الفلسفة والقانون: قراءة في كتاب "ثقافة الاحتجاج بين الفلسفة والقانون: مقالات في الأخلاق والسياسة" لمؤلفه د. عز العرب لحكيم بناني


فئة :  قراءات في كتب

الفلسفة والقانون:  قراءة في كتاب "ثقافة الاحتجاج بين الفلسفة والقانون: مقالات في الأخلاق والسياسة"  لمؤلفه د. عز العرب لحكيم بناني

القسم الأول: عرض مضامين الكتاب

كتاب "ثقافة الاحتجاج بين الفلسفة والقانون" من منشورات مختبر الدراسات الرشدية بكلية الآداب والعلوم الإنسانية بجامعة سيدي محمد بن عبد الله بفاس، وهو في الأصل عبارةٌ عن "سلسلةٍ من المقالات التي نُشرت في كتب جماعية مختلفة"، لكن المؤلف يعتبر أن جميع هذه المقالات تندرج ضمن "إطار مشروعٍ واحد متكامل"، وأن هذا المشروع يروم غايةً محددةً تتمثل في "إيجاد أرضيةٍ معيارية مشتركة تسمح بالاحتجاج ومعالجة قضايا الدين والمواطنة والحرية في نفس الإطار المعياري" (ص. 11)؛ فما هي معالم هذا المشروع؟ وماذا يقصد المؤلف بهذه "الأرضية المعيارية" التي يسعى في طلبها؟ سنحاول أن نقدم جوابا تقريبيا بخصوص هذه الأسئلة من خلال عرض مضامين الكتاب.

ينقسم كتاب "ثقافة الاحتجاج" إلى مقدمة، وخمسة أبواب، وخاتمة؛ يعالج الباب الأول، ثقافة الاحتجاج في الفكر المغربي المعاصر، وذلك من خلال أربعة نماذج. تناول المؤلف، أولاً، ثقافة الاحتجاج "كما تبلورت بقوة خلال سنوات الستينيات في المجلات الأدبية والاجتماعية حول عبد اللطيف اللعبي وزكية داود" (ص. 10)، ثم انتقل إلى معالجة فكرة الاحتجاج في علاقتها بالنقد الإيديولوجي عند محمد عابد الجابري، وفي علاقتها بمسار التحرر عند محمد عزيز الحبابي، وأخيرا في علاقتها مع مفهوم الحداثة عند محمد سبيلا.

بخصوص النموذج الأول، الذي يتعلق بمجلتي Souffles و Lamalif اللتين صدرتا سنة 1966، يُنبِّه المؤلف إلى أن عودتَه إلى هذه الفترة يرجع إلى كونه يتبنى أطروحةً مفادها أن "دراسة الفلسفة السياسية وقضايا حقوق الإنسان في المغرب يجب أن تبتدئ من البداية" (ص. 14). إنّ ما ميز الفترة التي أعقبت استقلال المغرب، هو تحول مسألة الاستعمار من كونها "رهانا سياسيا وثقافيا" إلى كونها "شعارا يدعو إلى تحرير الدولة والثقافة والمجتمع". وقد ترتب عن هذا التحول، انتقالُ الأدب، في هذه المرحلة، "إلى واجهةِ الصراع من أجل الاستقلال الثقافي" (ص. 13). رفعت مجلة أنفاس شعار المقاومة الأدبية والجمالية ضد الاستبداد السياسي، واعتبرت محاربة الاستعمار الثقافي "استمراراً طبيعيا لمحاربة الاستعمار السياسي، من أجل استكمال الاستقلال"، فوضعت نصب عينيها "غايةَ إنشاءِ ثقافةٍ وطنيةٍ مستقلةٍ عن التفكير الاستعماري" (ص. 14). أما مجلة لاماليف، التي اعتبرت نفسها "منبراً ثقافيا واقتصاديا واجتماعيا" (ص. 20)، فقد تبنت "النقد الاجتماعي المتنور والهادف، جامعةً بين الإعلام والتكوين الفكري" (ص. 15). إن عبارة "لا"، التي ينطوي عليها عنوان المجلة، هي "عبارةُ موجهةٌ بطريقةٍ غير مباشرةٍ إلى النظام السياسي وموجهةٌ مباشرةً إلى جمود العقليات والعلاقات الاجتماعية غير المتوازنة التي تبرّرُ الاستبداد السياسي" (ص. 20).

بخصوص عابد الجابري، يرى المؤلف أن ميزتَه تكمن في أنه اعتبر "الهدف من الاحتجاج هو إخضاع ثقافة المستعمر والفكر المحافظ لنقدٍ إيديولوجي شامل". لقد "كان عمله تمرُّداً على التراث (غير العقلاني) وعلى التركة الاستعمارية" (ص. 22). إن الاحتجاج يتجسد عنده في "تعبئة عوامل التغيير التي تنبع من القوى الذاتية الخاصة"؛ أي في "ترميم الذات العربية قصد تحريرها من الاستلاب الذي يمارسه المنظور غيرُ النقدي إلى السلف الـمُحنّطِ وإلى الإيديولوجيات الغربية" (ص. 23). غير أنه قد ارتأى "أن أفضل طريقة لمحاربة الاستبداد هي ترسيخ ثقافة الاحتجاج داخل الفضاء العمومي من خلال اعتماد الآليات الديمقراطية بدل الاختيار الثوري" (ص. 24). إن تحفظ الجابري على شعار الثورة قد قاده إلى تبني خط إصلاحي يستمد فيه الاحتجاجُ مشروعيتَهُ من الديمقراطية وحقوق الإنسان. وهذا يعني، بالنسبة إلى المؤلف، أن الجابري كان "يسعى إلى إيجاد حل توفيقي بين الحق في الاحتجاج وواجب الولاء للقانون والنظام السياسي" (ص. 25)؛ أي إنه كان يروم، من جهة، حماية "الحق في الاحتجاج من خلال التنازل السياسي"، ومن جهة أخرى، ترسيخ "ثقافة الاحتجاج بالرجوع إلى المواثيق الدولية في حقوق الإنسان" (ص. 26). وإذا كان المؤلف يرى أن الجابري قد نجح في التوصل إلى "حلٍّ وسطٍ بين الحق في الاحتجاج واعتماد القنوات الشرعية" (ص. 22)، فإن ذلك لم يمنعه من اختتام كلامه عنه بتسجيل الملاحظة التالية: "لا يميز الجابري بوضوح بين طاعة الحاكم والولاء للقانون، وهو بذلك يندرج داخل الفكر السياسي الذي لا يجد بديلا ثالثا خارج العصيان (أو الاحتجاج المشروع) والولاء للحاكم. وبذلك ترجح كفةُ السياسة كفةَ المعيارية القانونية. والسبب في ذلك، هو أن فكر المقاومة والاحتجاج شكل ثقافةً سياسيةً لم تستطع تقوية سلطة القانون فوق الحاكم والمحكوم. فإذا ما تعارض الاحتجاجُ أو المصلحة السياسيةُ مع الضوابط القانونية، يصبح من المشروع انتهاك القانون حفاظاً على الحق في الاحتجاج أو حفاظاً على المصلحة العليا؛ وهذا ما يؤدّي فعلياً إلى المسّ بقدسية المعايير القانونية" (ص. 26).

بخصوص محمد عزيز الحبابي، فإن المؤلف، رغم إقراره بأن مسعاه قد يثير الاستغراب لدى الكثيرين، قد انشغل بالبحث "عن المشترك بين الحبابي وجيل الستينيات" (ص. 36). إن المؤلف لا ينكر وجود خلافٍ عميق بين جيلين: "جيل مبكر انفتح على الحضارة الغربية وتخصص في البحث الفلسفي، واعتبر أن الخروج من التبعية الثقافية للاستعمار رهين بالعودة إلى الإسلام وبممارسة نقد ثقافي لبنيات التبعية (وهو جيل السلفية وجيل محمد عزيز الحبابي)؛ وجيل شباب الستينيات الذي اعتبر أن النقاش الفلسفي، مهما كان نقاشا عالما، يظل صراع إيديولوجيات وموازين قوى على المستوى القطري والدولي" (ص. 27). كما أنه لا ينكر "أنَّ سوء تفاهم عميق كان قد نشأ بين الحبابي وفئة عريضة من المثقفين اليساريين المغاربة" (ص. 36)؛ وأن الحبابي "لم يتبنَّ مفهوم الاحتجاج بالمعنى الذي ظهر في المجلات الثقافية أو في العمل السياسي" (ص. 28). غير أنه يعتبر أن الغاية من وراء شخصانية الحبابي هي "البحث عن مرجعية أخلاقية وعن قيم فلسفية عليا لمواجهة الاستعمار" (ص. 28). لقد كان تفكير الحبابي يتحرك "في إطار فلسفةٍ سياسية تبني السياسةَ على الأخلاق وعلى الكرامة المطلقة التي يتمتع بها الإنسان" (ص. 32). وقد قاده ذلك إلى نقل اهتمامه "من التشخصن إلى نقد الهيمنة الغربية، على اعتبار أن المجتمع الدولي الذي نشأ على قاعدة التكتلات الاقتصادية ليس هو المجتمع الدولي الذي ينبغي أن يقوم على تكتلات أخلاقية" (ص. 28)؛ وهكذا "أصبحت فلسفة الغدية آلية لمحاربة الاستعمار الجديد بعد نهاية الاستعمار السياسي المباشر" (ص. 29). لقد كان الحبابي، في كتابه "عالم الغد"، "سباقا إلى تحدي الوصاية التي يمارسها الغرب على العالم الثالث" (ص. 34)، معتبراً أن "التحرر من الاستعمار الجديد يتطلب التخلص من التبعيات الاقتصادية والجيواستراتيجية" (ص. 35). إن الحل في نظره، "هو أن ننتقل من مجتمع الاستهلاك، إلى مجتمع الاحتجاج" (ص. 35). ويختم المؤلف كلامه عن الحبابي قائلا: "لقد ظل الحبابي مسكونا بكل هذه الهواجس الحضارية التي لم تجد آنذاك وقعا بين المثقفين المغاربة. ولكنه يشترك معهم في ثقافة الاحتجاج. انتبه الحبابي إلى البعد الجيو-استراتيجي لقضايا الدين والهوية والالتزام والاقتصاد العالمي والجوع والتعليم. ولم يجد غضاضة في رفع راية الاحتجاج باسم القيم الإسلامية في مواجهة خطاب العولمة" (ص. ص. 37-38).

يرى المؤلف، من جهة أخرى، أن فكر محمد سبيلا يدخل بدوره في خانة فكر الاحتجاج، لكن المفهوم الذي يتخذه هذا الأخير سبيلا للاحتجاج هو مفهوم الحداثة، بمعناها الشامل وبمعناها السياسي (ص. 39). بخصوص الحداثة بمعناها العام، يعتبر المؤلف أن ما يميز محمد سبيلا هو أنه "لم يهتم بالحداثة من موقع المؤرخ، بل من موقع المصلح الاجتماعي (ص. 48)؛ أي إن "ما كان يحرك وجدانه هو الاستفادة بصورة مثلى من الحداثة الغربية من أجل استشراف المستقبل" (ص. 46)، ولذلك نجده قد اختار سبيل "التركيز على قيم حقوق الإنسان تنظيراً وممارسة، والتركيز بالمثل على قيم التربية والتعليم" (ص. 47). أما بخصوص الحداثة السياسية، فإن المؤلف قد انتهى في تحليله لبعض جوانبها إلى التساؤل عن كيفية الجمع بين "النقد البناء" وبين "استمرارية المؤسسات"، واعتبر أن محمد سبيلا قد حاول "تدارك أعطاب الحداثة بابتكار مفهوم الحداثة البعدية التي تروم التحديث دون القضاء بصورة نهائية على البنيات التقليدية الموروثة" (ص. 54). لكن، إذا كان محمد سبيلا قد حرص على "إدماج ثقافة الاحتجاج داخل منظورٍ بنًّاءٍ للمجتمع"، على اعتبار أن الحداثة لا تتحقق "إلاَّ على المدى البعيد من خلال توسيع آفاق التربية والتكوين والنهضة الفكرية والاجتماعية ومحو الأمية الثقافية"، فإن مشكلة ثقافة الاحتجاج "تظل مطروحةً على الدوام، ولاسيما عندما تتخذ صوراً جديدة مثل الاحتجاج باسم الدين" (ص. 54).

هذه الإشارة الأخيرة إلى الاحتجاج باسم الدين، تقودنا إلى الباب الثاني الذي يحمل عنوان "الاحتجاج في الفلسفة والدين والقانون". يتناول المؤلف، في الفصل الأول من هذا الباب، مسألةَ السياسة والدين في فكر طه عبد الرحمان، ثم ينتقل، في الفصل الثاني، إلى الحديث عن عبد الهادي بوطالب من خلال نظره إلى الدستور بوصفه مرجعية أخلاقية.

ينطلق المؤلف من القول إن قيمة ثقافة الاحتجاج "لا تظهر للعيان إلا إذا ما ظلت محصورةً في إطار ثقافة السلم واحترام الحقوق الأساسية"؛ أي من النظر إلى الاحتجاج بوصفه "استثناءً تبرره الآليات الديمقراطية ويحافظ على توازنٍ رفيعٍ بين الحق في رفع المطالب لأسباب دينية أو اجتماعية أو إيديولوجية وبين الحفاظ على السلم الاجتماعي" (ص. 55). وبالنسبة إليه، فإن تكريس أسبقية مقتضى السلم بالمقارنة مع الحق في الاحتجاج، يتجلى بوضوح كبير في انتقال القانون الدولي من فكرة السلم المؤقت إلى فكرة السلم الدائم الذي ظهرت إرهاصاته مع كانط في نهاية القرن الثامن عشر. لكن، "إذا كان حلم السلم الدائم يسعى إلى وضع أسس أخلاقية للعولمة، فإن الاختلافات الثقافية والعرقية واللغوية عبر العالم تعزّز الاعتراض باسم الدين على الأهداف السياسية والاجتماعية للعولمة وعلى العولمة القانونية وعلى الشرعية الدولية" (ص. ص. 57-58). ومن أجل الشروع في فحص الدعاوى الدينية التي تستعيض عن هاجس السلم الدائم بالحق في حماية الهوية الثقافية والدينية، يصوغ المؤلف التساؤل التالي: "هل تعكس المرجعية القانونية خلفية أخلاقية تبرّر سموّ مبادئها داخل العمل السياسي ذاته، أم إن الممارسة السياسية تظل بعيدة عن هذه المرجعية، وتجيز ربط السياسة بالمقاومة ونقد القانون الدولي والعدمية الغربية؟" (ص. 58).

يمثل طه عبد الرحمان نموذج المفكر الذي ينتقد العولمة باسم تصور أخلاقي يقوم على اعتبار الأمة الإسلامية جماعة روحية تتعالى على الدول القطرية، وتتعارض بصورة كاملة مع المجتمع الغربي الحديث (ص. 58). وما يهم المؤلف من الوقوف عند بعض عناصر تصور صاحب "الحق الإسلامي في الاختلاف الفكري"، هو بيان الخطر الذي تنطوي عليه فكرة "العصيان المقدس"، وكذا مخلفات مفهوم "التبعية الروحية" على ولاء المؤمن اتجاه مجتمعه ومرجعيته الدستورية. إن خطورة القول بمبادئ أخلاقية مستقلة تتجلى في أن "هذه المبادئ تؤدّي إلى مناهضة المرجعية الدستورية والوضع القانوني القائم، كلما ظهرت هوة بين المجتمع والمرجعية الأخلاقية" (ص. 61). في مقابل التصورات التي تجعل من واجب الاحتكام إلى الله مبررا أخلاقيا وسياسيا يفسر اللجوء إلى العصيان، يشدد المؤلف على أهمية فكر عبد الهادي بوطالب الذي "أضاف إلى تكوينه الديني تكويناً قانونيا سمح له بالجمع بين قيم الاحتجاج والحاجة إلى تنظيم الاحتجاج داخل بنيات ٍقانونية مُوَجِّهةٍ" (ص. 62). وتتمثل خصوصية مقاربة بوطالب في نظره إلى الدساتير بوصفها قاعدة أخلاقية عليا، وفي إيمانه بالتقدم الفعلي الذي حصل على مستوى الأمن الفردي والسلم الدولي بفضل تطور الدساتير والتراكم الضخم الذي حققته. وتبرُز هذه الخصوصية أكثر عندما نستحضر كيف أن بعض النظريات السياسية، التي تتذرع بها التيارات المتطرفة سواء كانت دينية أو يسارية، قد اعتبرت "أن القانون نفسه جزءٌ من بنيات العنف الذي يتفشى في المجتمع، دون أن تنتبه إلى الرصيد التاريخي الذي جمعته الإنسانية عبر تاريخها الطويل" (ص. 64).

يشير المؤلف، في هذا السياق، إلى أن التيارات الدينية كانت أكبرَ مستفيدٍ من مناهضة القانون الدولي، ويعرض تذرعها بحماية الشريعة الإسلامية من تسلّل القانون الوضعي، ويبين كيف اضطلعت فكرة الخلافة، في لحظةٍ أولى، بدورٍ تحريضي على مناهضة استقرار الدول في الإطار الذي يكفله الدستور والقوانين الداخلية، ثم كيف أفضى مفهوم الحاكمية الإلهية، بوصفه مظهراً جديداً لاقتران الدين بالسياسة بعد سقوط الخلافة، إلى إعلان سمو القوانين الإلهية على القيم الأخلاقية البشرية (سواء كانت قيم الدستور أو القانون)، وإلى رفض الديمقراطيات الحديثة. لكن النقطة التي يجعل منها بؤرة نقاشه هي العلاقة بين الديمقراطية والقيم الأخلاقية، متسائلا عما إذا كان "حُكم البشر لا يرجع في تصوراته المختلفة للديمقراطية إلى مرجعيةٍ أخلاقية أو إلى قيمٍ يُجمع عليها المجتمع؟"، وعمّا إذا كانتِ "السياسة تخلو بالفعل من أخلاق؟" (ص. ص. 65-72). ينتقد المؤلف بشدة "الحجة التي يوردها دعاة الفصل بين الدين والسياسة، حينما يبنون الفصل على مبدأ احتقار السياسة" ، ويرفض تماما تلك الفكرة المبتذلة التي تعتبر "أننا إذا ما شئنا تخليص الدين من براثن السياسة، يجب الفصل بينهما على أساس الفصل بين دنس الدنيا وقداسة الدين" (ص. ص. 72-74). وإذا كان المؤلف لا يستبعد "حصول تباين كبير بين الوثيقة الدستورية والممارسة السياسية الفعلية"، فإن ذلك لا ينفي في نظره كون "السياسة في الدولة الحديثة تلتزم من الزاوية المعيارية بمبادئ دستورية تترجم في ذاتها قيماً أخلاقيةً تنشد العدل والإنصاف وموجودةً فوق القانون ذاته"؛ وفي مقابل دعوى الفصل بين الدين والسياسة، بناءً على اعتبار السياسة موطنَ الرذيلة واعتبار الدين موطنَ الفضيلة، يدافع المؤلف على دعوى الربط بينهما، ليس من أجل الوصول إلى الخلافة أو من أجل تكريس شعار الحاكمية الإلهية، بل انطلاقا من كون "الصلة بين الدين والسياسة تنعقد بفضل التقاء القيم الأخلاقية للدين بالقيم السياسية للقانون" (ص. 76). فإذا كنا نلجأ، متى تفاقمت الهوة بين القانون والعدالة، إلى القيم الإنسانية الكونية من أجل تعزيز المرجعية الأخلاقية للدستور المحلي، فإن "الدين قد يضيف إلى السياسة مبادئ أخلاقية تسهم في تنظيم حاجة الحياة الاجتماعية إلى مزيدٍ من مبادئ المساواة والحرية"، خاصة عندما تبلغ تلك المبادئ "درجة عمومٍ وتجردٍ لا يُحدث تضاربا مع الدستور والقيم الكونية" (ص. ص. 78-79).

يتناول الباب الثالث مسألة "الاحتجاج والإبداع والمرجعية الدينية". ويحاول المؤلف، في الفصل الأول الذي يحمل عنوان "الفلسفة والإصلاح الديني والرقابة الذاتية"، أن يبرز الخصوصيات الثقافية التي أحاطت بمفهوم الاحتجاج في السياق المسيحي عامة، وفي سياق الإصلاح الديني البروتستانتي خاصة. والأطروحة التي يتبناها بهذا الصدد، بالانطلاق أولاً من نموذج مارتن لوثر، هي أن "الاحتجاج على الكنيسة لم يكن احتجاجا على القانون ولا على الشرعية السياسية"؛ يقول: "حينما تصدّى مارتن لوثر للكنيسة، وضع نصب عينيه إطاراً ثابتاً لا يخرج عنه وهو وجوب احترام قوانين الدولة ولو كانت مخالفة للأوامر الإلهية" (ص. 82). ويدافع، لاحقا، عن امتداد جذور هذه الرؤية في الفكر الكنسي المسيحي، قائلاً "إن الفلسفة السياسية التي جمعت لدى لوثر بين الحق في الاحتجاج والولاء للدولة تعود في أصولها إلى آباء الكنيسة الذين كانوا يُسلّمون بوجود مملكتين، وهما مملكة السماء ومملكة الأرض" (ص. 91). والمثال الذي يقدمه هو أوغسطين الذي سعى إلى تجديد الكنيسة مع الحفاظ على الولاء للدولة، بالقول إن طاعة الحُكَّام، بناءً على مبدأ التفويض، هي "أم الفضائل وحاميتها" (ص. 93). وخلاصة القول عند المؤلف، بعد تطرقه في الفصل الثاني لمسألة "الدين والفضيلة السياسية"، هي أن الكنيسة قد قامت "في عز قوتها بالاستحواذ على السلطة السياسية وكانت تُنصِّبُ الملوك والأباطرة؛ ولكن الفلاسفة ورجال اللاهوت مثل مارتن لوثر، لجأوا إلى الاحتجاج وعالجوا إشكالية الخضوع للسلطة الحاكمة من جديد باسم الحقّ الطبيعي الإلهي مع تعزيز شرعية السلطة السياسية". وقد ترتب عن ذلك، اليوم، إدراكُ الباحثين المعاصرين للصلةِ الوثيقةِ "التي جمعت بين ميلاد القانون الوضعي الحديث ودور المسيحية في تكييف العقيدة الدينية مع مقتضيات القانون" (ص. 108).

يُخصِّص المؤلف البابَ الرابع من كتابه للحديث عن "تجليات الاحتجاج"، ويناقش فيه المواضيع التالية: المبادئ الكونية آلية العدالة – الأخلاق والأمن القانوني – الاحتجاج وآليات العصيان المدني – الاحتجاج الدولي والحرب العادلة – الفلسفة والعدالة والصفح – الفلسفة والعدالة الانتقالية والديمقراطية الإجرائية.

رهانُ الموضوع الأول هو محاولةُ معرفةِ "مدى إمكان استثمار قيم حقوق الإنسان بناءً على معيار قابليةِ أجرأتها داخل منظومةِ العدالة للتقليل من دواعي الاحتجاج والظلم". تصطدم هذه المحاولة باعتراضِ المنظور الوضعي على استناد القاضي إلى المفاهيم الفلسفية باعتبارها تصورات غير مضبوطة. لكن المؤلف، بالرغم من تذكيره بأن الاتجاه الوضعي مع كيلزن كان "الركن الركين الذي حقق للعلوم القانونية استقرارها واستقلاليتها العلمية وموضوعها المتميز ومنهجها الخاص في التأويل"، فإنه لا يتردد، بعد ذلك، في القول بأنه "لم يعد يكفي داخل القضاء أن نكتفي بالخصائص الصورية والمجردة والعامة للقاعدة القانونية، بل يجب أن ننظر إلى المضمون كما ننظر إلى الشكل، وأن نعود إلى المرجعيات الكونية في حقوق الإنسان كما نعود إلى تاريخ القانون، وهنا نعود من جديد إلى القيم الفلسفية ونبحث مع رجال القانون في المدارس غير الوضعية كيف عملوا على أجرأة هذه القيم من داخل النظرية العامة للقانون" (ص. 109). ويهمنا، من جملة المسائل التي تناولها المقالُ المُخصَّص لهذا الموضوع، الوقوف عند النقاط التالية:

1) إذا كان القضاء "يستعمل ضمنيا أو علانية مصطلحاتٍ ذات مرجعية فلسفية مثل الحرية والعدالة والكرامة"، فإنه من الواجب الانتباه إلى أثر كل مرحلة تاريخية في تحديد مضمون هذه المفاهيم. والمثال الذي يستشهد به المؤلف بهذا الصدد، يستند إلى المقارنة التي قام بها القاضي Böckenförde بين التفسيرين اللذين قدمهما كل من Günter Dürig و Herdegen بخصوص البند الأول من الدستور الألماني المتعلق بالكرامة؛ فبينما اعتبر دُورغْ ضمانةَ الكرامةِ قيمةً خلقية تُؤسِّس كل المفاهيم الحقوقية الأخرى، يعتبر هيردغين أن بند الكرامة "لا يتمتع بقيمة تأسيسية للبنود الأخرى"، بل "يتساوى مع باقي البنود في قيمتها". إن دلالة هذا الشاهد، في نظر المؤلف، هي أن "مفهوم الكرامة كان يُستعمَل أداةً لتأويل باقي بنود الدستور، لأن ألمانيا خرجت من نظامٍ نازي قام في جوهره على إهانة الكرامة الإنسانية. ومع تَغيُّر الظروف، بدأت تظهر قيمٌ تأسيسية أخرى كالعدالة والإنصاف والمساواة ونبذ العنف والإجماع العقلاني" (ص. ص. 111-112).

2) إذا كان سياق المرحلة التاريخية يلعب دوراً مهماً في تحديد مضمون القيم الـمُؤسِّسة لمنظومة العدالة، فإن المطلوب في السياق المغربي الحالي هو "تعزيز مكانة القضاء بعدما انتقل إلى منزلة السلطة القضائية"؛ وذلك لأن هذا السياق، الذي أعقب مرحلة سنوات الرصاص، قد خلق تخوفاً من سلطة القضاء (ص. ص. 111-112). ومن أجل تحقيق هذه الغاية، فإنه من المفيد البدء بفهم الأسباب التي تجعل السلطة السياسية تتهيب من القضاء، وبالتالي فهم الأسباب الوجيهة التي تدعو إلى مجاوزة المنظور الوضعي الذي ينتهي، بسبب رفضه لفكرة الحق الطبيعي، إلى حصر وظيفة القاضي في التطبيق الحرفي للقانون المُشَرَّع. فعلى سبيل المثال، نعرف أن استناد النظام السياسي الفرنسي لما بعد الثورة إلى تصور مونتيسكيو– وهو الذي كان يعتبر القاضي مجردَ لسانٍ ناطق باسم القانون، وأن من واجبه التقيد حرفيا بنصوص التشريعات­– كان راجعاً إلى تخوفه من تذرع القضاة بفكرة الحق الطبيعي من أجل الانتصار بوجهٍ خاص لحق الملكية، بغية الدفاع عن مصالح النبلاء الذين كانوا من كبار الـمُلاَّك قبل الثورة. فحِرصُ الثورة الفرنسية على الحدِّ من الحق الطبيعي كان راجعا إذن إلى الرغبة في تجاوز النظام الإقطاعي. لكننا رأينا في المثال السابق كيف "أدرج الدستور الألماني، بعد سقوط النازية، مفهوم الكرامة والحق في الحياة، باعتباره قيمة موضوعيةً وقطعيةً، من أجل تجاوز جرائم الإبادة والجرائم ضد الإنسانية التي اقترفها النازيون" (ص. ص. 112-114).

3) في سياق تناوله لعلاقة القضاء بالاتفاقيات الدولية لحقوق الإنسان، وبعد أن يُذكِّر بأن حقوق الإنسان قد اتخذت اليوم صورةً قانونيةً صادق عليها المغرب، يشير المؤلف إلى البون الشاسع بين "تأكيد الدستور على الحق في الحياة، وبين أحكام الإعدام التي تُصدرها محاكم المملكة". ويوضح بهذا الصدد، أن ذلك راجع إلى فهمٍ غير سليم لطبيعة القانون ولدور القضاء، وكذا لعلاقة الحقوق بالواجبات. إن الحقوق في المنظور الكوني تسبق الواجبات، لأن الإنسان يملك الكرامة ويتمتع بالحقوق المتصلة بها حتى عندما يكون غير مستوفٍ لشروط التكليف، كما هو الأمر بالنسبة إلى الأجنة والأطفال والمعاقين (جسديا أو عقليا)، ثم إن "الحق الأساسي في الكرامة يظلّ قاراً في كل الأعمار والأطوار"، حيث إن الأشخاص الراشدين، على غرار "الذين يفتقرون إلى القدرة على تكوين الإرادة"، يتمتعون "بنفس الحق في الكرامة، بصرف النظر عن أفعالهم الجنائية". وإذا كانت الكائنات البشرية تتمتع بنفس الكرامة منذ مرحلتها الجنينية، فإن ذلك يعني ضرورة معاقبة الأفعال دون المس بالحق في الحياة. و"على هذا النحو، نتلافى الخلط بين الحقوق والواجبات، ولا ننظر إلى المبادئ الكبرى لحقوق الإنسان نظرة نسبية". ومن جهة أخرى، يعتبر المؤلف أن "دور القضاء لا ينحصر في إنصاف من تعرض للظلم"، وذلك ليس فقط لأن الاكتفاء بهذا التصور يؤدي إلى إهمال الضحايا الذين لا يدركون الظلم الحاصل في حقهم أو الذين لا يستطيعون إسماع أصواتهم، بل لأن التصور الشمولي للقانون يقتضي أن تتحرك المساطر القضائية من أجل تجاوز العنف، وليس فقط من أجل تجاوز الظلم. وهذا يعني أن مطلب تجنب العنف يحظى بالأولوية مقارنةً مع مطلب تجنب عدم الإنصاف. وبالتالي، فإن "الحرص على احترام كرامة الإنسان يتضمن الحرص على حقه في الحياة وعلى إلغاء سائر مظاهر العنف تجاهه"؛ وبعبارة أخرى، فإن "الحق الدستوري في الحياة يتضمن إلغاء سائر أشكال العنف ضد الإنسان" (ص. ص. 116-118).

في المقال الذي يحمل عنوان "الأخلاق والأمن القانوني"، يستأنف المؤلف حديثَه عن "الجدال المحتدم بين المدرسة الوضعية والمدارس ما بعد الوضعية في فلسفة القانون بخصوص المرجعية الأخلاقية للقانون". فالمدرسة الوضعية تعتبر أن "تحقيق العدل يرتبط باحترام المساطر القانونية، كما أن الامتثال للقانون واجبٌ يمليه الولاءُ للدولة، بصرف النظر عن المضمون الأخلاقي للقانون". وغايةُ هذه المدرسة هي تكريس الأمن القانوني الذي يهدف إلى "تجنُّبِ الفوضى في فهم القوانين وفي تطبيقها في مختلف أقسام القانون"، وإلى "الحفاظ على استقرار مؤسساتِ التأويل واستقلاليتها بعيداً عن هيمنة السلطة السياسية والمذاهب الإيديولوجية التي تتغير بتغيُّـر الأنظمة السياسية وبتوجهات الرأي العام" (ص. ص. 127-128). غير أن محاكمات نورنبيرغ، التي انعقدت لمحاكمة النازيين بعد انتصار الحلفاء في الحرب العالمية الثانية، قد شكلت "ضربةً موجعة إلى الأمن القانوني"، لأنها كرّستِ "الخروجَ عن أصول المذاهب الوضعية في حالاتِ الأنظمة السياسية المشابهة للنازية"، أي "حينما تُعلن القوانين الداخلية لهذه الأنظمة أنها لا تعبأ بالكرامة ولا بالحرية ولا بالمساواة، باسم الدين أو العرق أو اللون" (ص. 129-130). إن حالة النظام النازي، كما هو الأمر بالنسبة إلى أنظمةٍ أخرى وُجدت قبل وبعد النازية (من قبيل دساتير الأنظمة الشمولية وقوانين الاستعمار الفرنسي والقوانين العنصرية الأمريكية)، تثبت أن المنظومةَ القانونية يمكن أن تكون منظومةً غير أخلاقية. وفي هذه الحالات، يُفضي تطبيق القانون إلى الإخلال بضمانات الأمن القانوني رغم سلامة الإجراءات المُتَّبَعة. يُلخِّص المؤلف جوانب هذه القضية عبر التمييز بين القاعدة والاستثناء: القاعدةُ هي أن القانون يمثل "قيمةً معياريةً في ذاته، ويستوجب منّا على مستوى الأخلاق السياسية أن نلتزم به وأن نُبجِّله، لأنه بمثابةِ ميثاقٍ غليظٍ يجمع بين أعضاء المجتمع"؛ والاستثناءُ هو ظهور "تناقضٍ واضح لا يطاق بين القانون والأخلاق"، أو هو بروز "منطقةٍ رمادية مبهمة تُظهر شرعيةَ القانون المُطَبَّق من جهةٍ وعدم إنصاف الضحايا من جهةٍ ثانية" (ص. ص. 130-131). هل يمكن، في هذا السياق، الجمعُ بين القاعدة والاستثناء؟ يشير المؤلف، بخصوص هذا السؤال، إلى محاولة الفقيه القانوني الألماني رادبروخ (Radbruch)، "الذي صاغ قاعدةً فقهية عُرفت باسمه، وتفيد أنه إذا حصل تناقضٌ مطلقٌ بين القانون والعدالة كإنصاف نتخلى عن نصِّ القانون من أجل تحقيق الإنصاف" (ص. 132). وفي نهاية المقال، نقرأ الخلاصة الختامية التالية: "تتمّ صياغة القواعد القانونية على نحوٍ يصبح معه القانون بحدّ ذاته مرجعيةً أخلاقية. وقد ظهرت عبر التاريخ هوةٌ واسعة بين القانون والأخلاق في بعض المدونات القانونية. وهي استثناءٌ سمح بظهور أفكارٍ غير وضعية تعود إلى مبادئ دينية أو إلى الحق الطبيعي أو إلى حقوق الإنسان. لا تُقوِّض هذه الأفكار أصول المذهب الوضعي، ما دام أنه هو ما يضمن الأمن القانوني في الحالات العادية، ولكنها تعزّز في الحالات الاستثنائية ضمانات الوصول إلى العدالة، أملا في تقوية ضمانات الأمن القانوني" (ص. 134).

يحضُر نفسُ هذا التمييزِ بين القاعدة والاستثناء، الذي استُحدِثَ سابقاً بخصوص مفهوم الأمن القانوني، في معالجة مفهوم العصيان المدني أيضاً؛ وذلك في مقال "الاحتجاج وآليات العصيان المدني" الذي يسعى فيه المؤلف إلى إبراز "أهمية العصيان المدني في الشرق والغرب من جانبِ المسؤولية الشخصية ومحاربة الفساد". فالمؤلف يرى، من جهةٍ، أن العصيان المدني مُهمٌّ "في إعادة صياغة مفهوم القانون من زاوية مشروعيته الدستورية"، وكذا "في إثارة موضوع المسؤولية الأخلاقية والتضامن مع ضحايا القوانين الظالمة"؛ لكنه يُشدِّد، من جهةٍ أخرى، على "أنَّ العصيان المدني يظلُّ حالةً استثنائيةً لا تفنّدُ القاعدةَ العامّةَ، وهي وجوب احترام القانون" (ص. 149).

بيد أن هذا التمييز بين القاعدة والاستثناء، بالرغم من أهميته النظرية والعملية، هو أبعد ما يكون عن تقديم جوابٍ كامل لمشكلة أخلاقية البنيات المعيارية القانونية. ولذلك نجد المؤلف يبادر إلى القول إن الحالات الاستثنائية هي في تزايدٍ مستمر، ويُعطي كمثالٍ لهذا الأمر "شنّ الحروب على دولٍ ذات سيادة، باسم الرغبة في تحقيق السلم الدولي" (ص. 149). تقودنا هذه النقطة إلى مقال "الاحتجاج الدولي والحرب العادلة"، حيث يَتَـتَـبَّعُ المؤلف "التحول الكبير" الذي بدأت تعرفه الفلسفة السياسية "على الصعيد الدولي مع هيمنة المنظور القانوني على السياسة وحقوق الإنسان". وإذا كان هذا المقال ينطلق من تقريرِ واقعةِ تحوُّلِ القانون "إلى مركزٍ جديد في الفلسفة السياسية"، على أساسِ أن الجدلَ أصبح يدور اليوم على فكرةٍ رئيسيةٍ مفادها "أنَّ تطور المجتمعات رهين بتطور القانون"، فإن بؤرة الإشكالية التي تستقطب اهتمام المؤلف بهذا الصدد، تتمثل في الوظيفة المزدوجة التي أصبحت تُناط بثقافة حقوق الإنسان في السياق المعاصر: "أصبحت ثقافة حقوق الإنسان مرجعَ دولة الحق والقانون. لكنها أصبحت كذلك أداةَ استغلالٍ ودعايةٍ في الحروب العادلة والتحديات الاقتصادية والاجتماعية داخلَ مجتمعاتٍ تزدادُ تعقيداً" (ص. 150). يفحص المقال هذه الإشكالية من خلال الوقوف عند منزلة حقوق الإنسان بين سيادة القانون والسيادة السياسية (ص. ص. 150-152)، ثم عبر تناول الرهان السياسي لحقوق الإنسان (ص. ص. 152-154)؛ ويخلص، بعد مساءلته لمفهوم العمليات الإنسانية (ص. ص. 154-158)، إلى أن ما تُبرزه هذه الأخيرةُ هو "انعدام التوازن بين التقدم المتحقّق على مستوى القوانين وانتهاكها الفعلي، وضعف الفلاسفة في الإلمام بتعقيدات النظام العالمي الجديد" (ص. 159).

هذه الإشارة إلى الضعف الذي يعتري العمل الفلسفي المعاصر في مجال القانون والسياسة، تُمثِّل في نظرنا إحدى أهم الأفكار التي نجح المؤلف في إثارة الانتباه إلى أهميتها، وفي إبراز حيويتها بالنسبة إلى كل الذين يرغبون في أن تظلّ الفلسفةُ قادرةً على مواكبة تطور حقوق الإنسان تأطيراً وتنظيراً. وقد خُصِّصَ مقالٌ كامل ومستقل، يحمل عنوان "الفلسفة والعدالة والصفح"، لبسط هذه الفكرة، من خلال طرح مسألة الحاجة "إلى إعادة تأهيل الفلاسفة في مجالاتِ نظرية الحق والسياسة" (ص. 160). إن هذه الحاجة تجد مبررها في كون الفيلسوف يعتبر العدالةَ من جملة "المجالات التي لا تزال الفلسفةُ مؤتمنةً عليها"، وفي كونه "يعتبر أن رجال القانون والسياسة يستكملون تفكيرَه الفلسفي دون أن يصبحوا بدائل ثانوية" (ص. 168)، في حين أن واقع الأمر اليوم هو "أن الحق في العدالة لم يعد شأنا فلسفيا خالصا"، وأن حقوق الإنسان قد أصبحت "مجزأةً بين مباحث متباينة، بين المباحث القانونية والشرعية والسياسية والفلسفية" (ص. 160).

إنه لمن المؤكد أن الفلسفة الحديثة قد بذلت جهوداً استثنائية من أجل الاضطلاع بوظيفة التقعيد الفلسفي لجيل الحقوق المدنية والسياسية التي قامت عليها دولة الحق والقانون، وذلك بالاعتماد على نظرية الحق الطبيعي وفرضية العقد الاجتماعي. لكن، "هل يجوز لنا اليوم الاستمرار في ربط حقوق الإنسان بمفهومي "الحق الطبيعي" و"العقد الاجتماعي"؟". يُجيب المؤلف عن هذا السؤال بالقول إن النظرة المعيارية إلى حقوق الإنسان قد ارتبطت "بتصورٍ معياري للعقل الأنواري"، غير أن هذا العقل لم يعد يشكل "المعيار القبلي الذي يضمن مشروعية المعيارية الحقوقية"؛ وذلك لأنه، "إلى جانب معيارية العقل، ظهرت معياريةٌ جديدة تقوم على معيارية "القانون الوضعي" ومعيارية المعايير والاتفاقيات الدولية" (ص. ص. 164-165).

وفضلاً عمّا سبق، فإن ما يجعل وظيفة الفلسفة تكتسي صورة جديدة في السياق المعاصر، وتصطدم بصعوباتٍ وتحديات أكبر، هو ظهور أجيالٍ جديدة من الحقوق "ليست شأن الفلاسفة فقط، بل أصبحت من اختصاص رجال السياسة والقانون". ويلخص المؤلف هذا التطور في المنظومة الحقوقية قائلا: "لقد كانت حقوق الإنسان صبيا حظي برعاية الفلاسفة خلال قرن الأنوار، لكنها تحولت إلى شاب يافع داخل دولة الحق والقانون". بيد أنه إذا كان تَحوُّل حقوق الإنسان إلى "تخصّصٍ خاص داخل تخصص القانون" قد دفع الفلاسفة إلى "إعادة النظر في مبادئ الأنوار التي تتحكم في نظرتهم إلى حقوق الإنسان"، فإن الملاحظ اليوم هو أن الفلسفة لم تعد تنهض بوظيفةٍ أخرى غير وظيفة "استشكال القضايا"، وأن "النماذج الفلسفية الصحيحة لم تعد تولد بطريقة ذاتية نتيجةَ الاستبطان، بل أصبحتِ النماذج تفد علينا من كل حدب وصوب". إن ميزة الوضعية الجديدة للفيلسوف هي أنه أصبح مطالبا بأن يأخذ في اعتباره كَوْنَه قد أصبح "شريكاً بين الشركاء العاملين في حقوق الإنسان وداخل دولة الحق والقانون، بعدما كان يتحمل لوحده مسؤولية تأسيس حقوق الإنسان على العقل خلال قرن الأنوار". وبعبارة أخرى، فإن الفيلسوف مطالب اليوم بأن ينتبه إلى أنه في الوقت الذي أصبحت فيه الحقوق "تعتمد مرجعيةً ثقافية بدل مرجعية العقل ومبدأ التعددية الفكرية بدل التجانس العقلاني ومبدأ الحوار بدل الإملاء العقلي"، فإن معظم المفاهيم الأساسية لحقوق الإنسان قد أصبحت "متقادمة داخل الفلسفة" (كما هو الحال مثلا بالنسبة إلى مفاهيم "الكرامة" و"الحرية" و"الملكية" التي ترجع إلى مرجعياتٍ دينية ويونانية وأنوارية) (ص. ص. 165-167).

كيف يمكن للفلسفة، في الآن ذاته، أن تراعي وضعها غير المريح بين التخصصات الحقوقية من دون أن تتقاعس عن مهمة مواكبة تطور قضايا حقوق الإنسان؟ هذا ما يحاول المؤلف أن يبين جانباً منه في المقال الذي يحمل عنوان "الفلسفة والعدالة الانتقالية والديمقراطية الإجرائية"، والذي اختار فيه مفهوم العدالة من أجل فحص "مدى قدرة الفلسفة على استشكال بعض القضايا التي تُعالَج بكيفيةٍ مخصوصةٍ في مجالات التشريع والقضاء" (ص. 169). فإذا كان المؤلف قد دافع سابقا عن ضرورة انفتاح الفلسفة على مباحث القانون وعلم السياسة والقضاء، فإنه يسعى هنا إلى إبراز عدم كفاية المنظور القانوني في معالجة قضايا العدالة بصفةٍ عامة، وقضايا العدالة الانتقالية بصفةٍ خاصة. فهذه الأخيرة تقتضي بكل تأكيد بعض المساطر القانونية المضبوطة في إطار استقلال القضاء، وتطرح بدون شك آليات الانتقال الديمقراطي (من قبيل تعديل الدستور ومواد القانون الجنائي وتطبيق الحكامة الجيدة)؛ لكن هذه المقتضيات تظل مع ذلك غير كافية ما لم تُستكمَل بالتفكير الفلسفي في القضايا الحقوقية التي لا تستوفيها المعالجة القانونية (من قبيل قضية العفو وقضية الصفح). ومن أجل إبراز خصوص التصور الفلسفي بهذا الصدد، يتوقف المؤلف عند بعض جوانب مقاربة بول ريكور لقضايا العدالة والذاكرة (ص. ص. 172-179)، معتبراً بالخصوص أن تمييزَ هذا الأخير بين منطق الوفرة في العفو ومنطق التكافؤ في المحاكمات، وتوظيفَه لمفهوم "الإنسان القادر" من أجل إدخال جدلية الاعتراف والصفح ضمن مقومات المصالحة الكاملة، يشكلان مثالاً ساطعا على أهمية اعتماد المرجعية الفلسفية، وعلى الطريقة التي يمكن من خلالها الانتقال من التصور الحقوقي الخالص إلى منظورٍ فلسفي أكثر غنىً (ص ص. 179-180).

وإجمالاً، يمكن القولُ إن المضامين الرئيسة الواردة في كتاب "ثقافة الاحتجاج بين الفلسفة والقانون" تدور حول الأفكار التالية:

1) بخصوص السياق المغربي الحديث، يرى المؤلف أن الاحتجاج "تحول إلى ثقافةٍ مجتمعية بفضل المقاومة ضد المستعمر"، لكن هذه الثقافة لم تنتبه "إلى أهمية وضع مرجعيّةٍ قانونية للمجتمع تُعَدُّ بمثابة قاعدة أخلاقية نناقش في ضوئها قضايا الدين والفكر" (ص. 9). وبشكلٍ عام، يعتبر المؤلف "أن دول العالم الثالث تعيش في مرحلةٍ دقيقة بعد أن استوعبت الحقّ في الاحتجاج، ولم تستوعب الفَرْقَ الموجودَ على المستوى الفلسفي بين العصيان والعنف والثورة" (ص. 231).

2) بخصوص علاقة الفلسفة بالقانون، يعتبر المؤلف من جهةٍ أن إغفال القانون لم يكن "وضعاً طبيعيا في تاريخ الفلسفة"، لكنه يعتبر من جهةٍ أخرى، أن الجمع بين الفلسفة والقانون قد تراجع خلال القرن العشرين، بحيث "ظهرت هوة عميقة تفصل الفلسفة المعاصرة عن تاريخ الفلسفة الذي حفل بمساهمات غير مسبوقة في نظريات العقد الاجتماعي والدولة والسياسة وفلسفة القانون". ولذلك، فهو يرى أن المطلوب اليوم هو استئناف "صلة الفلسفة بالمرجعيات القانونية، كما كان عليه الحال إلى عهد قريب" (ص ص. 9-10).

3) بخصوص دور الفلسفة اليوم في مجال حقوق الإنسان، يشدد المؤلف من جهة أولى على ضرورة دخول الفلسفة في حوارٍ مع حقول القانون ونظرية السياسة، بعدما "تحولت حقوق الإنسان إلى تخصُّصٍ مستقل داخل العلوم القانونية"؛ ويرصد من جهةٍ ثانية كيف شرعت الفلسفة، بعدما تعزّز التصور القانوني للحقوق والواجبات، في النهوض بمهمة مواجهة "القضايا الحقوقية التي لا تستوفيها المعالجة القانونية"، وهو ما يعني، في نظره، أن الفلسفة "تتبنّـى منظوراً معياريا للمجال العمومي"، وتنأى بنفسها عن الخطاب العدمي عبر "إبراز أهمية الكلام بدل الصمت والحجاج العقلاني مقابل المناجاة وأهمية الفضاء العمومي مجالاً لبلورة قيم المواطنة في مقابل المجال الذاتي" (ص. 232).

4) أما بخصوص حقوق الإنسان، فإن المؤلف يثير الانتباه إلى صعوبة وضع حدود بين مساهمة الدين والفلسفة والقانون في هذا المجال، وإلى صعوبة إقامة فصل واضح بين الحقوق الفردية والجماعية؛ كما أنه يشير إلى وجود "قضايا خلافية كثيرة بخصوص مرجعيات حقوق الإنسان". لكنه يعتبر أننا "نستطيع أن نجد حلولاً وسطى لهذه القضايا الخلافية عندما تدخل الفلسفة في "حوار ثقافي" مع أنظمة الفكر غير الفلسفية وفي حوارٍ بين الفلسفة الغربية ومثيلاتها في العالم الثالث" (ص ص. 232-233).

القسم الثاني: مناقشة

حاولنا في القسم الأول من هذه القراءة أن نبسط المضامين الأساسية الواردة في كتاب "ثقافة الاحتجاج بين الفلسفة والقانون" (باستثناء مضامين الباب الخامس الذي تناوله الأستاذ محمد بلمقدم في قراءته لهذا الكتاب). وسنحاول في هذا القسم أن نتفاعل مع ما نَعدُّه أحد الرهانات الرئيسة للكتاب، وهو الرهان الذي يتمثل في دعوة المؤلف لاستئناف صلة الفلسفة بالقانون. ولتحقيق هذا الغرض، فإننا سننطلق من فحص مفهوم نزعة الوضعية القانونية، لكي نُرتِّب على ذلك بعض الخلاصات العامة.

1. نزعة الوضعية القانونية (le positivisme juridique)

ورد مفهوم الوضعية القانونية مراتٍ عديدة وفي أماكن مختلفة من كتاب "ثقافة الاحتجاج". لكن المؤلِّف لم ينشغل في أيٍّ من تلك الأماكن بتحديد هذا المفهوم تحديداً دقيقاً، بل اكتفى بالإشارة إلى بعض عناصره أو مقتضياته، فكتب مثلا:

- "المنظور الوضعي يعترض على المفاهيم الفلسفية مثل الكرامة والمساواة والحرية" (ص. 109).

- "كان الاتجاه الوضعي مع كيلزن الركن الركين الذي حقق للعلوم القانونية استقرارها واستقلاليتها العلمية وموضوعها المتميز ومنهجها الخاص في التأويل" (ص. 109).

- "تحاول المذاهب الوضعية في القانون تجنب الفوضى وعدم الاستقرار وتبعية مذاهب التأويل للإيديولوجيات المختلفة" (ص. 128).

- "لا تتجاهل الوضعية أهمية القيم الأخلاقية أو المبادئ الفلسفية أو الدينية أو الحقوق الطبيعية. لكنها تعتبر أنّ هذه القيم والمبادئ الفلسفية والحقوق الطبيعية ليست جزءا لا يتجزأ من القانون الداخلي" (ص. 128).

من المؤكد أنّه ليس مطلوبا من المؤلف، في كل مرة يُورد فيها مفهوماً من المفاهيم، الوقوفُ عند ذلك المفهوم شرحا وتفسيرا وتوضيحا، خصوصا وأن سياق القول في المقالات المجموعة ضمن الكتاب يتوجه إلى القارئ المختص بالأساس أو على الأقل إلى قارئٍ يملك حدّا أدنى من الثقافة القانونية. لكن هل يعني ذلك، والحالة هذه، أن مفهوم الوضعية القانونية هو من جنس المفاهيم التي تملك دلالةً مُحدَّدة ومُقرَّرة بين أهل الاختصاص؟ لو كان الأمر كذلك لجاز بالفعل إغفال مسألة شرحه ولكان من غير الضروري الوقوف عنده. لكن إذا كان هذا المفهوم يُستعمل بدلالاتٍ متفاوتة وأحيانا متعارضة، وإذا كانت النتائج التي تترتب عن استعماله تتوقف تحديداً على تلك الدلالات الخاصة التي تُنسَب إليه، ألن يكون حينئذ من الواجب الوقوف على هذا الأمر أو على الأقل الإشارة إليه؟ إننا نطرح هذه الأسئلة، لأننا نرى أنها تنطوي على إشكالية من شأن معالجتها إن يُسهم بقدرٍ وافرٍ في تَـبَـيُّنِ رهان الحوار بين الفلسفة والقانون.

الوضعية القانونية بوصفها نظرية خالصة للقانون

هذا التصور هو الذي حمله ودافع عنه هانز كيلزن، أبرز منظري النزعة الوضعية القانونية في القرن العشرين الميلادي ، في كتابه العمدة "النظرية الخالصة للقانون"[1]. يقول كيلزن إن مشروعه يتمثل في بناء نظرية خالصة للقانون، أي نظرية مُطهَّرة من كل إيديولوجيا سياسية وكذا من كل عنصرٍ ينتمي إلى مجال العلوم الطبيعية، وإن هذا المشروع يستهدف الارتقاء بعلم القانون إلى المستوى الذي يصبح فيه علماً بالفعل، وذلك عبر توجيهه نحو غايةٍ بعينها هي معرفة القانون، وأيضا عبر العمل على تقريب نتائج هذه العملية المعرفية من النموذج الذي تسترشد به كل معرفةٍ علميةٍ حقّة، والمتمثل في الموضوعية والدقة[2]. يقصد كيلزن من استعمال عبارة "النظرية الخالصة للقانون" أن الأمر يتعلق بنظرية تنْصَبُّ على القانون الوضعي حصراً، وأنها في نفس الوقت نظرية عامة للقانون، حيث إنها تنطوي أيضا على نظرية في التأويل القانوني؛ إنها، باختصار، نظريةٌ عامّةٌ بشأن القانون الوضعي منظوراً إليه بصفة عامة. وكونها "نظرية" يعني أنها لا تسعى سوى لمعرفة القانون، أي أن دورها ينحصر في تحديد ما هو كائن وليس ما يجب أن يكون. أما كونها "خالصة"، فيعني أنها تسعى إلى تحصيل المعرفة بموضوعٍ مُحدَّد هو القانون حصراً، وأنها تستبعد تماماً من هذه المعرفة كل ما لا يقع في النطاق المحدد لهذا الموضوع، أي أنها تُخلي علمَ القانون من جميع العناصر الغريبة عنه[3].

هذا التوجه بالقانون نحو العلمية قاد كيلزن إلى استحداث سلسلة من التمييزات نُجمِلُها فيما يلي: التمييز بين علم القانون وعلوم الطبيعة؛ التمييز بين علم القانون وعلم الأخلاق (وبالتالي التمييز بين القانون والأخلاق)؛ التمييز بين القانون وعلم القانون (وبالتالي التمييز بين القواعد المعيارية القانونية وقضايا علم القانون التي تصفها)؛ والتمييز بين المنظور الثابت (أو القار) والمنظور المتحرك (أو الدينامي) للقانون. بموجب التمييز الأول، يكون موضوع المعرفة القانونية هو القواعد المعيارية التي تُضفي على أفعالٍ بعينها صبغةً قانونيةً معينة، ويكون القانون الذي يُتَّخذ موضوعاً للمعرفة نسقاً من القواعد المعيارية التي تحكم سلوك الكائنات الإنسانية[4]. وبموجب التمييز الثاني، يكون القانون نظاما معياريا قائما على الإكراه بواسطة أفعالٍ عقابية مُنظَّمة اجتماعيا، بينما لا تضع الأخلاق مثل هذه العقوبات ولا توظف القوة المادية[5]؛ ويترتب عن هذا التمييز أن صلاحية الأنظمة القانونية الوضعية لا تتوقف بتاتا على توافقها أو عدم توافقها مع نسقٍ ما من الأنساق الأخلاقية[6]، وأن علم القانون، الذي ينحصر دوره في معرفة ووصف موضوعه، ليس من شأنه بصفة عامة أن يصدر حكما قيميا على ذلك الموضوع، وليس من وظيفته بصفة خاصة أن يضفي المشروعية على القانون؛ أي أن يعمد إلى تسويغ النسق المعياري القانوني بالاستناد على أخلاقٍ ما، سواء كانت أخلاقاً مطلقة أو نسبية[7]. أما التمييز الثالث فيعني، أولاً، أن ما يميز القواعد المعيارية القانونية هو كونها موضوع خلق وإنشاء من قِبَل الأجهزة القانونية، بينما ينحصر دور علم القانون في معرفة هذه القواعد المعيارية من خلال بناء قضايا تتخذ صورة أحكامٍ شرطية؛ ويعني، ثانيا، أن قضايا علم القانون هي ما يحتمل الصدق والكذب، بينما لا يقال عن القواعد المعيارية سوى أنها سليمة أو غير سليمة من حيث مسطرة الإنشاء والوضع؛ ثم إنه يعني أخيراً، من الناحية المنطقية، أن القواعد المعيارية والقضايا التي تصفها لا تنتميان إلى نفس الفئة من المعطيات: إنهما تتعلقان معاً بما يجب أن يكون، لكن هذا الواجب يتخذ في القاعدة المعيارية (القانون) طابعاً تقريريا، بينما يتخذ في القضية القانونية (علم القانون) طابعا وصفيا فقط[8]. ويرتبط التمييز الرابع ارتباطا وثيقا بمفهوم صلاحية القاعدة المعيارية القانونية. فمن ناحية أولى، يعتبر كيلزن أن صلاحية أية قاعدة معيارية لا يمكن أن تتأسس إلا على قاعدةٍ معيارية أخرى أسمى منها؛ لكن بما أن سيرورة التأسيس لا يمكن أن تتواصل إلى ما لا نهاية، فإن هذه السيرورة تنتهي إلى قاعدة معيارية يُفترَض أنها أول وأسمى القواعد المعيارية، وهي التي يُطلق عليها اسمَ "القاعدة المعيارية الأساسية". والنتيجة هي أن قاعدةً معياريًةً ما لا تكون جزءًا من نظامٍ معياري معين إلا إذا كان الأساس الأخير الذي تقوم عليه صلاحيتُها هو القاعدة المعيارية الأساسية لذلك النظام المعياري. ومن ناحية ثانية، فإن هذه النتيجة تقود إلى التمييز بين نمطين من الأنظمة المعيارية، وذلك تبعاً لطبيعةِ الأساس الذي تقوم عليه صلاحيتها. يتمثل النمط الأول في النظام المعياري الثابت (أو القار) الذي يُستنبط من قاعدته المعيارية الأساسية ليس فقط أساسُ صلاحية بقية القواعد المعيارية المُكوِّنة له، بل كذلك مضمون هذه القواعد. أمّا النمط الثاني، فيتمثل في النظام المعياري المتحرك (أو الدينامي) الذي يتميز بأن قاعدته المعيارية الأساسية لا تُعيِّن سوى طريقةَ إنشاء أو وضع القواعد المعيارية المُكوِّنة للنظام المعياري القائم على تلك القاعدة المعيارية الأساسية. ويعتبر كيلزن أن الأنظمة المعيارية القانونية تنتمي إلى النمط الثاني، وبالتالي أن القاعدة المعيارية القانونية لا تكون صالحة لأنها تملك مضموناً معيناً؛ لأن مضمونها يمكن أن يُستنبَط منطقيا من القاعدة المعيارية الأساسية المفترضة، بل تكون صالحة لمجرد أنها وُضِعت وفقاً لطريقةٍ معينة، أي بالتحديد وفقاً للطريقة التي حددتها القاعدة المعيارية الأساسية المفترضة. وبما أن هذه الأخيرة لا تتعلق عموماً بمضمون القواعد المعيارية بل تُحدِّد فقط طريقة إنشائها، فإن كيلزن ينتهي إلى نتيجةٍ قد تبدو صادمة، وهي أن القانون يمكن أن يحمل أي مضمونٍ على الإطلاق[9].

المسألة الأخيرة التي نود الإشارة إليها بخصوص النظرية الخالصة للقانون تتعلق بموقفها من التأويل[10]. وبهذا الصدد، فإن كيلزن يبتدئ بالقول إن التأويل ضروري من ثلاث جهات. فهو ضروريٌّ أولاً في كل حالةِ تطبيقٍ للقانون، أي متى تعلق الأمر بالانتقالِ من مستوىً أعلى إلى مستوىً أدنى داخل هرمية القواعد المعيارية المكونة للنظام القانوني. وهو ضروريٌّ أيضاً بالنسبة إلى الأفراد الذين هم دائما في حاجةٍ إلى فهم القواعد المعيارية القانونية التي تُحدِّد السلوك المطلوب منهم من أجل تفادي العقاب، ثم إنه ضروريٌّ أخيراً بالنسبة إلى علم القانون الذي يلزمه بالضرورة تأويلُ القواعد المعيارية الـمُكوِّنة للقانون الوضعي الذي يبتغي وصفه. ويخلص كيلزن من استعراض جهات ضرورة التأويل إلى التمييز بين نوعين منه: التأويل الذي تقوم به أجهزةُ تطبيقِ القانون، والتأويل الذي يقوم به الأشخاص أو ينهض به علم القانون؛ ويعتبر أن النوع الأول يرجع بالأساس إلى اللاَّتَحَدُّد الذي يطبع القواعد المعيارية القانونية، وأن هذا اللاَّتَحَدُّد الذي يَسِمُ كلَّ قاعدةٍ معيارية قانونية يجعل أجهزةَ تطبيقِ القانون تجدُ نفسها بالضرورة في وضعيةٍ يَتَّخِذُ فيها تطبيقُ القانون أشكالاً ممكنةً عديدة. ويستنتج من ذلك أن القانون المعني بالتطبيق هو مجردُ إطارٍ يحوي في داخله إمكاناتٍ تطبيقية متعددة. وهذا يعني أن تأويلَ القانون لا يعدو كونه تحديداً لذلك الإطار الذي يُقدِّمه القانون المعني بالتأويل؛ أي إن وظيفته تنحصر في تعيين مختلف الإمكانات التطبيقية التي يتضمنها ذلك الإطار. إن التأويل، بوصفه عمليةً معرفيةً محضة، يستطيع بكل تأكيدٍ أن يتجاوز حدودَ رسمِ معالمِ الإطار الذي يقدمه القانون، وذلك بأن يعمد إلى ملء هذا الإطار بمضامين محددة، لكنه يكون في هذه الحالة قد خرج من نطاق القانون الوضعي وأصبح متعلقاً بالأخلاق وبأحكام القيمة الاجتماعية. وفي المقابل، فإن التأويل القانوني، الذي يتقيد بحدود القانون الوضعي، يُظهر أن إنشاءَ عملٍ قانونيٍّ داخل إطارِ القاعدة المعيارية المعنيةِ بالتأويل يُمثِّل عمليةً حرة تقع في نطاق السلطة التقديرية للجهاز المكلف بإنفاذ ذلك العمل. فالتأويل ليس مجردَ عمليةٍ معرفية، بل هو إجراءُ يرتبط أشدَّ الارتباطِ بالإرادة الحرة للجهاز الذي ينهض بتطبيق القانون. وبعبارةٍ أخرى، فإنه متى ما تعلق الأمر بتطبيق القانون من طرف جهازٍ قانوني، فإن عمليةَ تأويلِ القانون المعني بالتطبيق، بوصفها عمليةً معرفية، تَتَّحِد مع فعلٍ صادرٍ عن إرادة الجهاز الـمُطبِّق للقانون، وهو الفعل الذي بموجبه يقوم ذلك الجهاز بالاختيار بين الإمكانات التطبيقية التي يكشف عنها التأويل بوصفه عمليةً معرفية.

يميز كيلزن، بناءً على هذه التحديدات السابقة، بين التأويل الرسمي والتأويل غير الرسمي: النوع الأول هو التأويل الصادر عن الأجهزة التي يُخوِّل لها النظام القانوني تطبيقَ القانون، وميزة هذا التأويل أنه مُنشئ للقانون؛ بينما يشير النوع الثاني إلى جميع التأويلات الأخرى (تأويل الخواص أو تأويل الفقه) التي لا تُنشئ قانونا. وبعد هذا التمييز، يتناول كيلزن علاقة مفهوم التأويل بمفهوم الأمن القانوني من خلال نقد الربط الفاسد التي أقامه علم القانون التقليدي بينهما. فإذا كانت فكرة الأمن القانوني تستند، في إطار النظرية التقليدية، على الفكرة التي مفادها أن القاعدة المعيارية القانونية لا تحتمل إلاّ تأويلا واحدا صحيحا، فإن هذه الفكرة بالنسبة إليه لا تعدو كونها مجرد وهم. وإذا كان كيلزن لا ينكر ما لهذه الفكرة الوهمية من فوائد عملية على الصعيد السياسي، فإنه يستدرك بالقول، أولاً، إن الأمن القانوني يمثل مطلباً لا يمكن تحقيقه إلا بصورة تقريبية بالنظر إلى الغموض واللَّبس الذين يطبعان بهذا القدر أو ذاك أغلب القواعد المعيارية القانونية؛ وبالقول، ثانياً، إن الفوائد السياسية الأكيدة لتلك الفكرة الوهمية ليس بمستطاعها أن تُسوّغ استعمالَ هذه الفكرة في سياق التحليل العلمي للقانون الوضعي. إنّ عيب النظرية التقليدية، في نظر كيلزن، يكمن في أنها كانت تؤسس مفهوم الأمن القانوني على وهمٍ باطلٍ يُقدِّم تحت رداءِ الحقيقةِ العلمية ما ليس في حقيقة الأمر سوى حُكمَ قيمةٍ ذي طابعٍ سياسي. ولذلك، فهو يعتبر أنّ التأويل الذي يستوفي فعلاً شروط الصرامة العلمية هو التأويل الوحيد الذي يستطيع أن يحقق ويضمن أعلى درجاتِ الأمن القانوني، وذلك لأن هذا التأويل العلمي، بالنظر إلى أنّ دورَه يكمن تحديداً في الكشف عن جميعِ التأويلات الممكنة التي تحتملها قاعدةٌ معياريةٌ قانونيةٌ ما (أي الكشف حتى عن التأويلات التي تكون غير مرغوب فيها لكنها مع ذلك مُتضمَّنة في نص القاعدة المعيارية)، من شأنه أن يُظهر للسلطة الـمُنْشِئة للقانون مقدارَ قُصورِها عن استيفاء شرطِ التقنية القانونية الذي يقتضي الحرصَ على صياغةِ قواعدَ معياريةٍ تكون خاليةً من اللَّبس بأكبرِ قدرٍ ممكن، أو على الأقلِّ الحرصَ على إبقاء اللَّبس في حدوده الدنيا إذا كان من المتعذر تفاديه بشكلٍ كامل.

الوضعية القانونية: التمييز بين مستويات ودلالات مختلفة

بسطنا في الفقرة السابقة بعض الملامح الرئيسة لمفهوم نزعة الوضعية القانونية انطلاقاً من كتاب "النظرية الخالصة للقانون" الذي يعتبر النص المؤسس لها. وسنعرض الآن جملة من التصورات التي حاولت التمييز داخل هذه النزعة بين مستويات ودلالات مختلفة.

يميز هربرت هارت (Herbert Hart) بين خمس دعاوى بخصوص تحديد مفهوم الوضعية القانونية[11]، ويعتبر أن هذه الدعاوى ليست مترابطةً ترابطاً ضرورياً، بل هي منفصلةٌ الواحدة عن الأخرى بحيث يمكن قبول إحداها ورفض غيرها. تكمن الدعوى الأولى في القول إن القوانين هي بمثابة أوامر صادرة عن كائنات إنسانية. وتكمن الدعوى الثانية في القول إن صلاحية القاعدة القانونية ليس لها أيّة صلةٍ بعدالتها؛ أي لا وجود لصلةٍ ضروريةٍ بين القانون والأخلاق أو بين القانون كما هو كائن والقانون كما يجب أن يكون. وتتمثل الدعوى الثالثة في وجوب فصل عملية تحليل المفاهيم القانونية عن المقاربة السوسيولوجية، وكذا عن عملية نقد القوانين؛ أي في القول إن دراسةَ دلالةِ المفاهيم القانونية هي عمليةٌ متمايزةٌ عن البحوث السوسيولوجية التي تُنقِّب عن أصول القانون وعن صلاته بباقي الظواهر الاجتماعية، كما أنها متمايزةٌ عن تقييمِ القانون انطلاقاً من اعتباراتٍ أخلاقية أو اجتماعية. أما الدعوى الرابعة، فتتمثل في اعتبار النسق القانوني بمثابة نسقٍ منطقي مغلق يمكن أن تُـتَّـخَذَ في إطاره قراراتٌ قانونيةٌ سليمةٌ بناءً على أدوات منطقية محضة، ومن دون حاجةٍ إلى استدعاء معطياتٍ خارجيةٍ من قبيل الغايات الاجتماعية أو الأهداف السياسية أو المقاصد الأخلاقية. وتكمن الدعوى الخامسة في القول إن الأحكام الأخلاقية، خلافاً لما هو عليه الأمر بالنسبة إلى أحكام الواقع، لا يمكن إثباتُـها أو الدفاعُ عنها بواسطة أدلةٍ عقلية.

يستحدث هارت هذا التمييز بين دلالاتٍ مختلفةٍ للوضعية القانونية بغايةٍ محددةٍ تتمثل في بَيَاِن كَوْنِ الاعتراضات التي تستهدف تمييز هذه الأخيرة بين القانون كما هو كائن والقانون كما يجب أن يكون هي اعتراضات قائمة على الخلط بين هذه الدلالات. ولذلك، نجده يبادر إلى توضيح هذا الخلط حتى يتسنى له بعد ذلك أن يحتفظ بدعوى الفصل بين القانون الوضعي والقانوني المثالي دون تلبيس هذه الدعوى بالدعاوى الأخرى التي يعتبرها هو نفسه دعاوى متهافتة. لكن إذا كان هارت يرى أن الدعاوى الخمس السالفة الذكر تشير، من الناحية المنطقية والمفهومية، إلى دلالاتٍ منفصلةٍ تماماً الواحدة عن الأخرى، فإن كاطانيو (Cattaneo) يعتبر أنه من الواجب إقامة صلةٍ بين الدلالتين الثانية والثالثة، وذلك لأنهما في نظره تُعبِّـران معاً على مبدأ الفصل بين القانون والأخلاق الذي يمثل عمود الوضعية القانونية ودعواها الأساسية. غير أن كاطانيو، بقوله إن دعوى الفصل بين القانون والأخلاق تحتمل تأويلاتٍ مختلفة تبعاً لزاوية النظر الخاصة بالمستوى الذي نضعها فيه، ينتهي هو أيضا إلى التمييز بين ثلاثة أنماط من الوضعية القانونية، ويعتبر أن هذه الأنماط مستقلة تماماً بعضها عن البعض، بحيث يمكن قبول أحدها ورفض الأخرى. ويمكن تلخيص وجهة نظر كاطانيو كما يلي: على مستوى نظرية القانون، يكون مقتضى الفصل بين القانون والأخلاق هو تعريف مفهوم القانون من دون الاستناد في ذلك إلى مبادئ من طبيعةٍ أخلاقية؛ أي معرفة ووصف الظواهر الواقعة تحت تعريف القانون من دون محاولة إضفاء المشروعية عليها أو نزعها عنها؛ وعلى مستوى تطبيق القانون من قِبَلِ القاضي أو المواطن، فإن دعوى الفصل بين القانون والأخلاق تعني أنّ واجب الخضوع للقانون الوضعي وطاعته هو واجبٌ قائمُ الوجودِ بمعزلٍ وفي استقلالٍ عن واجب الامتثال للقواعد المعيارية الأخلاقية؛ وأخيراً، على مستوى التشريع، يدلُّ ذلك الفصل على عدم وجود أخلاقٍ عقلية أو موضوعيةٍ يمكن للقانون أن يسترشد بها[12].

يسير نوربيرطو بوبيو (Norberto Bobbio) على نفس النهج الذي دشنه هارت، من حيث أنه يدعو هو أيضاً إلى التمييز بين معانٍ مختلفة يمكن نسبتها إلى مفهوم الوضعية القانونية، ويقدم بهذا الصدد ثلاث توضيحات أساسية من شأنها في نظره أن تبدد الغموض والالتباس اللذين يطبعان عموماً استعمال هذا المفهوم[13]. التوضيح الأول يدعو إلى ضرورة تجاوز المقاربة السائدة التي تكتفي بالتحديد السلبي لمفهوم الوضعية القانونية؛ أي المقاربة التي تعتبر أن هذا المفهوم يشمل كل تصورٍ للقانون ينبذ مفهوم الحق أو القانون الطبيعي. ويتمثل التوضيح الثاني في التمييز بين ثلاثة تجليات عبرت من خلالها الوضعية القانونية عن نفسها عبر التاريخ: الوضعية القانونية بوصفها نمطاً مخصوصا في مقاربة دراسة القانون؛ الوضعية القانونية بوصفها نظرية؛ الوضعية القانونية بوصفها إيديولوجيا. أما التوضيح الثالث فيشير إلى الفائدة المأمولة من التمييز بين هذه الأوجه المختلفة التي لا يقوم بينها أي رابطٍ منطقي أو سببي ضروري.

إن ما يميز الوضعية القانونية بوصفها نمطاً مخصوصاً في مقاربة القانون هي أنها تفصل فصلاً صريحا بين القانون الفعلي والقانون المثالي (بين القانون كواقع والقانون كقيمة، أو بين القانون كما هو كائن والقانون كما يجب أن يكون)، وتعتبر أن القانون الذي يجب أن يدرسه عالم القانون هو الأول وليس الثاني. وهذا يعني أن النمط الوضعي في دراسة القانون ليس سوى النمط العلمي القائم على مبدأ الموضوعية الذي يقضي بتعليق الحكم إزاء الواقع المدروس. ومن هذا المنظور، فإن من يكون وضعيَّ النزعةِ بخصوص القانون هو بالتحديد من يتخذ إزاءَ القانون موقفاً محايداً من الناحية الأخلاقية، أي الذي يُعيِّن القاعدة المعيارية القانونية ويميزها عن غيرها ليس على أساسِ معيار التّوافق مع نسقٍ أخلاقيٍّ ما، بل انطلاقاً من وقائع قابلةٍ للاختبار. إن نِشْدان العلمية هو ما يفرض إذن على من يتبنى الوضعية القانونية استبعاد جميع التصورات التي تُدمِج ضمن تعريفها للقانون عناصرَ غائية من قبيل تجسيد الخير العام أو تحقيق العدالة أو حماية الحق في الحرية، الخ. إنّ موضوع علم القانون، بالنسبة إلى أنصار الوضعية القانونية، ليس سوى القانون الوضعي، أي مجموع القواعد المعيارية الموضوعة وفقاً للمساطر المقررة، والتي يجري العمل بها عموما سواء بالنسبة للمواطنين الذي يسيرون عليها أو بالنسبة للقضاة الذين يطبقونها.

وتشير الوضعية القانونية، بوصفها نظريةً، إلى ذلك التصور الخاص التي يربط الظاهرة القانونية ربطاً وثيقاً بِتَشَكُّل الدولة؛ أي بظهور سلطةٍ مركزيةٍ حائزةٍ على السيادة وقادرةٍ على ممارسة الإكراه. ويمكن إجمالُ هذه النظرية الدَّوْلَتِيَّة بخصوص القانون في الأركان الثلاثة التالية: 1) يقتضي الحكم القضائي دوما قاعدة قانونية موجودة سلفاً، 2) هذه القاعدة القانونية الموجودة سلفاً هي دائما من وضع الدولة، 3) مجموع القوانين الموضوعة من قِبَلِ الدولة تؤلف وحدةً. يتضح إذن أن النظر إلى الوضعية القانونية بوصفها نظريةً ترد مجموع القانون إلى كيان الدولة هو وحده ما يجعل من مفهوم الوضعية القانونية مفهوماً ينطوي بالضرورة على تلك الأفكار المعروفة التي تُنسب إليه عادة، والمتمثلة فيما يلي: 1) القولُ، على مستوى التعريف العام للقانون، بأن هذا الأخير يتمثل في أوامر إكراهية، 2) القولُ، بخصوص النظام الذي تؤلفه مجموع القواعد المعيارية، بأن هذا النظام المعياري هو نظام تام ومنسجم، 3) القولُ، على مستوى مصادر القانون، بأن التشريع يُمثِّل المصدر الأساسي للقانون، وبالتالي اعتبار العرف مصدراً ثانويا وأدنى قيمة وكذا نزع صفة المصدرية عن العمل القضائي، 4) القولُ، على مستوى منهج علم القانون، بأن وظيفة التأويل القانوني هي وظيفة إعلانية وليست إنشائية.

أخيراً، تُمثِّل النزعةُ الوضعية القانونية بوصفها إيديولوجيا نوعاً من الاعتقاد الذي يقوم على جملةٍ من القيم وينهض بمهمة تسويغ القانون الوضعي القائم من دون اعتبارٍ لتوافق هذا الأخير مع نموذجٍ مثالي ما للقانون؛ فهي تشير إذن إلى واجبٍ أخلاقي يُلزِم باحترام القواعد المعيارية القانونية. بيد أن هذه النزعة الإيديولوجية تؤسس هذا الواجب الأخلاقي على نمطين مختلفين من الحجج. الحجة الأولى تفيد أن القانون الوضعي هو تجسيد للعدالة لمجرد كونه قانونا وضعيا، أي بالنظر فقط إلى أنه صادر عن إرادة مهيمنة؛ أو بعبارة أخرى أن معيار الحكم بعدالة أو لا-عدالة التشريعات هو عينُ المعيار الـمُعتمَد للحكم بصلاحية أو بعدم صلاحية التشريعات؛ أي إنه يتطابق تمام التطابق مع معيار الحكم بخصوص ما إذا كان إنشاء القواعد المعيارية القانونية إنشاءً سليماً أم فاسداً. أما الحجة الثانية، فتفيد أن القانون، بوصفه مجموع القواعد المفروضة من قِبَلِ السلطة المحتكرة للقوة في مجتمع معين، من شأنه تحقيقُ جملةٍ من الأهداف المرغوب فيها، من قبيل فرض النظام وتحقيق السلم وجلب الأمن، أو ضمان العدالة الشرعية بشكل عام.

الوضعية القانونية بوصفها اختيارا سياسيا

أشرنا في الفقرة السابقة إلى التمييزات التي استحدثها كل من هارت وكاطانيو وبوبيو بخصوص مفهوم النزعة الوضعية القانونية. وتجدر الإشارة الآن إلى أن الموقف النقدي لهؤلاء الأعلام لم ينحصر في العمل التفكيكي الذي قاموا به، بل قادهم إلى القيام بعملية بناء أو إعادة بناء للمفهوم الذي حرصوا على التمييز داخله بين مستويات متباينةِ المضمون والقيمة، إذ نجدهم، بعد مرحلة التحليل والتوضيح، يبادرون إلى اتخاذ موقف من خلال الاحتفاظ بدلالة محددة من بين الدلالات المستخرجة واستبعاد الدلالات الأخرى. المقطع التالي، المقتبس من كتاب "ما هي الوضعية القانونية؟" للقاضي الإيطالي أوبرتو سكاربيلي، يجمل هذا الأمر كما يلي:

«Hart fait porter son étude sur le juspositivisme et la séparation du droit et de la morale pour défendre l"école juspositiviste contre les critiques qui portent sur ce qu"elle distingue le droit comme il est et le droit comme il devrait être. Relevant la confusion qu"ont faite les critiques entre cette distinction et les autres théories juspositivistes, il s"attache à clarifier la question pour pouvoir ensuite maintenir la distinction entre le droit comme il est et le droit comme il devrait être en laissant de côté les théories insoutenables. Cattaneo, après avoir établi la portée de la séparation juspositiviste entre le droit et la morale, sur les trois plans de la théorie, de la pratique du droit et de la législation, n"accepte la séparation au premier de ces plans que pour la rejeter au second et au troisième. On peut également relever chez Bobbio une énergique défense du juspositivisme comme approche scientifique du droit, une révision profonde du juspositivisme comme théorie, un abandon de ses thèses centrales à commencer par la réduction du droit au droit de l"État, et une défense prudente du juspositivisme comme idéologie du droit dans sa version modérée» (Op. Cit. pp. 16-17)

والنتيجة التي تفرض نفسها بالانطلاق مما سبق هي أن مفهوم النزعة الوضعية القانونية لا يحيل، حتى عند كبار أنصاره، على مضمون محدد يمكن تحقيق اتفاق صلب حوله. وهذا الأمر هو ما حدا بالقاضي سكاربيلي، بعدما لاحظ ما ترتب عن الأعمال التحليلية الغنية التي قام بها الأعلام المذكورين من تفتيت لمفهوم الوضعية القانونية وتصييره أشلاء متناثرة، إلى طرح تعريف بديل من شأنه أن يعيد لهذا المفهوم وحدته الضائعة.

يعتبر سكاربيلي أن عنصراً واحداً، من بين جميع العناصر التي تمَّ التمييز بينها أعلاه، من شأنه أن يكون بمثابة الرواق المفضي إلى مجموع خطاب الوضعية القانونية، وأن هذا العنصر يتمثل في تعريف القانون تعريفا يتميز بالحياد ويقوم على ربطه بالإرادة الإنسانية؛ أي في اعتبار القانون نسقاً من القواعد المعيارية التي تضعها إرادة كائنات إنسانية، وكذا اعتبار هذا النسق حاملا لجملةٍ من الخصائص التي تتيح تعيينه بمعزل عن توافقه مع قيم أخلاقية أو إيديولوجية[14]. انطلاقا من هذا العنصر، وبعد معالجة نقدية استغرقت عدة فصول، ينتهي سكاربيلي إلى وضع التعريف التركيبي التالي[15]:

«Nous désignons par le concept de positivisme juridique, ou encore par l"expression "juspositivisme", ou toute expression synonyme, une conception et une définition du droit compris comme système de normes, normes de comportement et normes de structures posées par des actes de volonté d"êtres humains, constitué (même si ce n"est pas exclusivement) de normes générales et abstraites, cohérentes ou que l"on peut ramener à une cohérence, complet parce que exclusif, sanctionné par la contrainte» (op. cit. p. 83)

هل يعني هذا أن مشكلة تحديد مفهوم الوضعية القانونية قد تم حلّها حلاًّ نهائيا بتقديم هذا التعريف العام؟ إن هذا الأمر لا يزال، في واقع الأمر، بعيداً عن المتناول. ولا أدل على ذلك من أن سكاربيلي نفسه لا يتردد في نعت موقفه بالغرابة مقارنة مع مواقف الأنصار والخصوم على حد سواء. فعلى خلاف الغالبية من الأنصار الذين يتبنون تأويلا علميا بخصوص مفهوم الوضعية القانونية، يتبنى سكاربيلي تأويلا سياسيا لهذا المفهوم، وذلك بالرغم من أن هذا المنظور هو الذي يستند إليه المناوئون عموما. لكن في الوقت الذي يستند الخصوم على التأويل السياسي للطعن في نزعة الوضعية القانونية، فإن سكاربيلي يعتبر أن أفضل حجج لدعم هذه النزعة ربما أمكن إيجادها بالانطلاق تحديدا من المقاربة السياسية لها، أي من خلال الوقوف عند النتائج التي يمكن استخلاصها من الوظيفة البراغماتية والأثر التوجيهي اللذين ينطوي عليهما التعريف الوضعي للقانون. وهذا يعني أنه إذا كان التعريف المُـقترَح بغاية إنقاذ مفهوم النزعة الوضعية من التفتت الذي لحق به جراء الأعمال التحليلية السابقة، هو تعريفٌ يحمل في طياته اختيارا سياسيا، وبالتالي أنه وثيق الصلة بأحكام القيمة التي تسند هذا الاختيار، وذلك بالرغم من أن صيغته تتميز بالحياد ولا تتضمن أية إحالة إلى مضمون القواعد المعيارية أو إلى القيم الأخلاقية والإيديولوجية التي يمكن أن ينطوي عليها ذلك المضمون، فإن سكاربيلي يعتبر أن أقوم سبيل لإسناد النزعة الوضعية لا يتمثل في إخفاء الاختيار السياسي المحايث لها، بل في كشفه وإبرازه والدفاع عنه بحجج من طبيعته. ولهذا السبب يخصص سكاربيلي خاتمة كتابه، وهي من حيث الحجم أطول من أغلب فصول الكتاب، لبيان الدواعي والشروط التي تفضي إلى القبول والتشبث بالاختيار السياسي المحايث للنزعة الوضعية القانونية[16].

خلاصات:

عرضنا، في الفقرات السابقة، مجموعةً من أهم التصورات التي ارتبطت بمفهوم الوضعية القانونية. وقد كان غرضنا من ذلك هو أن نُبيِّن أن مفهوم الوضعية القانونية هو من جنس المفاهيم التي تحمل مضامين متغيرة، وبالتالي أن استعماله من دون تحديد أو تدقيق يقود إلى أشكال مختلفة من سوء الفهم. فليس من السهل بتاتا الحسم في كون هذا المفكر أو ذاك ينتمي قطعاً إلى نزعة الوضعية القانونية، أو القول إن هذه الفكرة أو تلك تشكل يقيناً جزءاً لا يتجزأ من مضمون هذه النزعة؛ بل إن كبار ممثلي هذه النزعة أنفسهم لا يعترفون دائما لبعضهم البعض بالانتماء لنفس التوجه النظري، طالما أن البعض منهم يميزون الوضعية القانونية بعنصرٍ يعتبرونه ركنها الركين، بينما يميزها البعض الآخر بعنصر مختلف ينظرون إليه بوصفه علامتها الفارقة. يقول أحد الباحثين بهذا الصدد[17]:

«Kelsen défend la thèse d"une science du droit distincte des sciences de la nature, une science dont les assertions sont normatives. Ross par contre défend celle d"une science empirique dont les assertions sont à l"indicatif. En fin de compte, des assertions à l"indicatif futur. Selon Kelsen, le droit est un ensemble de normes. Selon Ross, le droit est, en réalité, un ensemble de faits sociaux. Ross refuse à Kelsen le statut de positiviste. Il écrit que Kelsen est un "quasi-positiviste". Hart considère Ross comme un "réaliste" et rapproche sa théorie de celle des réalistes américains (…). Ross pense que le positivisme de Hart et le sien sont semblables…»

هذا التباين الواسع في وجهات النظر هو ما قاد واحدا من أبرز منظري نزعة الوضعية القانونية، وهو نوربيرطو بوبيو الذي أشرنا سابقا إلى تمييزه داخل هذه النزعة بين المنهج والنظرية والإيديولوجيا، إلى قول ما يلي[18]:

«Je crois que la manière la plus sage de répondre à la question de savoir si tel auteur est jusnaturaliste ou positiviste est de hocher la tête, en disant… cela dépend. Cela dépend du point de vue que l"on adopte pour en juger. Il peut arriver que l"on soit positiviste d"un certain point de vue, et jusnaturaliste d"un autre. J"invoquerai, pour ce qu"il vaut, et à titre d"exemple, mon cas personnel ; sur le plan de l"idéologie où aucune tergiversation n"est possible, je suis jusnaturaliste. Sur le plan de la méthode, je suis un positiviste avec autant de conviction. Enfin, sur le plan de la théorie du droit, je ne suis ni l"un ni l"autre»

تبين هذه الشهادة جملة من المسائل المهمة؛ فهي من جهة تثير الانتباه إلى ضرورة تفادي التعميم وعدم الخلط بين مستويات متمايزة؛ ثم إنها من جهة أخرى توضح أن إدماج بعض الدعاوى ضمن مفهوم الوضعية القانونية لا يمثل مقتضى منطقيا ضروريا. لكن أهم ما تبرزه هو المآل الذي صارت إليه نزعة الوضعية القانونية بعد بضعة عقود من النقاش في خضم سياق سياسي وقانوني حمل معطيات وأحداث خلفت أثرا قويا في الوعي الغربي بشكل عام. وهذا ما يقودنا إلى غرضنا الأساسي مما عرضناه سابقا. إن ما كان يعنينا بالأساس هو إثارة موضوع يكتسي في نظرنا أهمية بالغة بالنظر إلى موضوع علاقة القانون بكل من الفلسفة والأخلاق، وهو أن تطور استعمال مفهوم الوضعية القانونية يكشف عن معطيات حاسمة فيما يتعلق بمفهوم العقل الذي يمثل رهان كل النقاشات النظرية والعملية على حد سواء.

لقد بينا أن مفهوم الوضعية القانونية قد ارتبط بتصورات شديدة التباين. ويمكن القول إجمالا إن التطور الذي عرفه هذا المفهوم قد انتقل به من لحظة تأسيسية رام فيها هانز كيلزن أن يجعل من القانون موضوعا لنظرية علمية بعدما كان قد ظل لقرون عديدة موضوعا فلسفيا بامتياز، إلى لحظة حصل فيها وعي قوي بحدود المقاربة العلمية في صيغتها الكلاسيكية التي ظلت مشدودة إلى مقولات الموضوعية والدقة في صورتها المتعارف عليها إلى حدود مطلع القرن العشرين. وقد اتخذ هذا التحول مسارا تدريجيا، وذلك بالانتقال بدايةً من نموذج "النظرية الخالصة للقانون" بكل ادعاءاتها الكبرى إلى نماذجَ نظريةٍ تحلَّت بقدرٍ غير يسير من التواضع تجلى في توجهها نحو تحليل وتفكيك شبكة الدعاوى التي ارتبطت تاريخيا بنزعة الوضعية القانونية من أجل تمييز ما هو مقبول منها وفصله عما ليس مقبولا؛ ثم انتهاءً باعتراف بعض أنصار هذه النزعة، اعترافاً صريحاً، بما تنطوي عليه هذه النزعة من أحكام قيمة ذات طبيعة سياسية وأخلاقية. وبالنسبة إلينا، فإن الدرس الكبير الذي يجب أن يُستفاد من هذا المسار من التراكم النظري التدريجي لا يتعلق بالقانون فقط، بل يرتبط أساسا بنموذج العلم والعقل الذي تنشده الإنسانية بشكل عام. إن ما كشفه هذا المسار هو تبخر حُلْم إنشاء علم وصفي للقانون يتميز بالموضوعية الكاملة؛ وبعبارة أخرى، فإن مشروع علم محايد بخصوص القانون قد تمخض في نهاية المطاف عن خطاب مشبع بالإيديولوجيا. وعندما نقول إن هذا المآل لا يهم القانون وحده، فإننا نقصد بذلك أن الفلسفة معنية بدورها، بل ربما جاز أن نقول إنها معنية أكثر من غيرها، بكل النتائج "الثقيلة" التي أفرزها المآل المُشار إليه. ومن أجل تحديد قصدنا تحديدا أدق، فإننا سنوظف مرة أخرى بعض ما ورد في المُؤلَّف الذي نحن بصدد قراءته بخصوص علاقة الفلسفة بالقانون.

يعتبر المؤلِّف أن القانون شكّل، عبر تاريخ الفلسفة، "جزءاً لا يتجزأ من الثقافة الفلسفية" (ص. 9)، على أساس أن كبار الفلاسفة (مثل أفلاطون وأرسطو في القديم، أو هيوم ولوك في الفلسفة الإنجليزية أو كانط وهيغل في التنوير الألماني) قد ساهموا بدورهم في المجال القانوني إلى غاية القرن العشرين الذي تراجع فيه "الجمع بين الفلسفة والقانون" (ص. 10)؛ ويخلُص، بعد تسجيل الهوة العميقة التي أصبحت "تفصل الفلسفة المعاصرة عن تاريخ الفلسفة"، إلى القول إنه "إذا ما كانت الحداثة موضةَ العصرِ وتحظى اليوم باعتبارٍ كبيرٍ فالسّبب في ذلك بسيط، وهو أنّها ضمّت قضايا السياسة والقانون إلى صلب اهتماماتها" (ص. 10).

لا يطرح هذا القولُ مشكلاً واضحاً على ما يبدو للوهلة الأولى، إذ أنه يقرر معطىً أساسيا يعرفه كل قارئ لتاريخ الفلسفة؛ وفضلا عن ذلك، فهو يقرر هذا المعطى في صيغةٍ عامة لا تثير اعتراضات كبرى. غير أنه إذا نظرنا في الأمر، أولاً، من زاوية دعوة المؤلف إلى استئناف صلة الفلسفة بالمرجعيات القانونية؛ ونظرنا فيه، ثانيا، من زاويةٍ لا تقف عند عموم العبارة، بل تطمح إلى الإمساك بمعناها الدقيق ودلالتها الـمُحدَّدة، فإن مشكلاتٍ كثيرة ما تلبث أن تظهر بشكلٍ بارز. كيف ذلك؟

لنطرح أولاً الأسئلة التالية: بأي معنىً كان القانون، إلى حدود مطلع القرن العشرين، جزءاً من الفلسفة؟ كيف وبأيّ صورة ساهم الفلاسفة بدورهم في المجال القانوني؟ كيف تَمَّ الجمع بين الفلسفة والقانون إلى حدود العصر الحديث؟ وإذا كانت الحداثة الفلسفية قد تميزت بكونها "ضمت قضايا السياسة والقانون إلى صلب اهتماماتها"، ألا يجب التساؤل بهذا الصدد عن الطريقة التي حصل بها ذلك الضّم، وعن الزاوية التي تحقق من خلالها ذلك الاهتمام؟ ثمّ، لماذا ظهرت هوة عميقة بين الفلسفة المعاصرة من جهةٍ، وبين تاريخ الفلسفة من جهة أخرى، بالرغم من أن هذا الأخير قد "حفل بمساهماتٍ فلسفية غير مسبوقة في نظريات العقد الاجتماعي والدولة والسياسة وفلسفة القانون"؟

إننا نطرح هذه الأسئلة للقول إنه لا يكفي التذكير بالدور الذي اضطلعت به الفلسفة تاريخيا في مجال القانون حتى يصبح استئنافُ صلةِ الفلسفة بالقانون أمراً قابلاً للتحقيق ومشروعا في نفس الوقت. فربما كانت طبيعة ذلك الدور هو بالتحديد -أو بالأساس- ما أفضى في القرن العشرين إلى النظر بنوعٍ من التوجّسِ وعدمِ الرّضا إلى استمرار انشغال الفلسفة بالقانون. وحتى لا يظل كلامنا تخمينيا ومجردا، فإننا نشير إلى معطيين من شأنهما توضيح هذا الأمر بشكل أفضل.

لقد رأينا سابقا أن التفكير في القانون، بوصفه موضوعاً للمعرفة، قد شهد مع مطلع القرن العشرين تحولاً أساسياً انتقل به من إطار فلسفة القانون إلى إطار نظرية القانون. وقد كان هذا التحول إيذاناً بقطعِ الصّلةِ مع طريقةٍ في تناول القانون عمّرت لقرونٍ طويلة، لأنه رام السّمو بالمعرفة القانونية إلى مستوىً تتخذُ فيه هيئةَ "نظريةٍ علمية". وإذا كان من المؤكد أن الطموح إلى إضفاء العلمية والموضوعية على مبحث القانون، كما يشهد على ذلك مؤلَّف "النظرية الخالصة للقانون" الذي وضعه هانز كيلزن، قد اندرج بالأساس ضمن ما يُعرَف بالنزعة الوضعية، فإن هذه النزعة لا تمثل السبب الوحيد لإقصاء الفلسفة من مجال القانون، بل يوجد سبب آخر، وربما كان هو السبب العميق الذي لعب دوراً حاسما بهذا الصدد. وهذا ما يقودنا إلى المعطى الثاني الذي يكشف، في نظرنا، جذر المشكل فيما يتعلق بصلة الفلسفة بالقانون.

لنقرأ هذا الحكم القاسي الذي أصدره ميشال فيللي (Michel Villey) بخصوص مساهمة كبار الفلاسفة المحدثين في مجال القانون[19]:

«Je suis persuadé pour ma part qu"à nous, juristes, les philosophes modernes ont fait beaucoup de mal. Je le dirai aussi bien de Hobbes, Locke, Hume et même de Leibniz, Kant, Fichte, Hegel et la quasi-totalité des philosophes du XIXème et XXème siècle. Quand il leur arrive de parler "droit", c"est dans une totale ignorance du métier spécifique du droit (…). Leur influence a perturbé notre propre présentation du phénomène juridique, y injectant les positivismes légaliste ou sociologique»

إن أهمية هذه الشهادة تكمن في أن صاحبها لم يكن أبدا معاديا للفلسفة (وهو الذي ظل طيلة حياته ينافح عن ضرورة إرجاع فلسفة القانون إلى البرامج التعليمية الجامعية في كليات الحقوق بفرنسا)، وأنه من غير الممكن بتاتا اتهامه بمناصرة أطروحات النزعة الوضعية القانونية (وهو الذي كان خصما شرسا في مواجهتها إلى درجة أن اسمه قد ارتبط بواحدة من أقوى صور الاتجاه اللا-الوضعي الذي شهد نموا متصاعدا خلال النصف الثاني من القرن المنصرم). ماذا يعني ذلك؟

يمكننا أن نقدم جوابنا عن هذا السؤال من خلال الرجوع أولا إلى شهادة ميشال فيللي التي أوردناها في المقطع أعلاه. فمن الواضح أن الكلام فيها ينصب على "الفلاسفة المحدثين" بالأساس. وما يؤكد ذلك هو أن صاحب هذا الحكم القاسي قد عُرِف بإحياء مقولة الحق الطبيعي من خلال توظيف جوانب من فكر طوما الأكويني، وبالخصوص من خلال استعادة نموذج الجدل الأرسطي[20]. لا يسعنا في هذا المقام الوقوف على المعنى الخاص الذي يتخذه الحق الطبيعي عند ميشال فيللي[21]، إذ غرضنا بالأساس هو أن نُبيِّن أن "تمرد" أهل القانون على الفلسفة لا يرجع دائماً إلى موقفٍ معارضٍ يُنكر بشكل مبدئي ونهائي حقَّ الفلسفة في المساهمة بدورها في المجال القانوني[22]. إن الاعتراض لا يتعلق في الواقع إلا بنوعٍ مخصوصٍ من الفلسفة، ونقصد تحديداً كلَّ فلسفةٍ تُقدِّم نفسها بوصفها نسقاً عقلياً قادراً، بصورةٍ قبلية، على استنباط المبادئ الضرورية والكونية المؤسسة للقانون. إن ما يرفضه أهل القانون بالأساس هو ادعاء الفلسفةِ القدرةَ على صياغة قانون مثالي يعلو فوق القوانين الوضعية، وعلى وضع معياريةٍ قانونيةٍ مطلقة تُحدِّد المبادئَ وتَحكُم الممارسةَ على السواء. ومن المؤكد أن هذا الادعاء قد طبع أغلب الفلسفات عبر التاريخ، وقد طبع بالخصوص الفلسفات الحديثة التي قامت في مجملها على تَصَوُّرٍ إطلاقي للعقل. لا يكفي إذن، من أجل استئناف صلة الفلسفة بالقانون، أن نُذكِّر باهتمام الفلاسفة عبر العصور بمسألة القانون. بل إن المطلوب هو فحص ونقد تلك الطريقة التي هيمنت على أغلب الفلاسفة في تناولهم لموضوع القانون، والمتمثلة في اشتقاق القانون واستنباطه قبليا من نسق عقلي عام. وتجدر الإشارة إلى أن هذا المطلب ينطوي على نقدٍ عميقٍ لا يَنْصَبُّ على علاقة الفلسفة بالقانون فقط، بل يتعلق في حقيقة الأمر بهوية الفلسفة ذاتها وبنمط العقلانية الذي يمكن لها أن تنشده في سياقٍ فكريٍّ جديدٍ من قبيل سياق العصر الذي نعيش فيه. وإذا كان من نافل القول التذكيرُ بالمراجعات النقدية الهائلة التي شرعت منذ نهاية القرن التاسع عشر، من داخل الحقل الفلسفي ذاته، في إعادة النظر بخصوص الطموحات التأسيسية التي حرّكت مشروع الحداثة الفلسفية، فإن ما يجدر الانتباه إليه في سياق هذه المراجعات هو أن قطاعاً واسعاً من الفلاسفة أنفسهم قد انتهى بهم الأمر إلى إعلان نهاية الفلسفة بوصفها حكمة، أو على الأقل إلى اختزالها في فعالية نقدية، شأنُـها أن تفيد في فحص ما يُبنى من معارف وليس أن تساهم في بناء مضامين تلك المعارف. وهذا يعني أن إقصاء الفلسفة لا يهم مجال القانون حصراً، بل هو إقصاءٌ شامل أفضى أو كاد أن يفضي حتى داخل الفلسفة إلى إفراغها من هويتها التاريخية، وإلى انتكاس مسعاها العقلاني في المجالات العملية المختلفة (الأخلاق، السياسة، إلخ).

إن هذا يعني أن مشكلة العلمية في القانون ومشكلة العقلانية في الفلسفة تمثلان وجهين لعملة واحدة. فما كان يفتقد إليه القانون هو نموذج نظري قادر على تحقيق "العلمية" من دون السقوط في "أحلام" الوصف الموضوعي والمُحايد، أي نموذج نظري من شأنه أن يتيح بناء خطاب علمي دون طمس خصوصية مجال القانون الذي يحفل بأحكام قيمة ذات طابع سياسي وأخلاقي وإيديولوجي بشكل عام؛ وما كانت تفتقد إليه الفلسفة -في الغالب الأعم- هو نموذج نظري قادر على تحقيق "العقلانية" من دون السقوط في "أوهام" التأسيس المطلق، أي نموذج نظري يُوسِّع مفهومي العقل والمنطق ليغدوا قادرين على بناء معرفة بخصوص المجالات العملية بوصفها مجالات للرأي الراجح وليس الحقيقة اليقينية. وفي نظرنا، فإن هذا النموذج النظري هو ما حاولت فلسفات مختلفة أن تبلوره، منذ السنوات الأولى من النصف الثاني من القرن الميلادي العشرين، تحت أسماءٍ مختلفة يمكن ردها جميعا إلى ما يعرف بالمنعطف البراغماتي عموما، وبالمدارس الـتأويلية والتواصلية والحجاجي خصوصا. لقد كانت الغاية من هذه السلسة من المنعطفات الفكرية هي تطوير فهمنا للغة وتوسيع تصورنا عن المنطق حتى يصبح بإمكان النظر العقلي أن يشمل مجالاتٍ استعصت إلى ذلك الحين عن الدخول تحت المقولات التقليدية للعلم والمنطق الكلاسيكيين. وتجدر الإشارة أن الرواد الذين ساهموا في إحداث انعطافات حاسمة في الفكر المعاصر ما كان لهم أن يحدثوا ما أحدثوه من خلخلة للمفاهيم والتصورات الفلسفية والمنطقية لو لم يعملوا على استثمار مادة الحقول العملية المختلفة من قبيل القانون والاقتصاد والسياسية والأخلاق. لكن تجدر الإشارة في نفس الوقت أن "الثورة" الفكرية الهائلة التي تمخضت عنها مشاريعهم في تجديد مشروع العقلانية الفلسفية عن طريق فتح النظر الفلسفي على مجال العمل الإنساني والاجتماعي قد أفضت بدورها إلى إحداث تحولات عميقة في شبكة المفاهيم وبنية الخطابات التي هيمنت لعقود داخل حقل "الإنسانيات".

وإجمالاً نقول إن كتاب "ثقافة الاحتجاج بين الفلسفة والقانون" لمؤلفه الأستاذ عز العرب لحكيم بناني يكتسي في نظرنا أهمية خاصة في سياق الدرس الفلسفي المغربي حالياً، وذلك من حيث أنه يؤشر على تعمق الوعي بضرورة انخراط الفكر الفلسفي في النقاشات المتعددة التخصصات وكذا في أخذ القضايا المجتمعية على محمل الجد. ومُقتضى هذا الانخراط يتمثل في نظر الأستاذ بناني في مطلبين لا يمكن الفصل بينهما: مطلب الإحاطة بالمكتسبات الرئيسية للحقول المعرفية الأخرى (قانون، سياسة، الخ) ومطلب تقديم إسهامات أصيلة من شأنها أن تسهم في إغناء النقاش بوجهات نظر جديدة وكذا في تجاوز محدودية المقاربات التقنية التي تُوظَّف في إطار التخصصات المختلفة. وإذا كان الأستاذ بناني، كما تشهد على ذلك مداخلاته ومقالاته في السنوات الأخيرة، قد انخرط شخصياً وبشكلٍ لافت للنظر في حوار فكري جمعه مع العديد من أساتذة القانون والفاعلين الحقوقيين، فإن ما نود أن نثير الانتباه إليه هو أنه قد حرص أيضاً على توجيه العديد من طلبته للبحث في قضايا وإشكاليات معاصرة اقتضت منهم أن ينخرطوا بدورهم في الرهانات العملية للفلسفة بأشكالها وصورها المختلفة. ونذْكُر في هذا الإطار، على سبيل المثال لا الحصر، إشرافَه على أطروحتنا للدكتوراه حول ما أسميناه "المنعطف الحجاجي في الفلسفة والقانون"[23]. وقد تناولنا في تلك الأطروحة أعمال خاييم بيرلمان التي أسهمت كثيراً في تجديد النظر المنطقي ومشروع العقلانية الفسلفية[24]، لكنها أسهمت أيضا وبنفس القوة في تطوير نظرية القانون ومنطق الاستدلال القانوني والقضائي كما تشهد على ذلك مؤلفاته في الموضوع[25] أو المنشورات العديدة التي تمخض عنها مشروعه الجماعي الضخم[26] الذي استمر حوالي ثلاثة عقود وجمع فيه كبار دارسي وفقهاء القانون بتخصصاته المختلفة[27]. وإذْ نشير إلى هذا العَلَم الكبير، فإن قصدنا هو القول إن مدرسته تمثل في نظرنا نموذجا ساطعا لما يمكن أن يكون عليه الحوار الحقيقي والمثمر بين الفلسفة والقانون[28]: فهي أولاً نموذج لفلسفيةٍ أخذت على عاتقها البدء بتحصيل معرفة دقيقة بالقانون إلى درجة أن ميشال فيللي، الذي أشرنا سابقا إلى موقفه الصارم من الفلاسفة الذين انشغلوا بالقانون، قد عَدَّ بيرلمان حالةً تكاد تكون فريدة في هذا الشأن[29]؛ وهي ثانياً نموذج لفلسفيةٍ لا تكتفي بتطبيق معاييرها القبلية على المجالات التي تنفتح عليها، بل تنطلق من هذه المجالات وتستفيد منها في بناء أدواتها ومفاهيمها[30]؛ وهي أخيراً نموذج لعقلانية منفتحة استطاعت أن تبني تصوراً مُوَسَّعاً عن العقل والمنطق بحيث يمكن القول إنها تمثل بالتحديد نوع الفلسفة التي يحتاج إليه القرن 21 الميلادي[31]، أي فلسفة قادرةٌ على مواكبة طموح المجتمعات المعاصرة إلى مزيد من الحرية والعدالة والكرامة الإنسانية، وإلى إيجاد حلول لمشكلاتها العملية عن طريق التشاور والحوار وغيرها من الآليات الديمقراطية.


 

[1] Hans Kelsen, théorie pure du droit, traduction française de la deuxième édition de la Reine Rechtslehre par Charles Eisenmann, Bruylant L.G.D.J, 1999

[2] Préface de la première édition, Ibid. p. 3

[3] Titre premier: Droit et nature (1. La pureté), Ibid. p. 9

[4] Titre premier: Droit et nature (4. La norme), Ibid. p. 13

[5] Titre II: Droit et morale, Ibid. p. 70

[6] Ibid. p. 74

[7] Ibid. p. 76

[8] Titre III: Droit et science (16. Norme juridique et proposition de droit), Ibid. pp. 78-82

[9] Titre V: Dynamique du droit (34. Le fondement de la validité des ordres normatifs: la norme fondamentale), Ibid. pp. 193-223

[10] Titre VIII: L’interprétation, Ibid. pp. 335-342

[11] H.L.A. Hart, «Positivism and the separation of Law and morals», Harvard Law Review, vol. 71, 1958, pp. 593-630, repris in Essays in Jurisprudence and Philosophy, Oxford, Clarendon Press, 1983, pp. 49-87. Pour la traduction française des sections II à V, cf. «Le positivisme et la séparation du droit et de la morale», dans Philosophie du droit – Norme, validité et interprétation, Textes réunis et présentés par Christophe Béal, Paris, Vrin, 2015, pp. 193-227.

[12] M. A. Cattaneo, Il positivismo giuridico inglese – Hobbes, bentham, Austin, Milano 1962, chap. 1 (cité par Uberto Scarpelli dans Qu’est-ce que le positivisme juridique?, traduction française par Collette Clavreul, Bruylant L.G.D.J, 1996, p. 14).

[13] Norberto Bobbio, Essais de théorie du droit, traduction française par Michel Guéret avec la collaboration de Christophe Agostini, Bruylant L.G.D.J, 1998 (chapitre 1: «Sur le positivisme juridique», pp. 23-38).

[14] Uberto Scarpelli, Op. Cit. pp. 19-20

[15] Cf. Chapitre XII «Le juspositivisme comme technique politique – Droit et morale», Ibid. pp. 83-88

[16] Ibid. pp. 89-101.

[17] J. Miedzianagora, Philosophies positivistes du droit et droit positif, Préface de Michel Villey, L.G.D.J, 1970, pp. 182-183.

[18] Norberto Bobbio, «Jusnaturalisme et positivisme juridique», Op. Cit., p. 52-53

[19] Chaïm Perelman, Le Raisonnable et le déraisonnable en droit, Au-delà du positivisme juridique, Préface de Michel Villey, Paris, L.G.D.J, 1984, p. 8. Cf. également sa critique de la philosophie du droit de Hegel: «La philosophie du droit de Hegel est-elle une philosophie du droit?», Revue européenne des sciences sociales, T. 18, N° 52, pp. 123-126, et sa critique de la philosophie du droit de Kant: «La Rechtslehre de Kant», in Critique de la pensée juridique moderne – Douze autres essais, Dalloz, 2009

[20] Sur ce point, cf. surtout son ouvrage Philosophie du droit (T. II: Les moyens du droit), Dalloz, 1979

[21] Cf. Stéphane Rials, Villey et les idoles. Petite introduction à la philosophie du droit de Michel Villey, PUF, Quadrige, 2000, Jean-François Niort, Guillaume Vannier (éds.), Michel Villey et le droit naturel en question, Paris, L’Harmattan, 1994

[22] Michel villey, «Théories générales du droit et philosophie», in Critique de la pensée juridique moderne – Douze autres essais, Dalloz, 2009, pp. 219-234

[23] Le tournant argumentatif en philosophie et en droit, thèse de doctorat soutenue le 29 Juillet 2015 à la Faculté des lettres et des sciences humaines (Université Sidi Mohammed ben Abdellah – Fès), devant un jury composé de: Pr. Mohammed Chilh (Juriste), Pr. Mohammed Guessous (linguiste), Pr. Chakib Tazi (sémioticien), Pr. Hassan Elbahi (logicien) et Pr. Lahkim Bennani (Philosophe).

انظر ملخص أطروحتنا في: د. محمد شيلح، تقنيات الميتودولوجيا القانونية الموجهة للفكر القانوني النظري و/أو العملي، دار نشر المعرفة، منشورات مجلة القضاء المدني، سلسة "دراسات وأبحاث"، عدد 13، 2017، الصفحات من 147 إلى 184. (أنتهز هذه المناسبة لأشكر جزيل الشكر العلامة محمد شيلح على تفضله بالتعريف بعملنا من خلال تقديم وصف لأهم مضامينه في أزيد من 30 صفحة من كتابه المذكور).

[24] Rhétorique et philosophie, En collaboration avec L. Olbrechts-Tyeca, Paris, Préface (inachevée) d’Émile Bréhier, Presses Universitaires de France, 1952; Traité de l’argumentationLa nouvelle rhétorique, En collaboration avec L. Olbrechts-Tyeca, Bruxelles, Édition de l’Université de Bruxelles, Troisième édition, 1976 (Première Édition 1958); Le Champ de l’argumentation, Bruxelles, Presse Universitaire de Bruxelles, 1970, L’Empire rhétoriqueRhétorique et argumentation, Paris, Librairie philosophique J. Vrin, Troisième tirage, 1997 (Première édition 1977), Rhétoriques, Avant-propos par Michel Meyer, Bruxelles, Édition de l’Université de Bruxelles, 1989 

[25] Justice et Raison, Bruxelles, Édition de l’Université de Bruxelles, Deuxième édition, 1972 (Première Édition 1963), Droit, morale et philosophie, Préface de Michel Villey, Paris, LGDJ, Deuxième édition, 1976 (Première Édition 1968), Logique juridiqueNouvelle rhétorique, Dalloz, Deuxième édition, 1979 (Première édition 1977), Le Raisonnable et le déraisonnable en droitAu-delà du positivisme juridique, Préface de Michel Villey, Paris, LGDJ, 1984.

[26] Sur ce projet, cf. surtout: P. Foriers, «L’état des recherches de logique juridique en Belgique», in La pensée juridique de Paul Foriers, Vol. II, Bruxelles, 1982, pp. 507-525

[27] Le Fait et le droit, Études publiées par Ch. Perelman, Bruxelles, Bruylant, 1961– Les Antinomies en droit, , Études publiées par Ch. Perelman, Bruxelles, Bruylant, 1965 – Le Problème des lacunes en droit, Études publiées par Ch. Perelman, Bruxelles, Bruylant, 1968 – La Règle de droit, Études publiées par Ch. Perelman, Bruxelles, Bruylant, 1971 – Les Présomptions et les fictions en droit, Études publiées par Ch. Perelman et P. Foriers, Bruxelles, Bruylant, 1974 – La Motivation des décisions de justice, Études publiées par Ch. Perelman et P. Foriers, Bruxelles, Bruylant, 1978 – La Preuve en droit, Études publiées par Ch. Perelman et P. Foriers, Bruxelles, Bruylant, 1981 – Les Notions à contenu variable en droit, Études publiées par Ch. Perelman, Bruxelles, Bruylant, 1984.

[28] يمكن للقارئ أن يقف على فائدة مدرسة بيرلمان بالنسبة إلى إعادة فحص موروثنا الفقهي والأصولي في كتاب: د. حمو النقاري، من أجل تجديد النظر في علم أصول الفقه من خلال منطق القانون، المؤسسة العربية للفكر والإبداع، بيروت، 2017

[29] «Un cas presque unique est celui de Chaïm Perelman: il décida de philosopher sur ce que d’abord il aurait consenti l’effort de connaître: la pratique du droit. Il s’est fait juriste. Presque chaque semaine il travaillait à son Centre de Recherches Logiques en compagnie de praticiens (…). Chaïm Perelman est un philosophe qui, traitant du droit, sait ce dont il parle», Ch. Perelman, Le Raisonnable et le déraisonnable en droit, Au-delà du positivisme juridique, Préface de Michel Villey, Op. Cit., p. 8

[30] Cf. Ch. Perelman, «Ce qu’une réflexion sur le droit peut apporter au philosophe» (1962), in Justice et Raison, Bruxelles, Édition de l’Université de Bruxelles, Deuxième édition, 1972 (Première Édition 1963), pp. 244-255, repris dans Ethique et droit, Introduction Alain Lempreur, Bruxelles, Éditions de l’Université de Bruxelles, Deuxième édition, 2012, pp. 437-449, Cf. également: Ch. Perelman, «Ce que le philosophe peut apprendre par l’étude du droit» (1976), in Droit, morale et philosophie, Préface de Michel Villey, Paris, LGDJ, Deuxième édition, 1976 (Première Édition 1968), pp. 191-202, Ethique et droit, Op. Cit., pp. 450-466

[31] Cf. sur ce point: Mieczysław Maneli, Perelman’s New Rhetoric as Philosophy and Methodology for the Next Century, Springer Science+Business Media Dordrecht, 1994