حوار مع الأستاذ محمّد الحدّاد في مقاربات الإصلاح


فئة :  حوارات

حوار مع الأستاذ محمّد الحدّاد في مقاربات الإصلاح

حوار مع الأستاذ محمّد الحدّاد

في مقاربات الإصلاح

محمّد الحدّاد:

- أستاذ الحضارة العربيّة وتاريخ الأديان في الجامعات التّونسية.

- حاصل على شهادة الدّكتوراه بجامعة السّوربون في نقد العقل الثيولوجيّ (essais de la critique de la raison théologique) بالاستناد إلى أنموذج محمّد عبده.

- من مؤلّفاته: «الأفغاني صفحات مجهولة من حياته: دراسات ووثائق» (1997)، «محمد عبده قراءة جديدة في خطاب الإصلاح الدّينيّ» (2003)، «حفريات تأويليّة في الخطاب الإصلاحيّ العربيّ» (2002)، «مواقف من أجل التّنوير» (2005)، «البركان الهائل» (2006)، «ديانة الضّمير الفرديّ ومصير الإنسان في العصر الحديث» (2007).

- شغل كرسي اليونسكو للدّراسات المقارنة للأديان منذ سنة 2005.

مفهوم الإصلاح الدّينيّ كما طُرح بداية من القرن التّاسع عشر

د. نادر الحمّامي: الأستاذ محمّد الحدّاد، يبدو لمن يتابع أعمالك الكثيرة منذ بداياتها أنّك تولي فكر الإصلاح أهمّيّة كبرى، فكيف كان توجّهك نحو هذه المباحث، وهل إنّ المجتمعات العربيّة والإسلاميّة تعيش أزمة راهنة، تحتّم عليها إعادة قراءة ما أنتجه مصلحو فكر النّهضة بداية من القرن التّاسع عشر؟

د. محمّد الحدّاد: أقدّم بداية الأسباب الّتي جعلتني أتّجه إلى هذه المباحث بصفة خاصّة، فإذا نظرنا إلى الفكر العربيّ المعاصر نجد قناعة لدى كلّ المفكّرين بصفة عامّة أنّ الفكر لا ينطلق من لا شيء، فبالضّرورة أنّه يبني على شيء ما سابق. والفكر العربيّ المعاصر، بداية من القرن العشرين مع نشأة المدارس الحديثة، انطلق من الفكر العالميّ؛ أي إنّ إنتاجه كان أساساً من خلال التّرجمة والتّعريب والتّعريف بالتّيّارات الفلسفيّة والفكريّة الحديثة، مثل الماركسيّة والوجوديّة وغيرها... أي إنّ كلّ التّيّارات الحديثة كانت تجد لها صدًى في البيئة الفكريّة العربيّة، وفي ما بعد، أي بعد عشرات السّنين وقع الانتباه إلى مسألة، وهي أنّ هذا الانفتاح على الفكر الكونيّ ظلّ نخبويّاً، فهذه التّيّارات الحديثة كانت معروفة في مستوى النّخبة لكنّها كانت بعيدةً جدّاً عن الجانب الأكبر من النّاس. من هنا دخل الفكر المعاصر إلى المرحلة التّالية، وهي محاولة إيجاد علاقات بين هذه التّيّارات الحديثة وبين التّراث العربيّ الإسلاميّ، وبدأ الاهتمام بإيجاد تيّارات عقلانيّة أو عقليّة في التّراث، من ذلك الاهتمام بالمعتزلة وبابن رشد، وبدأ الاهتمام بتقسيم العلوم الإنسانيّة والاجتماعيّة بالعودة إلى شخصيّات تراثيّة من المفترض أنّها كانت سبّاقة نوعاً ما فيما يشبه العلوم الإنسانيّة والاجتماعيّة، مثل ابن خلدون وغيره... هذه المرحلة الثّانية من الفكر العربيّ المعاصر، هي ذاتها وجدت نفسها بعد ذلك في مأزق، يمكن أن نفسره بأمرين؛ الأمر الأوّل هو أنّها أدّت إلى كثير من عمليّات الإسقاط، أي إسقاط أفكار حديثة على تراث قديم؛ فالعقلانيّة الحديثة لا يمكن أن تكون في سياق عقلانيّة (أو معقوليّة) ابن رشد نفسها، وهذا قد أدّى إلى مشكل أوّل كبير وهو عمليّة الإسقاط تلك، وأدّى أيضاً إلى مشكل ثانٍ كبير وهو أنّ العودة إلى التّراث في البداية كانت مجرّد وسيلة لتأصيل الأفكار الحديثة، فإذا بالتّراث يصبح هو المبحث الرّئيس وتهمَّش الأفكار الحديثة وتندثر وتصبح المعارك حول التّراث نفسه. لذلك فكّرت في أنّه ينبغي أن نفتح المجال لمرحلة ثالثة لا تنطلق من التّراث لتأصيل الأفكار الحديثة، بل من القرن التّاسع عشر أي من الفترة الّتي نسمّيها عصر النّهضة، لأنّ العالم قد تغيّر والقرن التّاسع عشر هو قرن العولمة سواءً في البلدان العربيّة أو في الصّين أو في اليابان أو في الهند، هو القرن الّذي تعولمت فيه آثار الثّورة العلميّة والصّناعيّة والرّأسماليّة الحديثة. ولهذا دعوت منذ البداية إلى تقسيم التّراث نفسه إلى ما أسمّيه التّراث البعيد، والّذي اعتبرتُ أنّنا ينبغي أن ندرسه، ولكنّ هذا التراث مختلف عن قضايانا المعاصرة لأنّه نشأ في عصر مختلف تماماً، عصر لا توجد فيه رأسماليّة ولا مفهوم دولة وطنيّة ولا مفهوم ديمقراطيّة ولا علوم بالمعنى الحديث... وما دعوته بالتّراث القريب أي تراث القرن التّاسع عشر الّذي له قيمة تأسيسيّة، والّذي إذا انطلقنا منه سنجد أنفسنا في الإشكاليّات نفسها الّتي نطرحها اليوم.

د. نادر الحمّامي: هل إنّ وجود الإشكاليّات نفسها الّتي نطرحها اليوم في ما تسمّيه التّراث القريب، مع روّاد الإصلاح الّذين عاصروا تسارع الثّورات العلميّة والتّقنيّة وتغيّر البنى الاجتماعيّة والذّهنيّة في العالم، يتطلّب منّا العودة إلى أفكارهم الإصلاحيّة من أجل الاستخدام المنهجيّ فحسب، أم من أجل استلهام الحلول لواقعنا؟

د. محمّد الحدّاد: أعتقد أنّ من بين أسباب سوء الفهم الّذي واجهته أعمالي هو هذه المسألة؛ فأنا عندما أقول بالعودة إلى القرن التّاسع عشر لا أقول إنّنا سنعود إلى حلول القرن التّاسع عشر؛ لأنّه لا توجد حلول أصلاً لدى هؤلاء، فهم قاربوا تلك الإشكاليّات وبدأوا في فهمها، ولم يتسنّ لهم الوقت ولا الظّروف كي يفكّروا حقيقة في حلول، إلّا أنّهم كانوا واعين بهذه المشاكل، وكان هناك نوع من التّعامل الإيجابيّ مع الحلول الكونيّة الّتي طُرحت في ذلك الوقت. ولو نظرنا اليوم في ما يبدو من فشل الثّورات العربيّة، فإنّنا نلاحظ أن من أسباب هذا الفشل ما طفى على السّطح من نقاشات وجدال كبير حول مفهوم الدّولة، هل هي وطنيّة أم دينيّة، وإذا عدنا إلى القرن التّاسع عشر سنرى أنّ هذا الجدال كان محسوماً، ولم يتطلّب الأمر من الطّهطاوي (1801-1873) تفكيراً طويلاً للقول بالدّولة الوطنيّة؛ فقد كان هناك أريحيّة أكبر في التّعامل مع الأفكار الحديثة. وعندما أدعو للعودة إلى القرن التّاسع عشر فذلك لأنّني أعتقد أنّ الفكر لا يمكن أن ينطلق من صفحة بيضاء، فلا بدّ أن نؤسّس على شيء موجود، وأعتقد أنّ الحديث انطلاقاً من الفلسفة الكونيّة وحدها لا يكفي، لأنّ الأمور بهذا الشّكل تظلّ نخبويةً ولا تمسّ جزءاً أكبر من النّاس. وبما أنّنا نحتاج إلى نقطة انطلاق فمن الأفضل أن تكون مرحلة القرن التّاسع عشر، وهذا لا يعني أنّنا سنعود إلى حلول تلك المرحلة، وإنّما ستكون فقط نقطة انطلاق نبني عليها؛ من ذلك أنّ فكرة الدّولة الوطنيّة كانت موجودة في تلك المرحلة ودافع عنها مصلحون مثل ابن أبي الضّياف (1804-1874) وخير الدّين التّونسيّ (1820-1890) والطّهطاوي، فلماذا لا ننطلق من هؤلاء ثمّ نواصل التّفكير في الدّولة الوطنيّة الّتي تعرّضت إلى كثير من التّطورات والاهتزازات على مراحل متتالية. ومشكلة الدّولة الوطنيّة هي إحدى المشاكل الأساسيّة في الفكر السّياسيّ الحديث في العالم، فلا أحد اليوم يعود إلى الدّولة الدّينيّة أو فكرة الإمبراطوريّات العابرة للقارّات مثل الإمبراطوريّة العثمانيّة، وهكذا فإنّ تلك الفترة يمكن أن تكون منطلقاً للتّفكير في إشكاليّاتنا الحديثة، لا نهايةً.

د. نادر الحمّامي: أي إنّ الأسئلة نفسها تتجدّد ما يجعلها تتطلّب أجوبة جديدة، وقد بيّنت ذلك من خلال اشتغالك على الفكر الإصلاحيّ وما رأيته من أهمّيّة الانطلاق منه، ولكن إذا نظرنا في الحلول الّتي قدّمها روّاد الإصلاح على اختلافها من محمّد عبده (1849-1905) إلى الكواكبيّ (1855-1902) إلى رشيد رضا (1865-1935) وغيرهم، فإنّنا نجد أنّها بقيت في جملتها تُطرح اليوم لدى بعضهم كما هي، ولم يتعدّ الأمر مجرّد ترميق للمنطق نفسه.

د. محمد الحدّاد: لقد بدأت عمليّة التّرميق هذه منذ ثمانينات القرن الماضي، نتيجة تنامي المدّ الإخوانيّ في مصر، حيث اتّجه بعض المنتمين إلى هذا التّيّار إلى السّطو على التّراث الإصلاحيّ وجعله مقدّمة لظهور فكر الإخوان المسلمين، وكنت قد بدأت أبحاثي في تلك الفترة وتبيّنت ملامح ذلك السّطو، وكان من أبرز الّذين قاموا بهذا العمل محمّد عمارة الّذي نشر أغلب الأعمال الكاملة لهؤلاء الإصلاحيّين، ثمّ يوسف القرضاوي والعديد من الأشخاص الآخرين الّذين عملوا على تغيير أبوّة التّيّار الإخوانيّ، بما أنّ أبوّة سيّد قطب أصبحت محرجة لهم، فإنّهم تأخّروا قليلاً إلى الوراء وأرادوا أن يربطوا هذا الفكر بالطّهطاوي ومحمّد عبده والكواكبيّ. ولم تكن هنالك علاقة في الأصل بين الفكر الإصلاحيّ والفكر الأصوليّ الّذي ظهر مع الإخوان المسلمين، بل إنّنا عندما نعود إلى ما كتبه سيّد قطب عن ذلك الجيل من المصلحين نرى أنّه كان كلام استنقاص، فقد اعتبر أنّهم منبهرون بالغرب، وأنّ الحركات الأصوليّة أتت لتعود إلى الإسلام الحقيقيّ وليس إلى الإسلام المنبهر بالغرب الّذي تمثّله حركات الإصلاح الدّينيّ. وفي تونس نجد الشّيء ذاته، فقد اُعتبر خير الدّين شخصاً مغرّراً به ومنبهراً بالغرب وحُمّل نتيجة الاستعمار. لذلك، فمن المهمّ أن ننتبه إلى أنّ عمليّة التّرميق قام بها اتّجاه سياسيّ معيّن، وعلينا أن نعمل على تحرير هؤلاء المصلحين من محاولات التّرميق والتّلفيق ومحاولات الانتساب الّتي لا توجد مستندات تاريخيّة حقيقيّة تدعمها.

د. نادر الحمّامي: إلى جانب ذلك فقد وُوْجِهَ هؤلاء المصلحون بتعنّت المؤسسّات الدّينيّة سواء منها الأزهر في مصر أو الزّيتونة في تونس؛ نذكر على سبيل المثال الطّاهر الحدّاد وطه حسين وحتى محمّد عبده قبل ردّة تلميذه رشيد رضا...

د. محمّد الحدّاد: كانت ردّة تلميذه نتيجة تأثّره بالمدّ الوهابيّ في أواخر العشرينيات من القرن التّاسع عشر، وكان محمّد عبده قد توفّي قبل ذلك، ورشيد رضا قد ارتبط بهذه الحركة وأعاد تأويل شيخه حسب تلك الأفكار، وهذا ما كنت قد تطرّقت إليه في أطروحتي حول محمّد عبده. وقد بينت ألّا علاقة له بالتّراث الوهّابيّ، ولا حتّى بابن تيميّة الّذي لم تكن كتبه متداولة في ذلك الوقت، فهي بدأت تُنشر في العشرينات مع الطّور الثّالث من الحركة الوهابيّة؛ أي ما يسمّى السّلفيّة الجديدة. وبالتّالي لم يكن محمّد عبده قد تأثّر بذلك، وإنّما قام تلميذه رشيد رضا بكتابة تاريخه (تاريخ الأستاذ الإمام الشيخ محمّد عبده) بعد ثلاثين سنة من وفاته، ما سمح له بإعادة تأويل الحركة الإصلاحيّة الجديدة، ذات الاتّجاه السّلفيّ الوهابيّ الّذي لم يخفه، بما أنّه يقول في بعض كتاباته «ينبغي أن نكون مع هذه الحركة» ويبشّر بانتشارها... وإذا اعتبرنا أنّ رشيد رضا قام هو أيضاً بعمليّة سطو على شيخه، فإن هذا السّطو قد تواصل مع كتّاب معاصرين مثل يوسف القرضاوي وطارق رمضان وغيرهما، ولعلّ الظّروف الحاليّة تبدو مساعدة لهذا التّيّار دون غيره، لذلك من الصّعب على بعض الكتابات الّتي تحاول كشف عمليّة السّطو تلك أن تجد رواجاً واهتماماً موسّعاً، لذلك لا تستطيع كُتبي أن تزاحم هؤلاء؛ لأنّ وراءهم أجهزة دعاية ضخمة جدّاً، ففي حين كنت قد كتبت مقالاً أوضّح فيه هذه المسائل وقد نُشر ولم يلاقِ الانتباه المطلوب، كانت «قناة الجزيرة» تبثّ سلسلة وثائقيّة كاملة حول الفكر الإخوانيّ وقد أخذت مادّتها من ذلك التّأويل الوهّابي، ومن ثمّ لا يمكن لنا نحن بكتب أكاديميّة أن ننافس أجهزة ضخمة مثل قنوات تلفزيّة ودور نشر قويّة جدّاً، ولكنّي سأواصل القول كما فعل غاليلي (galilée) «ومع ذلك فالأرض تدور»؛ لأنّ الوثائق الّتي قدّمتها تبيّن صحّة قراءتي لهذا التّاريخ وتبيّن أنّ ما قام به الآخرون إنّما هو عمليّة سطو، لا تخلو بدورها من الانتقاء والتّوظيف؛ ذلك أنّ الأعمال الكاملة لهؤلاء المصلحين الّتي قام بنشرها محمّد عمارة قد خضعت لعمليّة انتقاء واضحة؛ إذ أسقط منها بعض النّصوص الّتي لم ترقه ولم تتماشى مع مواقفه هو، وبالتّالي فإنّها لم تكن في الحقيقة أعمالاً كاملة.

د. نادر الحمّامي: صحيح، ففي الأعمال الكاملة لمحمّد عبده المنشورة عن دار الشّروق، نجد أنّ ما تعرّض إليه حول مسألة الإصلاح الدّينيّ وإصلاح الأزهر ورد مبتوراً إلى حدّ كبير، كما نلاحظ أيضاً في كتاب «الإسلام وأصول الحكم» لعلي عبد الرّازق في الطّبعة المسبوقة بنصّ المحاكمة، أنّ ذلك النّص ورد مشوّهاً. لذلك يبدو من المهمّ أن ننتبه إلى عمليّة السّطو تلك، ولعلّ الحديث عن محمّد عبده يحيلنا دائماً على تلك المجادلة الّتي جمعته بفرح أنطون (1874-1922)، فهل ما إذا برّأنا محمّد عبده اليوم من عمليّة السّطو نكون بشكل من الأشكال ضدّ السّياق العلمانيّ الّذي دافع عنه فرح أنطون؟

د. محمد الحدّاد: لقد كتبت في كتابي «ديانة الضّمير الفرديّ» فصلاً حول هذه المناظرة بين محمّد عبده وفرح أنطون، وبيّنت أنّها متجاوَزة؛ لأنّ ما قاله كلاهما قد تجاوزه التّاريخ، فما دافع عنه أنطون مرتبط بفكرة الدّولة اللّيبراليّة كما كان يتصوّرها المفكّرون قبل الحرب العالميّة الأولى، والحال أنّ الدّولة الحديثة لا يمكن أن تكون على ذلك الشّكل اللّيبراليّ المطلق الّذي تأثّر به. ومع أنّ هذا لا ينفي أن ما تحدّث حوله أنطون من أنّ الإيمان ينبغي أن يكون فرديّاً، يُعتبر على درجة عالية من الأهمّيّة، إلّا أنّه يُناقش أيضاً، باعتبار أن الدّين خطابٌ، وأنّه بالتّالي اجتماعيّ، وهذا يتيح للمتديّن أن يبحث عن نوع من التّوفيق بين إيمانه الذّاتيّ والعصر الّذي ينتمي إليه. فعمليّة الإصلاح الدّينيّ، من وجهة نظري، هي هذه المحاولة التّأويليّة لإيجاد نوع من التّوازن بين الإيمان وبين مقتضيات العصر، فلا يمكن الاكتفاء بالحلّ التّقليديّ الّذي يقول بأنّ كلّ شخص ينبغي أن يُبقي إيمانه في قلبه؛ لأنّ هناك خطاباً دينيّاً في المجتمع، وإذا لم تُقدّم مستندات خطاب دينيّ جديد فستسيطر الأطراف التّقليديّة على المجال الدّينيّ، ومن ثمّ على المجتمع بأكمله. لذلك لم يعد المشكل، كما تصوّره محمّد عبده، مع المؤسّسات التّقليديّة بل أصبح مع الحركات الأصوليّة الّتي هي أقوى حتّى من المؤسّسات التّقليديّة، وإذا تركنا المجال الدّينيّ سائباً في المجتمع بحجّة أنّ الدّين فرديّ، فستنقضّ عليه تلك الحركات وتحتكر الحديث باسمه، وتسيطر بذلك على المجتمع، وهذا ما نعيشه اليوم في مجتمعنا بشكل من الأشكال. ولعلّ المواجهة تقتضي أساساً التّشجيع على فكر دينيّ بديل، ولاحِظْ أنّ الاهتمام بهذه الفكرة بدأ منذ فترة قريبة، ولو كان الاشتغال عليها منذ محمّد عبده لكان لدينا اليوم فكر دينيّ أكثر انفتاحاً وعصرانيّة ممّا هو متحقّق، لأنّ الاعتقاد بأنّ الدّين سوف يضمحل في المجتمع هو اعتقاد خاطئ، وبما أنّه كذلك فليس أمامنا سوى أحد أمرين؛ إمّا أن نترك الفراغ، والطّبيعة تأبى الفراغ، أو أن نحاول مزاحمة الأفكار الدّينيّة التّقليديّة الّتي لم تعد مناسبة للعصر بفكر آخر تجديديّ وإصلاحيّ.

د. نادر الحمّامي: هذا على المستوى الفكريّ، فالدّين لا يجب أن يُترك سائباً، وعلى المستوى السّياسيّ ألا يجب أن يبقى الدّين تحت أنظار الدّولة ومن مشمولاتها، وألّا يتمّ الفصل بين الدّولة والدّين فصلاً كاملاً؟

د. محمّد الحدّاد: طبعاً، لأنّ رؤية فرح أنطون لم تكن رؤيته هو وحده، فهي رؤية الفكر السّياسيّ اللّيبراليّ الّذي كان موجوداً في القرن التّاسع عشر، والّذي يعتبر أنّ الدّولة لا يجب أن تتدخّل لا في المجال الاقتصاديّ ولا في المجال الدّينيّ وأنّ المجتمع هو الّذي سيجد التّوازن، وهذا ليس صحيحاً، فقد بيّنَت بداية القرن العشرين والحرب العالميّة الأولى أنّ الدّولة لها دور تعديليّ في الاقتصاد والدّين والثّقافة وغير ذلك. فلو تركت الدّولة مجال الدّين مفتوحاً اليوم في أيّ بلد عربيّ دون تدخّل، فالّذين سيستفيدون من ذلك إنّما هم الأصوليّون وليس أنصار الحداثة. وهذه الفكرة عندما كنت أدافع عنها في البداية كان الحداثيّون التّقليديّون يعتبرون أنّني بذلك أريد التّوفيق مع هذه الأفكار الأصوليّة، ولكن ذلك غير صحيح، فعندما نرى التّاريخ، نجد أنّ هناك مشكلة مؤسّسات تقليديّة، ولكن أيضاً مشكلة أصوليّة، وفي أوروبا، عندما سقطت المؤسّسات التّقليديّة أدّى هذا إلى الحداثة ولكنّه أدّى أيضاً إلى نشأة الحركات الأصوليّة. والشّيء نفسه بالنّسبة إلينا نحن، فإضعاف المؤسّسات التّقليديّة مثل الأزهر والزّيتونة لن يؤدّي إلى أن يُصبح النّاس حداثيّين وإنّما سيؤدّي إلى أن يصبح جزء كبير منهم أصوليين. ولذلك كان لابدّ أن نفكّر منذ البداية في إيجاد فكر دينيّ بديل، يكون إصلاحيّاً وملائماً للعصر، وهذا ليس فيه أيّ حنين إلى الماضي، وإنّما هو استباق لما سيحصل في المستقبل، ولهذا أعتقد أنّ كتاباتي لم تُفهم لهذا السّبب، لأنّها اعتُبرت وكأنّها مجرّد عودة إلى القرن التّاسع عشر، في حين لم يكن هذا هو المقصود. وحتى أختم في مسألة هذه الخصومة فإنّ محمّد عبده كان مفتي مصر وكان يستطيع أن يصدر فتوى ضدّ كتاب فرح أنطون ويمنعه أو أن يصدر فتوى حتّى بتكفير فرح أنطون، لكنّه لم يفعل ذلك، بل واجهه بكتاب مقابل، على الرّغم من أنّ محمّد عبده كان مشهوراً جدّاً في ذلك الوقت في حين أنّ فرح أنطون كان مغموراً. وبصرف النّظر عن كتاب محمّد عبده بكلّ الأخطاء والإشكاليّات الّتي فيه، فإنّ هذا الموقف إيجابيّ؛ أي إنّ المفتي لا يردّ بإصدار فتوى وإنّما يردّ ببحث بديل حتّى وإن كان بحثه ضعيفاً وهذا ما لم يعد يوجد اليوم لا من المفتي ولا ممّن هو دونه.

الإصلاح الدّينيّ وعلاقاته بالفكر وبالسّياسة وبالدّولة

د. نادر الحمّامي: الإصلاح الدّينيّ مصطلح ظهر في السّياق الغربيّ في إطار حركة الإصلاح البروتستانتيّ، وامتدّ لاحقاً إلى السّياق العربيّ الإسلاميّ، فما هو وجه التّقارب بين السّياقين؟ وهل يكون الإصلاح الدّينيّ منطلقاً من المؤسّسات الدّينيّة نفسها أم إنّه يكون من خارجها؟

د. محمّد الحدّاد: انطلق الإصلاح الدّينيّ في أوروبا من خارج المؤسّسة الدّينيّة، بما أنّ لوثر (martin luther) (1483-1546) حاول في البداية أن يصلح الكنيسة من الدّاخل من خلال مجموعة الاقتراحات الّتي قدّمها، لكنّ الكنيسة رفضت إصلاحه وأعلنت حرمانه (ما يقابل التّكفير في الإسلام). وانطلقت بالتّالي حركة الإصلاح من خارج المؤسّسة الدّينيّة المسيحيّة. لكن ما ينبغي الإشارة إليه هو أنّ كلمة الإصلاح الدّينيّ خرجت في نهاية القرن التّاسع عشر ثمّ في بداية القرن العشرين خاصّة، من المجال الدّينيّ بصفة عامّة، وأصبحت مفهوماً يستعمله علماء الاجتماع والمؤرّخون خارج هذا الصّراع بين البروتستانتيّة والكاثوليكيّة، هذا ما نجده مثلاً لدى ماكس فيبر (max weber) (1864-1920) الّذي تحدّث عن الإصلاح الدّينيّ باعتباره ظاهرة اجتماعيّة واقتصاديّة لها تبعات على نشأة اللّيبراليّة، ولم يكن متحيّزاً لا للكاثوليك ولا للبروتستانت، ولا كانت هذه المعركة الدّينيّة تهمّه أصلاً، وما أثار اهتمامه في قضيّة الإصلاح الدّينيّ هو علاقتها بمسألة ظهور الرّأسماليّة، ومنذ ذلك الحين أصبحت كلمة الإصلاح الدّينيّ مفهوماً في العلوم الاجتماعيّة والاقتصاديّة والتّاريخ، وفي القرن العشرين بصفة خاصّة بدأ يظهر العديد من المؤرّخين الكبار الّذين استعملوا كلمة إصلاح دينيّ، واهتمّوا بالإصلاح الدّينيّ من موقع تاريخيّ بحت لا علاقة له بالصّراع الدّينيّ بين الكاثوليك والبروتستانت؛ من ذلك نذكر مثالاً عمّا يسمّى بمدرسة التّاريخ الجديد أو مدرسة الحوليّات، وأبو هذه المدرسة هو لوسيان فيفر (lucien febvre) (1878-1956) ومن أوّل الدّراسات الّتي أصدرها، كتاب عنوانه (martin luther, un destin)، في هذا الكتاب دعا إلى الخروج بعبارة إصلاح دينيّ من التّجاذب الدّينيّ لجعلها مجرّد مصطلح أو مفهوم تاريخيّ. وعلى هذه الشّاكلة أتى العديد من الباحثين الآخرين ووُجد هذا الاتّجاه. وقد تحوّل الجدل من إطار الدّين إلى إطار العلوم الإنسانيّة والاجتماعيّة، وأصبح بين المؤرّخين؛ أي بين أشخاص لم يكونوا، بالضّرورة، لا كاثوليك ولا بروتستانت، حتّى إنّ بعضاً منهم كان ملحداً في الأصل، والإصلاح الدّينيّ بالنّسبة إليهم هو مفهوم إجرائيّ ذو خلفيّة تاريخيّة دينيّة في البداية، ليتحوّل لاحقاً، إلى مجرّد مفهوم إجرائيّ مستعمل في العلوم الإنسانيّة والتّاريخ. وكان الجدل حول المفهوم وحدوده، يتراوح بين القائلين بضرورة توسيع هذا المفهوم، باعتباره مفهوماً تاريخيّاً ينبغي أن ينفتح على كلّ التّجارب الدّينيّة، والقائلين بوجوب أن يبقى في المجال الغربيّ فقط؛ ومن بين المفكّرين الّذين دعوا إلى اعتبار المفهوم غربيّاً، بحيث لا ينطبق إلّا على التّاريخ المسيحيّ، يمكن أن نذكر مارسيل غوشيه (marcel gauchet) (1946). وباعتباري باحثاً أنتمي إلى مجتمع عربيّ إسلاميّ، فأنا مع توسيع مفهوم الإصلاح الدّينيّ ليشمل الحضارة العربيّة والإسلاميّة، لأنّ تخصيصه بالحضارة الغربيّة، يعني جعل الكثير من القيم، كالعقلانيّة والعلم وغيرها، حكراً على الحضارة الغربيّة وحدها، دون غيرها. لذلك أعتبر أن مفهوم الإصلاح الدّينيّ كونيّ، ويمكن أن ينطبق على أيّ تجربة تاريخيّة أخرى، لأنّه قد تجاوز العلاقة بالبروتستانتيّة، وخرج عن إطار الصّراع الدّينيّ، وأصبح مفهوماً اجتماعيّاً تاريخيّاً، وأنا أستعمله دائماً بهذه الصّفة. أذكر في هذا السّياق، أنّنا فكّرنا في إطار جمعيّة تضمّ عدداً من الأكاديميّين من ثقافات متنوّعة، كنّا أسّسناها في مدينة بولونيا في إيطاليا، في الإصلاح الدّينيّ انطلاقاً من مختلف التّقاليد الدّينيّة الكاثوليكيّة والبروتستانتيّة والهنديّة والهندوسيّة والبوذيّة وغيرها. واعتبرنا أنّه ينبغي أن نوسّع هذا المفهوم لأنّه مفهوم كونيّ، ولأنّ كلّ الأديان تضطرّ إلى إعادة تأويلاتها الذّاتيّة حين تواجه تغيّرات اجتماعيّة نوعيّة، كالتّغيّر من الاقتصاد الوسيط إلى الرّأسماليّة الحديثة، والانتقال من الشّكل الإمبراطوريّ في الحكم إلى شكل الدّولة الوطنيّة. وإن لم يقم الفكر الدّينيّ بذلك، فسيكون الإنسان ممزّقاً بين التّأويلات القديمة الّتي يقدّمها الدّين والتي تجاوزها العصر وبين الواقع الّذي يعيش فيه؛ فالدّين يقول مثلاً: لا ينبغي التّعامل بالرّبا، بما في ذلك الفائدة على المال، في حين لا يمكن أن يوجد اقتصاد حديث بدون فوائد على الأموال، والسّبب أنّه في القديم لم يكن يوجد تضخّم بينما الاقتصاد الحديث كلّه مبنيّ على ظاهرة التّضخّم، وبالتّالي لا يمكن أبداً إلغاء الفوائد على الأموال، لأنّ قيمة المال تتغيّر بين سنة وأخرى، وحتّى بين يوم ويوم. وهذا يجعل من الضّروريّ إعادة تأويل مسألة الرّبا مثلما فعل محمّد عبده حين ميّز بين الرّبا وبين الفائدة على الأموال، وتلك طريقة لقبول جزء ممّا كان الأقدمون يعتبرونه ربا، وهذا هو التّطوّر النّوعيّ الّذي لا بدّ للفكر الدّينيّ أن يتلاءم معه. هذا يجعلنا ندرك أن مسألة الإصلاح الدّينيّ ليست مسألة كماليّات ولا ترفاً فكريّاً، ولكنّها قضيّة مجتمع.

د. نادر الحمّامي: هذا المفهوم الإجرائيّ لمسألة الإصلاح الدّينيّ، كأنّه نوع من البحث عن مشروعيّة للمثقّفين والأكاديميّين من خارج المؤسّسات الدّينيّة لتقديم آرائهم في كل ما يتعلّق بعقيدة المجتمع؛ لأنّ الإصلاح الدّينيّ إذا فُهم على أنّه يهمّ الجانب الدّينيّ فقط، فإنّ المؤسّسة الدّينيّة ستحتكر القول فيه، وستعتبر كلّ من لا ينتمي إليها متطفّلا، ولو ذكرتَ ما قلته في مسألة الرّبا أو الفائدة أمام شخص ينتمي إلى المؤسّسة الدّينيّة، فسيقول لك بأنّ هذا الموضوع حكر على المختصّين في العلوم الشّرعيّة، وما دخل الجامعيّين في هذا الأمر.

د. محمّد الحدّاد: لا بدّ أن نذكر أوّلاً أنّ المؤسّسات الدّينيّة قد ضعفت، وفي كثير من البلدان لم يعد يوجد أصلاً مؤسّسات دينيّة فاعلة، ومشكلتنا نحن اليوم ليست مع المؤسّسات الدّينيّة فقط وإنّما مع الحركات الدّينيّة الّتي هي أيضاً نشأت من خارج المؤسّسات الدّينيّة، وبالتّالي فالحديث عن احتكار المؤسّسات الدّينيّة الرّسميّة للخطاب الدّينيّ هو حديث طوباويّ؛ لأنّ المنافسة ليست بين هذه المؤسّسات والمثقّفين، وإنّما هي بين الحركات الدّينيّة السّياسيّة والمثقّفين، وهذه الحركات أقوى بكثير من كل المؤسّسات الدّينيّة، وبإمكانها تجاوزها أو السّطو عليها وتوظيفها. وأعتبر أنّه لا توجد أيّ مؤسّسة دينيّة اليوم تحتكر الخطاب الدّينيّ، فقد أصبح مفتوحاً للجميع؛ لأنّه يرتبط بمصير المجتمع. ونحن، باعتبارنا مواطنين، فمن حقّنا أن نهتمّ بالدّين كما نهتمّ بالسّياسة وبالاقتصاد لأنّ هذه العناصر الثّلاثة هي الّتي توجّه مصير مجتمعنا؛ وعندما يتقاتل المسلمون شيعة وسنّة في بعض البلاد الإسلاميّة، فإنّ ذلك لا يمسّ مكانة المؤسّسات الدّينيّة لهذا الطّرف أو الطّرف الآخر بقدر ما يمسّ مصير مئات الآلاف من النّاس العاديّين الّذين يقعون ضحيّة صراعات لا تنتهي؛ ومن ثمّ فعلى المثقّف أن يتدخّل في هذه القضايا، من الموقع الّذي يوجد فيه؛ لأنّ الخطر يتهدّد مصيره ومصير أبنائه، وليس لأيّ طرف من الأطراف أن يعتبر ذلك تطفّلاً.

د. نادر الحمّامي: يلاحظ متابعوك أنّك تُصدر دعوات إلى افتتاح ورشات للإصلاح الدّينيّ، ولكنّها أشبه بنوعٍ من «الصّرخات» الّتي لم تجد استجابة كبيرة، سواء من الباحثين أو من المجتمع، فلا صدى لذلك على المستوى العمليّ، فكيف تشخّص العوائق الّتي يواجهها الإصلاح الدّينيّ معرفيّاً واجتماعيّاً؟

د. محمّد الحدّاد: لقد خضت مجادلات مع شخصيّات دينيّة كبيرة، ومع بعض منهم كانت النّتيجة إيجابيّة؛ وهنا أترحّم على الشّيخ وهبة زحيلي (1932-2015) الّذي توفي مؤخّراً، وكنّا قد التقينا في إحدى النّدوات، وحدث بيننا صدام عنيف في البداية لأنّنا لا نعتمد المنطلقات الفكريّة نفسها، لكن فيما بعد أصبحنا أصدقاء لأنّنا تحاورنا بمناسبة تلك النّدوة، ثمّ شاءت الصّدف أن نلتقي في ندوات أخرى؛ هذا الشيخ كان تقليديّاً وصارماً جدّاً، ولكنّه كان مع ذلك لطيفاً ويؤمن بفضيلة الحوار. لذلك أعتبر دائماً أن المسلك الوحيد بين المختلفين هو الحوار؛ سواءً مع الأشخاص أو مع المؤسّسات التّقليديّة أو مع الحركات الإسلاميّة. ولعلّي لم أواجه صعوبة في الحوار مع هؤلاء بقدر الصّعوبة الّتي وجدتها مع من أسمّيهم «الحداثيّين التّقليديّين» أو بعبارة أخرى من أطلق عليهم ابن سينا «مقلّدة الحداثة»، حين تحدّث عن مقلّدة الأرسطيّة أو مقلّدة المشّائين؛ أي أولئك الّذين كانوا يعمدون إلى حفظ متن أرسطو ويسردونه كما هو دون محاولة التّوفيق بينه وبين واقع العصر. وأعتبر أنّ مقلّدة الحداثة، اليوم هم أولئك الّذين يعلنون انتماءهم إلى مبادئ الحداثة الغربيّة، في الجانب المتشدّد منها، ويطالبون باستنساخها دون مراعاة لظروف الواقع الحاليّ، ويعتبرون مثلاً، أنّ الدّولة لا يجب أن تتدخّل في المجال الدّينيّ، والحال أنّها إن لم تفعل ذلك فإنّ الحركات الأصوليّة ستحتلّ مكانها في هذا المجال، وهي الّتي ستسيطر على المساجد ودور العبادة. وأثمّن في هذا السّياق ما قام به وزير التّربية الأسبق في مرحلة التّسعينات محمّد الشّرفي (1936-2008)، الّذي كان شجاعاً، وتوصّل إلى أنّ الدّولة لا يمكن أن تتخلّى نهائيّاً عن المجال الدّينيّ. لقد كان على مقلّدة الحداثة في تونس وغيرها أن يقرؤوا كتاب الأستاذ محمّد الشّرفي «الإسلام والحرية، سوء التّفاهم التّاريخيّ»، لأنّه من خلال التّجربة توصّل إلى الفكرة الّتي يمكن أن نتوصّل إليها عبر التأمّل في الواقع؛ فالمجال الدّينيّ ليس مجالاً نظريّاً أو مجرّد كلام وإنّما هو فضاء عام تفاعليّ يمتدّ في عمق المجتمع ويخضع لتجاذبات أطراف عديدة، وحين تنسحب منه الدّولة فإنّ الحركات الأصوليّة هي الّتي ستملأ الفراغ المترتّب عن ذلك. وعلى مقلّدة الحداثة أن يفهموا أنّ الفصل بين الدّولة والدّين، لا يعني بأيّ شكل من الأشكال أن تنسحب الدّولة من إدارة الشّأن الدّينيّ في المجتمع، وإنّما يعني ألّا تتدخّل في عقائد النّاس وألّا تتحكّم في ضمائرهم، فهي حامية الحرّيّات والحقوق بما في ذلك حقوق من لا يؤمنون بالدّين، ولا يعني الفصل أن تتنحّى عن الإشراف على المؤسّسات الدّينيّة، بل إنّ واجبها أن تتدخّل في تنظيم تلك المؤسّسات وحمايتها من التّجاذب ومن الفوضى، باعتبارها جزءاً ممّا نسمّيه في تونس «المرفق العامّ»، وعلى الدّولة أن تضطلع بدورها في هذا الجانب على الوجه الأكمل.

د. نادر الحمّامي: لم يفطن من تسمّيهم «مقلّدة الحداثة» إلى أنّ المبادئ الّتي تأسّست عليها العلمانيّة الغربيّة قد تغيّرت، كما تغيّر مفهوم الدّيمقراطيّة والحرّيّة وغيرها من المفاهيم الأخرى. وإلى جانب هؤلاء نجد صنفاً آخر من الحداثيّين، هم أولئك الّذين يؤصّلون قيم الحداثة في الموروث القديم، وهذا النّوع من التّأصيل يمكن اعتباره ضرباً من السّلفيّة أو حتّى الماضويّة، رغم واجهته الحداثيّة.

د. محمّد الحدّاد: نعم، ذلك ضرب من السّلفيّة؛ لأنّه لا يساير حركة التّاريخ، وحتّى ما يسمّى الاتّجاه القرآنيّ، فهو سلفيّة، وهذه كلّها طرائق لا تاريخيّة في طرح قضايا تتعلّق أساساً بالواقع الحالي. لذلك أعتبر أنّ تعريف السّلفيّة هو اللّاتاريخيّة، وكلّ من يدافع عن فكرة لا تاريخيّة هو في اعتباري شخص سلفيّ سواءً ادّعى انتسابه إلى الحداثة أم لا.

د. نادر الحمّامي: إذا ما تجاوزنا تلك العوائق المتمثّلة في المؤسّسات الدّينيّة وحركات الإسلام السّياسيّ ومقلّدة الحداثة ودعاة تأصيل الحداثة، فهل ستجد أفكار الإصلاح الدّينيّ قبولاً من المجتمع؟

د. محمّد الحدّاد: لا يمكن الجزم بأنّ أفكار الإصلاح الدّينيّ مرفوضة اجتماعيّاً، فمن حسنات فترة الثّورة أن تعرّفتُ شخصيّاً على مؤسّسات سبر الآراء، وقد كان عملها ممنوعاً قبل ذلك في الكثير من المجتمعات العربيّة، وبفضل هامش الحرّيّة الّذي تحقّق في تونس أصبحت تلك المؤسّسات تعمل، ولعلّ الكثير من النّتائج الّتي تقدّمها يخالف ما كان متوقّعاً بشكل عامّ، ففي حين يذهب الظنّ إلى أنّ المجتمع التّونسيّ محافظ في جزئه الأكبر، فإنّ نتائج سبر الآراء تبيّن أنّ الأمر ليس كذلك، فلا يمكن اعتبار المحافظين أغلبيّة. ولعلّ المشكل لا يكمن في العدد ولا في النّسبة، بقدر ما يكمن في القدرة على التّأثير، فيمكن أن يكون عدد المحافظين قليلاً ولكن مع ذلك يكون خطابهم مؤثّراً إلى درجة توحي بأنّهم يمثّلون غالبيّة عظمى من الشّعب. لذلك علينا أن نثق بأنّ جزءاً مهمّا من الشّعب لديه استعداد لتقبّل أفكار الإصلاح الدّينيّ، وأنّ الإشكال هو أنّ تلك الأفكار لا تصل إليه، أو أنّه يتعامل معها بسلبيّة نظراً إلى ضعف قناعته الذّاتيّة في أنّها قادرة على أن تطبّق في الواقع، لأنّ الأمر يتعلّق بما يعتبره مقدّساً. ولعلّ قسماً كبيراً من الشّعب يرى أهمّيّة أفكار الإصلاح، لأنّه يعتبر أنّ الكثير من المسلّمات الدّينيّة لا تصلح لمجتمعنا اليوم. وبناءً على ذلك يبدو دور المثقّف ضروريّاً، وعليه أن يضطلع به، في إطار ما يسمّيه محمّد أركون (1928-2010) «التّكفّل بالموضوع الدّينيّ» (la prise en charge de la question religieuse)؛ والتكفّل بالموضوع الدّينيّ ليس موقفاً دينيّاً ولا إيمانيّاً، وإنّما هو موقف مجتمعيّ، فالمثقّف يعيش في المجتمع، وذلك يقتضي منه أن يواجه المشاكل الّتي يطرحها عليه الواقع، سواء تعلّقت بما هو سياسيّ أو اقتصاديّ أو دينيّ، وعندما نتحدّث عن الإصلاح الدّينيّ، فنحن نتحدّث عن شيء مرتبط بكل الإصلاحات الأخرى في المجتمع الّذي يمكن أن يشرّع تلك الإصلاحات كما يمكن أن يعيقها، وعملنا باعتبارنا مثقّفين هو أن نحول دون أن يُعيق الفكر الدّينيّ الإصلاحات الضّروريّة في المجتمع، حتّى لا يبقى المجتمع يعيش في ما يسمّى بالازدواجيّة؛ أي أن يؤمن بشيء ويفعل شيئاً آخر.

د. نادر الحمّامي: أشرت إلى المجتمع لديه استعداد لتقبّل مسائل الإصلاح الدّينيّ، إلّا أنّ هذه المسائل لا تصله بشكل جيّد، فهل تعتبر أن التّقصير يعود أساساً إلى وسائل الإعلام، خاصّة وقد ذكرت في ندوة حول تكريم الأستاذ هشام جعيّط، أنّ الإعلام قد تخلّى عن دوره الحقيقي في إيصال صوت المثقّف إلى المجتمع؟

د. محمّد الحدّاد: كنت قد بعثت في كلّيّة الآداب بمنوبة لتحضير ماجستير الدّراسات الدّينيّة المقارنة، وهو أمر اعتبر الكثيرون أنّه مخاطرة كبيرة من شأنها أن تؤدّي إلى الفوضى والمشاكل، ولكنّها لم تؤدّ إلى شيء من هذا، فقد سارت الأمور بشكل طبيعيّ، وإذا وُجدت مشاكل فهي من النّوع الّذي يوجد في كلّ شهادات الماجستير الأخرى، وهذا يدلّ على أنّ النّاس لديهم استعداد أن يتقبّلوا إعادة النّظر في المسائل الدّينيّة، إذا كانت الأمور مطروحة أمامهم بطريقة معقولة وفي إطار منظّم. ولعلّ الإشكال يكمن في غياب آليّات التّقبّل، وهنا يأتي دور الإعلام، الّذي أعتبر أنّه جوهريّ، فالإعلام لا يقوم بأي دور في هذا المجال إما خوفاً ممّا يتصوّرون أنّه رأي عامّ وأنّ عليهم تجنّب التّصادم معه، أو لأسباب أخرى ذات علاقة بالجدوى التّجاريّة في ما يتعلّق بالمؤسّسات الإعلاميّة الخاصّة. والنتيجة هي انسحاب الإعلام من أداء دوره في دفع آليّات التقبّل لدى فئات واسعة من الشّعب تبدو مغيّبة عن أفكار الإصلاح الدّينيّ أو بعيدة عنها، فكيف يمكن للنّاس أن يتابعوا أفكار الإصلاح وأطروحاته والحال أن الإعلام التّونسيّ يتجاهل شخصيّات مفكّرة عديدة تمتلك القدرة على الإضافة ولديها مشاريع مهمّة يمكن أن تبسط ملامحها للنّاس حتى ينتبهوا إليها، على غرار ما كنت أشرت إليه في مناسبة ندوة تكريم الأستاذ هشام جعيّط الّذي نكاد لا نراه في الإعلام. وفي ظلّ هذا التّغييب فمن الطّبيعيّ أن يظنّ النّاس أنّ الأطروحات الوحيدة الحقيقيّة والصّالحة هي ما يتمّ تداوله. ومن هنا يكون تأثير الأفكار التّقليديّة أعمق لأنّه لا يقابَل بتأثير مضادّ يمكن أن تمارسه أفكار الإصلاح على أذهان النّاس. ولو تأمّلنا ذلك في التّاريخ الأوربيّ، فسنلاحظ أنّ الغرب المسيحيّ قد تفطّن مبكّراً جدّاً إلى أهمّيّة الدّور الّذي يمارسه الإعلام على أذهان المتقبّلين، فكان اعتماد البروتستانت على تقنيّات الطّباعة لنشر أفكار الإصلاح الدّينيّ، ولم ينتبه الكاثوليك إلى ما أنتجه ذلك من تأثير إلّا بعد عشرات السّنين، فبدأت الكنيسة تشجّع أفرادها على أن يكون لهم دور نشر.

المثقّف ودوره

د. نادر الحمّامي: نذكر كذلك ما كتبته بمناسبة صدور ثلاثيّة هشام جعيّط حول السّيرة «أيّها المسلمون لقد كتب هشام جعيّط كتاباً»؛ وكأنّك أردت لفت الأنظار نحو هذا التّقصير، الّذي يساهم فيه الإعلام، ولكن أيضاً يساهم فيه السّياسيّ، ويساهم فيه المثقّف نفسه، سواءً كان داخل السّلطة أو خارجها.

د. محمد الحدّاد: أعتقد أنّ المثقّف يتحمّل جزءاً من المسؤوليّة، ولكن الجزء الأكبر منها تتحمّله السّياسات العامّة الّتي لا تريد للمواطن أن يفكّر بعقله، فليس هناك سعي جادّ لجعل المواطن العربيّ يفكّر بطريقة سليمة، وكأنّ السّلطة تريده أن يكون مغيّباً عن حقيقة الأوضاع من حوله، في كل ما يتعلّق بالظّروف الحقيقيّة للبلاد؛ مثل نسب العاطلين عن العمل، والنّسب الحقيقيّة للتّضخم، فأغلب ما يُنشر من بيانات اقتصاديّة في بلداننا يحمل أرقاما مزيّفة، مثلما أنّ أكثر ما يُنشر عن تاريخنا من معلومات هو مزيّف تاريخيّاً. وهكذا، أصبح التّزييف هو الأصل في كلّ المجالات. وفي هذا السّياق علينا أن نميّز بين مهنة الأكاديميّ ومهنة المثقّف، وإن كان كلاهما يقوم بعمله، فإنّ الأكاديميّ يكتفي بما يتخصّص فيه من أبحاث، في حين أنّ المثقّف يتجاوز حدود التّخصّص إلى ما يهمّ الشّأن العامّ، ويشارك من موقعه في الجدل الاجتماعيّ والسّياسيّ والاقتصاديّ، ويحاول انطلاقاً من معرفته أن يساهم في البناء العامّ للمجتمع. لذلك فالمثقّف الّذي ينطلق من فراغ ومن دون دقّة أو معرفة، فهو ليس مثقفاً، وإنّما هو ثرثار أو متكسّب يسعى إلى تحقيق غايات نفعيّة، ويكون بالتّالي مساهماً في عمليّة التّزييف الكبرى الّتي تخدم مصالح السّياسيّ ولا تخدم المجتمع. ولهذا فعلى المثقّف جزء من المسؤوليّة، سواءً تعلّق الأمر بانخراطه في الشّأن العامّ، أو أيضاً بما يقوم بإنتاجه من أفكار في سياق أعماله الأكاديميّة، وفي هذا المستوى تحديداً، أعتبر أنّ عليه أن يبذل جهداً مضاعفاً حتى يوصل أفكاره بشكل مبسّط إلى النّاس، حيث يقدرون على فهمها وتمثّلها في واقعهم اليوميّ. ولو نظرت في ما قدّمته من كتب، فستلاحظ أنّها تنقسم إلى أبحاث أكاديميّة تُعنى بمسائل البحث النّظريّة الّتي أشتغل عليها، والتي تتوجّه إلى المتخصّصين، وأبحاث أخرى عامّة أردتها تبسيطاً للأولى، من قبيل كتاب «مواقف من أجل التّنوير»، و«قواعد التّنوير»، و«التّنوير والثّورة»، وقد جعلتها جميعاً تدور على كلمة «تنوير» لأبيّن للقارئ المتعدّد أهمّيّة هذه المسألة. وبغضّ النّظر عن هذه المسؤوليّة المزدوجة للمثقّف، فإن للمجتمع أيضاً مسؤوليّة إزاء المثقّف، تجعله إمّا ينتصر له ويرفع من شأن أفكاره ويواجهها بالنّقاش والجدل، وإمّا يواجهه بالصّمت والتّجاهل ولا يعير مجهوداته المضنيّة أيّ اعتبار؛ وقد ذكرت منذ قليل ما كتبتُه بمناسبة صدور ثلاثيّة الأستاذ هشام جعيّط حول السّيرة، أي مقال «أيّها المسلمون لقد كتب هشام جعيّط كتاباً»؛ فقد أردت أن أنبّه إلى هذا التّجاهل الّذي وُوْجِهَ به كتاب جعيّط، على الرّغم من أهمّيّته الكبرى، وأنّه يقدّم طريقة جديدة في قراءة السّيرة النّبويّة المكّية، كان من المفترض أن يُعتبر ذلك حدثاً، خاصّة في هذا المجال البحثي الّذي يسيطر عليه المستشرقون. إنّها مؤامرة الصمت الّتي يمارسها المجتمع إزاء المثقّف، وهي أشدّ إيذاءً من العنف والقمع المادّي. أذكر في لقائي الأخير مع المرحوم محمد أركون، بعد أن أنهيت دراستي في فرنسا، أنّني قلت له في جملة الحديث الّذي دار بيننا «إنّ المسائل الّتي أشتغل عليها قد تثير الكثير من الجدل في تونس»، فردّ قائلاً: «لا تخف، فلن تحدث لك أيّ مشاكل، لأنّهم سيواجهونك بالصّمت وليس بالمجادلة، إنّهم أذكى من أن يجادلوك، فتصبح مشهوراً»، وأعتبر أنّ الصّمت يقتل المثقّف أكثر من العنف المادّيّ والاغتيال.

د. نادر الحمّامي: إذا قُتل الكاتب ماديّاً بالاغتيال أو معنويّاً بالصّمت، فهل يكون ذلك مبرّراً لتخلّي المثقّف عموماً عن دوره؟

د. محمّد الحدّاد: المثقف إنسان في النّهاية، وأيّ إنسان مُعرّض لأن يصاب بالإحباط عندما يقوم بمجهودات كبيرة تواجَه بالتّجاهل، ولهذا أعتقد أنّ الكثير من مثقّفينا الآن، مثلما هو الحال في الماضي، قد قُتلوا بسبب هذا الإحباط؛ لأنّ كتابة كتاب تُعدّ عمليّة مكلفة وتأخذ وقتاً كبيراً جدّاً وتتطلّب الكثير من التّضحيات. ولهذا أرى أنّ المثقّف مظلوم، وأنّ اتّهامه بأنّه يتخلّى عن دوره ويلزم برجه العاجيّ إنّما هو جزء من حملة تُشنّ ضدّه، يساهم فيها السّياسيّ إلى جانب أطراف اجتماعيّة عديدة تعتبر أنّ سلطة المثقّف تهدّد مصالحها، وتعمل بالتّالي على إقصائه وتهميشه وقتله حتّى تبقى الأوضاع على ما هي عليه.

د. نادر الحمّامي: علاقة المثقّف بالسّلطة موضوع قديم ومتجدّد، فهل ترى أنّ دور المثقّف يكون من داخل السّلطة أم من خارجها، أم أنّه يكون مزدوجاً بين التّداخل والتّخارج عنها؟

د. محمّد الحدّاد: السّلطة السّياسيّة هي جزء من سلطات عديدة في المجتمع، ولا أعتقد أنّ في بلادنا مثقّف سلطة بالمعنى الحقيقيّ للكلمة، أو أنّ السّلطة نفسها تحتاج إلى المثقّف أصلاً، فهي تتعالى عليه، وتدعوه عادة لتزيّن به المجالس، وحتّى عندما تلجأ إليه لتستشيره في بعض المسائل، فإنّها غالباً ما لا تأخذ برأيه، وهذا في رأيي تراجعٌ حتّى عن الصّورة التّقليديّة لمثقّف السّلطان و«مرايا الأمراء»، فلم يعد الحاكم اليوم يحتاج إلى مسامرة المثقّف كما كان الأمر مثلاً في زمن أبي حيّان التّوحيديّ. وأعتبر أنّ على المثقّف أن يساهم في تغيير الواقع من أيّ موقع كان، سواءً من داخل السّلطة أو من خارجها. فليس أفضل من أن يكون المثقّف فاعلاً في المجتمع، وأن يجد الإطار الملائم حتّى يبسط أفكاره ويقدّم رؤيته لإصلاح الأوضاع، ولا أرى إشكالاً في أن يتولّى المثقّف مسؤوليّات سياسيّة، وأن يمارس السّلطة من موقع القرار، كأن يكون على رأس وزارة التّربية رجل تعليم مثلاً ويقدّم رؤيته في تغيير المناهج التّعليميّة، أو يكون على رأس وزارة الصحّّة طبيب ويقدّم حلولاً للقطاع الصّحّي... وهذه مجالات يستطيع المثقّف من خلالها ممارسة التّغيير، أفضل من أن يلازم عزلته ويبقى على الرّبوة.

د. نادر الحمّامي: هذا إلى جانب دور المثقّف الأساسيّ في مستوى الجامعة، وأمام جمهور الطّلبة والباحثين، كيف تنظر إلى ذلك، خاصّة في مستوى ما أشرت إليه سابقاً حول مسألة نشر الفكر التّنويريّ؟

د. محمّد الحدّاد: إنّ الجامعة فضاء للفكر التّنويريّ، خاصّة في مستوى ما تطرحه العلوم الإنسانيّة من أفكار، ولكنّ هذا الجانب يشكو الكثير من النّقائص، ولا تزال الإنسانيّات في جامعاتنا العربيّة ضعيفة جدّاً ومهمّشة، ما يجعل الجامعة مفصولة في كثير من الأحيان والمواضع والتّخصّصات عن الفكر الحداثيّ، نظراً للفصل الإجرائيّ الغريب الّذي يميّز أقسامها العلميّة والتّقنيّة والاقتصاديّة عن أقسامها الإنسانيّة والفلسفيّة والاجتماعيّة، وأعتبر ذلك عائقاً من عوائق التّنوير في مجتمعاتنا؛ وقديماً لم تكن التّخصّصات منفصلة عن بعضها البعض، بالنّظر إلى أنّها تنتهي إلى غاية مشتركة وهي خير الإنسان، ففي عصر النّهضة الأوربيّة كان الأطبّاء فلاسفةً وحتّى في تراثنا نذكر ابن سينا وابن رشد والرّازيّ وكلّهم كانوا أطبّاء، وفي الوقت نفسه كان لهم دور تنويريّ في المجتمع. أمّا الآن، فلا توجد أيّ جامعة متخصّصة في الطّبّ تقوم بإدراج مسائل في الإنسانيّات ضمن مناهجها، أو تأخذ على عاتقها تقديم ولو محاضرة واحدة في سنويّاً حول فلسفة الأخلاق من جهة ارتباطها بمهنة الطّبّ والجوانب الإنسانيّة المتعلّقة بها، وقس على ذلك غيرها من الجامعات ذات التّخصّصات العلميّة الدّقيقة الّتي تبدو معزولة تماماً عن مواكبة مسائل من العلوم الإنسانيّة والاجتماعيّة ما يؤدّي إلى ضمور الفكر النّقديّ والتّحليليّ لدى مُتخرّجيها.

د. نادر الحمّامي: هل تدعو إلى عمليّة إصلاح تربويّ تأخذ بعين الاعتبار إذكاء الفكر النّقديّ والتّحليليّ في تلك الجامعات، حيث يكون المتخرّجون فيها قادرين على المساهمة في عمليّة التّنوير؟

د. محمد الحدّاد: سُمّيت الجامعة في الأصل بهذه التّسمية لأنّها تجمع اختصاصات متعدّدة ومتحاورة بعضها مع بعض، وليس هناك شيء يمكن أن نسمّيه تعليماً جامعيّاً ما لم يعد إلى الفكرة الأساسيّة، وهي هذا الجمع بين الاختصاصات وإيجاد تحاور بينها، فما دمنا في كلّيّات الهندسة مثلاً، لا نعرف أوّليّات العلوم الإنسانيّة والاجتماعيّة، ولا نعرف حتّى أوّليّات الطّبّ، فنحن لسنا في جامعات بالمعنى الأصيل للكلمة؛ لأنّ المهندس قد يتقن أعمال الهندسة بشكل فائق ومتميّز جدّاً في حين تكون أفكاره في الطّبّ أفكار عجوز لم تدخل المدرسة الابتدائيّة، والشّخص الّذي يدرس العلوم الإنسانيّة والاجتماعيّة أيضاً ينبغي أن يتلقّى دروساً في أوّليّات العلوم. بذلك يمكن أن نتحدّث عن جامعات يكون المتخرّجون فيها قادرين على المساهمة في عمليّة التّنوير وإثراء التّفكير الإنسانيّ والجدل الاجتماعيّ، لا عن جزر منعزلة بعضها عن بعض تخرّج أناساً أحاديِّي الوجهة وغير قادرين بفعل تخصّصاتهم الصّلبة على المشاركة في بناء المجتمع وتنويره.

د. نادر الحمّامي: يرى البعض أنّ أكثر المنتمين من الشّباب إلى الجماعات التّكفيريّة هم من أصحاب التّخصّصات في ما يسمّى العلوم الصّلبة مقابل العلوم الإنسانيّة والاجتماعيّة، ويفترضون أنّ السّبب هو ضمور الفكر النّقدي لديهم، هل أنت مع هذا الافتراض؟

د. محمّد الحدّاد: هذا ممّا لا شكّ فيه، فالإنسان حين يكون مفتقداً للحس النّقديّ، منذ نشأته الأولى؛ في الأسرة حيث يواجَه بالصّمت والتّخويف، ثمّ في المدرسة والمعهد، حيث يواجه بالتّلقين والتّوجيه، فلن يكون له مساحة حرّة لبناء آرائه ومواقفه النّقديّة ممّا حوله، ليجد نفسه في الجامعة يعاني من نتائج ذلك على شخصيّته، ويكون بالتّالي غير قادر على مواجهة المجتمع بأفكار ناقدة وجريئة. وإذا كانت فترة تكوينه منذ حلقاتها الأولى إلى آخر حلقاتها المتمثّلة في الجامعة، لم تعطه الفرصة ولا الإمكانيّات حتى يؤسّس لديه الحسّ النّقديّ فمن أين سيأتي بهذا الحسّ؟ وبالتّالي فالنّتيجة لا يمكن أن تكون إلّا ما نحن عليه، من وضع خطير، يهدّد سلامة المجتمع والأفراد، ويؤدّي إلى ترسيخ أفكار مشوّهة حول الواقع تزيد في تعميق تناقضاته وتحدّ من قدرته على التّجاوز وإعادة البناء على أسس حديثه مواكبة للعصر وآخذه بشروط الإصلاح. فنحن في عصر العولمة المتوحّشة، الّتي لم تعد تسمح للبدويّ أن يبقى في خيمته يشرب الشّاي، فإمّا أن يقبل بخوض المعركة الحضاريّة الكبرى أو إنّه سيُسلبُ حتّى خيمته، ولهذا ففكرة الانزواء والطّمأنينة والسّكينة بالمعنى القديم لم تعد اليوم ممكنة، بل أصبحت مستحيلة، وعلى المثقّف أن يعي ذلك كلّه ويساهم في إيجاد الحلول المناسبة لمواجهته، من أجل تحقيق الانفتاح الواعي على العالم.

د. نادر الحمّامي: في إطار الإصلاح العامّ لا يمكننا العودة إلى الماضي لأنّ ذلك مستحيل، كما لا يمكننا الاكتفاء بالاتّباع والاستنساخ أيضاً لأنّ ذلك لا يمثّل حلّاً، ولعلّ ذلك يدعونا إلى التّفكير في المصير؛ أي مصير الإسلام لا باعتباره ديناً فقط وإنّما مجتمعاً وحضارة، فكيف ترى هذا المصير؟

د. محمّد الحدّاد: التّأويلات الدّينيّة لها أهمّيّة كبيرة، فهي يمكن أن تعيق الإصلاح الدّينيّ كما يمكن أن تسرّع فيه، إلا أنّ التّأويلات الدّينيّة السّائدة اليوم تعيق كلّ أنماط الإصلاح الأخرى في المجتمع، وهذا الأمر خطير، لذلك فإنّ مسألة إعادة تأويل النّصوص الدّينيّة أمر ضروريّ، وليس المطلوب إلغاء تلك النّصوص أو القطيعة معها ولكن المطلوب إعادة تأويلها بصفة نوعيّة تقوم على الاجتهاد والوعي وتخدم عمليّة الإصلاح الشّامل الّتي يبدو المجتمع في أمسّ الحاجة إليها، وبدون العمل على ذلك بمناهج واضحة واختيارات صائبة، سنظلّ نواجه المشاكل نفسها، وسنظل دائماً في حالة ضعف وانهيار أمام العالم.

د. نادر الحمّامي: لعلّ هذه الدّعوة إلى العمل على تأويل النّصوص في إطار الإصلاح الدّينيّ لجعلها منطلقاً نحو عمليّة إصلاح شامل، خير ما نختم به حوارنا معك، أستاذ محمّد الحدّاد شكراً جزيلاً على ما تفضّلت به.