أنسنة الدّين وعقلنته في أبحاث حمّادي المسعودي


فئة :  قراءات في كتب

أنسنة الدّين وعقلنته في أبحاث حمّادي المسعودي

أنسنة الدّين وعقلنته في أبحاث حمّادي المسعودي

مما لاشكّ فيه أنّ الأنسنة Humanisation هي بحث الإنسان الدؤوب عن لحظة التحرر والتمرد والانعتاق من قيود الأوامر والنواهي والخطابات الدينية بصفة خاصة التي حاصرته ردحا من الزمن، وسعيه المتواصل إلى التحرّر من المرجعيات اللاهوتية الرمزية التي جثمت على روحه فاغتالت عقله، وأزهقت وعيه، ودمّرت مصيره، ولا غرْو في ذلك بناءً على أنّ بنية المجتمع العربي الإسلامي تعود بالأساس إلى مكوّن من مكوّنات هويته وثقافته هو الدين وطرائق فهمه، هذه الطرائق التي تنهض في أغلبها على الانغلاق الكامل داخل يقينيات القرون الوسطى التي تتخذ صفة الحقيقة الإلهية المقدسة التي لا تناقش ولا تخضع للعقل بأي شكل، بهذا المعنى فإنّ المسلم التقليدي سجين يقينياته المطلقة المسيّجة، باعتبارها من الثوابت ومن المقدّس ومن الأصول مثلما كان اليهودي والمسيحي التقليديين سجيني يقينيات قبل انتصار الحداثة والتنوير في أوروبا.

والحاصل أنّ الأنسنة تتمثّل في تخلّص الباحث للدين والدارس للمقدس من المسلّمات المعرفية والثوابت العقدية والفكرية، والسعي إلى تجاوزها أو استبدالها أو زحزحتها ونقدها، وبذلك يكون عنصرا فاعلا صانعا مدبّرا لا منفعلا، منتجا لا مستهلكا تابعا، وبهذا المعنى يميّز الإنسان بين الدين كمُعطى إلهي مطلق، والدين كممارسة بشرية تخضع لدور الإنسان في الوجود وقدرته على فهم الأشياء وتجاوز المسكوت عنه.

فهل فهم الباحث حمّادي المسعودي الأنسنة على هذا النحو؟ وهل استخلص فعلا أنّ الخطاب القرآني بما هو تحوّل من كونه نصّا إلهيا فصار فهما بشريا لأنّه تحوّل من التأزيل إلى التنزيل، ومن التنزيل إلى التأويل، ومن الشفوي إلى المدوّن؟ وما المراد بالأنسنة عنده؟ وأين تتجلى هذه الأنسنة في أبحاثه وأعماله؟

سؤال الأنسنة وعقلنة الدّين

لقد تبيّن للباحث حمّادي المسعودي بعد النظر والتمحيص أنّ الأنسنة إشكال خلافي، والدليل على ذلك أنّ أنسنة الدّين لها أكثر من معنى وأكثر من بُعد من ذلك مثلا، أنّ هناك من يذهب إلى أنّ النصّ القرآني مهما كانت قيمته التوثيقية فهو عبارة عن عمل إنساني خاضع للنقد والمراجعة والتجاوز والتعديل. وهناك من يرى أنّ من معاني أنسنة الدين الاهتمام بالأبعاد الإنسانية الواردة في النصّ الديني مثل الأخوّة والدعوة إلى الفضائل ونحو ذلك من الأبعاد القيمية.

وقد كشفت لنا دراستنا لأبحاث الرجل أنّه لا يشاطر الرأي هذه الأطروحات، ويرى أنّ الأنسنة في الدين يُقصد بها عقلنة الخطاب الديني، والخطاب القرآني بصفة خاصة الذي لا ينهض عنده على سلطة النصّ بقدر ما يعتمد على سلطة العقل، فهو خطاب لا يُفضي إلى الغرور والتعالي والتعصب، بل هو خطاب يقبل الانفتاح على المغاير، وقد نجد هذا المعنى في ما ذهب إليه تقريبا ميشال فوكو Michel Foucault في أبحاثه الذي رأى أنّ السلطة هي التي تُشكّل الخطاب، ومن خلال هذا الخطاب تتشكّل المعرفة، وهذه السلطة قد تكون سلطة دينية أو سياسية أو اجتماعية، وعلى ذلك النحو يكون شكل الخطاب باعتباره وليدا لسلطة مخصوصة وهو ما يطبع معرفة معيّنة وحقيقة محدّدة تعكس شكل هذه المسارات: السلطة / المؤسسة – المعرفة – الخطاب[1]. والخلاصة وَفق ميشال فوكو أنّ المؤسسة مهما كانت طبيعتها تشكّل المعرفة التي تخدم مصالحها وتسعى إلى إنشاء حقيقة تتواءم ومصالحها، كلّ ذلك يتنزّل في خطاب مخصوص قصد التأثير في المتلقي أو صناعة رأي محدّد أو شأن عام.

وكذا الأمر ما نقف عليه تقريبا في النصّ القرآني ذاته في سورة "ص" "وَأتَيْناَهُ الحِكْمَةَ وَفَصْلَ الخِطَابِ"[2]. فقد فصل النصّ المؤسس بين الحكمة / العقل من جهة، والخطاب من جهة أخرى، مما يُفيد تأسيس جملة من الأبعاد المنهجية والمقاصد التواصليّة الثاوية في النصّ، إذا نجح الدارس في فكّ طلاسمه والنظر في متونه بعمق منهجي ودراية إبستيمية، وحتى إذا كانت هناك علاقة عضوية بين العقل والخطاب الفصل، فإنّ هذه العلاقة من باب الشكّ في المشكوك فيه، وهذه سمة من خِصال الوعي التاريخي للعقل البشري الذي ينظر قبل أن يتبنى الأمر مسلّما، ويحفر حفرا عميقا في البُنى الثقافية والمقاصد الدينية والخلفيات الرمزية المتحكّمة بالوعي البشري. والوقوف على ما يمكن أن يترسّب من أوهام خرافية وشوائب نفسية ومعوقات فكرية وإكراهات تاريخية تعيق حركة الإنسان وتقدّمه.

وهي المقاربة التي تبناها الباحث حمّادي المسعودي في عقلنة الدين وأنسنته وحرص على أن نُعيد صياغة طريقتنا في تقديم الدين للنّاس، وأن ننظر قبل ذلك في المحتوى والبُنى والأبعاد النصية بما هي إشكالات مركزية لصيقة بالنصّ والخطاب على غرار الشفوي والمدوّن والمتخيّل والأسطوري والعجائبي ونحوها من القضايا الشائكة، ودعا إلى ضرورة النظر في المنهج والأسلوب وبنية النصّ في سياق متطلبات العصر والواقع الراهن والتحديات التي يعيشها الإنسانُ، ونبّه كذلك إلى ضرورة التمييز بين الإسلام المعياري القيمي الروحي، والإسلام التاريخي الشعبي. ووَفق رأيه لا يمكن أن نحقق هذه الأهداف العلمية والمقاصد المنهجية إلاّ إذا توسّل الباحثُ بآليات البحث والمناهج العلمية المعاصرة والمقاربات الأكاديمية على نحو تاريخ الأديان وعلم الاجتماع الديني واللسانيات وعلم النفس الديني والمناهج الحديثة وعلم الإناسة ونحوها من أدوات المعرفة.

إنّ من أهم الأسباب التي دفعت الباحث حمادي المسعودي إلى الخوض في مسألة أنسنة الدين وعقلنة النصّ المؤسس وكلّ النصوص الحواف والنظر بحذر في مصادر التراث هو سعيه الجاد إلى أن يضع رؤية منهجية وأكاديمية توضّح أنّ الدين في خدمة الإنسان وليس الإنسان في خدمة الدين، وقد لا يتأتى هذا الفهم للدارس إلاّ إذا أعاد قراءة النصّ الديني لغة ومنهجا ومقصدا ومتنا، وميّز الباحث بين الأصول والفروع، وبين الأصل والإضافي إيمانا من المسعودي أنّ الأنسنة تسهم في تطوير الدراسات الحضارية للظاهرة الدينية.

وليس بخافٍ ما في هذه المقاربة الحضارية الموصولة بأنسنة النصوص وعقلنة الدين عند الباحث المسعودي من أهمية علمية وقيمة منهجية وحفريات إبستيمية تنخرط في طرائق القرائية والخلفية التفكيكية التي تُحيل على أنّ الأنسنة تحرير العقل البشري والجسد الإنساني من علم اللاهوت La théologie، وإنزال الفكر من السماء إلى الأرض، وتحويل المقدس إلى تاريخ والمطلق إلى نسبي. وبهذا المعنى يحقق الباحث حمادي المسعودي هدفا ساميا حداثيا يتجسد في تجاوز القراءة الإيمانية الوثوقية التي كرّست طريقة نمطية متكلّسة ومنغلقة في قراءة الدين والنصّ المؤسس بصفة خاصة، ويؤسس قراءة عقلانية موضوعية تنهض على الروح النقدية والمناهج الحديثة والمعاصرة ونزع القداسة Désacralisation ونحوها من الأدوات المعرفية التي تخرجنا من التحنّط والانغلاق والإقصاء.

الأنسنة وتجلّياتها في أبحاث حمّادي المسعودي

يتجلى مفهوم الأنسنة في كتابات حمّادي المسعودي في نقد العقل الإسلامي والنظر في طرائق تفكيره ونقد العقل الديني نقدا علميا بنّاءً، ولا يكتفي في ذلك بالتوصيف والعرض بل يفكّك ويحلّل وينقد العقل المنتج للفكر والسلوك والثقافة. ويرى أنّه من أجل فهم الدين ودراسة الظاهرة الدينية والوقوف على أشكال التديّن والتمعن في الفضاء العمومي وما يعجّ به من ظواهر اجتماعية وطقوس دينية، يجب الحفر في النصوص وإرجاعها إلى محاضنها وسياقاتها وفهم مقاصدها وتحليل أبعادها وقراءة بنيتها ودلالاتها.

بمعنى أن ينتقل الباحثُ من الدين إلى العلم، ومن الله إلى الإنسان، ومن الماضي إلى الحاضر والمستقبل، ومن الدين إلى التديّن، ومن السطحي إلى التمحيص، ومن الشكلي إلى الجوهر والأعماق، ومن الأنفاق إلى الآفاق، ومن اللاهوت إلى علم الأديان La science des religions وهذا يُفسّر دور العقل عند الباحث حمّادي المسعودي ومكانته في البحث الحرّ الأكاديمي والمستقل عن كلّ المؤسسات والهيئات سواء أكانت سياسية أم دينية.

لقد وضّح الباحث حمّادي المسعودي في أغلب أبحاثه ودروسه ودراساته ومقارباته أنّ الإنسان محور الكون وقطبه، ومركز الوجود وهدفه، وبناءً على ذلك فهو مصدر المعرفة، وهذه الفكرة نجدها عند الكثير من العلماء انطلاقا من مارتن لوثر ) Martin Luther1968)[3] مرورا بأكثر الفلاسفة والمفكرين من أمثال جون كالفن Jean Calvin(1564)[4] وأندري لالاند André Lalande (1963) [5]وصولا إلى جون بول سارتر Jean- Paul Sartre(1980)[6] وبول ريكور Paul Ricœur (2005)[7]، ولعلّ هذا ما يُحيل على قراءات الرجل وانفتاحه على اللسان الأجنبي والثقافة الغربية فكان يجمع في كتاباته وأفكاره بين الدخيل والوافد ويوظفه توظيفا منهجيا وعلميا ويُصيّره ما به يكون البحث بحثا علميا صارما.

وقد بدا صدى ذلك في كتاباته وفي دعوته إلى الانتقال من النظرة الدينية اللاهوتية الغيبية النصية المنغلقة والمتكلسة إلى فهم النصّ الديني فهما علميا، وقد تمثّل ذلك في ما اقترحه من آليات لقراءة النصّ القرآني بصفة خاصة والنصّ الديني بصفة عامة، والنظر في ماهية القداسة وأشكال المقدس والسياق التاريخي الحاضن لهذه النصوص ومراحل تشكّلها واستقرارها على ما هي عليه اليوم. وقد نقف على هذه المقاربات في أغلب كُتبه خاصة في كتابه "الوحي من التنزيل إلى التدوين"[8] الذي بيّن من خلاله البوْن البائن بين النصّ الشفوي والنصّ المكتوب، يضاف إلى ذلك ما رافق عملية الجمع والتدوين والرواية وكلّ ما يمكن أن يشوب هذه المسألة من ملابسات وجب على الباحث أن ينتبه إليها وأن يعالجها بنفس أكاديمي علمي ينهض على الموضوعية والحفر في مختلف المحاضن التي حفّت بإشكالية الوحي، وكان موقف الباحث منها واضحا يتمثّل في عدم "السير على منهاج القدامى من علماء القرآن وغيرهم وإن كنّا سنعوّل في الكثير من مواطن هذه الدراسة على نصوصهم التي ستكون عُمدتنا في البحث ننقدها ونبحث في أبعادها، ولن نُولّي وجهنا صوب الدراسات الاستشراقية التي اهتمت بدراسة الظاهرة القرآنية أيّما اهتمام إلاّ للبحث في مواطن الجدّة وطرافة المقاربة دون أن يسوقنا ذلك إلى التسليم بما توصلوا إليه من نتائج في هذا الباب ولا إلى السير على المنهج الذي رسموا"[9].

إنّ طرح إشكالية الشفاهية والكتابية في هذا الكتاب من قِبل الباحث حمادي المسعودي لم يكن طرحا تقليديا ولا اجترارا وتكرارا لمن سبقه، بل حاول الرجل أن يقارب المسألة بمنهج يقوم على المحاجة والمقارنة والنقد والاستنتاجات وما يمكن أن يصاحب ذلك من قضايا على غرار ما يشوب مراحل تدوين الوحي من تناقضات وصراعات وخلفيات إيديولوجية ومذهبية وتحالفات وحذف وزيادة ونقص ومسائل المكّي والمدني وعلاقة ذلك بفهم النصّ وتمثّله في محضنه، ولا يمكن أن يتسنى ذلك للباحث بوضوح وجلاء إلاّ إذا قرأ هذه السياقات والقضايا قراءة موضوعية حيادية عقلانية تنهض على المقارنة ومقارعة الحجج والنقد والاستنتاج.

وقد أكّد هذه الإشكالية / تحويل الشفوي إلى المكتوب/ ودعا إلى ضرورة الانتباه إليها في فهم الثقافة العربية والإسلامية في كتابه "فنّيات قصص الأنبياء في التراث العربي"[10]، وبيّن في هذه الدراسة خاصة أثر المشافهة في المكتوب في القصص النبوي وما ثوى من محمولات تدعو إلى السؤال والمراجعة والنقد، مثلما وضّح أنّ مصدر هذه القصص القرآنية مثل آدم وإبراهيم وإدريس وإسحاق وموسى وعيسى وإسماعيل وأيوب ولوط وزكريا وسليمان ونحوها توراتية وإنجيلية، معنى ذلك أنّ النصّ القرآني راكم ما سبقه من أحداث واعتمد عليها وصاغها صياغة أخرى. والحقّ أنّ هذا لا ينتبه إليه إلاّ الباحث الفطن الذي يتعمّق في المضامين وينتبه إلى السياقات وينظر في المقارنات وما تؤول إليه من نتائج.

على هذا النحو سيتبيّن لنا مثلا أنّ صاحب العمل لاحظ تنامي المتن القصصي في النصّ القرآني على غرار ما نقف عليه مثلا في قصّة نوح التي توزّعت في عدّة سور مثل الأعراف ويونس وهود والأنبياء والمؤمنون والفرقان والشعراء والعنكبوت والصافات والذاريات والقمر والتحريم ونوح، واستخلص الباحث علاقة عضوية بين بنية القصّة والمادة التي تُصاغ منها، ورأى أنّ هذه البنية الأوليّة للقصّ تنهض على أمرين الأوّل المقدّس والثاني الكلام البشري الناتج عن المدوّنين والقصاص والرواة، ونبّه الكاتب في هذا السياق إلى وجوب أنسنة الخطاب والفهم والنظر في هذه القصص بمنظار عقلاني علمي؛ لأنّها تقوم على الشفوي وما يحفّ به من مسائل وقضايا مثل الحكي والقصّ والإسناد والرواية والنقل وصلة ذلك بالعرافة والكهانة والتنجيم، وهذا يقتضي من الباحث التفطن إلى هذه الملابسات حتى لا يتورط في مفاهيم وأفكار تجانب الحقّ والصواب والقراءة الموضوعية.

إنّ المتابع لما كتبه الباحث حمّادي المسعودي يستشفّ أنّه سعى إلى إبراز منزلة المقدّس في حياة الإنسان قديما وحديثا بناءً على ما جاء في دراساته وأبحاثه التي سعت إلى "تبيّن ما إذا كان الإنسان الحديث والمعاصر مازال في حاجة إلى "مقدّس" ما في زمن تجتهد فيه جميع أوجه النشاط البشري إلى زحزحة هذا العنصر من مقوّمات كيان الإنسان"[11].

وتبدو أنسنة المقدس في دعوة الباحث إلى كيفية التعامل معه وتوصيف أشكال تمثّله وصُور تقبّله لذلك طرح جملة من المقاربات "من خلال التساؤل عن معنى المقدّس والدوالّ الدائرة في فلكه وتلك المضادّة له، وعن علاقة الإنسان بمقدّساته في الأزمنة القديمة والحديثة، / وقد تساءل أيضا / عن منشئ المقدّس: هل هُو القُوى الخفية أو الإنسان؟ وإذا كان الإنسان هُو الذي يُنشئ مقدّساته، ما هي الأسباب التي تجعله ينهض بهذا الفعل؟ وما هي علاقة المقدّس بالدين؟ وهل يمكن أن ينشأ خارج فضاء الدين؟"[12].

هذه الأسئلة وغيرها حاول أن يدرسها الباحث في كتابه "متخيّل النصوص المقدّسة في التراث العربي الإسلامي" خاصة ما اتصل بالعلاقة العضوية بين المتخيّل والمقدّس، وكيف يجب على الباحث أن يقارب هذه المسائل ويتمثّلها ويتقبّلها ويدرسها بناءً على ما جاء في النصوص الدينية من أسطرة ومخيال وعجائبي، هذا المتخيّل يقوم على نصوص ما قبل النصّ القرآني مثل النصّ الإنجيلي وتأثيره في المتن القرآني، مما يدلّ على أنّ هذه النصوص المقدّسة توراة وإنجيلا وقرآنا تميل إلى التحوّل والهجرة وتوالد المعاني والدلالات، ولا يتأتى فهم ذلك إلاّ لباحث يتمعن في البُنى والمرجعيات والأصول والسياقات التاريخية والمحاضن الاجتماعية ومقارنة الإسلام الأوّل بما قَبله من ديانات خاصة اليهودية والمسيحية، لذلك رأى المسعودي إذا رام الباحث أن يفهم الظاهرة الدينية وجب عليه أن يضع في الاعتبار جملة من الآليات المنهجية والمعرفية والمسائل الفكرية على غرار ثنائية الشفوي والمدوّن والمتخيّل والأسطورة والمقدّس وغيرها من القضايا التي تسهم في النظر المعمّق في البحث العلمي.

ولئن استجزنا النظر في مثل هذه المقاربات الحضارية، فلأنّها من أبرز المسائل التي أثارها الباحث حمّادي المسعودي، فلم يغفل مثلا علاقة المقدس بالأسطورة ودور الأسطرة والعجيب في بناء النصّ الديني وبصفة خاصة النصّ القرآني، وبيّن كيف يمكن أن يؤثر ذلك في شخصية الإنسان وتصوّراته ومواقفه، فعالج بعض تجليات العجيب في نصوص الثقافة العربية الإسلامية وخاصة الدينية منها، واهتم بالعجيب من حيث التجليات والوظائف وبالأسطرة في علاقتها بالتاريخ، وتساءل عن علّة التجاور والتحاور بين ما هُو أسطوري وعجائبي وما هُو تاريخي وواقعي وعن علاقة السماوي بالأرض.

وأبان الباحث حقيقة علمية تتمثّل في أنّ المقدّس مقدّسات يأخذ عدّة أشكال وتمثّلات وصُور ورموز وتجليات، فهو متبدّل ومتغيّر بتبدّل المكان والزمان والثقافة "ولئن كانت أمثلة عديدة من المقدّس قد نشأت في حضن الدين فإنّه ليس من الضروري أن يُحيل كلّ تجلّ للمقدّس على الدين، فمن المقدس ما لا ينتمي إلى المجال الديني، ومن المحمولات في النصّ الديني ما لا يمكن أن يُضفى عليه طابع القداسة"[13].

ويحمّل الباحث الإنسان مسؤوليته كاملة في الوجود من حيث تعامله مع الغيب والعجيب والمقدّس والأسطورة وكلّ ما يمكن أن يكون خارقا للعادة أو من الخوافي، لذلك نبّه إلى ما "يمكن أن يُنعت بالقداسة لدى مجموعة بشرية بالإمكان أن يُرمى بنقيض هذه الصفة لدى مجموعة بشرية أخرى، وما يمكن أن يُعتبر رمز الطهر والصفاء قد يُنظر إليه على أنّه عنوان الدنس والرجس، وقد تَعْلَقُ القداسة بكائنات مادية محسوسة مثلما تكون موصولة بالمجردات"[14]. وبناءً على ذلك، يرى الكاتب أنّ المقدّس هو وليد الإنسان ونتاج تصوّره يخلقه باطراد "ليشبع ظمأ روحيا كامنا داخله"[15].

أوجب الباحث حمّادي المسعودي عددا من الآليات والمناهج والمقاربات الحضارية والمقترحات الفكرية حتى يتسنى لدارس النصّ الديني والدرس الحضاري أن يتمثّل هذه الإشكالية، فتوّج أبحاثه بكتاب مركزي ومهمّ في دراساته وأبحاثه وسمه بـ "الظاهرة الدينية من علم اللاهوت إلى علم الأديان المقارن"[16]، وقد قارب في هذا الكتاب الدين من وجهة نظر علم الأديان المقارن، وأكدّ أنّ النصّ الديني لا يمكن تمثّله إلاّ بالرجوع إلى المناهج الحديثة والمعاصرة مثل الأنثروبولوجيا وعلم الأديان وتاريخ الأديان وعلم الاجتماع الديني وعلم النفس الديني ونحوها من عدّة منهجية وإبستيمية، فتبدو بذلك دراسة الظاهرة الدينية عنده هي "معالجة لبُعد من أبعاد الإنسان، إنّه الكائن ذو الكيان المعقّد الذي عرف أثناء مراحل تاريخه الطويل العديد من التجارب والخبرات الموصولة بالمقدّس، وقد ظلّ الإنسان يعيش المقدّس في حياته اليومية مندغما فيه قبل أن يعرف مرحلة التنظير لهذا البُعد الساكن فيه، فكان يتعبّد للقُوى الخفيّة مبتهلا متضرّعا داعيا مقدّما القرابين"[17].

ولعلّ ما يُحسن التذكير به في هذا السياق، أنّ المؤلف وضّح في هذا الكتاب فكرة مركزية تتمثّل في الانتقال في دراسة الظاهرة الدينية من مجال علم اللاهوت إلى علم الأديان؛ معنى ذلك وجب على الدارس أن يعي أنّ البون بائن بين الحقلين، وإذا وعى ذلك وتعمّق في دراسة الظاهرة قد نجا بنفسه وأنقذ الآخرين من الوقوع في التكلس والغيبوبة الإيمانية الساذجة القاتلة للنفس والمميتة للروح والوجدان، فقد "ظلّت المجتمعات العربية والإسلامية تعيش سجينة إسلام متخيّل ومقطوع كليّا عن التاريخ الواقعي المحسوس وعن العلوم الحديثة"[18].

ولعلّ هذا الواقع البائس هو الذي جعل المسعودي يستخلص أنّ علم اللاهوت يتمحور حول تبني شبكة من المفاهيم والمضامين كما هي دون نقاش وتحليل وتعليل على غرار الوحي والإله والإيمان والنبوّة والمقدّس والإيمان بالخوافي، وهو خطاب الإنسان حول الإله والمفارق عامة، وهذا الخطاب يستند بالأساس على الكُتب المقدّسة، في حين أنّ علم الأديان الذي ظهر منذ أواخر القرن التاسع عشر يثبت انتماء كلّ المفاهيم الدينية، ومنها مفهوم الألوهة والمقدّس والمتخيّل إلى التاريخ البشري، وهذا العلم يستدعي التعويل على الشرح والتحليل والنقد والمقايسة والمقارنة في التعامل مع الظواهر الدينية دون مفاضلة بين الأديان، بناءً على أنّها كلّها تتأتى من مصدر واحد ومشكاة واحدة وتهدف إلى مقصد واحد، وتبدو أنسنة الدين وعقلنته في هذه المقاربة في دعوة الباحث حمّادي المسعودي إلى النظر في الظاهرة الدينية من مختلف الزوايا والتحوّلات والبُنى والوظائف التي يمكن أن تطرأ عليها هذا من جهة، ومن جهة أخرى يدعو إلى قراءة الأديان في سياقاتها الثقافية والحضارية دون الوقوع في الإسقاطات التاريخية أو الخلفيات الإيديولوجية، ومن جهة ثالثة إيمانه أنّ "انغلاق الذات ودورانها على دينها وتراثها يؤديان إلى ضيق أفق التفكير، وإلى التعصب الأعمى، ومعاداة "الآخر" ومقارنته بالأديان الأخرى يؤديان إلى سعة المعرفة وإلى التسامح وقَبول المخالف في الملّة"[19].

والأقرب إلى الحقّ أنّ الرهان الفعلي عند الباحث حمادي المسعودي لم يكن التأمل في الدين وعقلنته والنظر في الظاهرة الدينية وأنسنتها فقط، إنّما تعمّق في حياة الإنسان العربي ونظر في واقعه ومشاغله العملية على نحو ما يعانيه في الشأن العام وبصفة خاصة الناحية السياسية والاجتماعية والثقافية ومن تجليات ذلك ما تبدى في أبحاثه من ملاحظات واستنتاجات في دراسته لعلاقة الدين بالدولة، إذ رأى أنّ سياسة البلاد والعباد لا يجوز أن تُسلّم في يد شخص واحد يكون شقاء الناس وسعادتهم رهينتيْ تصرّفاته مهما يبلغ الرجل من الكمال ورجاحة العقل[20] هذا من جهة، ومن جهة ثانية لا يمكن أن نُسلّم البلاد في يد فقيه أو شيخ دين يحكم شعبه بتشريعات غيبية[21] لا تمتّ بصلة إلى الواقع والتاريخ ومشاغل الإنسان الطارئة، فيصبح الحُكم بذلك حُكما مطلقا ينهض على الاستبداد والقهر والتسلط والتصرف الفردي الذي لا همّ لصاحبه إلاّ المصلحة الخاصة وإشباع الشهوات.

والذي نفهمه من خلال النماذج التي درسها حمّادي المسعودي في كتابه "إشكالية النهضة في الفكر العربي الحديث" على غرار خير الدين التونسي وعبد الرحمان الكواكبي يؤمن أنّ النظام السياسي الأجدى للعالم العربي يتمثّل في الفصل المطلق بين الدين والسياسة، وقد انتبه إلى ذلك خاصة في ما وقف عليه في كتابات عبد الرحمان الكواكبي الأمر الذي جعله يعتقد أنّ الكواكبي ينزع منزعا علمانيا قائما على الفصل بين سلطة الدين وسلطة الدولة[22]. وبناءً على ذلك يرفض رفضا قطعيا أن تُساق هذه الشعوب العربية والإسلامية كالقطيع وتُحكم بخلافة عربية تقوم على الإصلاح الديني، أو تُحكم بفرد واحد يجمع كلّ السلط فيكون حكمه حُكما شموليا.

الخاتمة

إنّ طرافة أبحاث حمّادي المسعودي وقيمتها تتمثّلان خاصة في تنبيهه إلى ضرورة التعامل مع التراث العربي الإسلامي تعاملا واعيا موضوعيا علميا ينهض على النقد والغربلة والتفكيك بمنهج معاصر يتكئ على العلوم الإنسانية المعاصرة مثل علم الأديان وعلم النفس الديني واللسانيات وعلم الاجتماع الديني والإناسة والبنوية والتفكيكية والانفتاح على الثقافات الأخرى والغرف من عيون الكُتب الأجنبية والاستفادة من مقارباتها العلمية والمنهجية ونحوها من الآليات العلمية التي تُسهم في فهم النصّ وتقريب مقاصده، لذلك دعا المتدبّر لكتب علوم القرآن مثلا إلى "أن يتبيّن أنّ أصحابها مسلمون يؤمنون بقداسة النصّ ومفارقته، وهُم ينطلقون عادة من مسلّمات ويظلّون أوفياء لها ويدافعون عنها. وقد نهضت هذه المصنفات على اليقين والاطمئنان إلى سلطة السلف المعرفية، ولم يكن هدف أصحابها الدفع بالإشكال إلى أقصاه، وإنّما كانوا ينشدون ممّا يصنّفون البحث عمّا يؤكد الإيمان بالنصّ وقداسته من خلال جمع المادّة دون التحقيق والتمحيص؛ لأنّهم كانوا ينتمون إلى ثقافة تنهض على الاتّباع في المرحلة التي صُنّفت فيها تلك الكُتب"[23].

وبعد فهذه نماذج من كتابات حمّادي المسعودي وأبحاثه ومواقفه التي دعا من خلالها إلى أنسنة النصّ الديني بصفة عامة وعقلنة النصّ القرآني بصفة خاصة، والنظر بعمق ودقة وتمحيص في المنتوج الإسلامي ولا يكون ذلك إلاّ بتحييده عن المقدّس والمتعالي أو على الأقلّ السعي إلى فهمه وعقلنته، ونبّه إلى تبيئة التاريخ العربي والإسلامي وأنسنته وفهم المحضن الذي أفرز هذه الأحداث التاريخية وأنتج هذه النصوص التراثية والدينية، حتى يتخلص الباحث من التفسير الخطي للتاريخ والنظر السطحي في التراث، معنى ذلك ضرورة إدراج الفكر التاريخي النقدي والوعي التاريخي لدى دارس العلوم الإنسانية وبصفة خاصة الباحث في الدراسات الحضارية والأنتروبولوجية.

ولم يغفل الباحث حمّادي المسعودي الفعل السياسي في دعوته الملحّة إلى ضرورة الفصل بين الدين والسياسة، بمعنى أن نفهم القضايا السياسية والشأن العام بشكل علمي وموضوعي يتساوق ولحظة الإنسان وما يجدّ من مشاغل وقضايا ومشاكل في حياته اليومية.

وبعدُ، هذه جولة قصيرة مع عَلم من أعلام الجامعة التونسية، يمثّل ثمرة من ثمراتها الوارفة الظلال، أرجو أن أكون قد وضّحت نسبيا دوره العلمي ومساهماته الأكاديمية تأثيرا وتأثرا في الجامعة التونسية، وقد ظهر هذا الدور فيما أقدم عليه من أعمال وما تجشّمه من عَناء تدريسا وتأطيرا وتسييرا وإشرافا وإنتاجا علميا مثلما أشرت في هذا المقال إلى بعض النماذج من كتابات.

[1]- Foucault (Michel) L’ordre du discours, éd. Gallimard, Paris, 1971, P P. 8-9

[2]- ص 38 / 20

[3]- The Trumpet of conscience, Beacon Press. Reprint, 2011

[4]- Institution de la religion Chrétienne, éd. Michel Du Bois, Genève, 1541

[5]- La raison et les normes, Essai sur le principe et sur la logique des jugements de valeur, 2éme éd. Librairie Hachette, Paris, 1948

[6]- L’être et le Néant, é&d. Gallimard, Paris, 1943

[7]- Soi – même comme un autre, éd. Seuil, Paris, 1990

[8]- المسعودي (حمّادي) الوحي من التنزيل إلى التدوين، ط1، دار سحر للنشر، تونس، 2005.

[9]- نفسه، ص 11

[10]- المسعودي (حمّادي) فنّيات قصص الأنبياء في التراث العربي، ط1، دار مسكلياني للنشر، تونس، 2007

[11]- المسعودي (حمّادي) متخيّل النصوص المقدسة في التراث العربي الإسلامي، ط1، دار المعرفة للنشر، تونس، 2007، ص 15

[12]- نفسه، ص 16

[13]- متخيّل النصوص المقدّسة في التراث العربي الإسلامي، ص 66

[14]- نفسه، ص 276

[15]- نفسه، ص 276

[16]- المسعودي (حمّادي) الظاهرة الدّينيّة من علم اللاهوت إلى علم الأديان المقارن، ط1، مؤسسة مؤمنون بلا حدود للدراسات والأبحاث، الرباط، المغرب، 2018

[17]- نفسه، ص 17

[18]- نفسه، ص ص 9-10

[19]- الظاهرة الدّينيّة من علم اللاهوت إلى علم الأديان المقارن، ص14

[20]- المسعودي (حمّادي) إشكاليّة النهضة في الفكر العربي الحديث، ط1، دار نُهى للطباعة والنشر والتوزيع، صفاقس، تونس، 2011، ص 62

[21]- نفسه، ص 62

[22]- نفسه، ص ص 117-118

[23]- الوحي من التنزيل إلى التدوين، 134