النبي الديمقراطي بين الخطاب التنويري والإسقاط الرغبوي (المذهب الإنساني عند محمد حبش)
فئة : مقالات
النبي الديمقراطي بين الخطاب التنويري والإسقاط الرغبوي
(المذهب الإنساني عند محمد حبش)
أولا- حدود المذهب الإنساني في ضوء النص القرآني والتقليد الإسلامي
ضمن كل فئويّة دينية توجد اتجاهات انغلاقية تمثّل قوى الشَّخصنة، تؤكد على مفاهيم الهوية وتمايزات هذه الفئويّة عن غيرها، ويمكن تلمّس تعبيراتها في مقولات من قبيل: «شعب الله المختار، الفرقة الناجية، أتباع الدين الصحيح، إني فضّلتكم على العالمين». وفي المقابل، ضمن كل فئويّة دينية توجد اتجاهات انفتاحية تمثّل القوى الحيوية الإنسانية التي تعبّر عن مصالح انفتاحية على الآخر المُختلف، وتؤكد على مقولات التنوع المفيد والوحدة في الاختلاف. إنّ طروحات التيار التنويري المعاصر وضمنا طروحات الدكتور محمد حبش، تؤكد عموما على البُعد الإنساني الانفتاحي للإسلام. يكتسب هذا الطرح أهمية إضافية لكونه يظهر في مناخٍ إسلاميّ انغلاقيّ ترافق مع ما يُسمّى بالصحوة الإسلامية، وانتشار تيارات الإسلام الجهادي المتشدّد.
يؤكد حبش على مفهوم إخاء الأديان مقابل مبدأ حوار الأديان أو مقارنة الأديان "فلا أحد في الأديان يستطيع تغيير جوهر دينه، وكذلك فإن مصطلح وحدة الأديان أو توحيد الأديان عبث لن يقبله أحد، ولكنني اخترت إخاء الأديان، وهو سلوك اجتماعي محض في مواجهة ثقافة الكراهية[1] كما يدرك حبش ضعف حضور ثقافة إخاء الأديان في المجتمعات العربية المسلمة وصعوبة تجاوز الإرث الثقافي السائد"؛ إذ إن السواد الأعظم من الناس لا يزال خاضعًا لفكرة الآخر الكافر، والجحيم الذي ينتظره، ووجوب بغضه في الله الذي تعبّدنا ببغض الكافرين[2]
على الرغم من التقدير لنبل الفكرة التي يطرحها حبش، فإن الرؤية التقليدية الشائعة التي تميز حدّيًا بين المؤمنين والكافرين، والتي تتبنى في منطلقاتها منظورًا صراعيًّا ينحاز فيه الله سبحانه وتعالى بقوة لصالح المؤمنين ضد الكافرين هي رؤية تستند إلى مُرتكزات بارزة لا يمكن تجاهلها من النص القرآني نفسه ونصوص الأحاديث النبوية كذلك.
يمكن المُحاججة بالقول إنّ صورة الله سبحانه وتعالى في القرآن الكريم لا تقدم منظورًا لإله حيادي يساوي بين البشر بناءً على الاشتمال في الجنس الإنساني، كما أن الاعتبار الأخلاقي-السلوكي، رغم أهميته اللافتة في النص القرآني، ربّما لا يشكل الهاجس أو القضية القرآنية الأكثر حضورًا. الإسلام- كغيره من الأديان -يؤكد على مصالح الولاء بين جماعة المؤمنين ومَحبة الله سبحانه لهم في مقابل الانفصال النفسي عن جماعة الكافرين، وبما يصل إلى درجة البغض والعداء الصريح، تحديدًا لفئة المشركين والمُعتدين منهم.
عمليًّا، لا يمكن فهم النص القرآني خارج ثنائية المؤمنين والكافرين، والتي يتم عرضها في النصوص المقدسة الإسلامية الأساسية (القرآن الكريم والأحاديث النبوية) غالبًا من منظور صراعي، حيث تتماهى صفة الإيمان بالخير.. وتتماهى صفة الكفر بالشر.
وردتْ كلمة المشركين في القرآن الكريم 180 مرة، وأما كلمة الكفار فوردت 160 مرة، وجلّها جاءت في سياق مصالح صراعية لا تؤكد على الإخاء والمشترك الإنساني العام. لنتوقف مثلًا عند الآيات القرآنية الثلاث التالية على سبيل المثال:
"قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ" (الممتحنة: 4)
"يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ" (المائدة: 51)
"لَا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ" (آل عمران: 28)
ما قصدته أن القرآن الكريم، ككتاب عقائدي من المُتوقع أن يخاطب الناس بناءً على ثنائية الفرز بين الإيمان والكفر، حيث يدعوهم إلى الهداية واعتناق الدين الجديد، في مقابل تنفيرهم وتهديدهم بعذاب أُخروي وأحيانا دنيوي في حال الرفض وعدم الاستجابة.
من غير المُتوقع في أي كتاب عقائدي ديني تقديم طرح إنساني مُحايد عابر للعقائد والأديان، لنتذكر أن المذهب الإنساني (الأنسنة) هو طرح فلسفي حديث نسبيًا يؤكد على قدرة الإنسان على الفهم والحكم بمعزل عن أي اشتراطات ميتافيزيقية أو سلطة دينية- زمنية.
بداية ظهرت طروحات الأنسنة من داخل التراث المسيحي في عصر النهضة مع جيوفاني بيكو ديلا ميراندول، المتوفي 1494، حيث كتب "خطاب في كرامة الإنسان".[3] ومن ثم تطورت في سياق علماني حقوقي قانوني، وصولا إلى إقرار الميثاق العالمي لحقوق الإنسان من قبل الجمعية العامة للأمم المتحدة في ديسمبر 1948
إن المحاولات التي يقدمها حبش في دعوته إلى المذهب الإنساني وتأصيله إسلاميًّا هي محاولات جديرة بالثناء، بغضِّ النظر عن الانتقادات التي تم عرضها أعلاه، فصلاح الأديان يكون في صلاح المؤمنين بها، وهذا الصلاح يجب أن يكون بمعيار يقبله ويطلبه عموم الناس عبر العصور والمجتمعات. عموم الناس لا يقبلون أن يُميَّز ضدهم أو يُضطهدوا بسبب الاختلاف العقدي أو الديني، وبالتالي فإن المذهب الإنساني يدخل في باب المصلحة والعمل الصالح الذي تستفيد منه مجتمعات المسلمين لكونها مشمولة في الإنسانية، وليس العكس.
إن تغليب منطق ولغة وثقافة الحوار، والبحث عن البعد الإنساني بين المُختلفين عقديًا، هو بحد ذاته منظور حيوي للمُقاربة وسط ما نشاهده من تنامي الخطابات العنصرية والدعوات إلى التكتّل على أساس ديني أو طائفي. إن الطرح الذي يقدمه حبش ينطلق من مركزية الإنسان، ومن ضرورة تحريره من الانقسامات والصراعات المذهبية "لم أقصد بإخاء الأديان بناء جبهة من المؤمنين ضد الملحدين، لقد قصدت إلى بناء إخاء إنساني؛ فالغاية الإنسان وليس الأديان، ولا أريد أن أخرج من الاصطفاف المذهبي إلى الاصطفاف الديني فكلاهما مشروع كراهية، لقد قصدت إلى الفضاء الأرحب، حيث يكون الإنسان أخا للإنسان، يحبه ويُحسن إليه على الرغم من موقفه الاعتقادي".[4]
إنّ المذهب الإنساني ينطلق من مرجعية الإنسان في تفسير وفهم وتأويل النصوص المُقدسة، وهذا مُمكن لوجود مُرتكزات مناسبة لهكذا قراءات من داخل النص الديني المؤسِّس والتراث الديني اللاحق. هذا يحتاج إلى قراءة انتقائية، والانتقائية في هذا السياق ليست عيبًا، بل هي ضرورة ومصلحة، فالمُقاربة الدينية يجب أن تكون بدلالة الأهداف والنتائج التي يمكن مُعاينتها عبر استقرار وتنمية مجتمعات المُسلمين. إنّ الفهوم التقليدية السائدة حاليًا للإسلام تؤكد على مركزية مفهوم الله سبحانه والتوحيد الربوبي، كما تشددعلى الفارق الجوهراني اللانهائي بين الله سبحانه والإنسان. فالإنسان في المنظور التقليدي هو موضوع لإظهار قدرات الله، وهو موضوع لتنفيذ رغبات وإرادة الله سبحانه وتعالى، كل ذلك في مقابل التعهد الإلهي بالفلاح والنجاة للمؤمنين. في المقابل، يقدم التفسير الإنساني للإسلام مُقاربة مُختلفة تؤكد على مفهوم الاتصال والتكامل بدلًا من الانفصال والاتصال.
ثانيا- الديمقراطية في سياق السيرة النبوية: إمكانات وحدود
نشر محمد حبش كتاب "النبي الديمقراطي: دراسات في الملامح الديمقراطية في كفاح الرسول"[5] عام 2019، وفي مُسوّغات اختيار العنوان "لقد اخترنا هذا العنوان قناعة بالبرنامج الديمقراطي الذي قاده رسول الله في كفاحه السلمي النبيل وأردناه عنوانا صادما يحفز العقل ويفتح آفاق الحوار الى الغاية بهدف رسم الحدود الواضحة بين الديمقراطية والاستبداد[6]، ويضيف أن هذه الدراسة تضيء جوانب مجيدة من كفاح الرسول الكريم، بوصفه قائدًا ديمقراطيًّا حقيقيًّا عمل بصدق وشجاعة من أجل خدمة الإنسان، وناضل ضد الاستبداد والثيوقراطية والأوتوقراطية، وكافح من أجل مجتمع العدالة والحرية والديمقراطية، يؤمن بإخاء الأديان وكرامة الإنسان".[7]
الديمقراطية هي نظام إدارة مُحدّد ونظام مؤسسات تبلور تاريخيًّا في سياق التجربة الإنسانية المتراكمة، وصولًا إلى تجارب الدول الديمقراطية المعاصرة. ومن المُجمَع عليه، وفقًا للروايات الإسلامية المُختلفة، عدم وجود نظام إدارة مؤسساتي مُحدد للشورى واتخاذ القرارات في دولة النبي محمد، وحتى عقب وفاته لم يتم وضع آلية ديمقراطية أو غير ديمقراطية لانتخاب حاكم جديد لدولة النبي ومجتمع المسلمين..
قبل الحديث عن الديمقراطية، ينبغي التأكيد على المفاهيم المُؤسسة لها، وهي المُساواة بين الناس، وكذلك استقلالية الفرد وحريته في الرأي والانتخاب بمعزل عن انتمائه القبلي أو الطبقي أو الديني، بالإضافة إلى نبذ العنف كوسيلة لحل الخلافات.
لقد كان المجتمع العربي في عهد النبوة مُنقسمًا تفاضليًا على أساس قبلي وطبقي (سادة وموالي وعبيد)، وكذلك على أساس ديني (مؤمنون - يهود - نصارى - كفار - مشركون)، بما يتماشى مع التطور التاريخي والاجتماعي والسياسي لعصر النبوة آنذاك. ومن التعسف بمكان إسقاط مفاهيم سياسية معاصرة على التاريخ، فهذا يدخل في باب التفكير الرغبوي واللّا تاريخي.
وفي هذا السياق، نستحضر كتاب الدكتور مصطفى السباعي «اشتراكية الإسلام» 1959، الذي حاول فيه تأصيل المبادئ الاشتراكية استنادًا إلى نصوص القرآن الكريم، والأحاديث النبوية والسيرة النبوية، وتاريخ الخلفاء الراشدين.
إذن، فالديمقراطية هي صفة لنظام إدارة سياسية، وبالمقابل يمكن، مجازًا، وصف شخصيةٍ معينة بكونها ديمقراطية؛ أي إنها تتقبل الاختلاف وغير مُستبدّة. بهذا المعنى يمكن انتقاء حوادث معينة من السيرة النبوية تدعم هذا الاعتبار، ولكن بالمقابل توجد حوادث أخرى قد تتعارض معه. فالتجربة النبوية عمومًا هي تجربة ثورة عقائدية سياسية في مجتمع قبلي شبه صحراوي في القرن السابع الميلادي، والحديث عن الديمقراطية و"النبي الديمقراطي" أراه خارج السياق التاريخي ومُمكنات التجربة النبوية، فالنبوة خصوصًا، والإسلام عمومًا، حدثٌ في التاريخ وليس خارجًا عنه، والسياق النبوي الإسلامي هو سياق اجتماعي ثقافي بامتياز، لا يمكن فهمه أو إدراكه خارج حقل العلوم اللغوية والإنسانية والاجتماعية.
يؤكد حبش على وثيقة المدينة بوصفها علامة فارقة في سيرة الديمقراطية النبوية: إن وثيقة المدينة كانت حدثًا غير عادي، فقد نصّت بوضوح على حقوق الجميع، وكانت بمثابة عقدٍ اجتماعي جديد يمنع احتكار الحياة واحتكار السلطة، وكان يهود المدينة قد أعلنوا تمسكهم بدينهم ورفضوا الدخول في الدين الجديد، ومع ذلك فقد نصّت وثيقة المدينة بوضوح: إن المسلمين ويهود بني عوف أمةٌ واحدة من دون الناس. ويفسر حِبش تهجير القبائل اليهودية ومقتلة بني قريظة بسبب نكث العهد والخيانة: ولولا الغدر الذي وقع فيه أفراد أساسيون من قينقاع والنضير لاستمرّ هؤلاء في المدينة، وفي واقعٍ اقتصادي قوي، ولكن من المؤسف أنّ قبائل اليهود في المدينة المنوّرة لم تلتزم بالعقد الذي أبرمه معها رسول الله، ونقضت العهد ثلاث مرات متتالية، وانتهى ذلك كلّه بيومٍ مرير لبني قريظة بعد أن قام أشرارهم بخيانةٍ فاجعة يوم الخندق. كما يضيف بأنّ الرسول الكريم كان يخوض حربًا لحماية الأقليات وإنصافهم، وربما كان من أوضح الأمثلة على ذلك فتح مكة، حيث لا يختلف اثنان على أن سبب الفتح الأعظم كان الانتصار لخزاعة بعد أن هاجمها سفهاء قريش.[8]
إن السردية التي يقدمها حِبش في تفسير غزوات دولة النبي وحروب المسلمين مع العرب المشركين والقبائل اليهودية تنطلق من مفهوم الاضطرار والحروب الدفاعية؛ أي إن الأصل هو السلام وقبول التعدد العقائدي، ولكن حروب دولة النبي كانت ضرورية لبقاء وترسيخ دولة الإسلام الوليدة. في الحقيقة، هذه السردية تتماشى مع مقولة "النبي الديمقراطي"، وهي سردية مفيدة للمسلمين اليوم في استلهام التجربة النبوية بشكل إيجابي يؤسس لبناء دول ديمقراطية عصرية تقوم على مبدأ المواطنة المتساوية.
بالمقابل، ثمة سرديات أخرى تفسر الدعوات السّلميّة وخطابات الاخاء الانساني في الطور المكّي وبدايات الطور المديني، بما يشمل وثيقة المدينة، على أنها كانت نتيجة ضعف دولة النبي وعدم قدرتها على خوض صراع مسلح مع خصوم أقوياء، وأنها سعت للتمكين الاجتماعي والسياسي تدريجيًا تزامنًا مع اتساع رقعة ونفوذ الدولة الوليدة. وهذه السرديات يتبناها في العموم طرفان متناقضان تمامًا، هما:
أولا- الحركات الإسلامية السلفية الجهادية
ثانيا- الحركات المعادية للإسلام من منطلق أيديولوجي ديني أو مادي- إلحادي.
في الحقيقة، لا توجد لدينا وثائق كافية من تلك المرحلة النبوية تتيح للمؤرخين بناء سردية علمية متماسكة، كما أن السردية الإسلامية التقليدية المروية في كتب السيرة النبوية والتأريخ الإسلامي لا تتوافق كثيرًا مع سردية "النبي الديمقراطي"، ويمكننا تفسير ذلك بأن عصر التدوين في القرن الثالث الهجري لم تكن فيه العلوم الإنسانية قد استقلت عن الدين، وكانت الحضارة الإسلامية في أوج انتصارها السياسي والحضاري، ولم تكن الديمقراطية من ملامح ثقافة ذلك العصر.
وفقًا لمصادر إسلامية[9] يتراوح عدد غزوات النبي ما بين 19 و29 غزوة، وعدد السرايا ما بين 40 و70 سرية؛ وذلك على مدى عشر سنوات تمثل الطور المديني من السيرة النبوية. ثمة غزوات يمكن تفسيرها كحروب دفاعية اضطرارية كغزوة أحد وغزوة الخندق، وبالمقابل من الصعوبة بمكان تفسير غزوة بدر أو غزوة مؤتة على أساس مبدأ الحرب الدفاعية. كذلك تجهيز الجيوش لقتال الفرس والروم قبيل وفاة النبي بفترة قصيرة لايدخل في سياق الحروب الدفاعية.
وفي ذلك يمكن القول إن الإسلام النبوي كدعوة عقائدية سياسية، وضمن منطق إنشاء دول في ذلك العصر، كان يستلزم استخدام وسائل السياسة المُتاحة في ذلك الظرف، بما يشمل توظيف القوة بكل أشكالها المادية والمعنوية بشكل متناسب، وبما يخدم الأهداف.
فيما يخص غزوة بني قريظة، يعرض حبش: قصة بني قريظة تعرّضت للمبالغة خلال التاريخ، وبلغ عددهم في بعض الروايات 900 قتيل، والصحيح في البخاري أن النبي قتل منهم المُقاتلة، ولا نحفظ من أسماء الذين قُتلوا من بني قريظة إلا خمسة أفراد. ورواية ابن زنجونة في كتابه «الأموال» حديث رقم 359 أن عدد من قُتل منهم 38 رجلًا[10]
لا يمكن نفي ما عرضه حبش ولكن بالمقابل لا يمكن الاطمئنان له بالمقابل. ما الذي يجعلني أقبل الرواية الفلانية وأرفض الرواية الأخرى؟ ما هو المعيار الذي على المؤرخ او الباحث الرجوع له، خاصة في ظل غياب روايات مقابلة من طرف بني قريظة وعدم توفّر وثائق وروايات تاريخية مُعاصرة للحدث.
لنرجع مثلا إلى كتاب سيرة ابن هشام المتوفى 2018 للهجرة والذي يتضمن تنقيح سيرة ابن اسحاق، وهو كتاب السيرة الأقدم المتوفر بين أيدينا "حاصر النبي محمد بني قريظة حتى استسلموا، فأرسل إليهم سعد بن معاذ ليحكم بينهم، فحكم بأن يُقتل المقاتلة، وتسبي النساء والأطفال، واستُخلف على المدينة من بقي من الرجال، وكان عدد الذين قُتلوا نحو ستمائة أو سبعمائة رجل".[11]
أما رواية الطبري المتوفى 310 للهجرة في (تاريخ الرسل والملوك) فلم تؤكد رقما مُحددا للقتلى، ولكنها تحدّثت عن سبي النساء والأطفال والمُمتلكات "حاصر النبي ﷺ بني قريظة بعد الأحزاب، ثم أرسل إليهم سعد بن معاذ، فحكم بأن يُقتل الذين حملوا السلاح ضد المسلمين، ويؤخذ النساء والأطفال رهائن، ويُسبي ممتلكاتهم"[12].
من وجهة نظر علمية تاريخية لا يوجد لدينا وثائق كافية لتأكيد أو نفي هكذا أحداث تتعلق ببني قريظة ذات طبيعة إشكالية، والتي قد ينبني عليها تصورات أو أحكام قد تكون مُتناقضة.
عندما ننظر إلى مقولة "النبي الديمقراطي" التي يسوق لها الدكتور محمد حبش بعين المسلم المُعاصر، نجدها سيرةً مُلهمة تساعد المسلمين على الدخول في العصر والمساهمة في بناء دول ديمقراطية تحترم التنوع العقائدي، وهذا هدف نبيل بلا شك.
بالمقابل، عندما ننظر إلى مقولة "النبي الديمقراطي" بعين المثقف الباحث، عندئذٍ يختلف المشهد تمامًا فالديمقراطية، فيما تعنيه، هي حكم الأغلبية بشروط. ولكن كيف يمكن المواءمة بين الوحي الإلهي (الواجب الطاعة) الذي يتنزل على النبي محمد ﷺ، والمُلزم لجماعة المؤمنين، وبين الديمقراطية التي ترفض المُسبقات والمُطلقات وتشمل جماعة الناس من المؤمنين وغيرهم؟
في الختام، لا أرى تعارضًا جوهريًا بين الإسلام والديمقراطية، فالإسلام هو "إسلامات"، والديمقراطية هي أيضًا "ديمقراطيات"، ولكنّي أميل إلى القول بإمكانية -لا بل وضرورة- وجود رؤية ديمقراطية تقدّمها تيارات وأحزاب سياسية من خلفية إسلامية، بعيدًا عن محاولة التأصيل الديمقراطي للسيرة النبوية وشخصيّة النبي التي يعرضها محمد حبش وطيف واسع من التنويريين المسلمين.
[1] حوار مع الكاتب والمفكر الدكتور محمد حبش- موقع مؤمنون بلا حدود- يونيو 2024
https://www.mominoun.com/articles
[2] نفس المرجع.
[3] Pico della Mirandola, Giovanni. *Oration on the Dignity of Man.* Translated by A. Robert Caponigri, Regnery Publishing, 1956
http://www.andallthat.co.uk/uploads/2/3/8/9/2389220/pico_-_oration_on_the_dignity_of_man.pdf
[4] حوار مع الكاتب والمفكر الدكتور محمد حبش- مرجع سابق.
[5] الموقع الرسمي للدكتور محمد حبش – كتاب النبي الديمقراطي- نسخة الكترونية متوفرة على الموقع
https://mohammadhabash.org/?page_id=24950
[6]نفس المرجع – ص9
[7]نفس المرجع - ص10
[8] قراءة في حقوق الأقليات في مجتمع المدينية- محمد حبش – مركز نقد وتنوير – تاريخ مارس 2016
https://tanwair.com/archives/4276
[9] موقع إسلام ويب، عدد غزوات النبي صلى الله عليه وسلم وسراياه
[10] قراءة في حقوق الأقليات في مجتمع المدينية- مرجع سابق-
[11] كتاب سيرة ابن هشام- ت سقا ورفاقه، نسخة الكترونية، المكتبة الشاملة، ج2 ص 623
https://shamela.ws/book/23833?utm_source=chatgpt.com
[12] كتاب تاريخ الأمم والملوك للطبري، نسخة الكترونية، المكتبة الشاملة، ج6- ص 85






