القرآن والمقاربات الألسنيّة: سورة الفاتحة أنموذجا


فئة :  مقالات

القرآن والمقاربات الألسنيّة: سورة الفاتحة أنموذجا

تعدّ المناهج النقدية الحديثة بوابات تمكّننا من الدخول إلى عوالم النصّ المغلقة لاستقرائها؛ والكشف عن مكنوناتها ومضامينها، وهي على اختلاف مصطلحاتها ومفاهيمها، إلاّ أنّها تمخّضت عن ثورة اللسانيات؛ ومحاولة دراسة اللغة دراسة علمية دقيقة؛ بعيدة عن الذوق والسطحية والتعميم، ومن ثمّة فهي تخضع الظاهرة اللغوية إلى قوانينها. وقد أبانت هذه المناهج منذ ظهورها وتطبيقها من طرف النقّاد العرب عن فاعليتها؛ فلا يمكن أن نقارب نصّا سرديا أو شعريا أو حتّى خطابا سياسيّا أو إشهاريّا دون الرجوع إلى علم السرد والأسلوبيّة والسيميائيّة وحتى التداولية؛ ونظرية التلقّي، باعتبارها مفاتيح تضيء عتمة النص وتظهر فتنته؛ وتكشف عن سرّ هيكله وبنائه. وقد انقسمت هذه المناهج إلى مناهج تهتم بالنص، وأخرى تهتم بالقارئ؛ وتعدّه شريكا أساسيا، سواء في بناء النص؛ باعتباره قارئا ضمنيا؛ أو بمنحه مزيدا من الحياة والتجدّد.

وفضلا عن ذلك، انقسم النقّاد العرب في تعاملهم مع هذه المناهج إلى قسمين: قسم فتح ذراعيه لها؛ وقال بجدواها؛ وطبّقها على النص العربي؛ وانتصر لها؛ وعلى رأسهم الناقد الدكتور عبد المالك مرتاض؛ وعبد الله الغذامي، وقسم آخر رأى بأنّها مجرّد محاولة لعلمنة الإجراء النقدي؛ تخفي النص وتقطّع أوصاله؛ بل وتصبّه في قوالب لا تليق به، وليست على مقاسه.

ويعتقد أصحاب الرأي الأول أنّه لا ضير من استقدام مناهج غربية وتهجينها؛ حفاظا على خصوصية النص؛ ثم تطبيقها على النص العربي؛ إذ إنّه لابد من مواكبة الحداثة؛ وعدم ممارسة القطيعة مع فكر الآخر وفلسفته؛ حتى إنّ منهم من يعتقد بأنّ هناك الكثير من الإشارات والبذور لهذه المناهج في تراثنا النقدي، غير أنّها لم تستثمر وبقيت حبيسة الكتب، بينما يعتقد أصحاب الرأي الثاني؛ أنّ هذه المناهج لم تأت من عبث؛ وليست وليدة الصدفة؛ بل إنّها منبثقة عن فلسفات وخلفيّات معرفية، قد تسيء إلى النصّ، وهي ترتدي مسوح العلمية لتغطي كمّا هائلا من الشوائب التي تظل عالقة بها عند اتصالها بالنص ومباشرتها له، وأن الترسيمات التي يتغنّى بها أصحاب النزعة النقدية الحداثية، ما هي إلا رسوم لم تضئ النص؛ ولم تنره، بل زادت في تغليقه وتعتيمه، بل وأوصدته، وأنّ هذه المناهج ساوت بين النصّ الجيد والرديء، ولم تعر اهتماما للأدبية والجمالية.

هذا ولم يتوقف تطبيق هذه المناهج على المدوّنة الأدبية فقط، بل امتد إلى القرآن والحديث النبوي؛ باعتبارهما نصّا/ مدوّنة، فجامعاتنا اليوم لا تخلو من دراسات تستنطق القرآن أو تعالج بعض قضاياه اللغوية، باستخدام المناهج الغربية الحديثة، حتى إنّ الكثير من الأساتذة والطلبة يلجؤون خاصة في الدراسات العليا أو ما بعد التدرج؛ إلى استخدام القرآن كمدوّنة يطبّقون عليها مختلف النظريات والمناهج التي تلقّوْها خلال سنوات الدراسة الآنفة، باعتبار أنّ المدوّنة الشعرية والنثرية العربية في مجملها مدوّنة مستهلكة، تطرقت إليها جل الدراسات السابقة، فأصبحنا نجد دراسة أسلوبية في سورة مريم، بنية النص في سورة الكهف مقاربة نصية للاتساق والسياق، وغيرها من الدراسات السيميائية والبنيوية. وبتنا نلحظ العديد من المصطلحات تلتصق بكلمة القرآن، فأصبحنا نسمع الكثير من النقاد يقولون الظاهرة القرآنية، والخطاب القرآني، وهو ما أفقد القرآن أو الحديث النبوي هالة القدسية التي لطالما أحاطت به، وأصبح في أعين النقّاد مجرّد مدوّنة أو نصّ صالح للمقاربات النقدية.

إنّ السؤال الذي يطرح نفسه وبقوة هنا، إذا كان العقل النقدي العربي إلى حد الآن عاجزا أمام صنع أو خلق منهج نقدي يتماشى وطبيعة النص العربي وخصوصيته، وإذا كان تطبيق هذه المناهج في كثير من الأحيان يضرّ بالنص، فلم نسمح لأنفسنا بأن يتربّع هذا الدخيل المنهجي ويطال القرآن والحديث النبوي؟، ألا نخاف أن تكون لهذه المناهج خلفية معرفية وفلسفية قد تلقي بثقلها على كاهل هذه المقدّسات، فتنحرف بها عن الدلالة "الصحيحة" التي تحتويها؟. في هذا المقال، سنحاول أن نتطرق إلى بعض المقاربات التي تناولت القرآن، وطبّقت عليه المناهج النقدية الغربية، ولكن علينا أوّلا أن نطرح السؤال: هل القرآن نصّ أم هو قرآن فقط؟.

نصّيّة القرآن: 

جاءت في القرآن نفسه تسميات عدّة: 

1/ الكتاب: في الآية: (حم * وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ) [1].

2/ الفرقان: في الآية: (تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَىٰ عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا) [2].

3/ الذّكر: في الآية: (وَهَٰذَا ذِكْرٌ مُّبَارَكٌ أَنزَلْنَاهُ ۚ أَفَأَنتُمْ لَهُ مُنكِرُونَ) [3].

4/ النّور: في الآية: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُم بُرْهَانٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَأَنزَلْنَا إِلَيْكُمْ نُورًا مُّبِينًا) [4]

5/ التّنزيل: في الآية: (وَإِنَّهُ لَتَنزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ) [5].

هذا ويذكر الجابري في كتابه "مدخل للقرآن الكريم"، أنّ هناك آراء تقول بأن القرآن من القرء؛ وهو الجمع؛ حيث إنّ سور القرآن جمعت بعضها إلى بعض، كما أنّ بعضهم يرى بأنه سمّي قرآنا؛ لأن القارئ يظهره ويبيّنه، وهي أقوال رأى الجابري أنها بعيدة كل البعد عن المعنى الحقيقي لكلمة القرآن: "فالقرآن لغة من قرأ يقرأ قراءة وقرآنا، مثل رجح رجحانا وغفر غفرانا...إلخ، وهذا ما تزكّيه أول آية نزلت (اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ) [6] ...أضف إلى ذلك قوله تعالى: (لَا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ (16 إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ ( 17)  فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ  ( 18) ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ ( 19)) [7] وبهذا الاعتبار يكون لفظ "القرآن" عندما يراد به ما بين دفّتيْ المصحف، موازنا لمصطلحي القراءة والتلاوة؛ عندما يراد بهما محتوى مقروء الكتاب الذي يقرأ فيه الأطفال القراءة" [8].

هذا وقد تتبع الجابري الأسماء التي أطلقت على القرآن أوّلا بأوّل، معتمدا على ترتيب النزول، فكان الذكر ثم الحديث ثم القرآن ثم الكتاب، وذكر بأنّه سمّي حديثا بمعنى القص وضرب المثل. أما لفظ القرآن، فهو مرتبط بالوحي، ومرتبط أيضا بكثرة السور، ولمّا لم يعد المقروء مقروءا، وصار يكتب في ما تيسّر من سعف النخل وقطع الجلد وغيرها سمّي بالكتاب [9].

ومن ثم لم يصح في القرآن أن أطلق عليه تسمية النص، إلا مع موجة القراءات الحديثة، مثل قراءة محمد أركون، ونصر حامد أبو زيد، وأدونيس وأحمد خلف الله وغيرهم، حيث جرى تعويض لفظ "القرآن" و"الآية" بمصطلحات أخرى مثل المدونة النصية والمنطوقة اللغوية، ويرجع سبب ذلك بحسب أركون "إلى ما تحمله تلك المصطلحات الأصيلة من شحنات لاهوتية، تقف حاجزا أمام الدراسات النقدية قصد الحصول على أكبر مستوى من التجرد والحياد" [10].

أما بالنسبة إلى تعريف أركون للقرآن، فإنه يمكننا أن نستشفه، وهو يتحدّث عن سورة الفاتحة، من قوله: "النص الذي نريد قراءته قصير نسبيا، وهو يشكّل جزءا من نص أكبر وأكثر اتساعا كان نقل إلينا تحت اسم القرآن. من الناحية الألسنية أو اللغوية يمكن أقول بأن القرآن عبارة عن مدوّنة منتهية، ومفتوحة من العبارات أو المنطوقات المكتوبة باللغة العربية" [11]، ومن ثمة، فمحمد أركون يعتبر أنّ القرآن نصّ أو مدوّنة، ويرفض أن يلحق بتعريفه مصطلحات قد تحمل بالنسبة إليه خلفيات لاهوتية.

مقارنة بين قراءة أركون وقراءة عبد الله خضر حمد

لا يمكننا أن نجزم بجدّية القراءات الألسنية التي تناولت القرآن، دون أن نتطرّق إلى بعض النماذج التي قاربته والنتائج التي خلصت إليها، وقد اخترنا أن نقارن بين كلّ من قراءة أركون الألسنية وقراءة عبد الله خضر حمد، من خلال مقاربتهما لسورة الفاتحة، حيث إنّ كلا منهما اعتمد على مناهج معاصرة في قراءته، فأركون وظّف الألسنية؛ بينما حاول الدكتور عبد الله خضر أن يستنطق القرآن من خلال تعرّضه لظاهرة العدول، وهي ظاهرة أسلوبية.

مقاربة محمد أركون الألسنيّة لسورة الفاتحة: 

يفتتح محمد أركون قراءته الألسنية بدراسة ما سمّاه "المحددات أو المعرّفات من أدوات تعريف وتنكير وصفات وضمائر، ثم النظام الفعلي، ثم النظام الاسمي ثم البنى النحوية وأخيرا النظم والإيقاع" [12]، ونحن هنا سنتتبع دراسة أركون لنقارنها بدراسة الدكتور عبد الله خضر محمد، لنكتشف إلى أي مدى يمكن للقراءة الألسنية أن تقارب النص القرآني، وهل الإشكالية إشكالية منهج أم إشكالية تطبيق؟ خاصة وأنّ أركون ألزم نفسه بأنّ الهدف من هذه الدراسة ليس الكشف عن المعايير النحوية للغة العربية، بقدر ما هو فهم خيارات المتكلم وسبب اختياره لكلمة دون غيرها لفهم المعنى المقصود من قبل المتكلم، حيث إنّ التحديد الصارم لصيغ الخطاب يعني الاقتراب من المعنى أو مقصد الناطق/ المتكلم [13].

الأسماء في سورة الفاتحة

يرى أركون أنّ جميع الأسماء؛ سواء كانت مصادر؛ أو أسماء فاعل؛ أو مفعول به؛ أو صفات، محدّدة بوسيط تعريفي؛ إمّا بـ (ال) أو (كلمة)، وهذا يعني أنّ كل ما يتحدث عنه المتكلم معروف؛ أو قابل للمعرفة، كما أنّ كل الأسماء الأخرى، مسبوقة بكلمة الله، أو مقادة من قبلها، باستثناء (الحمد؛ الصراط، والمغضوب عليهم، والضالين). وهو ما يمنح مركزية لكلمة الله [14]، كما تطرق إلى كون أداة التعريف لها وظيفة التصنيف في التراكيب اللغوية، وضرب أمثلة منها: (الصراط المستقيم، الذين أنعمت عليهم، المغضوب عليهم)، حيث إنّها تدل على مفاهيم أو أشخاص محدّدين بدقة من طرف المتكلم، وقابلين للتحديد من طرف المتلقي [15]، دون أن يشرح أركون الذي ألزم نفسه بالبحث في سبب اختيار كلمة دون غيرها، لماذا لم تأت هذه التراتيب بصيغة النكرة مثلا بدل المعرفة؟ كما يتحدث عن الإضافة قائلا بوجود تفاعل نحوي بين المضاف والمضاف إليه، ففي تعبير (رب العالمين) أو (بسم الله) هناك تفاعل على مستوى المعنى؛ فالمعنى الشاسع لكلمة (رب) أصبحت محددة بكلمة (العالمين) تابعة لها [16].

إنّ أبسط ملاحظة يمكن أن نلاحظها على الطريقة التي قارب بها أركون سورة الفاتحة؛ هي اكتفاؤه بالإشارة إلى بعض النقاط دون تحليلها، أو حتى شرحها للوصول إلى المعنى، الذي قال بأنّه يودّ الوصول إليه في بداية مقاربته الألسنيّة.

الضمائر في سورة الفاتحة

ينتقل الناقد إلى الضمائر، حيث يرى بأنّ تحليلها هو لحظة حاسمة في عملية قراءته لسورة الفاتحة، لأنّها تحيل إلى مؤلف النصّ، حيث لاحظ أركون وجود ضمير زائد، خاص بالشخص الثاني المفرد، مستخدما أداة الفصل (إيا)، بينما المرسل إليه هو الله، الذي يعود بصفته فاعلا في (أنعمت واهدنا)، بينما نجد أنّ الفاعل النحوي المصرح به في (أنعمت) عن ضمير المخاطب (ت) مضمر في (غير المغضوب عليهم)، وليس مصرّحا به، وأرجأ أركون الدروس المستخلصة من هذا التضاد فيما بعدُ، كما رأى أنّ الضمير الآخر المصرّح به، هو نحن في (نعبد ونستعين)، وهو يرى أنّ نحن مرتبطة أوّلا بأنت وهم؛ والمقصود بهم جميع القائلين الحاضرين أثناء التلاوة الطقسية، وكذا القرّاء المحتملين. [17]

هذا ويرى أركون بأنّ هذه الضمائر؛ تطرح عدّة إشكالات أهمّها: عدم وجود أية علامة تدل على مؤلف النص؛ فالارتباط بين أنت/ نحن، تعني الحديث عن أنا متكلّمة ومرسل إليه وحيد. أمّا من الناحية النحوية أو التركيبية، فنمتلك جملة اسمية مبتدأ وخبر، ومن ثمة يوجد عمل موجّه إلى مرسَل الله، وهذا العمل هو الحمد من مرسل، ولكن لا يجب الخلط بين المرسِل والمتكلم، حيث نصل إلى نموذج عاملي يكون فيه الله هو العامل المرسِل للنعم، وهو الذي يستقبل فعل الحمد. أما القائل، فهو العامل الذي ترسل إليه النعم، والذي يرسل فعل الحمد والشكر [18] و"بما أنّ النص يمتلك مثل هذه البنية الملازمة أو المحايثة، فإنّ مسألة المؤلف لا تعود تطرح من خلال المفاهيم المعتادة. أقصد أنها لم تعد تشرط فهم النص كما كانت تفعل حتى الآن. فالنسيج اللغوي للنص يبلغ من الخصوصية حدّ أنّ المؤلف ينبثق من خلاله بشكل من الأشكال، ثم ينبني ويتشكل كلما راحت عملية القول تتطور وتتقدم...يعني أننا لم نعد بحاجة للانطلاق من المسلمات اللاهوتية الدوغمائية لكي نتحدث عن القرآن". [19]

الأفعال في سورة الفاتحة

لاحظ أركون أنّ الأفعال قليلة في سورة الفاتحة بالقياس إلى الضمائر؛ فالفعلان (نعبد ونستعين) المصرّفين في المضارع يدلان على ديمومة الجهد بين متكلم معترف بالضعف، ومخاطب جدير بالعبادة، بينما جاء الفعل (اهدنا) بصيغة الأمر، لا لتضمنه هذه الصيغة؛ وإنما لتوضيح الاسترحام الموجود ضمنيا، في (نعبد ونستعين). أمّا فعل الماضي (أنعمت) فهو يدل على فاعل سيد مستقل [20].

العدول في سورة الفاتحة لعبد الله خضر حمد [21]

في كتابه "العدول في القرآن الكريم" يرى الدكتور عبد الله خضر، "أنّ الدراسات اللغوية الحديثة قد اتخذت من جمل القرآن منطلقا لها في دراسة النص، وذلك للكشف عن العلاقات التركيبية، بغية استثمار لإمكانيات اللغة والأسلوب، في تحقيق التواصل اللغوي، ... وقد شغلت ظاهرة العدول في الجملة القرآنية مشغلا ذا أهمية بارزة لأصحاب الدراسات اللغوية والأسلوبية، فأعطوها بعدا جماليا ودلاليا" [22]، وهو ما حاول الكشف عنه في مقاربته لسورة الفاتحة.

تقديم المتعلقات على المتعلق به: 

"وهو انزياح في مستوى التركيب يتم من خلال تقديم (المتعلقات) على ما تعلقت به من عوامل، وقد يكون سبب تقديمها بكونها مناط اهتمام، وهذا سبب عام تتفرغ منه، وتتصل به أسباب أدقّ، نستدلّ عليها من خلال السياق القرآني، والمتعلقات به، والجار ومجروره، والظرف، والحال، وغير ذلك" [23] ويضرب مثالا عن تقديم المفعول به على الفعل بقوله: "فمن ذلك قوله تعالى (إياك نعبد وإياك نستعين)، فقد قدّم المفعول به إياك على فعل (نعبد/ نستعين)، وسبب ذلك أنّ العبادة والاستعانة مختصّتان بالله تعالى، فلا يعبد أحد غيره ولا يستعان به" [24].

في ضمير الخطاب: من الخطاب إلى الغيبة

يرى الناقد أنّ "موضع الالتفات هو في قوله تعالى: (غير المغضوب عليهم) وكان السياق المتوقع أن يقال: غير الذين غضبت عليهم. كما قال: صراط الذين أنعمت عليهم، لكنّه عدل إلى هذا الأسلوب لفائدة، وهي إظهار التأدّب في الخطاب مع الله وعدم نسبة هذا الغضب إليه، لأنه هو المنعم على البشر بالخلق والهداية وكثير من النعم التي إن عددناها لا نحصيها" [25]، وفي نفس السياق ومن وجهة نظر أسلوبية هناك من يرى أنّ الله أضاف النعمة إليه، وحذف فاعل الغضب، لوجوه منها: أنّ النعمة والعدل والرحمة تغلب الغضب، فأضاف إلى نفسه أكمل الأمرين، وهي طريقة القرآن، كما جاء في قوله تعالى من سورة الجن (وَأَنَّا لَا نَدْرِي أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَن فِي الْأَرْضِ أَمْ أَرَادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَدًا)  [26]، وأن الله تعالى أضاف إليه ما تفرّد به من النعم، وأنّ الغضب على أعدائه؛ فلا يختص به تعالى، بل إنّ ملائكته وأنبياءه ورسله وأولياءه يغضبون لغضبه، كما إنّ في حذف فاعل الغضب مزيدا من الإشعار بالإهانة؛ وتحقير المغضوب عليه؛ وتقزيمه، وعلى العكس في ذكر فاعل النعمة إكرام ورفعة [27].

في ضمير الغيبة: من الغيبة إلى الخطاب

يرى الناقد أنّ "موضع الالتفات هو إيّاك نعبد وإياك نستعين، فقد تحول الكلام إلى الخطاب المتحقق بكاف الخطاب في إياك بعد أن كان بلفظ الغيبة في الحمد لله" [28]، حيث يقول "أنّ التقديم هنا أفاد اختصاص العبادة لله من دون غيره من المخلوقات" [29]، وهو ما يراه بعض النقاد، إذ يعتبرون أنّ في عبارة إياك نعبد وإياك نستعين العديد من الومضات الأسلوبية أهمها: أنّه قدم العبادة على الاستعانة؛ لأنّ المعنى يكون لا نعبد إلاّ إياك، ولا نستعين إلاّ بك، ولأن العبادة حق لله والاستعانة حق للمستعين، حيث إنّ تقديم الوسيلة على المسؤول أدعى إلى الإجابة، كما إنّ في تكرار (إياك) اهتمام وقوة؛ لا يمكن أن يحدث في الحذف. كما أنّ تقديم العبادة على الاستعانة جاءت من باب تقديم الغايات على الوسائل. [30]

موازنة بين القراءتين السابقتين

مقاربة محمّد أركون الألسنية لسورة الفاتحة

العدول في سورة الفاتحة للدكتور عبد الله خضر حمد

1- الهدف من المقاربة: فهم خيارات المتكلم وسبب اختياره لكلمة دون غيرها لفهم المعنى المقصود من قبل المتكلّم.

1- الهدف من القراءة: رصد ظاهرة العدول التركيبي في النص القرآني، واستنطاق دلالتها.

2- المنهج المتبع: البروتوكول الألسني النقدي.

2- المنهج المتبع: الوصفي التطبيقي.

* جميع الأسماء محددة بأداة تعريف/ ما يتحدّث عنه المتكلّم معروف أو قابل للمعرفة.

* تقديم المفعول به (إياك) على الفعل: العبادة والاستعانة مختصان بالله، فلا يعبد أحد غيره ولا يستعان به.

* كل الأسماء الأخرى مسبوقة بكلمة الله/ الله كلمة مركزية

* التفات في قوله: (غير المغضوب عليهم): لإظهار التأدب في الخطاب مع الله.

صرّح بالخطاب لمّا ذكر النعمة في قوله: (صراط الذين أنعمت عليهم)، ثم قال: (غير المغضوب عليهم) عطفا على الأول، لأنّ الأول موضع التقرّب من الله بذكر نعمه. فلما صار إلى ذكر الغضب جاء الغضب تحنّنا وتلطفا.

* هناك تفاعل على مستوى الإضافة/ كلمة (ربّ) تحدّدت بكلمة (العالمين)

* التفات: في (إياك نعبد): يفيد اختصاص العبادة لله من دون غيره.

- إظهار كمال العبادة والخضوع لله.

* (ال) التعريفية: لديها وظيفة التصنيف / التحديد.

* الضمائر: تطرح عديد الإشكالات أهمها أنّها لا تحيل إلى مؤلّف النصّ.

* الأفعال: قليلة بالنسبة إلى الضمائر.

* صيغة المضارع تدلّ ديمومة الجهد من أجل سدّ الفجوة الكائنة بين متكلّم يعترف بوضعه كخادم وضعيف، ومخاطب محدّد بكلّ إلحاح بصفته الشريك الأعلى الجديد بالعبادة.

*الفعل الماضي الوحيد يدلّ على حالة حصلت ولا مرجوع عنها ناتجة عن فاعل سيد ومستقل

 

المصطلحات الموظفة: فكر ديني، أيديولوجيا رسمية، أسبقيات لاهوتية، مشروع أنثروبولوجي، قراءة ألسنية، يقينيات دوغمائية.

المصطلحات الموظفة: الجملة القرآنية، إعجاز القرآن، اللغة والأسلوب، القيمة التعبيرية، العدول التركيبي في النص القرآني، التحوّل الأسلوبي، الالتفات.

مستوى القراءة: 

إن سبب الاختلاف في القراءة، منبثق من الهدف وراء كل من القراءتين، فقد كان هدف المفكّر محمد أركون متمثلا في قوله: "إنّ كل دراستي التحليلية وكل جهودي تهدف إلى شق الطريق، وتأمين شروط إمكان وجود فكر إسلامي، نقدي وحرّ. وأقصد بذلك الفكر الذي يطارد كل الاستخدامات الأيديولوجية داخل الفكر الديني، الذي يريد أن يكون منفتحا وحرّا. والآن ربما لم أكن نجحت تماما في مهمّتي هذه، لأني أعرف بسبب ممارستي لعلم الألسنيات أنه ليس هناك خطاب بريء...ولكني مستعد لإدانة المسلمات الأيديولوجية؛ التي تستطيع اكتشافها في بحوثي، ومستعد لإخلائها من أجل التوصّل إلى الهدف الأساسي الذي أبتغيه: أي تحرير الفكر الإسلامي وتحرير الإسلام بصفته دينا؛ من الاستخدامات الإيديولوجية التي تعرض لها في الماضي، والتي هي ملتهبة الآن كما تعرفون في البلدان الإسلامية" [31]، بينما كان هدف الدكتور عبد الله خضر، رصد ظاهرة جمالية في القرآن الكريم؛ لبيان مدى إعجازه اللغوي.

هذا وأعتقد أنّ اختلاف الغاية من وراء ممارسة العمل النقدي؛ يؤدي بالضرورة إلى اختلاف الوسيلة؛ التي تؤدي بالضرورة إلى اختلاف النتائج، فالمفكّر أركون جاء إلى ما يسميه النص القرآني، واضعا نصب عينيه غاية معينة يريد الوصل إليها، وهي تحرير الفكر الإسلامي من المسلمات الإيديولوجية، مستخدما خطابا يقرّ بأنّه غير بريء؛ وهو علم الألسنيات، وتعامل مع القرآن لا بوصفه خطابا مترفّعا/ سماويا، بل بوصفه مجرّد مدوّنة منتهية؛ يريد أن يعرّيها من بعض المسلّمات والعوالق، ولذا نجده في دراسته يحاول أن يثبت ذلك وخير دليل على ذلك هو دراسته للضمائر واستنتاجه أنّ المتكلم منبثق من خلال النص، ولا حاجة للاعتقاد بمسلّمات دوغمائية للكشف عنه.

بينما ينطلق الدكتور خضر من مسلمة أخرى، وهي محاولة إثبات عنصر الجمالية في القرآن، والكشف عن بلاغة أسلوبه والاعتراف به على أنه قرآن، منطلقا من مسلّمات دينية بحتة، ولذا فإننا نجده يعتمد بشكل كبير على التفاسير القديمة كتفسير الرازي، والزركشي والطبري والقرطبي، هذه التفاسير الكلاسيكية التي كانت تتعامل مع القرآن بوصفه وحيا منزلا من الله.

وهكذا وبالعودة إلى هدف أركون من خلال هذه القراءة، وهو تحرير الفكر الديني من سطوة الإيديولوجية أو الدوغمائية، فإنّه يرى أنّ القراءة الألسنية أجبرته على ترك المنافذ إلى المعاني، لأنّ الصرامة والتقشف الألسني ألزمه بذلك، ولذا فقد عاد إلى العبارة تحت ما اسماه بالعلاقة النقدية، والذي جاء في أول سطر منه "إن التحليل المجهري الذي انتهينا منه للتوّ.." [32]، وإن كنت أرى بأن تحليل أركون تحليل منطقي حاول فيه التقيد بصرامة الألسنية، إلا أنّه لا يرتقي إلى مصاف التحليل المجهري، فهو إجراء فكّكَ النص إلى مجموعة قطع، تاركا إعادة التركيب لهذا الجزء من عملية القراءة. إنها قراءة واصفة بالدرجة الأولى، أو إنها مجرد إحصاء لما جاء في سورة الفاتحة من أفعال وأسماء وضمائر، وإيجاد تخريجات لسبب تواجدها.

هذا ويستمر أركون في قراءته الواصفة تحت مسمّى العلاقة النقدية بقوله: "يمكن أن نميز بسهولة بين أربع لفظات، أو أربع وحدات للقراءة القاعدية، ثم سبع لفظات إخبارية، وذلك طبقا للتوزيع التالي: 

1- بسم الله                                   1- الرحمن الرحيم

2- الحمد لله                                 1- رب العالمين

2- الرحمن الرحيم

3- مالك يوم الدين

3- إياك نعبد وإياك نستعين

4- اهدنا الصراط المستقيم                1- صراط الذين أنعمت عليهم

2- غير المغضوب عليهم

3- ولا الضالين" [33]

يرى الناقد أنّ هذا التقطيع مكّنه من معرفة العبارة - النواة/ والعبارة - التوسع، وأمكنه من توضيح الدور المحوري للفاعل (الله)، وكذا التوسع المعنوي لهذا الفاعل، فبرأي المفكر الناقد، فإنّ الممارسة الدينية تؤكد صحة الألسنية لهذا التقطيع؛ فالعبارتان النواتان تتلى في مناسبات عدة دون توسع [34]، ومع أنني أتفق مع أركون أنّ العبارتيْن الأولى والثانية تتلى في مناسبات عدّة دون توسّع؛ ولذا اعتبرهما عبارتين نواتيْن، إلاّ أنه كان ينبغي عليه التوقف عندهما، لأنه بهذا الاعتبار، فإن الآيتين (إياك نعبد، وإياك نستعين، واهدنا الصراط المستقيم)، هما أيضا تستعملان في مناسبات مختلفة، وقد استدل على (بسم الله) و(الحمد لله) في بدء الطعام وتمامه، رغم "أنّ جمهور العلماء لم يعد البسملة آية من القرآن الكريم، وأركون نفسه في تقديمه لقراءته الألسنية أكد موقفهم. وفي الوقت الذي ينتظر فيه المرء دليلا ألسنيا على أن البسملة ليست آية من الفاتحة. يجد تقطيعا نحويا يجعل شطرها الأول العبارة النواة الأولى؛ أي إنها احتلت مكانة مركزية في السورة، فكيف سيجري إقناع القارئ بأهمية القراءة الألسنية" [35].

الخاتمة:

ممّا سبق، يمكننا أن نستنتج أنّ مقاربة القرآن وفق المناهج النقدية المعاصرة ممكن، وأن هناك العديد من النقاد الذين تطرقوا إليه وفق قراءات حديثة؛ أهمهم: محمد أركون؛ ونصر حامد أبو زيد؛ وأدونيس، ومن خلال موازنتنا في هذا المقال بين مقاربة كل من محمد أركون وعبد الله خضر لسورة الفاتحة؛ نجد أن هناك اختلافا بين القراءتين على مستوى الإجراء؛ يرجع أساسا إلى الهدف أو المبتغى الذي أراد كل منهما الوصول إليه، فبينما كان عبد الله خضر حمد يودّ رصد ظاهرة جمالية ليبيّن مدى الإعجاز اللغوي في القرآن، أراد محمد أركون أن يحرّر الفكر الإسلامي من الاستخدامات الإيديولوجية (الدوغمائية التي سيطرت عليه). ومن ثمّ، يمكننا أن نعتبر المنهج مجرّد أداة إجرائية تستنطق النص للوصول إلى المعنى. فضلا عن ذلك، نرى أنّ التطرق للقرآن من منظور محمّد أركون يستوجب امتلاك وعي منهجيّ، والاستناد إلى خلفية معرفيّة عميقة وسليمة بالقرآن.

 


[1] القرآن الكريم، سورة الدخان، الآية 1و2

[2] المصدر نفسه، سورة الفرقان، الآية 1

[3] المصدر نفسه، سورة الأنبياء، الآية 50

[4] المصدر نفسه، سورة النساء 174

[5] المصدر نفسه، سورة الشعراء 192

[6] المصدر نفسه، سورة أقرأ، الآية 1

[7] المصدر نفسه، سورة القيامة، الآية من 16 إلى 19

[8] د. محمد عابد الجابري، مدخل إلى القرآن الكريم، في التعريف بالقرآن الكريم، ج1، مركز دراسات الوحدة العربية، لبنان، ط1، 2006، ص 151

[9] ينظر، محمد عابد الجابري، مدخل إلى القرآن الكريم، ص 161

[10] د. الحسن العباقي، القرآن الكريم والقراءة الحديثة، تحليلية نقدية لإشكالية النص عند محمد أركون، دار صفحات للدراسات والنشر، سورية، الطبعة الاولى، 2009، 152-253

[11] محمد أركون، القرآن من التفسير الموروث إلى تحليل الخطاب الديني، تر: هاشم صالح، دار الطليعة بيروت، لبنان، ط2، 2005، ص113

[12] محمد أركون، المرجع نفسه، ص 125

[13] ينظر، المرجع نفسه، ص125

[14] ينظر، المرجع نفسه، ص 126

[15] ينظر، المرجع نفسه، ص 127

[16] ينظر، المرجع نفسه، 127

[17] ينظر، المرجع نفسه، ص 127

[18] ينظر، المرجع نفسه، 128-129 -130

[19] المرجع نفسه، 130

[20] ينظر، المرجع نفسه ص 130-131

[21] عبد الله خضر حمد هو  عالم  وباحث  عراقي كردي ، ولد في  أربيل  عام 1977، كان آخر منصب شغله هو رئيس قسم  اللغة العربية  في الأكاديمية العربية الدولية للدراسات العليا. حصل على الدكتوراه في اللغة العربية وآدابها، سنة 2015م في جمهورية مصر العربية. صدر له 24 كتابا في مجال اللغة والأدب والنقد واللسانيات، والدراسات القرآنية، ومنها: 

- التفكيكية في الفكر العربي القديم- جهود عبد القادر الجرجاني أنموذجا.

- جماليات النص القرآني- دراسة أسلوبية في المستوى التركيبي.

- لسانيات النص القرآني- دراسة تطبيقية في الترابط النصي.

- ديوان عبدالقادر الجيلاني - دراسة أسلوبية.

- الانزياح التركيبي في النص القرآني.

- الشعر الجاهلي في تفسير غريب القرآن لابن قتيبة- دراسة أسلوبية- (في الأصل أطروحة لنيل درجة الدكتوراه في الأدب والنقد في جمهورية مصر العربية)

- إشكاليات الحداثة.

[22] د. عبد الله خضر حمد، العدول في الجملة القرآنية، دار القلم للطباعة والنشر، بيروت، لبنان، ص 9

[23] د. عبد الله خضر حمد، المرجع نفسه، ص 75

[24] المرجع نفسه، ص 78

[25] المرجع نفسه، ص 253

[26] القرآن الكريم، سورة الجن، الآية 10

[27] ينظر، عواطف كنوش مصطفى، المنهج الأسلوبي في الدراسات القرآنية: عن تفسير سورة الفاتحة "اختيارا"، مجلة آداب البصرة، العدد 38، 2005، ص 23

[28] د. عبد الله خضر حمد، العدول في الجملة القرآنية، مرجع سابق، ص 266

[29] د. عبد الله خضر حمد، العدول في الجملة القرآنية، ص 270

[30] ينظر، عواطف كنوش مصطفى، المنهج الأسلوبي في الدراسات القرآنية: عن تفسير سورة الفاتحة "اختيارا"، مجلة آداب البصرة، العدد 38، 2005، ص ص 14-15

[31] د. نصر حامد أبو زيد، الخطاب والتأويل، المركز الثقافي العربي، المغرب، الطبعة الثالثة 2008، ص110

[32] محمد أركون، القرآن من التفسير الموروث إلى تحليل الخطاب الديني، مرجع سابق، ص 134

[33] محمد أركون، المرجع نفسه، ص 133

[34] ينظر، محمد أركون، المرجع نفسه، ص 133

[35] د. الحسن العباقي، القرآن الكريم والقراءة الحديثة، ص 271