بلاغة الحيوان في سورة النمل
فئة : أبحاث محكمة
بلاغة الحيوان في سورة النمل
ملخص:
تسعى هذه الدراسة إلى تقويض نظرة العديد من الباحثين للحيوان الذي لطالما اعتبروه مجرد مخلوق مبرمج فاقد للإدراك، من خلال تحليل خطاب كل من الهدهد والنملة في "سورة النمل" والذي يفصح عن خطاب حجاجي بامتياز لا يمكن القول إن منتجه مفتقر للغة أو للإدراك. مع أن إثبات الخطابيَّة لهذا الكائن في حد ذاته إثبات للغة بوصفها مادة للخطاب، وإثبات للعقل بوصفه المنطق المنظم لهذه اللغة، وبما أن هدهد ونملة الأمس اللذين رافقا سليمان هما هدهد ونملة اليوم، نجد أنفسنا أمام العديد من الأسئلة التي تحتاج منا إلى إجابات ملحة، وهي ما الذي جعل كلا من الهدهد والنملة يخفيان كل هذه القدرات العقلية والخطابيّة، التي كانا قد أظهراها حين ذاك؟ وهل الحيوان مسيج بضيق التكليف من الخالق؟ وهل يمكن لكائن محاجِج بامتياز أن يكون فاقدًا للعقل وللغة، وهو منتج لخطاب حجاجي بامتياز يشهد عليه القرآن الكريم؟
متن الدراسة:
"وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُودَ وَقَالَ يَا أَيُّهَا النَّاسُ عُلِّمْنَا مَنْطِقَ الطَّيْرِ وَأُوتِينَا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْفَضْلُ الْمُبِينُ (16) وَحُشِرَ لِسُلَيْمَانَ جُنُودُهُ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ وَالطَّيْرِ فَهُمْ يُوزَعُونَ (17) حَتَّى إِذَا أَتَوْا عَلَى وَادِ النَّمْلِ قَالَتْ نَمْلَةٌ يَا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ لَا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (18) فَتَبَسَّمَ ضَاحِكًا مِنْ قَوْلِهَا وَقَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبَادِكَ الصَّالِحِينَ (19) وَتَفَقَّدَ الطَّيْرَ فَقَالَ مَا لِيَ لَا أَرَى الْهُدْهُدَ أَمْ كَانَ مِنَ الْغَائِبِينَ (20) لَأُعَذِّبَنَّهُ عَذَابًا شَدِيدًا أَوْ لَأَذْبَحَنَّهُ أَوْ لَيَأْتِيَنِّي بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ (21) فَمَكَثَ غَيْرَ بَعِيدٍ فَقَالَ أَحَطْتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ وَجِئْتُكَ مِنْ سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ (22) إِنِّي وَجَدْتُ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ (23) وَجَدْتُهَا وَقَوْمَهَا يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ فَهُمْ لَا يَهْتَدُونَ (24) أَلَّا يَسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي يُخْرِجُ الْخَبْءَ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَيَعْلَمُ مَا تُخْفُونَ وَمَا تُعْلِنُونَ (25) اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ (26) قَالَ سَنَنْظُرُ أَصَدَقْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْكَاذِبِينَ (27) اذْهَبْ بِكِتَابِي هَذَا فَأَلْقِهْ إِلَيْهِمْ ثُمَّ تَوَلَّ عَنْهُمْ فَانْظُرْ مَاذَا يَرْجِعُونَ (28)"
1. تمهيد:
يبقى الإنسان في حاجة ماسة إلى ظروف مواتية تعينه على أداء وظيفته في الأرض، وتجعل منه القوة الدافعة لتقدم مجالات تطوير الحياة وفق نظرة شمولية تسهر على حفظ الأمانة التي وافق على حملها، والحيوان من ضمن مكونات هذه الأمانة الثقيلة، فهو مسخر لخدمة الإنسان بأشكال مباشرة وغير مباشرة، وفقا للعلاقة التي تربط هذا الإنسان بالحيوان، ووفقا لمقدار الحرية التي متَّع الخالق بها هذا الأخير، وبذلك فقدراته اليوم ليست بالمقياس الحقيقي الذي يمكننا من خلاله اليوم الكشف عن حقيقته.
2. الحيوان وضيق حدود التكليف:
يسهل على كل إنسان متأمل في خلق الله عز وجل أن يوقن بأن الله وسم جميع مخلوقاته بالحسن والدقة مبتعدًا في ذلك عن النقص أو الخلل، قال تعالى: {أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ} (السجدة 7)، وأوكل كل مخلوق بدور مهم يقوم به خُلق لأجله، قصد تأثيث مسرح الحياة الذي يوفر للإنسان الظروف المواتية ليؤدي وظيفة الاستخلاف المتمثلة في عبادة الله وعمارة الأرض على أحسن أوجه الكمال الدنيوي الممكنة.
وإذا نظرنا إلى مفهوم الاستخلاف الذي اتفق الجميع على أنه عبادة الله وعمارة الأرض، نجد أن هذه العبادة والعمارة تتخذ أشكالا وأنواعا مختلفة بحسب نوعية الفاعل، فالإنسان يعبد الله ويعمر الأرض بطريقته والجبال والبحار والأشجار والحيوانات كذلك بطُرقها المختلفة على الإنسان وعلى بعضها البعض، والدليل من القرآن الكريم على ذلك قوله سبحانه، {يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ الْمَلِكِ الْقُدُّوسِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ} (الجمعة 01)، وهو "تسبيح متجدد على سبيل الاستمرار"[1]، والدليل على استمراره توظيف الفعل المضارع (يُسبح)، الدال على إنجاز الفعل في الماضي والحال والاستغراق في المستقبل، أما التعبير بـ(ما) فيفيد التعميم، أي تعميم فعل العبادة على جميع المخلوقات دون استثناء، والعبادة تسبيح وغيره من الأفعال التي تعود على جميع الناس بالخير كخدمة الإنسان لغيره وتوفير الأشجار للظل، والشمس للدفئ، والمعصرات للماء، والحيوان للركوب، والحمل وتوفير اللحم والجلد والاقتداء به في تطوير أساليب التكيف والعيش في أسوء الظروف، وتقديم خدمات لغيره من الحيوانات الأخرى.
وهذه الأدوار المؤذات من قبل جميع المخلوقات في حد ذاتها عبادة لله، وبذلك فالعبادة ليست بالأمر المقتصر على الإنسان دون غيره من المخلوقات الأخرى بالنظر إلى مفهومها العام، "ومن تم "يقال يدين الله ويدين لله، أي يعبد الله ويطيعه ويخضع له. فدين الله عبادته وطاعته والخضوع له. والعبادة أصل معناه الذل أيضا"[2]، والمخلوقات الأخرى ومن بينها الحيوان تخضع وتذل إلى الله، وبذلك فهي تعبده كما يعبده الإنسان المؤمن. لكن تركيز أغلب علماء الدين على ربط مفهوم العبادة بالإنسان دون غيره، أدى إلى إهمال المخلوقات الأخرى وتبخيس الأدوار الهامة التي يقومون بها في الحياة بالموازاة مع الإنسان، رغم أنها تعبد بشكل أكثر التزاما واتزانا من الإنسان نفسه، الذي نجده في بعض الأحيان كافرا بأوامر الله أو متكاسلا عنها.
وقوله سبحانه: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبَالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ} (الحج 18) وهذا أكبر دليل على أن السجود فعل شمل جميع المخلوقات بدون استثناء (مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ)، وبذلك فهي ليست حكرًا على الإنسان وحده، واقتران الحديث عن تعلق العبادة بالإنسان-بشكل أكبر مقارنة بالمخلوقات الأخرى-راجع لكونه من أكثر المخلوقات العابدة جحودا بالله.
ومع سكوت أغلب المفسرين ومنهم صاحب الكشاف عن بيان القصد من نسبة فعل السجود لجميع المخلوقات، باستخدام أسلوب التعميم وعطفه بالتعيين المباشر لكل من الأرض والشمس والقمر والنجوم والجبال والشجر والدواب، إلا أن صاحب التحرير رأى "أن سجود الموجودات غير الإنسانية ليس إلا دلالة لتلك الموجودات على أنها مسخرة بخلق الله، فاستُعير السجود لحالة التسخير والانطياع"[3]، لكن التسخير والانطياع إلى أمر الله هو جوهر العبادة وأصل ماهيتها الفعلية والدلالية، والسجود مظهر من مظاهر العبادة التي لا ينفرد بها كائن واحد عن باقي الكائنات الأخرى، لأن السجود سجود في ذاته مختلف في طرقه وأشكاله، باختلاف القائم به، وبذلك "يحتمل أن يكون السجود على حقيقته، ولكن لا نفقه ذلك، كما لا نفقه تسبيحهم."[4]
واتصلا بما سبق فالسجود معلوم جوهرا عند الإنسان وغيره من المخلوقات الأخرى، وتضييق فهم السجود على أنه بكيف معلوم وشكل محدد فيه نوع من القصور الفكري للإنسان الناكِر لقدرة سجود المخلوقات الأخرى، لأن مبررات النفي أو الإثبات لا تُتخذ من نظرة الإسقاط، فعدم قدرة الآخر على السجود بنفس كيفية سجود الإنسان لتباينه معه في الشكل والجسد، لا يعني نفي جوهر السجود عنه بفعل وكيفية معينة فذلك من الغرور بما كان، "وذُكر في صحيح البخاري: «أن الشمس لا تطلع حتى تسجد وتستأذن» وقال مجاهد: (سجود الجبال والشجر والدواب: تحول ظلالها). أو سجود طاعتها؛ فإنه ما من جماد إلا وهو مطيع لله تعالى، خاشع يسبح له. شبه طاعتها وانقيادها لأمره بسجود المكلف الذي كلٌ خُضوعٌ دونه"[5].
والحيوان خلقٌ من هذه المخلوقات، القائمة بالأدوار المسخرة لها، وحدود التكليف الذي سُنَّ لتكبيله، جعل جُلّ الأفعال والتدخلات التي يقوم بها مسيَّجة، رغم قدرة الحيوان على تقديم تدخلات أكبر وأوسع ضمن دورة الحياة، لكن اكتفاء الخالق بتسخيره لخدمة الإنسان، والدفع بالإنسان إلى الاهتداء به في كثير من الأمور التي يجهلها (سلوكياته ونظم حياته المعقدة)، كان سببًا أساسا في إقصاء الحيوان من دائرة الاستخلاف؛ المتمثل في إدارة شؤون الأرض والتمكين من التحكم في باقي المخلوقات الأخرى، وفي تضييق مساحة الوظائف التي بإمكانه القيام.
3. المنطق والحيوان:
من خلال جهر سليمان عليه السلام بفضائل الله عز وجل عليه بقوله: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ عُلِّمْنَا مَنْطِقَ الطَّيْرِ وَأُوتِينَا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْفَضْلُ الْمُبِينُ} يظهر أن للحيوانات منطق يجهله الإنسان، وأن هذا الجهل هو ما جعله يرى الحيوان بعين القصور، وبدون منطق فكري ويتصرف وفق أفعال روتينية لا يعي الغرض من القيام بها، والدليل البين على جهل الإنسان لحقيقة الحيوان لا جهل الحيوان، هو تعبير الخطاب القرآني عن هذا التعليم باستعمال الفعل الماضي المبني للمجهول، وفيه دلالة واضحة على أن هذا العلم مخصوص تعليمه بأشخاص معينين دون غيرهم، وأنه وقتي أي مرتبط بهذا الزمن دون غيره من الأزمنة، فهو من باب الفتوحات الإلهية.
وإذا كان الإنسان يستعمل اللغة ليتحقق التواصل فإن المخلوقات الأخرى كذلك تحقق هذا التواصل فيما بينها بطريقة معينة، يلزمنا القليل من الشجاعة للاعتراف بأنها لغة كذلك، وبذلك سنذهب إلى إعادة النظر في مفهوم اللغة بشكل عام، لنصل إلى نتيجة مفادها أن كل طريقة للتخاطب تحقق التواصل فهي لغة، حتى نستطيع التحرر من التفكير الإنساني الذي يرى أن الأصوات التي يتحدث بها الإنسان هي اللغة وغيره من الكائنات يكتفي بالتواصل بـ"التخاطر الذي يحكي فيه كل واحد لكل واحد كل شيء بلا انقطاع، ينتج عنه نوع من عدم الاكتراث العام بالمعلومات كلها."[6] وهذا الأمر مجانب للصواب، لأن من طباع العقل الإنساني تقديم تفسير للأشياء التي يعلمه والتي يجهله، ففي جميع الأحيان يجد نفسه مجبرًا على تقديم هذا التفسير.
أما المخلوقات الأخرى، فتمتلك لغة، ليس بالضرورة أن تتماثل أو تتجاسر مع اللغة التي نتواصل بها في شكلها أو طرائق استعمالها، أو حتى الإنجاز الذي ينتج عنها، فهم في منطق آخر بعيد كل البعد عن المنطق الإنساني، ويحتاج منا إلى البحث والتنقيب حتى نعي منطق تفكيرهم، فالمجنون بالرغم من كونه إنسانا يتحدث بنفس الأصوات التي نستعمل إلا أنه لا يقدر استعمال اللغة، الذي يتحقق به التواصل وينجم عنه الإنجاز؛ لأن منطقه اللغوي أصيب بخلل، وبهذا فالتواصل بلغة الإنسان من طرف الإنسان نفسه إن لم يكن محكومًا بمنطق معين ويحقق التواصل والإنجاز ليس باستعمال لغوي، فاللغة ليست مجرد التحدث، بل هي فعل تواصلي ينتج عن سلسلة منظمة من القضايا، لبلوغ الحقيقة المتماسكة وفقا للقواعد الحاكمة لتلك السلسلة نفسها"[7].
وبعيدًا عن المعاني التي تحملها الألفاظ في جيوبها، فهل من الواجب على جميع المخلوقات الالتزام بنفس النظام اللغوي الذي يوافق اللغة الإنسانية ويخالف لغات غيرهم من المخلوقات؟ هذا سؤال محير لأن الإنسان لا يمتلك القدرة على إدراك جميع الخفايا التي تفوقق منطق تفكيره أو التي تعارضه؛ لأن هناك أمورًا تفوق منطق تفكيره ويجهلها، وأخرى تعارضه ويجهلها هي الأخرى إلى حدود يومنا هذا.
وجهل الإنسان بمنطق المخلوقات، ومنها الحيوان لا يعني نفي التفكير والتواصل عن هذه المخلوقات، فهي لا تحتاج إلى منطق لفهم الإنسان، بل الإنسان من يحتاج إلى هذا المنطق ليستطيع التواصل معها، فسليمان عليه السلام احتاج إلى تعلمه حتى يحيط بما يجهل بقوله تعالى: {وَقَالَ يَا أَيُّهَا النَّاسُ عُلِّمْنَا مَنْطِقَ الطَّيْرِ}، لكن الطير والمخلوقات الأخرى لم تحتج إلى هذا المنطق، فهي تعِه مسبقا، بل تحتاج فقط إلى توسيع دائرة حدود التكليف لتظهر للإنسان قدرات ومعارف يجهلها عنها.
لا يستقيم وصف هذه المخلوقات بالفاقدة للعقل، وهي تسبح لله بقوله سبحانه: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُسَبِّحُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالطَّيْرُ صَافَّاتٍ كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلَاتَهُ وَتَسْبِيحَهُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِمَا يَفْعَلُونَ} (النور 41)، والله يعلم صلاتها وتسبيحها ونحن من نجهل ذلك، فكيف يصح إصدار الحكم عن جهالة؟ وليس من المستساغ القول إن "تسبيح العقلاء حقيقة، وتسبيح الطير مجاز"[8]؛ لأن الباعث وراء اعتباره مجازا، هو تجريد المخلوقات الأخرى ومنها الحيوان من العقل، والنظر إلى السجود بمنطق الوضع اللغوي الضيق، والذي يراه الإنسان فعلا خاصا به دون غيره من المخلوقات، في حين هو فعل عام تشترك فيه جميع المخلوقات كما أشرنا سابقا.
فالمعاجم اللغوية وضعت من قِبل الإنسان واصفة ومعرفة لأفعاله وأسمائه التي تم التواطؤ عليه بشكل مسبق في كل اللغات، واختلاف اللغة وطرق تواصل الحيوان والمخلوقات الأخرى مع لغة الإنسان، لا ينفي وجود لغة مختلفة من حيث التعبير ومتفقة من ناحية المضمون والدلالة (جوهر الأشياء)، ودليل ذلك هو أن القرآن الكريم مفهوم بلغته التي نزل بها من طرف المخلوقات الأخرى؛ لأنها تعي ما جاء به، من خلال قوله سبحانه: {لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُتَصَدِّعًا مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ}، وبذلك فالقصور محسوب على الإنسان الذي يجهل منطق المخلوقات الأخرى، في حين أن المخلوقات الأخرى تعي لغته ولغتها في نفس الوقت.
وإذا أثباتنا بأن للحيوان لغة، فبذلك نثبت بأن له فكرًا والعكس صحيح، وإذا سلمنا بأن الكتابة ليست من شروط اعتبار اللغة لغة، أثبتنا أن لا مانع للاعتراف بوجود لغة تتكلم بها المخلوقات الأخرى؛ "لأن معظم اللغات التي تكلَّمها الناس طويلا في العالم لم تكتب. وثم شيء غريب تهوينيّ في القول بأن هذه اللغات ليست لغات حقيقية. ولنتذكر أن أكثر الناس في العالم حتى القرن الميلادي الماضي تقريبا، لم يكونوا يستطيعون القراءة، حتى في اللغات المكتوبة. لهذا لا يمكن كما أظن أن نستنتج من هذا أن أولئك لم يكونوا متكلمين حقيقيين للغة."[9]
ونجد أن الحمار وهو واحد من الحيوانات، يتكبد كثيرا من المعاناة، ويستمر في السكوت دونما انتفاضة ولا تمرد على قسوة الأوضاع، لسبب واحد وهو طاعة الخالق، وليس لكونه مجبولا على ذلك، حتى إن البعض من الحمير يحاول إظهار نوع من التمرد مرة تلو أخرى محاولا عدم الانصياع لمالكه إما بالرفس، أو عدم الامتثال لأوامره، أو رفض تلجيمه، إذا كنا نقول إن الحيوان تقوده الغريزة، ولا يتعلم ولا يكتسب ولا يميز بين الأمور بالعقل، فكيف لحمار يستطيع شق طريقه في الطرق الجبلية الوعرة، والتمييز بين المكان الثابت والمنزلق حيث يضع قدمه؟ في حين نجد حمارًا آخر تحكمه نفس الغريزة، ولا يستطيع شق طريقه مثل الآخر. وهذا الأمر نفسه يمكن إسقاطه على الإنسان الجبلي الذي يستطيع التنقل بين الطرقات الوعرة في حين لا يمتلك إنسان آخر غيره ذلك بسبب ترعرعه في بيئة أخرى مخالفة لبيئة الأول.
لكن هذا التمثيل لا ينفي صفة الغريزية على الحيوان كما لا ينفيها على الإنسان، ولكنه يثبتها لكل منهما إثباتا؛ فالرضيع عند ولادته يتعرف على التدي بالغريزة، فغريزة البقاء دفعته كما تدفع باقي الحيوانات الأخرى، فتجد العجل الصغير في البراري يتجه نحو مرضعه دون توجيه، وهذه مسائل غريزية. أما خلاف ذلك، فهو تعلم واكتساب وتكيف مع المحيط، وهذا يحتاج من الحيوان والإنسان على حد السواء نوعا من الإدراك.
4. نظرة الثقافة العربية إلى الحيوان:
نظرتنا الشزراء إلى الحيوان هي نتيجة تراكمات ثقافية واجتماعية توارثناها منذ زمن بعيد، ومن وسائل امتدادها ترسُخها في تراثنا العربي بشكل كبير عبر النوادر والأمثال والطرف التي يتناقلها الناس فيما بينهم، ومن الأمثلة على ذلك أحد الطُرف القائلة: "صعدت امرأة بدينة سيارة نقل، وجلست قرب أحد الركاب، فقال لصديقه مازحا: ما كنت أظن أن هذه السيارة صالحة لنقل الفيلة! فأجابته على الفور: إن هذه السيارة شبيهة بسفينة نوح، يدخل إليها كل أنواع الحيوانات من الفيل إلى الحمار."[10]
وتُستقطر من هذه الطرفة عدة أمور منها، تجذر التنمر في الثقافة العربية المهتمة باقتفاء عيوب الأجساد، والولع بالمظهر الخارجي للمرأة أكثر من الجوهر المكنون (الفكر والدين والأخلاق والمعاملة)، وتكريس نظرة المهانة والتنقيص للحيوان بوصفه أعلى درجات التمثيل في القبح والذلة، مما يزيد من تعميق الفوارق بين حقيقة الحيوان التي يجب علينا السعي لاكتشافها والوهم الذي يكرسه الإنسان عن هذا الحيوان.
فمن الفظاظة في الكلام لا الطرفة، السخرية من السيدة لكونها بدينة، ومن التخلف الفكري اعتبار أن التمثيل بالحيوان إنكار للإنسانية وإثبات للنقص الخلقي أو التشوه الجسدي، من منطلق النظر إلى أن الإنسانية أسمى وأرقى من الحيوانية، وهذا في حد ذاته مغالطة تأصلت في وعينا الثقافي والاجتماعي ووجبت مراجعتها.
ومن المسلمات المؤيدة للمنطق الإنساني، اشتهار كل حيوان من الحيوانات بصفة من الصفات التي عرف بها دون غيره، وجعلها مميزة له، ويصعب على غيره من الحيوانات الأخرى الاتصاف بها أو القدرة على اكتسابها، باعتبار أن الحيوان مخلوق مبرمج لا يمتلك القدرة على التعلم أو الاكتساب فهو فاقد للإدراك، ومن الطُرف الدالة عن هذه المسلمات الجامدة قول الجاحظ: "حدثني صديق لي قال: تعجب أخ لنا من خبث الثعلب، وكان صاحب قنص، وقال لي ما أعجب أمر الثعلب ! يفصل بين كلب والكلَّاب، فيحتال للكلّاب بما يعلم أنه يجوز عليه، ولا يحتال مثل تلك الحيلة للكلب؛ لأن الكلب لا يخفى عليه الميت من المغشي عليه. ولا ينفع عنده التماوت. ولذلك لا يحمل من مات من المجوس إلى النار حتى يُدنى منه كلب؛ لأنه لا يخفى عليه مغمور الحس أحي هو أو ميت. وللكلب عند ذلك عمل يستدل به الماجوس.
قال: وذلك أنّى هَجَمْتُ على ثعلب فى مضيق، ومعي بني لي، فإذا هو ميت منتفخ، فصدَدت عنه، فلم ألبث أن لحقتني الكلاب، فلما أحس بها وتب كالبرق، بعد أن تحايدَ عن السنن، فسألت عن ذلك فإذا ذلك من فعله معروف، وهو أن يستلقي وينفخ خواصره ويرفع قوائمه، فلا يشك من رآه من الناس أنَّه ميت منذ دهر، وقد تزكَّر بالانتفاخ بدنه، فكنتُ أتعجب مِنْ ذلك؛ إذ مررتُ في الزقاق الذي في أصل دار العباسية ومنفذه إلى مازن، فإذا جرو كلب مهزول سيئ الغذاء، قد ضربه الصبيان وعقروه ففرّ منهم ودخل الزقاق، فرمى بنفسه في أصل أسطوانة وتبعوه حتى هَجَمُوا عليه، فإذا هو قد تَمَاوَت فضربوه بأرجلهم فلم يتحرك فانصرفوا عنه. فلما جاوَزُوا تأملت عينه، فإذا هو يفتحها ويُغمضها، فلمَّا بعدوا عنه وأمِنَهم عدا، وأخذ في غير طريقهم فأذهب الذي كان في نفسي للثعلب؛ إذ كان الثعلب ليس فيه إلاّ الرَّوَغان والمكر، وقد ساواه الكلب في أجودِ حِيله."[11]
فمن المتداول في جميع الثقافات ومنها الثقافة العربية اعتبار الثعلب رمزا للمكر، ومن أوجه مكره التماوت، واعتبار الكلب رمزا للوفاء، واتصاف جرو الكلب في الطُرفة بالتماوت وهي صفة للثعلب، من الأمور التي توجب علينا إعادة ترتيب الأوراق، وتجديد نظرتنا الثابتة للحيوان. فالجرو استعان بحيلة من الحيل كنا نعتبرها من الحيل الخاصة بالثعلب، ليفلت من اعتداء الصبية، فأين عاشر الثعلب؟ وكم من الوقت استغرق هذا الأخير لكي يعلم جرو الكلب إتقان هذه الحيلة؟ وهذا كله في ظل العداوة المحتدمة بين النوعين.
5. خطاب الإنذار عند النملة:
قال تعالى: {حَتَّى إِذَا أَتَوْا عَلَى وَادِ النَّمْلِ قَالَتْ نَمْلَةٌ يَا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ لَا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ}
وهذا الأمر لا يمكن أن يدفع بنا كمتأملين في الخطاب القرآني بسورة النمل بالخصوص إلا إلى اكتشاف الإهمال الذي لقته هذه النوعية الفريدة من المخلوقات من طرف دارسي الخطاب القرآني من مداخل مختلفة تفضي إلى إنصاف هذه الفئة من المخلوقات، وبيان حقيقة خلقها وغض الطرف عن بلاغة خطاب الحيوان، البارزة في بعض الآيات الكريمة، والتي استطاع الحيوان خلالها فك قيود التكليف عن طريق تمتيعه باتساع مساحة الحركة الخاصة بالحيوان وإزالة السواتر الحاجبة لقدراته، من المداخل الممكنة لإعادة قراءة الخطاب الخاص بالحيوان.
والحكمة من تضييق حدود التكليف خفية، البيّنُ منها إلقاء الضوء على الإنسان دون غيره من المخلوقات وجعله مركز الرحى في تسيير أمور الحياة، ولا يعزب عن أحد امتلاك الحيوانات لمنطق فكري يرقى إلى مستويات تفكير الإنسان، إلا أنه لا يستطيع إظهار هذا المستوى الحقيقي المأمور بإخفائه، والتصرف وفق سيرورة من الأفعال الروتينية، التي تجعل منه كائنا مبرمجا قاصر التفكير ومعدوم القدرة ومسلوب الإرادة.
فإنذار النملة عبارة عن خطاب قصير مسبوق بحرف نداء يشمل القريب والبعيد، وقد جاء بصيغة مخطابة العاقل للعاقل؛ لأن الخطاب "لم يقل: ادخلن؛ لأنه لما جعلها قائلة، والنمل مقولا لهم، كما يكون من العقلاء، أجرى خطابهن مجرى ذوي العقول"[12]، وهذا من الأدلة المثبتة للإدراك لدى الحيوان، والذي نفاه "خوان هُوارتي" الذي يرى بأن اللغة خاصية إنسانية مرتبطة بإنتاج المعرفة[13]. فالشعور بالخطر يمكن اعتباره من الأمور الغريزية، التي يشترك فيها الإنسان والحيوان عند ما يكون بمعرض الخطر، أما استشراف وقوع الخطر والتحذير منه قبل حصوله من المسائل التي يصعب على فاقد الإدراك استشعارها أو التفكير في تحقق قدرتها.
وقال تعالى: {لَا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَانُ وَجُنُودُهُ} أي؛ "لا يكسرنكم"[14] وفعل الحطم أو الكسر لا يكون إلا للمواد الصلبة القابلة أجزاؤها للتشتت، والإنسان لم يكتشف هذا الأمر إلا بعد مرور مدة طويلة من الزمان، وهذا دليل على وعي النملة بطبيعة مكونات خلق جسدها، وإثبات لتفوق الحيوان عن الإنسان معرفيا، رغم تظاهر الحيوان بالغباء في العديد من المواقف.
وتكلم اللغة يستوجب امتلاك نظام لغوي معين، تتوصل به جماعة معينة، مما يسمح لها بالتواصل وتناقل الأخبار، مما جعل النملة على علم بنبي الله سليمان وبعدله، وقوله تعالى: {وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ}؛ أي "لا يعلمون بمكانكم؛ أي لو شعروا ما فعلوا. قالت ذلك على وجه العذر، واصفة سليمان وجنوده بالعدل، فحمل الريح قولها إلى سليمان على ثلاثة أميال."[15]
وهذا القول من النملة شهادة قوية في حق نبوءة سليمان عليه السلام وعلى شهرة حاله وحال جنده في باب التقوى[16]، ودليل على تداول الحيوانات في سير وأخبار الإنسان، وتناقلها لأخبارهم، فلولا هذا الاهتمام لما علمت النملة بسليمان وجنده ولا كانوا بالنسبة إليها من المجهولين.
6. بلاغة جواب الهدهد:
قال تعالى: {وَتَفَقَّدَ الطَّيْرَ فَقَالَ مَا لِيَ لَا أَرَى الْهُدْهُدَ أَمْ كَانَ مِنَ الْغَائِبِينَ (20) لَأُعَذِّبَنَّهُ عَذَابًا شَدِيدًا أَوْ لَأَذْبَحَنَّهُ أَوْ لَيَأْتِيَنِّي بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ (21) فَمَكَثَ غَيْرَ بَعِيدٍ فَقَالَ أَحَطْتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ وَجِئْتُكَ مِنْ سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ (22) إِنِّي وَجَدْتُ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ (23) وَجَدْتُهَا وَقَوْمَهَا يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ فَهُمْ لَا يَهْتَدُونَ (24) أَلَّا يَسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي يُخْرِجُ الْخَبْءَ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَيَعْلَمُ مَا تُخْفُونَ وَمَا تُعْلِنُونَ (25) اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ (26) قَالَ سَنَنْظُرُ أَصَدَقْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْكَاذِبِينَ (27) اذْهَبْ بِكِتَابِي هَذَا فَأَلْقِهْ إِلَيْهِمْ ثُمَّ تَوَلَّ عَنْهُمْ فَانْظُرْ مَاذَا يَرْجِعُونَ (28)}
قال تعالى: {وَتَفَقَّدَ الطَّيْرَ فَقَالَ مَا لِيَ لَا أَرَى الْهُدْهُدَ أَمْ كَانَ مِنَ الْغَائِبِينَ (20)}
وصيغة الفعل في قوله تعالى:{وَتَفَقَّدَ الطَّيْرَ} بها دلالة على تعدية الفعل إلى الغير، وفيها نوع من المبالغة في الفعل للدلالة على دقة القيام به، مع إفادة الطلب؛ بمعنى أن هناك من أوكل إليه الفعل للإعانة على القيام به، "والفقد طلب ما غاب من الشيء.. وقيل تفقدته أي طلبته عند غيبته"[17] فسليمان عليه السلام استشعر غياب الهدهد فتفقده، و"التفقد: البحث عن الفقد ليعرف بذلك أن الشيء لم ينقص وكان الطير من جملة الجند لأن كثيرا من الطير صالح للانتفاع به في أمور الجند فمنه الحمام الزاجل، ومنه الهدهد لمعرفة الماء، ومنه البزاة والصقور لصيد الملك وجنده ولجلب الطعام للجند من الصيد إذا حل الجند في القفار أو نفذ الزاد. وللطير جنود يقومون بشؤونها."[18]
وقد كان التفقد بداية لانفجار العقدة المتمثلة في غياب الهدهد من دون إذن مسبق والمحرك المسرع لتنامي الأحداث بالقص القرآني، مما نتج عنه رسم "المشهد الأول «الملك الحازم» و«النبي العادل» و«الرجل الحكيم». إنه الملك يتفقد رعيته، وإنه لا يغضب لمخالفة النظام، والتغيب بلا إذن. ولكنه ليس سلطانا جائرا، فقد يكون للغائب عذره، فإن كان فبها، وإلا فالفرصة لم تفت، ليعذبنه عذابا شديدا أو ليذبحنه."[19]
وقد كان للاستفهام دور بلاغي كبير، في إثبات حرص سليمان على أمور رعيته والسهر على تنظيمها، والوقوف على جميع أمرها، مما أسفر عن توظيف استفهام مباشر، "وهو كناية عن عدم ظهور الهدهد."[20] الذي غاب عن الجيش دون إخبار أو استئذان، مما جعله من جهة عرضة لألوان من العذابات المتباينات دون الإفصاح عن تفاصيلها بقوله {لَأُعَذِّبَنَّهُ عَذَابًا شَدِيدًا}، والمرتبة بحسب درجة المخالفة مما يدل على الاتصاف بالعدل من لدن سليمان عليه السلام حتى في حالة المخالفة والغضب؛ "لأن تغيبه من دون إذن عصيان يقتضي عقابه وذلك موكل لاجتهاد سليمان في المقدار الذي يراه استصلاحا له إن كان يرجى صلاحه"[21].
ومن جهة أخرى، مهددا بما هو أخطر من العذاب وأشكاله وهو قوله: {لَأَذْبَحَنَّهُ}، فبالرغم من كونه حكما بإنهاء حياته ونقله للعالم الآخر، إلا أن الذبح من باب حسن القتلة، وفيه رحمة وكرامة للمقتول بالحق، "لئلا يلقن بالفساد غيره فيدخل الفساد في الجند وليكون عقابه نكالا لغيره"[22] وإن كان ذا فائدة؛ لأن من بين الأسباب التي يرد إليها تجنيد الهدهد من بين الطير توفره على قدرات تجعله مختلفا عن باقي الطيور الأخرى فبالإضافة إلى ذكائه، فإنه "يرى الماء من بعد ويحس به في باطن الأرض فإذا رفرف على موضع علم أن به ماء، وهذا سبب اتخاذه في جند سليمان"[23].
والقصد من قوله تعالى: {أَوْ لَيَأْتِيَنِّي بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ} خيار ثالث يمكن اعتباره إثباتا أولا لصفة العدل لسليمان عليه السلام رغم قوته وتمكينه في الأرض، والمتمثل في ضمان حق الهدهد رغم تدني رتبته في الجيش من الدفاع عن نفسه وتمتيعه بمحاكمة عادلة، وإثباتا ثانيا لصفة الإدراك للحيوان فلا يمكن لمخلوق فاقد للإدراك أن يأتي بحجة يبرر بها فعلا من أفعاله التي يعي بأنها مخالفة للقانون غير مقبولة عند الملك، وهذا إثبات للوعي والإدراك في نفس الوقت؛ لأن الحجة يجب أن ترقى إلى مستوى عقاب المخالفة وهو الذبح، فالهدهد يحتاج بذلك إلى "أن يأتي بما يدفع به العقاب عن نفسه من عذر في التخلف مقبول"[24].
فلا يمكن أن يأتي الفاقد للعقل بسلطان؛ أي حجة مظهرة للحق محتج بها[25]، إلا إذا كان عاقلا، وسليمان عليه السلام طالب الهدهد بهذه الحجة ليدافع عن نفسه، ومجرد مطالبة الهدهد بها في حد ذاته إثبات لخاصية الإدراك للهدهد ووعيه بأفعاله، وبيان الحجة يلزم صاحبها باستعمال لغة مفهومة من طرف المحاجِج والمحاجَج؛ لأن "اللغة نظام تعاوني لتبادل المعلومات"[26]، حتى يستطيع الطرف الأول تبرير فعله للطرف الثاني.
قال تعالى{ فَمَكَثَ غَيْرَ بَعِيدٍ فَقَالَ أَحَطْتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ وَجِئْتُكَ مِنْ سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ (22) إِنِّي وَجَدْتُ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ (23) وَجَدْتُهَا وَقَوْمَهَا يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ فَهُمْ لَا يَهْتَدُونَ (24) أَلَّا يَسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي يُخْرِجُ الْخَبْءَ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَيَعْلَمُ مَا تُخْفُونَ وَمَا تُعْلِنُونَ (25)}
واتخاذُ الهدهد مسافة أمان في حد ذاته إثبات لإدراك حجم المخالفة، قال تعالى: {فَمَكَثَ غَيْرَ بَعِيدٍ}، وإظهار للمخافة من سلطان سليمان عليه السلام وبطشه، فهو تصوير دقيق لمشهدية عودة الغائب، "فهو يبدأ حديثه بمفاجأة يعدُها للملك تبرر غيبته، وافتتاحها يضمن إصغاء الملك إليه: «أحطت بما لم تحط لم به! وجئتك من سبأ بنبأ يقين». فأي ملك لا يستمع، وأحد رعيته الصغار يقول له: «أحطت بما لم تحط به!» ثم ها هو ذا الغائب يعرض النبأ مفصلاً؛ وإنه ليحس إصغاء الملك له، واهتمامه بنبئه؛ فهو يطنب فيه، وهو يتفلسف، فينكر على القوم: «ألاً يسجدوا لله الذي يخرج الخبء في السماوات والأرض). وإنه حتى هذه اللحظة لفي موقف المذنب، فالملك لم يرد عليه بعد. فهو يُلمح بأن هناك إلها «هو رب العرش العظيم» ليطامن الملك من عظمته الإنسانية، أمام هذه العظمة الإلهية!"[27]
ومن كنه خطاب الهدهد، يظهر أن هذا الطائر مخلوق ديبلوماسي بامتياز، وعارف ببروتوكولات[28] لقاء الملوك، ويجيد توظيف استراتيجيات الخطاب الحجاجي واستخدام آلياته المختلفة، واحترام بنائه، وكل هذه الأمور مجتمعة في نسيج لغوي محبوك الصنعة، فكيف ننعته بالفاقد للإدراك، وهو متحدث للغة؟
فالهدهد بذلك طائر استطاع التمييز بين الضلالة والهدى، والشرك والإيمان، ويمتلك القدرة على التجسس والتقاط الأخبار، وتكوين شبكة استخباراتية واسعة النطاق، ولولا توصله بأخبار موثوقة من سبأ لما خاطر بالتغيب عن الجيش بدون إذن، لأنه يعلم ضريبة هذه المجازفة، التي يمكن أن تذهب به إلى حد المطالبة برأسه، ويعلم بأنها تستحق كل هذه المخاطرة، إذا ما أراد أن يرتقي مقاما عند سليمان عليه السلام، فهو حيوان يمتلك طموحا ورغبة في التطور وتحقيق النجاحات.
المراجع المعتمدة
v القرآن الكريم: برواية ورش.
v الهوامش:
- الجاحظ، الحيوان، الجزء الثاني، تحقيق: عبد السلام محمد هارون، شركة مكتبة ومطبعة مصطفى البابي الحلبي وأولاده بمصر، ط:2، 1965
- راجي الأسمر، أحلى النوادر والطرائف من عيون التراث العربي، جروس برس طرابلس-لبنان.
- راي جاكندوف، دليل ميسر إلى الفكر والمعنى، ترجمة حمزة بن قبلان المزيني، كنوز المعرفة، ط:1، 2019
- الزمخشري، الكشاف عن حقائق غوامض التنزيل وعيون الأقاويل في وجوه التأويل، تحقيق: عادل أحمد عبد الموجود- علي محمد معوض، مكتبة العبيكان، الرياض-طريق الملك فهد مع تقاطع القروية، ط:1، 1998م
- سيد قطب، التصوير الفني في القرآن، دار الشروق، ط: 17، 2004م.
- شهاب الدين السيد محمود الألوسي البغدادي، روح المعاني في تفسير القرآن العظيم والسبع المثاني، تصحيح وتعليق: محمود شكري الألوسي البغدادي، الجزء الثامن والعشرون، دار إحياء التراث العربي بيروت-لبنان.
- ابن عجيبة، البحر المديد في تفسير القرآن، تحقيق: أحمد بن عبد الله القرشي رسلان، المجيد، المجلد: الثالث، مطابع الهيئة العامة المصرية للكتب، ط: 1، 1999
- الفيروز آبادي، تنوير المقابس من تفسير ابن عباس، لدار الكتب العالمية بيروت-لبنان، ط: 1، سنة: 1992
- القرضاوي يوسف، العبادة في الإسلام، مكتبة وهيبة، ط: الرابعة والعشرون، 1995م.
- محمد الطاهر بن عاشور، تفسير التحرير والتنوير، الدار التونسية للنشر تونس، الجزء السابع عشر، 1984
- ابن منظور، لسان العرب، ت: عبد الله علي الكبير، محمد أحمد حسب الله، هاشم محمد الشاذلي، دار المعارف.
v هوامش أجنبية:
- Michaelson, E. (2024). What is the Proper Function of Language? Inquiry, 67(8), 2791-2814
https://doi.org/10.1080/0020174X.2024.2325616 p:5.
- Noam Chomsky, Language and Mind, CAMBRIDGE UNIVERSITY PRESS, 2006
- Bernard JOLIBERT, LOGIQUE ET LANGAGE Initiation interdisciplinaire à la réflexion logique pour ceux qui se sentent perdus, ou s'en croient incapables, IUFM de la Réunion.
[1] - شهاب الدين السيد محمود الألوسي البغدادي، روح المعاني في تفسير القرآن العظيم والسبع المثاني، تصحيح وتعليق: محمود شكري الألوسي البغدادي، الجزء الثامن والعشرون، دار إحياء التراث العربي بيروت-لبنان، ص: 92.
[2] - القرضاوي يوسف، العبادة في الإسلام، مكتبة وهيبة، ط: الرابعة والعشرون، 1995م، ص: 51.
[3] - محمد الطاهر بن عاشور، تفسير التحرير والتنوير، الدار التونسية للنشر تونس، الجزء السابع عشر، 1984، ص: 226.
[4] - ابن عجيبة، البحر المديد في تفسير القرآن، المجيد، المجلد: الثالث، ص: 522.
[5] - نفسه.
[6] - راي جاكندوف، دليل ميسر إلى الفكر والمعنى، ترجمة حمزة بن قبلان المزيني، كنوز المعرفة، ط:1، 2019، 18
[7] - Bernard JOLIBERT, LOGIQUE ET LANGAGE Initiation interdisciplinaire à la réflexion logique pour ceux qui se sentent perdus, ou s'en croient incapables, IUFM de la Réunion, P: 122
[8] - محمد الطاهر بن عاشور، تفسير التحرير والتنوير، الجزء: الثامن عشر، ص: 258
[9] - راي جاكندوف، دليل ميسر إلى الفكر والمعنى، ص: 33
[10] - راجي الأسمر، أحلى النوادر والطرائف من عيون التراث العربي، جروس برس طرابلس-لبنان، ص: 186
[11] - الجاحظ، الحيوان، الجزء الثاني، تحقيق: عبد السلام محمد هارون، شركة مكتبة ومطبعة مصطفى البابي الحلبي وأولاده بمصر، ط:2، 1965، ص: 289
[12] - ابن عجيبة، البحر المديد في تفسير القرآن، المجلد: الرابع، ص: 522
[13] - Noam Chomsky, Language and Mind, CAMBRIDGE UNIVERSITY PRESS, 2006, p: Viii.
[14] - الفيروز آبادي، تنوير المقابس من تفسير ابن عباس، لدار الكتب العالمية بيروت-لبنان، ط: 1، سنة: 1992، ص: 398
[15] - ابن عجيبة، البحر المديد في تفسير القرآن، المجيد، المجلد: الرابع، ص: 185
[16] - الزمخشري، الكشاف عن حقائق غوامض التنزيل وعيون الأقاويل في وجوه التأويل، تحقيق: عادل أحمد عبد الموجود- علي محمد معوض، الجزء الرابع، مكتبة العبيكان، الرياض-طريق الملك فهد مع تقاطع القروية، ط:1، 1998م، ص: 444
[17] - ابن منظور، لسان العرب، ت: عبد الله علي الكبير، محمد أحمد حسب الله، هاشم محمد الشاذلي، دار المعارف، المجلد الخامس، مادة فقد.
[18] - محمد الطاهر بن عاشور، تفسير التحرير والتنوير، الجزء الثامن عشر، ص: 245
[19] - سيد قطب، التصوير الفني في القرآن، دار الشروق، ط: 17، 2004م، ص:210
[20] - محمد الطاهر بن عاشور، تفسير التحرير والتنوير، الجزء الثامن عشر، ص: 246
[21] - نفسه.
[22] - محمد الطاهر بن عاشور، تفسير التحرير والتنوير، الجزء الثامن عشر، ص: 246
[23] - المرجع نفسه، ص: 245
[24] - المرجع نفسه، ص: 246.
[25] - محمد الطاهر بن عاشور، تفسير التحرير والتنوير، الجزء الثامن عشر، ص: 246
[26] - Michaelson, E. (2024). What is the Proper Function of Language? Inquiry, 67(8), 2791-2814
https://doi.org/10.1080/0020174X.2024.2325616 p :5
[27] - سيد قطب، التصوير الفني في القرآن، ص:211.
[28] - عبارة عن قواعد غير مكتوبة، وآداب رفيع يتبع عند لقاء شخصيات أو كيانات ذات سلطة، وهو مصطلح متداول في عالم الساسة والرياضة.






