامة الجماهير يعد جزءًا من التزام الدولة بتأمين مساحة للتعددية الفكرية والدينية، بحيث تبقى العلاقة بين الإنسان ودينه علاقة شخصية لا تُفرض قسرًا على الآخرين. وفق هذه الرؤية، تصبح الدولة مسؤولة عن إدارة هذا التوازن من خلال الحفاظ على حيادها تجاه جميع الأديان، وإلغاء الدين الرسمي للدولة، مع تقديم الدعم للمؤسسات الدينية بوصفها منظمات جماهيرية، بشرط أن يكون هذا الدعم متساويًا ويعكس مستوى التدين في المجتمع دون تفضيل دين على آخر.

مفهوم التحييد يمثل خيارًا واقعيًا ومتوازنًا الآن، يدرك أن الدين لم يُفصل تمامًا عن الدولة في أي مكان في العالم، بما في ذلك الدول الغربية المتقدمة التي تُعتبر علمانية، ولا يزال الدين يلعب دورًا ثقافيًا واجتماعيًا في تشكيل الهوية الوطنية، وجزءًا من الحياة العامة، حيث تُموّل بعض المؤسسات الدينية، وتُدمج الأعياد الدينية في الجداول الرسمية، وتُحترم معظم الشعائر الدينية كجزء من التنوع الثقافي. التحييد يعني وضع إطار يحول دون استغلال الدين كأداة للحكم أو للتشريع أو للقمع أو التمييز، مع الحفاظ على دوره الثقافي والاجتماعي، بينما الفصل الكامل قد يكون صعبًا عمليًا الآن، حسب درجة تدين المجتمعات، وقد يثير توترات اجتماعية لا ضرورة لها. ولذلك، ينبغي على القوى اليسارية والتقدمية أن تتجنب طرح هذا الخيار في البلدان أو السياقات التي يشكل فيها الدين حضورًا قويًا، ومكونًا أساسيًا من الهوية الثقافية والعامة، تجنبًا لانعكاسات سلبية محتملة على دورها الجماهيري.

تحييد الدين لا يعني تهميشه أو إقصاءه، بل يعني ضمان أن تظل الدولة على مسافة متساوية من جميع الأديان. يضمن هذا الإشراف ألا تتحول المؤسسات الدينية إلى أدوات لنشر التعصب الديني والطائفي أو فرض الهيمنة الفكرية. يجب أن يتم تعليم العاملين والعاملات في المؤسسات الدينية في مؤسسات تعليمية حكومية تركز على قبول التعددية الدينية والفكرية ونبذ العنف والتعصب، وكذلك احترام الحق في الإيمان والإلحاد باعتباره جزءًا من حرية المعتقد الفردية، مع تقديم قراءات عصرية للنصوص الدينية تراعي التطور الفكري والعلمي والحقوقي. هذا النهج يعزز من قدرة المجتمعات على التماسك، حيث يُتعامل مع الدين كعنصر ثقافي واجتماعي وليس كأداة سياسية أو أيديولوجية. تحييد الدين من الممكن أن يُجنب الدولة خطر الانقسامات الطائفية والتمييز الديني، ويسهم في خلق فضاء عام تُحترم فيه التعددية الدينية.

لا بد من التأكيد أن الدين ليس تناقضًا رئيسيًا بحد ذاته، بل إن ظهوره، واستمراره، أو زواله يعد نتيجة لظروف سياسية، واقتصادية، واجتماعية، وثقافية تطورت عبر التاريخ. لذلك، لا بد أن يسعى اليسار إلى تجنب الاصطدام الحاد مع المعتقدات الدينية للجماهير، ويدعو إلى حوار علمي وعقلاني يُبرز الجوانب التقدمية والإيجابية في الأديان التي يمكن أن تسهم في تحقيق التغيير نحو نظام أكثر عدالة ومساواة. في الوقت ذاته، يتبنى نقدًا علميًا للجوانب السلبية للأديان المنافية للتطور العلمي وحقوق الإنسان والمساواة والأفكار التقدمية، مع الأخذ بعين الاعتبار السياق التاريخي الذي أنتج هذه الجوانب. تهدف هذه القراءة العلمية المتوازنة إلى التأثير الإيجابي على الجماهير المؤمنة وجرّها إلى الأفكار اليسارية، في إطار يراعي تعدد السياقات الثقافية والدينية وتنوع التجارب التاريخية.

في العديد من الدول المتقدمة، مثل الدول الإسكندنافية، تراجعت الحاجة إلى الدين والمؤسسات الدينية بشكل ملحوظ، نتيجة للتطور الاقتصادي والاجتماعي والسياسي، بالإضافة إلى تحقيق مستويات عالية من الأمان والضمان بمختلف أشكاله. وقد أصبح الدين في هذه المجتمعات جزءًا من الموروث التاريخي أكثر مما هو ممارسة يومية، حيث أُغلقت العديد من دور العبادة أو هجرت، بل وتحولت بعضها إلى فنادق، ومطاعم، أو منشآت ثقافية. وتعكس هذه التحولات تغيرًا عميقًا في الاتجاهات العامة نحو أنماط أكثر علمانية، تقلّص فيها دور الدين بشكل كبير في الحياة العامة، مع بقائه خيارًا شخصيًا أو رمزيًا لدى بعض الأفراد.

أما القوى الدينية المتعصبة التي تسعى إلى إقامة أنظمة حكم دينية استبدادية، فهي تُعد قوى رجعية تعمل ضد الفكر الديمقراطي واليساري، وتروّج لأجندات تتناقض مع حقوق الإنسان. فلا بد من فضح هذه القوى والتصدي لها بمختلف الوسائل الممكنة، نظرًا لاستغلالها الدين في تبرير التمييز والقمع. في المقابل، ينبغي دعم التيارات والشخصيات الدينية المستنيرة والإصلاحية، التي تسعى إلى تقديم قراءات علمية عصرية للنصوص الدينية والتراث، وتوائمها مع القيم الحقوقية والمساواة والتقدم العلمي.

انتخاب بابا الفاتيكان في 2025

بغض النظر عن الموقف الفكري من الأديان عمومًا، أو الديانة الكاثوليكية على وجه الخصوص، أتناول هذا الموضوع من منظور تقدمي وحقوقي، حيث أرى في الكنيسة الكاثوليكية منظمة جماهيرية كبرى تضم عددًا كبيرًا من المؤمنات والمؤمنين، وغالبيتهم من الجماهير الكادحة، ولها تأثير روحي ويومي كبير عليهم. وإذ تُعد الكنيسة أمرًا واقعًا حاضرًا بقوة في حياة مئات ملايين الناس حول العالم، فإن الواجب يحتم علينا المطالبة بجعلها أكثر ديمقراطية، وخاصة في عالم يشهد ثورات وتغييرات اجتماعية متلاحقة ضد جميع أشكال التسلط، وعلى رأسها التمييز بين الرجال والنساء، وسائر أشكال التمييز، سواء كان قوميًّا أو دينيًّا أو جنسيًّا أو عمريًّا أو غيره.

ورغم هذه التحولات، لا يزال مشهد انتخاب بابا الفاتيكان يتم داخل دائرة مغلقة من الذكور فقط، بمتوسط أعمار يقترب من السبعين، في طقس يذكرنا بالبُنى القروسطية التي احتكرت السلطة باسم الحق الإلهي، وكرست إقصاء النساء، والشباب، وعموم الجماهير الكاثوليكية المؤمنة، بوصفه أمرًا مقدسًا لا يُمس. هذا الترتيب البطريركي يتعارض بشكل كبير مع قيم العدالة والمساواة كما تطرحها مواثيق حقوق الإنسان والتطورات الحقوقية الحديثة، وهو ما يفتح الباب أمام نقاش أوسع حول ضرورة الحاجة إلى تطوير الكثير من الجوانب في بنية المؤسسة الكنسية.

وفي ضوء هذا الواقع، من المفيد النظر إلى تجارب كنائس أخرى نجحت في إدخال إصلاحات حقيقية، خاصة في الدول الإسكندنافية، حيث تظهر بوضوح إمكانية التحديث الكبير والانفتاح داخل المؤسسات الدينية. في السويد مثلًا، تم في عام 2013 انتخاب امرأة على رأس الكنيسة، وهي أنتيه جاكلين، التي تولت منصب رئيسة الأساقفة عام 2014، وهو أعلى منصب ديني فيها. كما تشكل النساء اليوم أكثر من نصف عدد الكهنة في كنيسة السويد. في آيسلندا أيضًا، تم في عام 2012 انتخاب أغنيس سيغورداردوتير كأول امرأة تقود الكنيسة وتحمل لقب أسقف البلاد. وتشهد فنلندا خطوات مشابهة نحو المساواة، حيث سُمح بسيامة النساء منذ عام 1988. هذه النماذج تثبت أن تولي المرأة أعلى المناصب الروحية لم يعد استثناء، بل يمثل مسارًا إصلاحيًا حقيقيًا، يمكن أن يُلهم نقاشًا أوسع داخل مؤسسات دينية أخرى حول العالم.

إن استمرار احتكار الرجال المسنين لهذا المنصب الروحي الأعلى للكاثوليك، وحرمان النساء والشباب من الكهنوت ومن حق الترشح والمشاركة في انتخاب البابا، لا يفضح فقط بنية كنسية أبوية، بل يكشف عن تناقض صارخ بين خطاب الكنيسة الكاثوليكية المعلن حول المحبة والمساواة، وبين ممارساتها الفعلية الخاضعة لمنطق الإقصاء القائم على النوع الاجتماعي والعمر، ويُعيق أي إصلاحات تقدمية وحقوقية داخل الكنيسة. وهو تناقض ينسحب أيضًا على خطاب الدول الرأسمالية الغربية التي تدّعي دعم دور المرأة والشباب، بينما تصمت بشكل صارخ عن هذا النوع المفرط من الإقصاء داخل مؤسسة دينية عالمية كبرى مثل الفاتيكان.

هذا الشكل من السلطة لا يختلف كثيرًا عن أدوات الحكم في العصور الإقطاعية التي كانت ترى في النساء والشباب كائنات أدنى، لا يحق لهم القيادة أو التمثيل، وهو ما يجب أن يُواجه بنقد جذري صريح من قبل كل القوى والتنظيمات الحقوقية والنسوية والتقدمية في العالم أجمع.

إن الكنيسة الكاثوليكية وكافة المؤسسات الدينية لكافة الأديان، إذا كانت جادة في خطابها الأخلاقي المعلن، فعليها أن تُحدث قطيعة مع هياكلها المغلقة السلطوية والموروثة من عصور سابقة، وتفتح أبوابها للنساء والشباب بكل ما يحمله ذلك من مسؤوليات ومواقع قيادية، بما في ذلك الحق في الترشح والانتخاب. فالدين، إن لم يتحرر من هذه البنية الذكورية، سيبقى إطارًا لتبرير التمييز الجندري والعمري تحت غطاء ديني تقليدي. وما لم تُنزع القداسة عن هذه السلطة المغلقة، فإن كل حديث عن المحبة والمساواة سيظل عرضة لفقدان مصداقيته، إن استمر الواقع على ما هو عليه من إقصاء النساء والشباب تحت غطاء ديني تقليدي يُنسب إلى التفويض الإلهي أو استنادًا إلى تأويلات دينية تقليدية.

برأيي، ينبغي للقوى التقدمية واليسارية أن تتعامل مع المعتقدات الدينية بروح نقدية منفتحة، وأن تدعو إلى قراءات علمية جديدة تراجع الاستخدامات السلبية للدين، ومنها الاستعمال السلطوي الذكوري والتمييزي. وهنا، فإن إقصاء النساء والشباب عن الكهنوت في معظم الأديان، ومنعهم من الترشح واختيار رأس المؤسسات الدينية، لا يمثل فقط انتهاكًا لحقوقهم، بل نفيًا صريحًا لمبادئ حقوق الإنسان والمساواة. لا بد من تعرية هذا التواطؤ بين السلطة الدينية والتمييز الجندري والعمري المفرط، والتصدي للقوى الدينية المتعصبة التي تُغذي خطاب الإقصاء باسم النصوص المقدسة، وتروج لأجندات تُكرّس الإقصاء استنادًا إلى قراءات دينية تقليدية، وتدفع باتجاه مواقف تُعيق التطور الحقوقي، وتهدد أي مشروع تحرري، ومنها المساواة الكاملة بين المرأة والرجل، وتعزيز دور الشباب في مجتمعاتنا، فضلًا عن ضمان انتخاب المسؤولين والمسؤولات في المؤسسات الدينية وفي مواقع اتخاذ القرار فيها بشكل ديمقراطي شفاف ومباشر من قبل الجماهير التي تمثلهم.

في الختام، تمثل هذه الكلمات دعوة صريحة لكل النساء والرجال، في الديانة المسيحية الكاثوليكية خاصة، وفي سائر الأديان عمومًا، للمطالبة والعمل من أجل إصلاحات ديمقراطية وتقدمية جذرية في بنية المؤسسات الدينية وتوجهاتها الفكرية. إصلاحات تضمن المساواة الكاملة بين المرأة والرجل، وتعزز دور الشباب، وتكفل حق الانتخاب المباشر لرأس السلطة الروحية، سواء كان رجلًا أو امرأة، من قبل جميع المؤمنين والمؤمنات دون تمييز في العمر أو المرتبة. كما تدعو إلى إصلاحات أوسع تنسجم مع التطور البشري وتلتزم بمواثيق حقوق الإنسان الدولية.