العلمانية الفرنسية في الجمهوريات الخمس تطور تاريخي وتحديات معاصرة
فئة : مقالات
العلمانية الفرنسية في الجمهوريات الخمس
تطور تاريخي وتحديات معاصرة
المخلص:
نشأت العلمانية الفرنسية كردّ فعل على هيمنة الكنيسة الكاثوليكية، وتطورت عبر سلسلة من الجمهوريات التي سعت لفصل الدين عن الدولة. بدأت بمواجهة الكنيسة، ثم انتقلت إلى تقليص دور الدين في الحياة العامة، وصولاً إلى إقرار قوانين صارمة ضد الرموز الدينية. رغم نجاحها في الحد من نفوذ الكنيسة، واجهت العلمانية الفرنسية تحديات كبيرة في التعامل مع التنوع الديني، خاصة مع الإسلام، حيث تحولت من مبدأ الحياد إلى سياسة قمعية تجاه المظاهر الدينية. اليوم، تثير هذه السياسة تساؤلات حول التوازن بين الحفاظ على العلمانية واحترام الحريات الدينية.
****
لطالما كانت السيطرة على العقل الجمعي لعبة الساسة ورجال الدين. فإن أردت التحكم في العقول، لتستغل حاجة الناس للإيمان، أعطهم وعداً بالجنة والنعيم، ثم خذ منهم ما تشاء. هكذا حاولت الكنيسة الكاثوليكية طمس العقول من خلال تسويق الخلاص وبيع الغفران، إلا أن التاريخ يذكرنا دائماً أن الجوع قد يكون أقوى من العقيدة، وأن الشعوب التي تُباع لها وعود السماء قد تثور يوماً من أجل خيرات الأرض.
وهذا ما حدث في فرنسا، عندما انفجرت الجموع ضد تحالف الكنيسة والملكية، فأسقطت التاج والصليب معاً. وحلّ محل وعود الآخرة مطالب العدالة الدنيوية، لتدخل فرنسا مساراً تاريخياً من الاصطدام بين الدين والدولة، أفرز ما يُعرف بالعلمانية، والتي تمثل أحد أهم مكونات الهوية الفرنسية، تطورت عبر جمهوريات خمس تعاقبت على فرنسا وواجهت الكثير من التحديات.
فما العلمانية؟ كيف نشأت واستقرت؟ وهل نجحت في إدارة التنوع الديني في المجتمع الفرنسي؟
قبل الخوض في أبرز المحطات التاريخية في تطور العلمانية الفرنسية، لا بد من الوقوف عند مفهوم العلمانية ذاته، والذي يحيل في شكله البسيط إلى مبدأ الفصل بين الدين والدولة وحياد الدولة تجاه الأديان. ويختلف المصطلح باختلاف المرجعيات الثقافية والسياسية. ففي حين يستخدم مصطلح Secularism في العالم الأنجلوساكسوني للإشارة إلى النظام الذي يفصل بين الكنيسة والدولة ويبعد الدين دون أن يرفضه، يستخدم مصطلح Laïcité في التجربة الفرنسية للإشارة إلى حياد الدولة الحازم تجاه الأديان ورفض التعبيرات الدينية في المجال العام. ويعرفه موريس بارييه بأنه "الفصل بين الدين والحقائق الدنيوية". وفي هذا المقال، ستعتمد لفظ العلمانية بوصفه الترجمة الأكثر قربا من مقصدنا التحليلي لشموليته.
لقد مثلت الثورة الفرنسية التي اندلعت في 14 يوليو 1789 زلزالاً هز أركان المجتمع الأوروبي بأسره؛ إذ بدأت فرنسا تشق طريقها نحو مفهوم جديد للعلاقة بين الدين والدولة، جاء كرد فعل لهيمنة الكنيسة الكاثوليكية الممأسسة بالمعنى الفيبري، والتي تعد أحد أهم معاقل النظام القديم، وقوة سياسية واقتصادية تحتكر مساحات شاسعة من الأراضي وتتحكم في التعليم والعقول. ولم يكن غريباً أن تتحول إلى هدف رئيس للثوار الذين رأوا فيها حليفاً للملكية. وتباعًا فقدت الكنيسة قوتها أمام دولة ناشئة مصممة أن تنزع من المقدس امتيازاته باسم الشعب، وتؤسس على أنقاض الملكية دولة قومية حديثة ترفع راية العلمانية. وبتشكل الجمهورية الأولى بحلول 1792، دخلت فرنسا خط المواجهة مع السلطة الدينية، حيث أعلنت هذه الجمهورية – التي استمرت حتى 1804 - أول تدابيرها العلمانية، من بينها مصادرة أملاك الكنيسة وتقويض قوتها الاقتصادية، وفي هذا إعلان صريح بأن الدولة الفتية لا تسمح بوجود كيان يضاهيها قوة، إلا أن الكنيسة لم تتخلّ عن امتيازاتها بسهولة، حيث سرعان ما تحول الأمر إلى ثورة دينية مسلحة قادها المحافظون، تجلت في حرب الفونديه (1793-1796)، التي كشفت أن فصل الدين عن الدولة لن يكون عملية سلمية، ثم أُعلن الدستور المدني لرجال الدين، والذي فرض عليهم أداء قسم الولاء للجمهورية، وبهذا أصبحوا مجرد موظفين في الدولة. وبصعود نابليون بونابرت إلى الحكم في 1804، الذي نصب نفسه إمبراطوراً، انتهت الجمهورية الفرنسية الأولى.
وعُقب سقوطه مرت فرنسا بحالة من الاستقرار أعقبتها ثورة 1848 التي أطاحت بالملك لويس فيليب وأعلنت قيام الجمهورية الثانية، انتخب فيها رئيساً، لويس نابليون بونابرت (نجل شقيق نابليون)، لكن "ابن الجمهورية" انقلب عليها بعد أربع سنوات وأعلن نفسه إمبراطوراً في 1852، لينهي الجمهورية الثانية، إلا أنه تحققت بعض مبادئ العلمانية خلال هذه الجمهورية؛ أهمها تعزيز حرية التعبير والمعتقد، وتقليص دور الكنيسة في الحياة اليومية، وبداية التفكير الجدي في فصلها عن التعليم.
وبعد سقوط نابليون الثالث وهزيمة فرنسا أمام بروسيا في 1870، أُعلنت الجمهورية الثالثة، وكان جول فيري أبرز وجوهها. خاض معركة تحرير التعليم من قبضة الكنيسة، لتصبح المدرسة ساحة صراع بين المحافظين والجمهوريين. وانتهى الأمر بإعلان قانون فيري للتعليم (1881 و1882) الذي قضى بإلزامية التعليم وعلمانيته، وإلغاء التعليم الديني من المدارس العمومية، وتسليمه كلياً للدولة. وبهذا خسرت الكنيسة آخر أسلحتها، إلا أن الضربة التي قضت عليها، كانت قانون 1905 الذي حول العلمانية إلى إجراء قانوني. وأبرز ما نص عليه هو فصل الكنيسة عن الدولة، ومنع الأخيرة من تمويل أي نشاط ديني، إلى جانب ضمان حرية ممارسة الشعائر الدينية في الفضاء الخاص. واعتبر هذا القانون شهادة ميلاد الدولة الفرنسية العلمانية الحديثة، إلا أن هذه الدولة شهدت الكثير من التحديات في طريقها نحو الاستقرار، مثل الحرب العالمية الثانية والوجود النازي على أرضها.
وبانتهاء الحرب وسقوط النازية، كان على فرنسا إعادة بناء نفسها وعلمانيتها المجروحة بسبب حكومة فيشي وحليفتها الكنيسة. فاعتمدت دستور 1946 الذي أدرج العلمانية ضمن مبادئ الجمهورية، إلا أن الجمهورية الرابعة لم تدم طويلاً بسبب الصراعات السياسية والمشكلات الخارجية، خاصة مع الجزائر، مما أدى إلى انهيارها في 1958. لتقوم مباشرة الجمهورية الخامسة - أطول الجمهوريات في تاريخ فرنسا - بقيادة شارل ديغول. شهدت استقرار العلمانية، لتصبح صراعات الكنيسة جزءاً من الماضي.
أما في الحاضر، فقد اتخذت فرنسا لنفسها عدوًّا جديداً هو الإسلام. فمع استقلال الجزائر وتزايد موجات الهجرة من الدول الإسلامية، أصبح الحضور الإسلامي في فرنسا أمراً واقعاً. وازدادت الأوضاع سوءاً عندما تطور النقاش حول الرموز الدينية مع قضية فتيات الحجاب في مدرسة كريتاي عام 1989، التي أحدثت جدلاً واسعاً حول مدى تطابق ظهور هذه الرموز الدينية مع العلمانية. وانتهى الأمر باتخاذ الدولة إجراءات قانونية تمثلت في قانون 2004 الذي منع الرموز الدينية في الفضاء العام، وعلى رأسها الحجاب. ثم جاء قانون 2010 الذي وسع النطاق ليشمل منعها في الفضاء العمومي، وفي مقدمتها النقاب. وبعد مقتل الأستاذ صامويل باتي عام 2020، عاد النقاش حول مدى تطبيق العلمانية وضرورة محاربة ما أطلقوا عليه "الانعزالية الإسلامية"، لتعلن فرنسا حربها على الإسلام، فما السبب في هذه الحرب؟
عندما يربطك ماضٍ سيء مع شيء ما، ستظل درجة حذرك منه مرتفعة، إلى أن يتكون لديك رهاب منه. وهذا لا ينطبق على فرنسا؛ لأن مشكلتها لم تكن مع الدين عامة، فهي تسمح بالكثير من الممارسات الدينية المسيحية واليهودية، بل لا تعلن صراحة عداءها لهم. ولكن مشكلتها مع الإسلام. ولا يمكن أن نقول هذا بسبب ماضيها الدامي معه؛ لأن فرنسا التي نتحدث عنها هنا علمانية حديثة قطعت مع المسيحية الكاثوليكية، وفي شكلها الحالي مطالبة بأن تدير التنوع الأخلاقي والديني في مجتمعاتها بحكمة، وتبعاً لإعلان حقوق الإنسان والمواطن، إلا أن فرنسا فشلت في ترويض علمانيتها، وجعلتها تطارد الرموز الدينية في الفضاء العام، حتى خلقت ذلك الرهاب في نفوس مواطنيها، وكونت لديهم "الإسلاموفوبيا"، وصل درجة طعن مسلم في مسجد خمسين طعنة بلا رحمة، وهو ما يتعارض مع العلمانية التي من المفترض أنها تحترم ممارسة الشعائر الدينية في الفضاء الخاص.
لقد نسيت الدولة الفرنسية - أو تناست - وهي تضع قوانين العلمانية، أنه لا يوجد دين من دون تدين، وأن هذا التدين قد يأخذ شكلاً اجتماعياً مثل الحجاب أو القبعة اليهودية أو الصليب، أو حتى ممارسات أخرى مثل الأعياد والطقوس الاجتماعية. ومحاربة فرنسا لمثل هذه المظاهر الدينية هي حرب على الدين نفسه، وإنكار صريح لحرية الضمير والحرية الدينية.
والسؤال هنا: ما السبب وراء تغول العلمانية الفرنسية، والحال أن بقية العلمانيات الغربية أكثر حياداً ومرونة مع الأديان، رغم أن فرنسا كانت السابقة تاريخياً في تطبيق العلمانية؟
تجدر الإشارة أولاً إلى أن العلمانية الفرنسية هي "علمانية قتال" على حد قول "أوليفيه روا" نشأت بذورها الأولى في تربة دامية مليئة بالصراع. ومن كان العنف في جذوره صعب أن يطهر فروعه منه. والأمر الثاني أن فرنسا لا تمنع الأديان، بل تريد أدياناً على طريقتها، وأي دين لا يتماشى معها سيكون أول أعدائها. إلى جانب شيء آخر ربما هو الأكثر أهمية في هذا السياق، وهو أن فرنسا التي رفضت أن تدين بأي دين، قد اعتنقت ديناً جديداً هو "دين اللادين" أو لنقل دين الدساتير. يقول أنوريه ميرابو: "إن الدستور الفرنسي أصبح ديناً يمكن أن يضحي البشر بحياتهم من أجله".
إذن بات من الواضح جدًّا أن فرنسا تريد أدياناً على مقاس دستورها، لدرجة أنها فقدت احترامها للأديان الأخرى، وأبرزها الإسلام، واعتبرت تشويه رموزه - مثل النبي محمد - حرية تعبير وليس ازدراء للأديان. والسبب في ذلك العنف والقتل والإرهاب الملتصقين بالإسلام. وهنا تقع فرنسا في المغالطة الأكبر، وهي أنها خلطت بين الإسلام والإسلاميين السياسيين، بين الدين والذين يمارسونه. وإن كانت هذه المغالطة بقصد أو من دون قصد، شكلت هالة من الخوف والذعر من كل رمز ديني إسلامي، حتى جعلت المسلمين في فرنسا مواطنين من الدرجة الثانية، وهو ما يتناقض تماماً مع دولة تدعي الحياد تجاه الأديان، وتجعل من الدين "كبش فداء للعنف البشري"، في حين أن الدول العلمانية لم تكن أقل عنفاً من سابقتها الدينية، خاصة في فترة الاستعمار والحروب.
وفي الختام، نخلص إلى أن العلمانية الفرنسية أسست لما يسمى بنهاية الدين وبداية السياسة، وفصلت بين الدين والدولة، وهو فصل منطقي في مجتمعات مختلطة الأديان، كي لا يقع التمييز بين الأفراد على الأساس الديني، إلا أنها وقعت في خطأ مطاردة الدين ومحاولة علمنة المجتمع. ولكن كما تقول الكاتبة كارين آرمسترونغ في كتابها "حقول الدم": "يمكننا - كما قلنا - أن نخرج الدين من الدولة، ولكن من غير الممكن أن نخرجه من الأمة. فعندما أراد ضباط الجيش أن يقوموا بعلمنة دولهم، وجدوا أنفسهم يحكمون أمماً متدينة".
ويبقى السؤال:
كيف تحقق فرنسا علمانية تبعد الدين ولا تعاديه؟ كيف تحمي حرية الضمير دون أن تسحقها؟ وهل حان الوقت لتراجع فرنسا علمانيتها؟
المصادر والمراجع:
*- كورو، أحمد: ت، السيد ندى: العلمانية وسياسات الدولة تجاه الأديان، الولايات المتحدة، فرنسا، تركيا، ط1 الشبكة العربية للأبحاث والنشر 2012
*- روا، أوليقييه: ت، الأشمر صالح: الإسلام والعلمانية، ط 1 دار الساقي2016
*- ماكلور، جوسلين: تايلور، شارلز: ت، الرحموني، محمد: العلمانية وحرية الضمير، ط1 الشبكة العربية للأبحاث والنشر، 2019
*- أرمسترونغ، كارين: ت، غاوجي، أسامة: حقول الدم، الدين وتاريخ العنف، ط1، الشبكة العربية للأبحاث والنشر، 2016