جنون العقل العربي: تشريح الفوضى القابلة للإدارة في الشرق الأوسط
فئة : مقالات
جنون العقل العربي:
تشريح الفوضى القابلة للإدارة في الشرق الأوسط
المقدمة
تُعد ظاهرة الجنون، في جوهرها، إحدى أكثر الظواهر الإنسانية تعقيداً وإثارة للجدل، فهي لا تقتصر على كونها حالة طبية أو اضطراباً نفسياً، بل تتجاوز ذلك لتلامس أعماق الفلسفة، والاجتماع، والسياسة. لقد تحول الجنون عبر التاريخ من "تجربة وجودية" إلى "موضوع معرفي"، ومن ثم إلى "أداة للضبط الاجتماعي والسياسي". وفي سياقنا العربي المعاصر، يكتسب هذا المفهوم أبعاداً أكثر حدة وإلحاحاً، خاصة في ظل ما يُعرف بـ "الفوضى القابلة للإدارة" التي تعصف بمنطقة الشرق الأوسط. إن ربط مفهوم الجنون بآليات السيطرة والإقصاء في هذا الإقليم المضطرب ليس مجرد مقاربة مجازية، بل هو محاولة لـ تشريح البنية المعرفية والسياسية التي تُنتج وتُدير حالة من اللاعقلانية الممنهجة.
إشكالية الدراسة وأهميتها
تنطلق هذه الدراسة من تساؤل محوري: كيف تحول مفهوم الجنون في السياق العربي من مجرد وصم ديني/اجتماعي إلى آلية سياسية ومعرفية تُستخدم لـ إدارة الفوضى وإقصاء العقلانية النقدية في منطقة الشرق الأوسط؟ تكمن أهمية هذه الدراسة في تقديم قراءة نقدية تفكيكية (Deconstructive Critique) تربط بين التحليل الفلسفي العميق (متمثلاً في أعمال ميشيل فوكو وغيره) والواقع السياسي الراهن، مسلطة الضوء على دور الجنون كـ بناء اجتماعي يُستخدم لشرعنة الإقصاء وتبرير حالة "الفوضى القابلة للإدارة".
الفرضيات والمنهجية
تعتمد الدراسة على ثلاث فرضيات رئيسة: أولاً، الجنون في الشرق الأوسط هو بناء سياسي يُستخدم لشرعنة الإقصاء وتبرير حالة "الفوضى القابلة للإدارة". ثانياً، المؤسسات العقلية (بمفهومها الفوكوي) في المنطقة هي امتداد لـ "دولة القمع التكنولوجي" التي تعمل على "هندسة الإنسان". ثالثاً، يُمثل الجنون في الخطاب الأدبي والفلسفي العربي "مقاومة معرفية" و"مساراً بديلاً" يكشف عن زيف العقلانية السائدة.
تعتمد الدراسة على المنهج النقدي التفكيكي، مستخدمة المنهج الجينيالوجي (Genealogy) الفوكوي لتتبع نشأة مفهوم الجنون وتحولاته، بالإضافة إلى تحليل الخطاب النقدي (Critical Discourse Analysis) لتحليل النصوص السياسية والأدبية، مما يضمن رصانة الطرح وعمق التحليل.
أولا- التأصيل النظري للجنون: من الإقصاء إلى التفكيك (المنظور الفوكوي)
1- الجنون قبل العقلانية: التراث الفلسفي والإسلامي
لم يكن الجنون في المراحل التاريخية المبكرة مجرد حالة مرضية، بل كان يمثل في كثير من الأحيان "شكلاً من أشكال المعرفة" أو "التواصل مع المطلق". ففي الفلسفة اليونانية، كان الجنون (Mania) يُنظر إليه على أنه هبة إلهية، أو حالة من النشوة التي تتيح للشاعر أو العراف رؤية ما لا يراه العقل العادي [3].
وفي التراث الإسلامي، وعلى الرغم من وجود تطور مبكر في مجال الطب النفسي (البيمارستانات)، إلا أن الجنون ظل يحمل دلالات مزدوجة. فمن جهة، كان هناك اعتراف بالحاجة إلى علاج ورعاية، ومن جهة أخرى، كان الجنون يمثل أسهل وأسرع وسيلة لـ إقصاء المخالفين وتجريدهم من شرعية قولهم. إن تحليل دلالة كلمة "مجنون" في الخطاب القرآني يكشف عن استخدامها كأداة إقصاء سياسية ودينية، حيث كان اتهام الأنبياء بـ "الجنون" هو الحجة الأولى للمعارضة لرفض الحقيقة التي جاءوا بها. هذا الاستخدام يرسخ في الوعي الجمعي العربي فكرة أن "الرؤية المختلفة أو الثورية" تُقابل بالوصم الفوري بالجنون، مما يجعل الجنون في هذا السياق ليس مجرد حالة فردية، بل وصمة اجتماعية ذات أبعاد سياسية عميقة.
2- القطيعة الكلاسيكية: ميلاد المصحة وموت التجربة
يمثل عمل ميشيل فوكو الرائد، تاريخ الجنون في العصر الكلاسيكي، نقطة تحول مفاهيمية في فهم الجنون. يرى فوكو أن الجنون لم يُكتشف، بل صُنع كـ "موضوع معرفي" من خلال عملية إقصاء تاريخية. ففي العصر الكلاسيكي (القرن السابع عشر)، حدثت "القطيعة الكبرى" التي تم فيها عزل الجنون عن المشهد الاجتماعي وحبسه في المصحات.
- الجنون كبناء اجتماعي: الجنون، وفقاً لفوكو، هو "الآخر" الذي تحدد به العقلانية نفسها. العقلانية لم تكتشف الجنون، بل اخترعته كـ نقيض لها لتعزز من سلطتها وشرعيتها.
- المصحة كأداة سلطة: المصحة العقلية لم تكن في البداية مكاناً للعلاج، بل كانت "مؤسسة للضبط" و"الحبس الكبير" الذي جمع المجانين مع الفقراء والمشردين والمخالفين للنظام الاجتماعي. الهدف الأساسي كان إعادة إنتاج العقلانية المهيمنة عبر الإقصاء والعزل، وتحويل الجنون من "تجربة" يمكن أن تحمل معنى، إلى "مرض" يجب قمعه وعلاجه. هذا التحليل يفتح الباب أمام فهم المؤسسات القمعية في الشرق الأوسط كـ امتداد لهذا "الحبس الكبير" الفوكوي.
3- فلسفة الجنون: الذهان كمسار معرفي بديل
على النقيض من النظرة الطبية والإقصائية، تتبنى بعض الأطروحات الفلسفية المعاصرة، مثل تلك التي قدمها ووتر كوستر في فلسفة الجنون: تجربة التفكير الذهاني، منظوراً يرى في الجنون "إمكانية للتحرر" أو "مساراً معرفياً مختلفاً".
- الذهان كإدراك حاد: الجنون هنا ليس نقصاً في العقل، بل قد يكون "فيضاً في الإدراك" أو "قدرة على رؤية المبدأ الأصلي للوجود" خارج إطار العقلانية المحدودة. المجنون (الذهاني) يرى العالم بواقعية مفرطة أو معدومة، ويضطرب لديه مفهوم الزمان والمكان (حاضر أبدي، لا خلفية للمكان)، مما يجعله قادراً على "الوصول إلى سر الوجود" الذي يسعى إليه الفيلسوف والمتصوف.
- الجنون كـ "نقد للعقلانية": هذا المنظور يرفع الجنون من حالة مرضية إلى "حالة معرفية" أو "مسار وجودي"، ويجعله نقداً لاذعاً للعقلانية السائدة التي أصبحت عقلانية أداتية (Instrumental Rationality) تخدم أغراض السيطرة والضبط. إن هذا التفكيك الفلسفي للجنون هو ما سيُستخدم في الفصل التالي لتحليل واقع العقل العربي الذي يعيش حالة من "الجنون المُدار".
ثانيا- جنون العقل العربي: آليات الإقصاء في دولة الفوضى القابلة للإدارة
إذا كان الجنون في المنظور الفوكوي هو "الآخر" الذي تُقصيه العقلانية الغربية لتثبت ذاتها، فإن الجنون في السياق العربي المعاصر هو "الحالة الطبيعية المُدارة" التي تُستخدم لشرعنة الاستبداد وإدامة حالة "الفوضى القابلة للإدارة". إن العقل العربي، في ظل الأنظمة القمعية، يجد نفسه محاصراً بين خطاب عقلاني مزيف وواقع لا عقلاني مفروض، مما يولد حالة من "الجنون المزدوج": جنون الوصم والإقصاء، وجنون التطبيع مع اللاعقلانية.
1- الجنون كأداة سياسية: تشريح وصم العقل النقدي
في الأنظمة الاستبدادية، لا يُنظر إلى العقل النقدي أو الرؤية المخالفة على أنها مجرد اختلاف في الرأي، بل تُصنف فوراً كـ "انحراف" أو "مرض" أو "جنون". إن الجنون في هذا السياق هو أسهل وأسرع وسيلة لـ تجريد الخصم من الشرعية، وتحويله من "مواطن" له حقوق إلى "مريض" يجب عزله أو "مجنون" يجب إقصاؤه.
آليات الوصم السياسي بالجنون في السياق العربي
الوصف
التجريم المعرفي
تصوير الأفكار النقدية أو الثورية على أنها "هذيان" أو "أوهام" لا أساس لها من الواقع، مما يبرر قمعها أو تجاهلها.
التطبيع مع اللاعقلانية
يصبح السلوك العقلاني (مثل المطالبة بالحقوق، أو التعبير عن الرأي) هو السلوك "المجنون" الذي يُعاقب عليه، بينما يُصبح السلوك اللاعقلاني (مثل الخضوع المطلق، أو التمجيد الأعمى) هو السلوك "العاقل" والمقبول اجتماعيًّا وسياسيًّا.
الوصم الديني/الاجتماعي
استغلال الموروث الثقافي الذي يربط الجنون بالمس الشيطاني أو النقص العقلي لتعزيز الإقصاء الاجتماعي للشخصيات المعارضة.
إن هذا الوصم السياسي للجنون يهدف إلى تفكيك البنية العقلانية للمجتمع، حيث يُصبح الفرد غير قادر على التمييز بين ما هو عقلاني وما هو لا عقلاني، مما يسهل عملية السيطرة عليه.
2- الفوضى القابلة للإدارة: الجنون كحالة طبيعية مُدارة
يُعد مفهوم "الفوضى القابلة للإدارة" (Manageable Chaos) هو الإطار السياسي الذي يفسر حالة الجنون المستدامة في الشرق الأوسط. هذا المفهوم يفترض أن حالة "الاضطراب المستمر" و"اللايقين" هي الأداة المثلى لضمان السيطرة، سواء من قبل القوى الإقليمية أو الدولية.
- جنون النظام: يتمثل في القرارات والسياسات التي تبدو غير منطقية أو مدمرة ذاتيًّا (مثل الحروب الأهلية، أو التناحر الطائفي)، لكنها في الحقيقة تخدم أجندات السيطرة التي تستفيد من حالة "اللايقين" و"الاضطراب المستمر". هذا الجنون هو جنون "مُصطنع" و"مُدار" بدقة.
- جنون العقل العربي (الشيزوفرينيا المعرفية): يعيش الفرد العربي حالة من "الشيزوفرينيا المعرفية" بين ما يُفترض أن يكون (الحداثة، الديمقراطية، التنمية) وما هو كائن (الاستبداد، الصراع، التخلف). هذا التناقض المستمر بين الخطاب والواقع يُنتج عقلاً "مُرهقاً" و"مُشتتاً"، يجد في "تطبيع الجنون" (أي قبول اللاعقلانية كواقع) آلية للبقاء. إن هذا التطبيع هو جوهر "الفوضى القابلة للإدارة"، حيث يصبح العقل غير قادر على إنتاج خطاب نقدي متماسك.
3- المؤسسة العقلية في الشرق الأوسط: امتداد لدولة القمع التكنولوجي
يمكن النظر إلى المؤسسات العقلية (بمفهومها الواسع الذي يشمل المؤسسات النفسية، والتعليمية، والإعلامية) في المنطقة كـ امتداد لدولة القمع التكنولوجي.
- المصحة كمركز للضبط: لم تعد المصحة مجرد مكان لعزل المجانين، بل أصبحت رمزًا لـ "مؤسسات الضبط" التي تعمل على "هندسة الإنسان" من خلال آليات ناعمة وقاسية.
- الجنون والتكنولوجيا: تُستخدم أدوات الضبط الحديثة (المراقبة، التنميط، التوجيه الإعلامي) لـ إقصاء العقل المختلف وتصنيفه كـ "عقل مضطرب" أو "عقل غير قابل للإدارة". إن الهدف هو "صناعة عقل مُطَمْئَن" يقبل الفوضى المُدارة كقدر، ويُقصي كل صوت نقدي بوصفه "جنوناً" يجب قمعه أو علاجه. هذا يمثل تحولاً من "الحبس الكبير" الفوكوي إلى "الضبط الناعم" الذي يستهدف البنية المعرفية للفرد.
ثالثا-الجنون في مرآة الأدب والرواية: المقاومة المعرفية والتحرر
يُقدم الأدب، خاصة الرواية، مساحة نقدية فريدة لاستكشاف الجنون خارج أطر الوصم السياسي والطبي. في هذا السياق، يتحول المجنون من كائن مُقصى إلى "رائي" و"ناقد اجتماعي"، يمتلك القدرة على "القول بالحقيقة" التي لا يستطيع العاقل قولها.
1- المجنون كـ "رائي": الجنون ككشف للحقيقة
في الرواية العربية، غالبًا ما تكون شخصية المجنون هي الشخصية الأكثر صدقًا وبصيرة.
- الجنون كملاذ أخير: الجنون يصبح "ملاذًا أخيرًا" للتحرر من قيود العقلانية القمعية والاجتماعية. الشخصية المجنونة هي الوحيدة التي تستطيع أن ترى "جنون العقلانية" السائدة، وتكشف عن زيفها.
- الجنون واللغة: المجنون هو الذي يكسر قيود اللغة الرسمية والمُنمطة، ويخلق لغة جديدة تعبر عن الواقع المضطرب بصدق أكبر. هذا التمرد على اللغة هو تمرد على "سلطة الخطاب" المهيمن.
2- جمالية الجنون: التعبير الفني والتمرد على القواعد
لا يقتصر دور الجنون في الأدب على كونه أداة نقدية فحسب، بل يمتد ليصبح مصدراً لـ "الجمالية" و"الطاقة الإبداعية". إن العلاقة بين العبقرية والجنون هي علاقة تاريخية قديمة، حيث يُنظر إلى الجنون كـ "طاقة إبداعية مضطربة" تكسر القواعد وتتجاوز الحدود المألوفة.
- الجنون كطاقة إبداعية: يمثل الجنون في الفن والأدب خروجاً على النسق، وهو ما يتيح إنتاج أعمال فنية وأدبية تتسم بالعمق والفرادة. إن "التمرد على القواعد" العقلانية هو جوهر العملية الإبداعية، والجنون يوفر هذه المساحة للتمرد.
- الجنون واللغة الجديدة: المجنون هو الذي يكسر قيود اللغة الرسمية والمُنمطة، ويخلق لغة جديدة تعبر عن الواقع المضطرب بصدق أكبر. هذا التمرد على اللغة هو تمرد على "سلطة الخطاب" المهيمن، سواء كان خطاباً سياسياً أو اجتماعياً.
3- نحو عقلانية متحررة: إعادة دمج الجنون في الوعي العربي
تُظهر الدراسة أن الجنون، في جوهره، يمثل إمكانية للتحرر من أطر السيطرة والإقصاء. إن الخروج من حالة "الفوضى المُدارة" يتطلب إعادة قراءة لمفهوم الجنون خارج إطار الوصم الطبي والسياسي.
- إعادة قراءة الجنون: يجب النظر إلى الجنون ليس كمرض يجب قمعه، بل كـ "إمكانية معرفية" يجب فهمها واحتواؤها. هذا يتطلب تحولاً جذرياً في الوعي العربي من "عقلانية الإقصاء" إلى "عقلانية الاحتواء".
- الجنون كـ "إمكانية للتحرر": إن تبني منظور نقدي يرى في الجنون "مقاومة معرفية" هو الخطوة الأولى نحو التحرر من آليات السيطرة. عندما يُصبح الجنون هو "القول بالحقيقة"، فإن العقلانية الحقيقية تكمن في الاستماع إليه وفهم رسالته.
الخاتمة
لقد سعت هذه الدراسة إلى تشريح العلاقة المعقدة بين مفهوم الجنون وواقع العقل العربي في منطقة الشرق الأوسط، مؤكدة أن الجنون لم يعد مجرد ظاهرة طبية أو نفسية، بل هو بناء سياسي ومعرفي يُستخدم ببراعة لـ إدارة الفوضى وإقصاء العقلانية النقدية.
نتائج الدراسة
1 تأكيد الفرضية الأولى: الجنون في الشرق الأوسط هو بالفعل بناء سياسي يُستخدم لشرعنة الإقصاء وتبرير حالة "الفوضى القابلة للإدارة". يتم ذلك عبر وصم أي صوت نقدي أو مختلف بـ "اللاعقلانية" أو "الجنون".
2 تأكيد الفرضية الثانية: المؤسسات العقلية (بمفهومها الواسع) تعمل كـ امتداد لدولة القمع التكنولوجي، حيث يتم "هندسة الإنسان" وصناعة عقل مُطَمْئَن يقبل اللاعقلانية كواقع.
3 تأكيد الفرضية الثالثة: يُمثل الجنون في الخطاب الأدبي والفلسفي العربي "مقاومة معرفية" و"مساراً بديلاً"، حيث يصبح المجنون هو "الرائي" الذي يكشف زيف العقلانية السائدة.
توصيات الدراسة
1 تفكيك خطاب الوصم: ضرورة العمل الأكاديمي والثقافي على تفكيك الخطاب السياسي والإعلامي الذي يستخدم الجنون كأداة للإقصاء.
2 إعادة قراءة فوكو في السياق العربي: تعميق الدراسات التي تطبق المنهج الفوكوي على المؤسسات العربية (السجون، المستشفيات، المدارس) لفهم آليات الضبط والسيطرة.
3 الاحتفاء بالعقل النقدي: تشجيع الخطاب النقدي والمختلف واعتباره دليلاً على "صحة العقل" بدلاً من وصمه بـ "الجنون".
المراجع:
1. فوكو، ميشيل. تاريخ الجنون في العصر الكلاسيكي.
2. كوستر، ووتر. فلسفة الجنون: تجربة التفكير الذهاني.




