بين اللّغة والدّين والحاجة إلى التأويل


فئة :  مقالات

بين اللّغة والدّين والحاجة إلى التأويل

بين اللّغة والدّين والحاجة إلى التأويل

نايلة أبي نادر

التفكير في اللّغة في زمن اللّا معنى أمر يبثّ بعضاً من الأمل في قعر الوعي؛ الاحتفال باللّغة العربيَّة في يومها حدث يدعو إلى المزيد من التأمّل في واقع محاصر بالتدهور يبعثر شظاياه في أكثر من اتجاه. فاللّغة فعل عبور من شرنقة الأنا أفكّر إلى المدى الأوسع، حيث يحلو للمعنى أن يتنقّل في مسيرة لا تقف عند حدود. اللّغة فعل إبداع متجدّد بين مُرسِل ومُرسَل إليه يلتقيان على متن الكلمات في رحلة تبحر بهما نحو اكتشاف المعنى والتعبير عنه.

اللّغة «كائن حيّ» له أن يعاني ويناضل من أجل البقاء كما تفعل باقي الكائنات في الطبيعة. عليه أن يستدرك التغيّرات والتقلّبات المحيطة به لكي يصارع حفاظاً على وجوده، ويبعد عنه المصير المشؤوم. اللّغة هويَّة، واللّغة انتماء... يشير جرجي زيدان في سياق دراسته لتاريخ اللّغة العربيَّة إلى أنَّه «يتبعُ الأحياء في الخضوع لهذه النواميس ما هو من قبيل ظواهر الحياة أو توابعها، وخاصَّة ما يتعلّق منها بأعمال العقل في الإنسان، كاللّغة والعادات، والديانات، والشرائع، والعلوم، والآداب، ونحوها... فهذه تُعدّ من ظواهر حياة الأمَّة، وهي خاضعة لناموس النموّ والتجدّد ولناموس الارتقاء العام. ولكلٍّ من هذه الظواهر تاريخ فلسفي طويل، نعبّر عنه بتاريخ تمدّن الأمَّة، أو تاريخ آدابها، أو علومها، أو حكومتها، أو أديانها، أو نحو ذلك، وهي أبحاث شائقة فيها فلسفة ونظر... ومن هذا القبيل تاريخ اللّغة العربيَّة»[1].

ويختم بحثه مستنتجاً ما يأتي: «فاللّغة كائن حيّ نامٍ خاضع لناموس الارتقاء، ولا بدَّ من توالي الدثور والتولّد فيها... أراد أصحابها ذلك أو لم يريدوا، تتولّد ألفاظ جديدة وتندثر ألفاظ قديمة على مقتضيات الأحوال لحكمة شملت سائر الموجودات»[2].

نجد من الناحية الأخرى، جيل دولوز وفيليكس غاتاري يؤكّدان «أنَّ الفيلسوف صديق المفهوم، إنَّه بالقوّة مفهوم، معنى ذلك أنَّ الفلسفة ليست مجرَّد فن تشكيل وابتكار وصنع المفاهيم؛ لأنَّ المفاهيم ليست بالضرورة أشكالاً أو اكتشافات أو موادّ مصنوعة. إنَّ الفلسفة، بتدقيق أكبر، هي الحقل المعرفي القائم على إبداع المفاهيم...»[3].

من هنا تتكشّف لنا العلاقة الكامنة بين اللّغة والفكر، التي تقودنا إلى هذا التعريف ما بعد الحداثي لمَهمّات الفيلسوف، حيث نجد نوعاً من الترابط المتين القائم بين فعل التفلسف وإبداع المفاهيم. لم تعد الفلسفة تتحدّد فقط في تقديم نظريَّة خاصّة حول الكون أو الإنسان أو المعرفة، وإنَّما أصبحت نوعاً من المغامرة باللّغة ومعها. إنَّها عبارة عن جدليَّة قائمة بين اللّغة والفكر؛ إذ بات الاشتغال باللّغة أمراً مطلوباً في مسار تجديد التفكّر الفلسفي الرصين.

كذلك نجد أنَّ جرجي زيدان قد شدّد منذ عصر النهضة على ضرورة متابعة الاشتغال في اللّغة وتطويرها قائلاً: «وقد آن لنا أن نخلّص أقلامنا من قيود الجاهليَّة، ونُخرجها من سجن البداوة... وإلّا فلا نستطيع البقاء في هذا الوسط الجديد. فلا ينبغي لنا احتقار كلّ لفظ لم ينطق به أهل البادية منذ بضعة عشر قرناً؛ لأنَّ لغة البراري والخيام لا تصلح للمدن والقصور، إلّا إذا ألبسناها لباس المدن..(...) فاستعمال اللفظ المولّد خير من إحياء اللفظ الميت، واستبقاء المولود الجديد أولى من إحياء الميت القديم...»[4].

نلحظ أنَّه مع مجيء ديانات الوحي اتّسعت العلاقة بين اللّغة والدين، فاتخذ مفهوم النص بُعداً جديداً؛ إذ بات يحتوي على منطوق الخطاب الإلهي الذي يتضمَّن آيات محمَّلة بالمعنى، على المتلقّي أن يسبر أغوارها لكي يتلقّى الرسالة، ويقوم بما هو مطلوب منه. فالتعمّق في اللّغة فرضٌ واجبٌ لمعرفة فحوى الرسالة. يذكر محمَّد أركون في سياق درسه لآليَّة اشتغال العقل الإسلامي نصّاً للإمام الشافعي يبرز فيه أهميَّة اللسان العربي في فهم القرآن، وتلقّي الرسالة الإلهيَّة، قائلاً: «إنَّ القرآن نزل بلسان العرب دون غيرهم؛ لأنَّه لا يعلم من إيضاح جمل علم الكتاب أحد جهِل سعة لسان العرب، وكثرة وجوهه، وجِماع معانيه وتفرّقها. ومن علِمَه انتفت عنه الشُّبَه التي دخلت على من جهِل لسانها. فكان تنبيه العامَّة على أنَّ القرآن نزل بلسان العرب خاصَّة نصيحة للمسلمين. والنصيحة لهم فرضٌ لا ينبغي تركه (...)»[5]. يعلّق أركون على النص لافتاً الانتباه إلى العلاقة اللّغوية الكامنة بين الحقيقة المتعالية والمطلقة التي أوصى بها الله الحق، وبين الصيغ اللّغويَّة المحسوسة التي تلبّستها في القرآن، وهي علاقة لا تقبل الاختزال. من هنا يأتي انهمام أركون بالتأويل من أجل فهم النص المقدَّس آخذاً في الاعتبار ليس فقط قواعد اللسان العربي، وإنَّما أيضاً آخر ما توصّل إليه علم اللسانيَّات والأنثروبولوجيا الدينيَّة في ما يتعلّق بفهم النص المقدَّس وتفكيك بُعده الرمزي.

لذا نسأل: هل من أسس واضحة تربط بين الدين واللّغة؟ لمَ اتخذ التأويل كلّ هذه الأهميَّة في الفكر المعاصر؟

للإجابة عن هذين السؤالين، سوف أتوقّف عند اللبس الذي اعترى لفظ «الكلالة» في القرآن وكيفيّة تأويل أركون للآية القرآنيَّة التي ورد فيها، بعد أن عرض تفسير الطبري وانتقده.

- في مفهوم الكلالة:

تشكّل مكانة المرأة في الشريعة الإسلاميَّة موضوعاً خصباً للنقاش والأخذ والرّد، لم تُنجز فصوله بعد وتُختم بالشمع الأحمر. يرى محمَّد أركون أنَّ المرأة قد أصبحت عرضة للمماحكات والصراعات العنيفة داخل المجتمعات الإسلاميَّة والعربيَّة. يشير إلى أنَّ أيّ مفكّر يتجرّأ ويقوم بخطوة واحدة في اتجاه «إعادة النظر في المكانة التي حدّدتها الشريعة للمرأة من خلال آيات قرآنيَّة صريحة غالباً، فإنَّه يغامر بنفسه ويحاذي عن كثب مخاطر التكفير الأكبر والخلع من أمَّة المسلمين»[6]. إنَّ الحذر الذي يلفت الانتباه إليه ناتج عن خبرة موسومة بالمعاناة طبعت محطات عدّة من حياته، هو الذي انشغل بالقرآن مدّة طويلة من عمره، واهتمَّ بدراسة آليَّات التفسير، من دون أن يلقى عمله الترحيب أو الاهتمام المطلوب من قبل الفقهاء والعلماء؛ لأنَّه تجرّأ وخرق دائرة المستحيل التفكير فيه التي تزداد اتساعاً.

أراد في سياق أبحاثه أن يتوقف عند الجزء الثاني من الآية الثانية عشرة من سورة النساء، حيث يرد لفظ «كلالة». اكتشف أنَّ «رهانات المناقشة المتمحورة حول طريقة قراءة كلمة «كلالة» ومعناها هي من الخطورة والأهميَّة، حيث إنَّ مجمل المسألة يُمكنه أن يساعدنا للمرَّة الأولى في تاريخ الفكر الإسلامي على بلورة تيولوجيا -إناسيَّة- منطقيَّة للوحي»[7].

هناك قراءة إسلاميَّة تقليديَّة للفظ الكلالة يعرضها أركون في خطوة أولى، لكي ينتقل في ما بعد إلى نقد هذه القراءة من خلال فهمه لهذا اللفظ، انطلاقاً ممَّا توفره علوم اللّغة والإنسان والمجتمع من معطيات تُعينه في عمليَّة سبر أغوار المعنى.

1. الكلالة في المفهوم الإسلامي:

يعتمد أركون بشكل أساس، لكي يعرض المفهوم الإسلامي للفظ «الكلالة»، على قراءة أحد أبرز المفسّرين أبي جعفر محمَّد بن جرير الطبري (225 - 310 هـ)، من خلال ما جاء به في مؤلَّفه الشهير «جامع البيان في تأويل القرآن»، لكي يعيد النظر تالياً في هذا التفسير، انطلاقاً من منهجيَّة النقد التاريخيَّة المنفتحة على آخر مكتسبات علوم اللّغة والإنسان والمجتمع. لم يشأ أن يكتفي بالمنهج البياني الذي اتبعه الطبري في تفسير الألفاظ والعبارات القرآنيَّة. تجدر الإشارة هنا إلى أنَّ الطبري عُرف بانتمائه إلى المذهب الشافعي بداية، ومن ثمَّ قام بتأسيس مذهب منفرد، فصار له أتباع ومقلّدون.

يعود أركون إلى سورة النساء، تحديداً إلى الجزء الثاني من الآية الثانية عشرة، لكي يبحث عن معنى لفظ «الكلالة» الذي دارت حوله مناقشات عدّة؛ تقول الآية:

«... وإن كان رجلٌ يُورَثُ كلالةً أو امرأةٌ، وله أخٌ أو أختٌ، فلكلِّ واحدٍ منهما السدسُ فإن كانوا أكثر من ذلك فهم شركاء في الثلث من بعدِ وصيةٍ يُوصَى بها أو ديْنٍ غيرَ مُضارٍ وصيةً من الله والله عليمٌ حليمٌ». «سورة النساء، الآية رقم 12»

يبدو أنَّ الخلاف بين قراءة الطبري وقراءة أركون يكمن هنا في كيفيَّة تشكيل الآية. قام أركون بعرض هذه الآية من دون إعراب ولا حركات على بعض الناطقين بالعربيَّة كلغة أم، فاكتشف أمراً مدهشاً. وجد أنَّ الذين حفظوا القرآن عن ظهر قلب، قاموا بتلاوة الآية كما وردت في القرآن، إعراباً وتشكيلاً. يعلّق أركون هنا معتبراً أنَّ هذه القراءة كان قد تمّ اعتمادها بعد نقاش مطوّل من جهة المفسرين التقليديين، وتمَّ فرضها بعد ذاك في المصحف الرسمي منذ الطبري على الأقل.

لكنَّه، في المقابل، وجد أنَّ الذين لم يحفظوا القرآن عن ظهر قلب، إنَّما اتّبعوا ملكة الكفاءة الخاصَّة بقواعد اللغة العربيَّة، قاموا بقراءة الآية بشكل مغاير، يخالف ما استبعده تفسير الطبري. يلحظ أركون أنَّ هناك خلافات يذكرها الطبري تخصّ تشكيل فعلين وردا في الآية، أو كيفيَّة بنائهما للمجهول أم للمعلوم، الفعلان هما: يورث ويوصي.

يعتمد الطبري في منهجيته في التفسير على الأخبار المرتكزة على الإسناد. يورد مجموعة من الأخبار يصل عددها إلى سبعة وعشرين، من أجل التوصّل إلى تفسير لفظ كلالة والكشف عن معناه الحق. هذه القصص منسوجة على نحو حكايات السيرة النبويَّة، يهدف من خلالها إلى إبقاء لفظ «كلالة» من دون معنى واضح، مثبتاً الغموض الذي يلفّه، بحجَّة أنَّ المسألة سبق أن طُرحت في زمن النبي، ولم يبتّها بشكل واضح وصريح، بحسب ما يعتقد الطبري.

الفعلان الواردان في الآية: يورث ويوصي، يُمكن أن ُيقرآ بشكل مبني للمجهول أو للمعلوم، كما جاء في التفسير المعتمد. فإذا بُني الفعلان للمعلوم تولّد معنى مغاير عن الذي سينجلي في حال تمَّ بناء الفعلين للمجهول. نجد أنَّ الطبري يحسم الأمر، عندما يقرأ هذين الفعلين قراءة مبنيَّة للمجهول.

لقد ألحَّ الطبري على إبقاء المعنى غير واضح؛ لأنَّ تحديده سيؤدّي برأي أركون إلى زعزعة نظام الإرث العربي السائد قبل الإسلام. حاول الطبري بقوَّة «إبقاء كلمة «الكلالة» من دون معنى؛ أي إظهار العجز عن تحديد معناها. ويلحظ أركون أنَّ «الآية (176) من سورة النساء نفسها تحمل شهادة على راهنيَّة المشكلة وإلحاحها، وأنَّها قد طُرحت في زمن النبي». (المصدر السابق، ص52). كما يرى في هذا السياق أنَّ أمور الإرث كانت تشغل بال المؤمنين أيام النبي، وأنَّ مكانة الكلالة قد أحدثت وضعاً جديداً بإمكانه أن يؤدّي إلى تغيير جذري في ما اعتاد عليه العرب سابقاً. ويشير إلى أنَّ هذا ما أدَّى الى امتناع عمر عن الكشف عن معنى اللفظ الحقيقي. كانت الروايات التي سردها الطبري تتوقف عند ذكر شخصيَّة عمر بن الخطاب بشكل أساس نظراً الى إصراره على معرفة معنى الكلالة.

جاء في الآية (176) من سورة النساء ما يلي:

«يَستَفْتُونَكَ قُلِ الله يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلَالَةِ * إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ فَلَهَا نِصْفُ مَا تَرَكَ * وَهُوَ يَرِثُهَا إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهَا وَلَدٌ * فَإِنْ كَانَتَا اثْنَتَيْنِ فَلَهُمَا الثُّلُثَانِ مِمَّا تَرَكَ * وَإِنْ كَانُوا إِخْوَةً رِجَالًا وَنِسَاءً فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ * يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا* وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ». «سورة النساء، الآية 176»

يشير أركون إلى أنَّ النبي كان يكتفي بالإحالة إلى هذه الآية في كلّ مرَّة كان عمر يسأله عن معنى الكلالة. ويعلّق معتبراً أنَّ هذه الآية تشرح طريقة توزيع الإرث من دون أن توضّح فعليّاً معنى الكلالة. كلّ ما تكشفه يكمن في أنَّ المرء عندما يموت من غير أن يترك وراءه طفلاً، يجسّد حالة من حالات الكلالة. وهذا برأيه ما يبرّر قراءة فعل «يُورَث» في الآية (12) مبنياً للمجهول وليس للمعلوم. لكنَّه يجد نفسه مضطراً في الوقت عينه إلى أن يسأل عن السبب الذي دفع الطبري إلى ذكر كلّ الروايات التي تبرز قلق عمر وتساؤلات معاصريه الملحّة، رغم أنَّ الآية (176) قد حلّت المسألة ووضَّحت المعنى.

يَلفت أركون الانتباه إلى أنَّ التفسير التقليدي للقرآن يقع في التناقض، إذ لا يتردّد في حسم المشكلة من جهة، ويعترف بالغموض الكامل الذي يعتريها من جهة أخرى.

يلحظ مفكّرنا في هذا السياق أمراً بديهياً مهمّاً يكمن في موقف المفسّر التقليدي الذي يحترم مبدئيَّاً الكلام الإلهي، من دون أن يتردّد في المقابل في تفسير الكلالة ضمن المعنى الذي تفرضه حاجة الأمَّة، ومتطلبات العرف القائم، واستراتيجيَّة ضبط ومراقبة الأرزاق في المجتمع العربي آنذاك. برأيه، هنا تكمن كلّ الرهانات المخفيَّة لأيّ تشريع يخصُّ مشكلة الإرث.

إنَّ هذا الأمر الواقع قد دفع أركون إلى البحث في ما وراء هذه الحالة الخاصَّة، لكي يطرح مسألة «تقييم المسافة الكائنة بين هدف القانون أو مقصده في القرآن، وبين الأهداف العمليَّة المحسوسة للقوانين القضائيَّة التي تشكّلت في ما بعد ضمن السياقات والظروف التاريخيَّة الأكثر تنوّعاً وتقلّباً»[8].

يهمُّ أركون أن يشير إلى الجهد الذي بذله المفسّرون في التعاطي مع القرآن، لكي يحافظوا على النظام السابق داخل المجتمع من دون أن يعدّلوا فيه؛ لأنَّه كان يتحكّم في انتقال الأملاك والأرزاق بين الناس. من هنا يَفهم كثرة الروايات والجهد المبذول من قبل الطبري لكي يُبقي لفظ الكلالة مبهماً، تفادياً لإحلال واقع جديد في ما يخصُّ الإرث. يبقى لنا أن نبيّن كيفيَّة قراءة أركون للآية (12) من سورة النساء. ما أسس هذه القراءة؟ وما تفسيره لعدم قيام الطبري بالبت نهائيَّاً في هذه المسألة؟

2. الكلالة في مفهوم أركون:

يتعاطى أركون مع تفسير لفظ الكلالة انسجاماً مع منهجيَّة النقد التاريخي والفلسفي التي ينطلق منها، وهي ترتكز على الحفر والتفكيك والاستفادة من الفيلولوجيا ومناهج علوم الإنسان واللغة والمجتمع. سوف ينطلق أوَّلاً من دراسة لافتة قدّمها المستشرق الأمريكي ديفيد باورز (David Powers) تمتاز بجرأتها الفكريَّة، نُشرت تحت عنوان: «دراسات في القرآن والحديث، تشكّل القانون الإسلامي الخاص بالإرث». قام المؤلف بدراسة فيلولوجيَّة للفظ الكلالة من خلال دراسة نقديَّة لتفسير الطبري. يُبدي أركون تقديره لهذه الدراسة، ويُعرب عن أسفه؛ لأنَّها لم تصدر عن باحث عربي أو مسلم. لكنَّه يقدّم في ما بعد ملاحظاته النقديَّة، مميزاً بين منهجيته التي أطلق عليها اسم «الإسلاميَّات التطبيقيَّة» ومنهجيَّة المستشرقين المجتزأة والاختزاليَّة التي لا تقوم بمحاولة تأويليَّة لموضوع بحثها بعيداً عن الالتزام المعرفي الكامل. ينطلق المنهج الفيلولوجي الذي اعتمده باورز في اتجاه فحص الأخبار المنقولة لكي يتأكّد أوَّلاً من صحّتها، ويحدّد التواريخ، ويبرهن على حصول الأحداث بالفعل، والتوقّف عند النصوص لاستخراج معانيها. يرى أركون أنَّ باورز يستنفد مختلف المصادر اللّغويَّة التي توفرها اللغات الساميَّة كالعبريَّة والأكاديَّة والآراميَّة والسريانيَّة، لكي يتوصَّل إلى المعنى الحقيقي للجذر اللغوي «كلل»، ما يمكّنه من ثَمَّ من فهم معنى لفظ «كلالة».

يعلن باورز أنَّ الطبري كان قد أهمل ذكر ثلاثة عشر خبراً أو شهادة؛ لأنَّها تأتي بتفسير مغاير لما أراد أن يبرهنه من خلال تفسيره الخاص. يعلّق أركون هنا، معتبراً ذلك من عادة الطبري. «فهو يحرص كلَّ الحرص على تثبيت التفسير على خط واحد؛ وذلك بواسطة إلحاحه على ضرورة تبنّي الحلول والمعاني التي يتبناها أهل الإسلام أو أهل القبلة بحسب تعبيره الخاص بالذات. وهذان التعبيران يتيحان له أن يتجاوز مسألة الشقاق أو الخلاف الناجم بين المسلمين: من شيعة، وسنَّة، ومعتزلة، وخوارج، ...إلخ، ونحن نعلم أنَّه كان حريصاً على وحدة المسلمين»[9].

ويضيف أركون، في سياق حديثه عن الظروف التاريخيَّة التي أثّرت في عمل الطبري، أنَّ له ميزة مهمَّة تكمن في أنَّه حفظ آثار المناقشات العنيفة التي حصلت بين المسلمين، حتى ولو أنَّ هذه الآثار خفيفة لديه. ويشير إلى أنَّه بعد الطبري ترسَّخ الرأي الواحد المستقيم أو ما يُعرف بالأرثوذكسيَّة الإسلاميَّة.

بالعودة إلى قراءة باورز لتفسير الطبري، نجد أنَّ أركون يَعدّها خطوة أولى ضروريَّة لكنَّها غير كافية؛ لأنَّها لم تتمكّن من حسم الموقف وتقديم معنى لفظ كلالة. إنَّ مقاربة باورز للأخبار السبعة والعشرين التي أوردها الطبري، بالإضافة إلى الثلاثة عشر خبراً غير المذكورة لديه، أسهمت في الكشف بصراحة عن محدوديَّة المنهجيَّة الفيلولوجيَّة التي لم تتمكّن من تجاوز الحلول المفروضة من قبل التراث الإسلامي، على الرغم من أنَّها طعنت ببعض معطياتها. فما هو الجديد الذي أتت به قراءة أركون التفكيكيَّة في نهاية المطاف؟

كخطوة أولى، كما سبق أن أشرنا، قام بعرض الآية غير المشكَّلة على بعض المؤمنين، فحصل على قراءتين: الأولى جاءت من قبل الذين حفظوا القرآن من دون التمتّع بالكفاءة القواعديَّة واللغويَّة العربيَّة مطابقة للنموذج الذي فرضه الطبري، وهي بناء فعلَي «يورث ويوصي» للمجهول. الأمر الذي يجعل كلمة امرأة الواردة في الآية الثانية عشرة من سورة النساء مفعولاً به مباشراً، مثل كلمة كلالة بالتمام. أمَّا القراءة الثانية، فقد اعتمدت على الكفاءة في قواعد اللغة العربيَّة، فبنت الفعلين المذكورين للمعلوم. هذا الأمر يخالف كليَّاً ما جاء في القراءة الأولى. تأتي القراءة على الشكل التالي: «وإن كان رجلٌ يُورِثُ كلالةً أو امرأةً»، وهي «القراءة الطبيعيَّة المناسبة للفطرة العربيَّة والذوق العربي السليم والملكة اللغويَّة أو الكفاءة اللغويَّة للناطقين بالعربيَّة»[10].

يرى أركون أنَّ القراءة التي فُرضت من قبل الفقهاء للآية المذكورة «صعبة جداً وملتوية وعسرة على الذوق اللّغوي العربي»، وهي تحتاج إلى كمٍّ من الشروحات والتبريرات القواعديَّة واللغويَّة. القراءة الفقهيَّة تأتي على الشكل الآتي: «وإن كان رجلٌ يُورَثُ كلالةً أو امرأةٌ (...)»، هذا التشكيل يجعل القراءة صعبة على الذوق العربي السليم.

يشير أركون إلى أهميَّة قراءة الطبري؛ لأنَّها تعكس النهج الذي اتبعته الأرثوذكسيَّة في ذلك الحين من أجل فرض نمط خاص بالقراءة والتفسير. ويلحظ أنَّ الإجماع الذي كان سائداً في تلك الحقبة هو إجماع الأغلبيَّة العدديَة، لم يكن من صلب انهمامه تقييم الرهانات اللّاهوتيَّة والقانونيَّة والاجتماعيَّة والاقتصاديَّة على وجه الخصوص. كلّ هذه الرهانات أدّت الى حذف قراءة أخرى أدقَّ وأكثر قرباً من المنطق على صعيدي اللّغة والقواعد العربيَّة السليمة.

إنَّه لا يُنكر أنَّ العلماء المسلمين «قد اهتمّوا بنقد سلاسل الإسناد من أجل التأكّد من صحة الأخبار المنقولة. ولكنَّهم فعلوا ذلك ضمن إطار كتابة التاريخ السائدة في زمنهم بكلّ محدوديتها وإمكانياتها. ثمَّ جاء النقد الفيلولوجي للمستشرقين، وهو لم يفعل إلَّا أن زاد من حدَّة هذه المنهجيَّة التفصيليَّة ودفعها في اتجاه وضعي بحت (من مثل الاهتمام بتحديد التواريخ الدقيقة، والتأكّد من ماديَّة الوقائع أو الأخبار المنقولة، (...) وتصويب النصوص ودلالاتها أو معانيها، ...)»[11].

إنَّ ما قام به المشتسرقون يُعدّ خطوةً أولى ضروريَّة، لكن يجب عدم التوقف عندها. فمعنى لفظ كلالة بقي غير محسوم بعد كلّ ما جاء به باورز من فرضيَّات وتحرّيات فيلولوجيَّة. لكنَّ عمل التحرّي الذي قام به كان ضروريّاً للغاية، باعتباره بداية البحث عن المعنى، إنَّما يجب إكماله بخطوات تالية لا تقلُّ أهميَّة عنه. يريد التوجّه إلى الوعي الإيماني لكي يبرهن له كيفيَّة المرور في مجال التفسير «من مرحلة الكلام الحق لله (أي الوحي)، إلى مرحلة الكلام الحق للفقيه العالِم بأصول الدين وأصول الفقه، وذلك من أجل ضمان الإيمان الحق لكلّ المؤمنين».[12]

إنَّ تعبير أركون هذا لن يُقبل بالطبع أو يُرحّب به، لأنَّه يمسُّ قدسيَّةَ التفسير، فلا يضعه في مقام الكلام الموحى، بل يتعاطى معه بموضوعيَّة علميَّة، مفنّداً حيثياته. هذا المسار غير ملائم؛ لأنَّه مغاير أيضاً للنهج الذي يتّبعه النقد الإسلامي التقليدي لعمليَّة إسناد الأخبار، كما هو مغاير في الوقت عينه لمنهجيَّة النقد الفيلولوجي لدى المستشرقين.

انهمّ أركون بتحليل الأخبار التي نقلها الطبري حول لفظ الكلالة، بهدف إظهار حرصه على تحقيق إجماع الأمَّة، على الرّغم من الثمن المُضحّى به على مستوى «البحث عن المعنى». فالإجماع زمن الطبري يجسّد «التعبير الصحيح والمقدَّس عن المقصد الإلهي المتضمّن في كلّ الوحي»[13].

يختار أركون مجموعة من الأخبار التي أوردها الطبري بهدف قراءتها وتحليلها محاولاً الكشف عن السبب في التردّد بخصوص البتّ في معنى الكلالة. لن يتطرَّق إلى طرح صحَّة هذه الأخبار كما فعل المفسّرون التقليديون أو المستشرقون. يختار أن يُقارب الموضوع انطلاقاً من مستويين: يحاول المستوى الأوَّل اكتشاف المعنى المباشر للأخبار، وتلخيص المسلّمات التي تفرض نفسها على الوعي الإيماني الإسلامي. يدرس المستوى الثاني مختلف «تقنيات الإخراج الأدبي أو القصصي» التي وردت في الوحي، وكيفيَّة تعميم هذا الإخراج على الصعيد الشعبي، لكي يتمّ الانتقال من القول الحقّ إلى الإيمان الحقّ. هذا المسار وجّه تعاطي أركون ليس فقط مع تفسير الطبري، وإنَّما مع النصوص التفسيريَّة التقليديَّة على وجه العموم[14].

أودّ أن أشير إلى أنَّ عمليَّة الانتقال من الوحي إلى التفسير شغلت أركون مطوّلاً؛ حاول أن يبيّن مراراً الوهم المسيطر على الوعي الإسلامي ككل، وهو الاعتقاد بأنَّ تفسير الفقهاء للكلام الإلهي هو جزء من هذا الكلام؛ أي إنَّه معصوم مثله، لأنَّه يستند إلى الوحي بالدرجة الأولى. حاول أن يظهر المسافة الفاصلة بين الحقيقة المتعالية للوحي، وبين الحقيقة التي يعلنها المفسّرون المرتبطون بظروف تاريخيَّة معيّنة، وصراعات محتدمة من حولهم. يشدّد على انخراطهم في عصرهم بكلّ ما يحمل من أُطرٍ معرفيَّة، واجتماعيَّة، وسياسيَّة. كما يشير إلى أنَّ استخدام فنّ السرد والحكاية قد أدَّى إلى «تغليب التصوُّرات الخياليَّة على العقل التاريخي»، وذلك بهدف توليد إيمان لا ينفصل عن المتخيّل الاجتماعي للمؤمنين. إنَّ أسلوب السرد والقصص يُشبع رغبة الخيال وتعطّشه إلى ما هو مدهش. لكنَّ المشكل يكمن هنا في كيفيَّة جعل قرّاء اليوم، إلى أيّ مذهب انتموا، يعون الفرق بين مرحلتين رئيستين: مرحلة التراث الشفهي في البداية، ومرحلة الانتقال إلى الممارسة المنطقيَّة والاستدلاليَّة للتراث الكتابي.

هناك خاصيَّة تُميّز نظام المعقوليَّة في البداية قبل الانتقال إلى مرحلة التدوين والتوثيق الكتابي. إنَّها بحسب أركون «الاختلافات النفسيَّة واللّغويَّة والاجتماعيَّة-الثقافيَّة» بين زمنين: الشفاهي والكتابي. هذه الملاحظة المنهجيَّة لم تكن واردة عند الفقهاء وعلماء الكلام المسلمين عندما درسوا الوحي. لقد حصروا عملهم بالقوانين وبكيفيَّة حمايتها ممَّا هو غريب وخارج عنها، واهتمُّوا بتطبيقها على أكمل وجه. كما أنَّ المستشرقين أهملوا في الوقت عينه ما يسمّيه أركون «الشروط المحيطة بإنتاج المعنى في سياق شفهي أو في سياق كتابي، مثلهم في ذلك مثل العلماء التقليديين»[15].

يوضح أركون الأمر عندما يتوقف عند روايتين يوردهما الطبري: الرواية الأولى تحكي عن ثعبان ظهر فجأة في الغرفة، حيث كان عمر بن الخطاب، وهو على وشك إعطاء معنى لفظ الكلالة، فامتنع. أمَّا الرواية الثانية، فتُنقَل عن جابر بن عبد الله الذي يحكي كيف أنَّ النبي غسله بماء وضوئه حين كان مغمىً عليه، فأفاق وسأله عن كيفيَّة قضاء ماله، فلم يُجبه شيئاً حتى نزلت آية الميراث؛ أي الآية (176) من سورة النساء، السابق ذكرها في القسم الأوَّل من هذا المبحث.

يسجّل مفكّرنا ملاحظته بعد التأمّل في الروايتين جيّداً؛ إذ يشير إلى أنَّ ما تمَّت روايته لم يولّد أيَّ اعتراض أو انتقاد عندما كانت الروايتان تُنقلان شفهيَّاً، فيسمعهما المؤمنون ويتقبّلونهما؛ لأنَّ هؤلاء المؤمنين ينتمون إلى «دائرة العجيب المدهش والساحر الخلّاب»، بحسب رأي أركون. إنَّهم «يدخلون في دائرة الإرادة الغيبيَّة لله، حيث تَتلقّى الأفكار والأوضاع مباشرة دلالة مؤكّدة ونهائيَّة لا تقبل النقاش»[16].

أمَّا عندما يتمّ الانتقال إلى مرحلة الكتابة، فالأمر سيختلف بالكامل. فالانطباع الذي ولّدته هاتان الرّوايتان وأمثالُهما من الحكايات الشفهيَّة المرتكزة على أسلوب العجيب المدهش قد فقد الكثير من قوَّته ومن وقعه في النفوس. فجاءت بالتالي القراءة النقديَّة، لكي تمحوه كليَّاً بحجَّة أنَّه ينتمي إلى «دائرة الخرافة أو علم المقدَّسات والقدّيسين»؛ أي إلى «دائرة الظواهر المميِّزة للوعي الأسطوري، ولنمط المعرفة المناسبة له»[17].

يتوقف أركون في سياق بحثه عن معنى الكلالة عند أمر لافت في مجال الإرث، وهو تمييز القرآن بين التوريث من دون وصيَّة والتوريث بوصية. فيذكر أربع آيات من سورة البقرة لا تعترف فقط بحقّ كلّ مؤمن في حريَّة التوريث لمن يشاء، إنَّما تعلن واجب المؤمن التوريث بواسطة ترك وصيَّة بما يملك، لكلّ من له الحقّ في ذلك، عن طريق وصيَّة للأبوين وللأقارب وللزوجات؛ إذ بإمكانه توريثهم بإرادته الصريحة أو حرمانهم إن شاء. الآيات التي هي موضوع البحث تأتي وفق الترتيب الآتي: رقم 180-181-182 و240 من سورة البقرة. لكنَّ أركون يشير إلى أنَّ هذه الآيات قد نُسخت؛ أي أبطلت من قِبل الآيتين 11 و12 من سورة النساء، ويفضِّل استخدام عبارة «أعلنوا عن أنَّها باطلة أو منسوخة»، إشارة إلى تدخّل المفسّرين والفقهاء. من هنا يَفهم سبب الضغوط التي جعلت الطبري ومن سواه يبنون الفعل «يوصي» للمجهول وليس للمعلوم الوارد في الآية (12) من سورة النساء التي سبق ذكرها؛ وذلك خلافاً لما يتوقعه الذوق العربي والكفاءة اللغويَّة. يَستنتج من ثَمَّ أنَّنا «أمام إرادة صريحة ومعتمدة تهدف إلى حصر حريَّة التوريث، بل حتى إلى إلغائها على الرّغم من أنَّ القرآن قد نصَّ عليها صراحة في الآيات المذكورة من سورة البقرة؛ بمعنى آخر إنَّ المشرّعين من البشر (أي الفقهاء) قد سمحوا لأنفسهم بالتلاعب بالآيات القرآنيَّة من أجل تشكيل «علم للتوريث» يتناسب مع الإكراهات والقيود الاجتماعيَّة-الاقتصادية الخاصَّة بالمجتمعات التي اشتغل فيها الفقهاء الأوائل (أو بالأحرى الخاصَّة بالفئات الاجتماعيَّة التي اشتغلوا داخلها لكي نكون أكثر دقة) بكلّ مصالح هذه الفئات وعاداتها وتقاليدها»[18].

نلحظ بوضوح جرأة أركون في هذا النصّ الذي يبرز تقدُّم منهجيَّة النقد التاريخي لديه، وعدم اكتفائه بعلم البيان فقط من أجل المزيد من فهم الآيات القرآنيَّة. لا يتردّد في اتهام الفقهاء بمخالفة الآيات القرآنيَّة بغية الحفاظ على نظام التوريث السائد في المجتمعات العربيَّة قبل الإسلام، وتفادي الفوضى، والرضوخ لضغط العرف القائم في ما يتعلّق بانتقال الأرزاق. هذه محاولة لافتة قام بها الفقهاء لضبط الوضع في المجتمعات، كان أركون قد أصرَّ على الإشارة إليها في أكثر من مناسبة. فما يحقّ للفقهاء لا يحقّ طبعاً لسواهم من المفكّرين المعاصرين الذين يغارون على الفكر الإسلامي ويتعاطون معه بجديَّة ورصانة.

إنَّ مبدأ النسخ قد أسهم في إبطال الآيات الأربع الآنفة الذكر، بالإضافة إلى بناء الفعل «يوصي» للمجهول في الآية (12) من سورة النساء. يرى أركون هنا أنَّه إذا كان حسم مسألة الكلالة والتوصّل إلى المعنى الحقّ أمراً صعباً، فهو في المقابل يفتح مجال البحث في قضيَّة الناسخ والمنسوخ، في أسسها وحيثيّاتها.

يعود أركون إلى القرآن والفقهاء، لكي يبحث في مفهوم النسخ، فيجد أنَّه يرد في ثلاثة معانٍ:

ـ المعنى الأوَّل: تُبيّنه الآية رقم (106) من سورة البقرة، والآية (52) من سورة الحج، وهو يفيد الإلغاء والإبطال.

ـ المعنى الثاني: يَظهر في الآية رقم (29) من سورة الجاثية، وهو يفيد الكتابة.

ـ المعنى الثالث: تكشفه «مناقشات الأصوليين» كلّما واجهوا نصوصاً متناقضة، وهو يفيد استبدال نصٍّ بنصٍّ آخر، أو استبدال نصٍّ لاحق بنصٍّ سابق.

انطلاقاً ممَّا تقدَّم، يرى أركون أنَّ الفقهاء قاموا باختيار النصّ الذي يصبّ في خانة التوفيق والانسجام بين الأحكام الشرعيَّة. لكنَّ هذا الأمر يقوم على فرضيَّة تقضي بمعرفة «الترتيب الزمني الحقيقي لنزول الآيات القرآنيَّة بشكل لا يقبل الشكّ». والخلاف في هذا الخصوص، لم يُحسم في الماضي ولا في الحاضر. ويشير في هذا السياق إلى أنَّ فخر الدين الرازي كان قد تحدَّث عن مشكلة تتعلّق بقبول مبدأ النسخ. إنَّه عندما تُنسخ آية ما من قِبَل أخرى، فهذا أمر يؤدّي إلى إثارة مشكلة لا هوتيَّة أهملها الفقهاء في السابق؛ أي إنَّ «إبطال آية قرآنية معيَّنة يفترض وجود تناقض في الأصل الذي تشكّله كلّ آية بصفتها كلام الله. وبالتالي ينبغي تجنّب هذا العمل بقدر الإمكان؛ (إذ لا ينبغي إبطال كلام الله)»[19].

يفتح هنا أركون باب النقاش حول مسألة الناسخ والمنسوخ، ويربطها بشكل وثيق بإمكانيَّة معرفة الترتيب الزّمني لنزول الآيات القرآنيَّة، لكي يُصار في ما بعد إلى تحديد الآية الناسخة والآية المنسوخة، وهو يعرف تماماً أنَّه أمرٌ صعبُ التحقّق نظراً إلى اعتبارات عدّة تتعلّق بجمع آيات القرآن وترتيبها، انطلاقاً من معرفة تسلسلها الزمني.

خاتمة:

وبعد،

يبقى لفظ «كلالة» يبحث عن معناه على رجاء اللقاء، كما يبقى مجال الحفر والتفكيك مشرَّعاً للعمل الجدّي والرصين. لم يُحسم الأمر حتى في نصّ محمَّد أركون الذي اعتمدنا عليه بشكل أساس، وهو: «من الاجتهاد إلى نقد العقل الإسلامي»، على الرّغم من أنَّ رغبة القارئ بعد كلّ هذا التشويق تكمن في معرفة ما سيؤول إليه معنى الكلالة. لا بدَّ من أنَّ لذلك سبباً وجيهاً في رأيي الخاص، أحتفظُ به للخلاصة لاحقاً.

لكن أودُّ أن أشير هنا إلى أنَّه لفت نظري، حين اشتغلت على النصّ الأركوني، هامش وارد في الصفحة 54، وضعه هاشم صالح، مترجم النصّ والمعلّق عليه، في سياق تفسيره لفكرة الرّهانات التي يُخفيها كلّ تشريع يخصّ مشكلة الإرث في الإسلام. مساحة الهامش تحتلّ نصف الصفحة تقريباً، يورد فيها صالح تفسيره للواقع الاجتماعي الذي كان سائداً قبل الإسلام، ولكيفيَّة مراقبة وضبط سريان الأرزاق الذي ذكره النصّ الأركوني في المتن، مشيراً، كما قال أركون، إلى الدور الذي أدّاه الفقهاء آنذاك من أجل المحافظة على النظام السابق؛ وذلك على الرّغم ممّا جاء في القرآن من تعديل أو حتى تغيير في هذا الخصوص. الغريب في الأمر كله أنَّني لم أعثر في كلّ الكتاب الذي بين يديَّ على معنى لفظ كلالة الذي بقي معلّقاً قيد البحث والتدقيق، إلّا في هذا الهامش الآنف الذكر. يُفاجَأ القارئ بمعلومة طُبعت بالخطّ الرفيع، في نهاية الهامش، تفيد مباشرة معنى الكلالة، قد يكون المترجم قد أوردها على مسؤوليته الخاصَّة، كما يشير في المقدّمة، في سياق التمييز بين هوامشه وهوامش المؤلّف.

يقول هاشم صالح مفسّراً معنى كلمة كلالة ما يأتي: «فالواقع أنَّ معناها هو «الكَنّة» أي زوجة الابن، وبالتالي إذا ما مات الابن يعني انتقال وِرثته إلى زوجته وربَّما إلى عائلة أخرى، وهذا ما يهدّد نظام الإرث العربي كلّه. ولا يمكن للفقهاء أن يسمحوا بحصول ذلك، حتى ولو عارضوا القرآن، أو تحايلوا على تفسيره»[20].

من هنا السؤال: هل اطّلع محمَّد أركون على ما أورده هاشم صالح في هامش النسخة العربيَّة للنص؟ لماذا لم يعلّق على التعليق؟ هل كان بالفعل مقتنعاً بإعطاء هذا المعنى للفظ الكلالة؟ وإن كان الجواب بالإيجاب؛ فلماذا لم يبتّ الأمر بنفسه؛ بل تركه لمعرِّب نصوصه؟

خلاصة القول، بعد هذا التجوال في رحاب الإرث وآليَّة التوريث، الذي فرضه علينا التوقف عند لفظ «كلالة» القرآني وكيفيَّة سبر معناه، يمكن أن نذكر الملاحظات الآتية:

- أولاً: لم يكن همّ أركون، من خلال التطرُّق إلى هذا المجال، أن يبتّ نهائياً في معنى الكلالة، أو أن يرجّح معنى على آخر. همّه الأساس يبقى معرفيَّاً أكثر ممَّا هو فيلولوجي أو بياني. كان يودّ أن يسلّط الضوء على أهميَّة وضرورة القيام بمراجعة نقديَّة لما أتى به المستشرقون في مِنهاجهم الفيلولوجي، وما أصدره المفسّرون والفقهاء من آراء وأحكام تبعاً لمنهاجهم البياني الصرف. من هنا لم نعثر على معنى واضح وصريح للفظ الكلالة في نصّه؛ وذلك إصراراً منه على لفت الانتباه إلى واجب تأويل حال الغموض المتعمَّد الذي لفّ محاولات تفسير هذا اللفظ القرآني. المهم إذاً الذهاب عميقاً لمعرفة سبب الغموض الكامن وراء عدم الكشف عن معنى اللفظ في حدّ ذاته. إنَّ المحافظة على الغموض مطلوبة كما رأينا لكي تتمّ عمليَّة سريان الأرزاق بخير وسلامة انسجاماً مع ما كان سائداً من أعراف لدى القبائل قبل الإسلام.

- ثانياً: يرى أركون، من خلال الأبحاث والتحرّيات والحفر في طبقات تاريخ الفكر الإسلامي المتراكمة، أنَّ المصدر الأساس للفقه والتشريع ليس هو القرآن في حدّ ذاته، بقدر ما هو التفسير الذي قام به العلماء. ومن ثمَّ إنَّ قراءة الفقهاء للقرآن، وكيفيَّة تفسيرهم لآياته، انطلاقاً من المعارف اللغويَّة السائدة في عصرهم، تحتاج اليوم، أكثر من أيّ وقت مضى، إلى مراجعة نقديَّة، وإعادة قراءة في ضوء ما توفّره المنهجيَّة التاريخيَّة الحديثة، وهي منهجيَّة متعدّدة الأبعاد والمقاربات.

- ثالثاً: إنَّ لفظ الكلالة الذي يمكنه أن يبقى بلا معنى واضح، كما يمكنه أن يرتبط بالأسرار التي لم يشأ الله أن يكشفها، قد تحوّل في نظر أركون إلى أمر إيجابي، عندما أصبح حجَّة تُستخدم في تدعيم الإيمان بمقاصد الله، وجعل المؤمن ينخرط في دائرة العجيب المدهش، وتحويل آثار المعنى إلى معنى مقدَّسٍ متعالٍ.

من هنا يشير أركون إلى «الحجم الهائل للقطيعة المعرفيَّة» التي تبرز كلما تمّ الانتقال من المستوى الشفهي -أي الروايات والحكايات التي تمَّ تداولها لتحديد معنى الكلالة- إلى المستوى الكتابي للعقل الذي يقطع مع الغيب -أي تفسير الطبري هنا- من أجل الكشف عن المعنى المجهول. إنَّ تحليل هذه القفزة النوعيَّة هو ما يهمّه تحديداً، بالإضافة إلى نقد ما يسمّيه «المعرفة المبجَّلة» التي يعتمدها علماء التفسير والقانون. ينادي بذلك انطلاقاً من علم نفس المعرفة، ودراسة الأنماط الألسنيَّة والسيميائيَّة لعمليَّة توليد المعنى.

- رابعاً: أراد أركون، من خلال بحثه عن معنى الكلالة، أن يشير إلى الهوَّة الكبيرة التي حفرها المفسّرون والقضاة بين النظام التشريعي الذي فرضه القرآن من جهة، وبين النظام الذي بلورته الدولة الخلافيَّة، ومن ثمَّ الدولة الإسلاميَّة من جهة ثانية. بتعبير آخر، إنَّه من خلال درسه الحالة الخاصَّة بمسألة الكلالة أراد أن يُسلّط الضوء على المسافة القائمة بين ما يدعوه «مقاصد القرآن» وبين ما دعاه الشاطبي «مقاصد الشريعة». عمل إذاً على إبراز الفرق القائم بين القانون أو «مقصِده في القرآن» من جهة، وبين «الأهداف العمليَّة المحسوسة» للأحكام والقوانين القضائيَّة من جهة أخرى، ولاسيَّما أنَّ هذه القوانين قد تشكّلت في سياقات وظروف تاريخيَّة متنوّعة ومتقلّبة.

هدفه في كلّ ذلك صريح وواضح: «قطع الطريق على رجال الدين المعاصرين الذين لا يتورّعون عن اتهام الناس بالكفر، إمَّا من أجل الحفاظ على امتيازاتهم واحتكار نطاق المقدَّس وتسيير شؤونه، وإمَّا لأنَّهم غير قادرين من الناحية العقليَّة والثقافيَّة على إدراك التاريخيَّة العميقة لكلّ ذلك العمل الذي أنجزه الفقهاء والأصوليون الأوائل من أجل ترسيخ تلك الصورة المثاليَّة والتقديسيَّة القائلة بوجود تطابق كلّي بين مضامين الأحكام التي بلورها وبين نصّ الوحي، أقول من أجل ترسيخها في وعي أهل القِبلة، بحسب تعبير الطبري»[21].

- خامساً: نستعين أخيراً بعبد المجيد خُليقي الذي يشير في كتابه «قراءة النص الديني عند أركون»، معلّقاً على دراسة أركون النقديَّة لما أتى به الفقهاء بخصوص الكلالة، إلى أنَّ تكريس الغموض من قِبل الفقهاء قد جعلهم يعتمدون على «تقنية النسخ للخروج من مأزق تنصيص القرآن على حريَّة التوريث. وهذا ما دفع أركون إلى توجيه اهتمامه لخطاب النسخ قصد دراسته ضمن إشكاليَّة العقل التفسيري.

فالنسخ الفقهي لم يكن مبنيَّاً على منطق السبق والتأخير الزمني، ولا على منطق المصلحة الاجتماعيَّة العامَّة، بل كان نسخاً يسخّر الآيات القرآنيَّة، فيقدّم ويؤخّر بناءً على منطق لاهوتي يعكس مصالح الفئات الاجتماعيَّة الحاكمة في ارتباطها بحرّاس الأرثوذكسيَّة أو موظفي التقديس بلغة «ماكس فيبر»، من أجل تشكيل «علم التوريث»[22].

نرى في النهاية أنَّ بين اللّغة والدين مساراً طويلاً لم تكتمل فصوله بعد، وخاصة في ما يتعلّق بفهم النص الديني، وبآليَّة تأويله. هناك الكثير الذي يجب فعله لتوفير فهم معمَّق للنص، وللإحاطة بأبعاد المعنى الذي يحمله في طيَّاته. إنَّ حصر الفهم بطريقة واحدة، والتقوقع ضمن آليَّة معيَّنة من دون سواها، قد أدَّى الى احتكار النص، والقبض عليه من قبل مرجعيَّات محدَّدة، فبَدَل الاجتهاد في فهم الرّسالة صار الأمر متركّزاً على كيفيَّة تطويعها في خدمة الحاضر ومجرياته.

إنَّ اشتغال محمَّد أركون على العلاقة الكامنة بين اللّغة والدين قد شرَّع باب التأويل انطلاقاً من منهجيَّات علوم اللّغة والإنسان والمجتمع. نجد أنَّ الأمر يتعلّق بمشروع ضخم يحتاج إلى فرق بحثيَّة متخصّصة، لكي تقوم بقراءة متعدّدة الأصوات للنصّ الواحد في محاولة لفهم المعنى الكامن وراءه، لعلّ ذلك يؤّدي إلى انفتاح آفاق معرفيَّة جديدة.

[1] - جرجي زيدان، اللغة والفلسفة اللغوية العربيَّة، بيروت، المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، ط1، 2017، ص 162

[2] - جرجي زيدان، اللغة والفلسفة اللغوية العربيَّة، م. س، ص 239

[3] - انظر: جيل دولوز وفيليكس غاتاري، ما هي الفلسفة؟ ترجمة مطاع صفدي، في سلسلة: الفلسفة والتفكير الفلسفي، نصوص فلسفية مختارة ومترجمة، الدار البيضاء، إفريقيا الشرق، ط2، 2013، الجزء الثالث، ص22

 

[4] - جرجي زيدان، م.س، ص 239

[5] - محمَّد أركون، تاريخيّة الفكر العربي الإسلامي، بيروت، مركز الإنماء القومي، ط1، 1986، ص 73

[6] - محمَّد أركون، من الاجتهاد إلى نقد العقل الإسلامي، ترجمة هاشم صالح، بيروت، دار الساقي، ط1، 1991، ص19

[7] - محمَّد أركون، م. س، ص 25

[8] - محمَّد أركون، م. س، ص 55

[9] - محمَّد أركون، م. ن، ص 43

[10] - محمّد أركون، م. س، ص 36

[11] - محمَّد أركون، م. س، ص 39

[12] - محمَّد أركون، م. ن، ص 41-42

[13] - محمَّد أركون، م. ن، ص 45

[14] - محمَّد أركون، م. ن، ص 50-51

[15] - محمَّد أركون، م. س، ص 58

[16] - محمَّد أركون، م. ن، ص 59

[17] - محمَّد أركون، م. ن، ص ص 59-60

[18] - محمَّد أركون، م. ن، ص ص 66-67

[19] - محمَّد أركون، م. س. ص 71

[20] - محمَّد أركون، م. ن. ص 54

[21] - محمَّد أركون، م. س، ص 70

[22] - عبد المجيد خليقي، قراءة النص الديني عند محمَّد أركون، بيروت، منتدى المعارف، ط1، 2010، ص ص 139-140