خطة تسديد التبليغ وإعادة النظر في وظائف التدين بالمغرب: استراتيجية تسديد الخطاب الديني ودمج الدين في السياسات التنموية

فئة :  أبحاث محكمة

خطة تسديد التبليغ وإعادة النظر في وظائف التدين بالمغرب:  استراتيجية تسديد الخطاب الديني ودمج الدين في السياسات التنموية

خطة تسديد التبليغ وإعادة النظر في وظائف التدين بالمغرب:

استراتيجية تسديد الخطاب الديني ودمج الدين في السياسات التنموية

الملخـص

تختلف السياسة الدينية من بلد إسلامي إلى آخر، حسب طبيعة النسق السياسي وبنية المجتمع وسيرورته التاريخية. فالمغرب بنى عبر مراحل تاريخية ممتدة لقرون طويلة سياسة دينية فريدة في ظل تقاليد عريقة تأسست فيها دول المغرب الأقصى المتعاقبة على الدين وعلى نظام "إمارة المؤمنين". فالدين يتبوأ مكانة بارزة في النسق السياسي المغربي في الماضي والحاضر، باعتباره منبع الشرعية السياسية والدينية، لتكون بذلك آليات احتواء الخطابات والفضاءات والأشخاص والجماعات الدينية ذات الصلة بهذا الرأسمال الديني الرمزي الروحي من ملحقات أو مستتبعات استراتيجية استثمار الدين في عملية بناء واستدامة الشرعية الدينية والمشروعية السياسية والاجتماعية.

لقد تحول التعامل الرسمي مع الشأن الديني تدريجيًّا منذ الاستقلال من التدبير والمراقبة في إطار الحرية والتنوع في التيارات والخطابات، إلى الاحتكار والتأميم من قبل مؤسسات عمومية ذات اختصاصات محددة كالمجالس التخصصية، والوزارة ومندوبياتها، تشرف على القطاعات الفرعية للشؤون الإسلامية "المساجد، التعليم العتيق، الأوقاف ..."، في إطار تدبير عمومي يمسك بزمام الأمور، وهو المبادر والمنفذ للسياسة الدينية الوطنية تحت الإشراف السامي لإمارة المؤمنين. ومحصلة هذا المسار الطويل من الهيكلة والمأسسة التي قام بها المغرب لا يمكن أن تفضي إلا إلى توحيد الخطاب الديني، على جميع القنوات القديمة والحديثة.

تدشن خطة تسديد التبليغ مرحلة جديدة في تدبير الشأن الديني في المغرب، فبعد مرحلة الهيكلة والمأسسة والضبط الإداري للحقل الديني، وتوحيد الخطاب الديني، تأتي مرحلة إنتاج خطاب ديني يهدف إلى الإسهام في تغيير أحوال الناس الفردية والجماعية، وترسيخ الوعي بدور الدين في خدمة التنمية الشاملة في الحي والقرية والوطن كله، وتصريفه في مختلف القنوات التبليغية باعتماد أساليب جديدة في الاشتغال، وتَبني آليات علمية في التخطيط الاستراتيجي، من حيث التشخيص والتنفيذ والتتبع والتقويم.

إن القراءة الفاحصة للدليل المرجعي المؤطر لخطة تسديد التبليغ تنتهي إلى استنباط دوران هذه الخطة حول نواة مركزية، وهي: تقديم قراءة جديدة للدين بوصفه وقودا للإصلاح الفردي والجماعي، ومحركا للتنمية الشاملة، باستثمار ثمرات العبادات الدينية لتحقيق السعادة والحياة الطيبة الفردية والجماعية، الدنيوية والأخروية. إن اشتغالنا في هذا البحث التحليلي سينصب على الوثيقة المرجعية المؤطرة لهذه الاستراتيجية الجديدة "خطة تسديد التبليغ، دليل مرجعي في التأصيل والفهم والتأويل" بوضعها في سياقاتها الزمنية والسياسية والفكرية، وتمحيص ما استجد فيها من تنظير على صعيد التأصيل والفهم والتأويل.

تقديم

لقد أثارت مبادرة توحيد خطب الجمعة في إطار خطة "تسديد التبليغ"، مِن قِبل وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية والمجلس العلمي الأعلى بالمغرب، جدلا واسعا في الأوساط العامة والعالمة معا، وقد عَبّرَ العامّة عن امتعاضهم الشديد من هذا الإجراء الذي يستهدف التحكم في كلام الخطيب، وكأن هذا الأخير كان يخطب في الناس مِن قَبْل بما يريد في حرية مطلقة، وقد انخرط في هذا الموقف بعض الشعبويين من فقهاء مواقع التواصل الاجتماعي. أما الأصوات العالمة، فقد تفاعلت مع الموضوع بعقلانية وموضوعية من منظور سياقي وشمولي واستشرافي. لقد حدث آنذاك تجاذب كبير بين دعاة التوحيد، ودعاة التحرير، وموقف ثالث دعا إلى الاكتفاء بتحديد الإطار العام للخُطَب، وترك حرية المقاربة وأسلوب تناول الموضوع للخطيب.

إننا الآن على مسافة زمنية من ذلك الجدل الذي أثير عقب بداية تنزيل خطة تسديد التبليغ عبر إجراء توحيد الخطب. فبعد مرور مثل هذه الأحداث والتجاذبات في حقل ملغوم كالحقل الديني، وبالخصوص خطبة الجمعة، بوصفها طقسا دينيا أسبوعيًّا يستأثر باهتمام جل المغاربة، لابد من إعادة قراءة الوقائع، وفحص مختلف المواقف، ووضعها في السياقات المؤطرة لها، ومعرفة الخلفيات والمقاصد والأطر المرجعية المؤطرة لهذا الإجراء المؤسساتي الذي يندرج ضمن مسلسل إصلاح الشأن الديني في المغرب، وهي حلقة تستهدف إصلاح الخطاب الديني بعد مرحلة الهيكلة المؤسساتية.

لقد كان هذا النقاش الدائر حول الخطة سَيُعد صحيًّا ومطلوبًا لو انطلق الخائضون فيه من المقاصد والغايات والوثائق المرجعية؛ فالمتخصصون في تدبير الشأن الديني في المغرب، مؤسسات وعلماء، لا يمكنهم أن يُقدموا على ما يخالف المقاصد الشرعية في الخَطابة، وليسوا إيديولوجيين إلى درجة تطويع الشأن الديني، وتوجيه الخطاب الدعوي لصالح الشرعية السياسية والدينية على وجه الحصر. لكن في المقابل، أليست العبرة في الوقائع لا في الوثائق والنوايا ؟ فقد اتجهت الخطة رأسا إلى توحيد خطبة الجمعة بالحرف دون غيرها من الإجراءات الإصلاحية المسطرة.

يُعدّ قرار توحيد خطبة الجمعة أحد الإجراءات التي جاءت بها خطة تسديد التبليغ، وقد اختزلت هذه الاستراتيجية المتعددة المحاور، والتي أعدها المجلس العلمي الأعلى بمعية وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية منذ سنتين، في الخطبة الموحدة، دون الإلمام بالإجراءات الأخرى، إن كانت قابلة للأجرأة والتأثير في حياة الناس الدينية والدنيوية، مع العلم أن خُطب الجمع قدّمت فيها المؤسسة العلمية توجيهات واضحة للخطباء، بقصد مراعاة السنة واتباع أسلوب النجاعة والملاءمة بين متطلبات أحوال الناس ومقتضيات الدين. إن خطة تسديد التبليغ تؤطرها وثيقة "الدليل المرجعي في التأصيل والفهم والتأويل"[1]، تبين مختلف حيثيات هذا المشروع من حيث السياق الذي جاء فيه، والتأصيل المقاصدي لإجراءاته، والمحاور المتعددة للخطة، ومنهجية تنزيلها على أرض الواقع، وما يلي التنفيذ من آليات التتبع والتقييم والتقويم،

إن فلسفة خطة "تسديد التبليغ" ترمي إلى انخراط روح الإسلام القيمية وتعاليمه الخُلقية في خدمة التنمية الشاملة للمجتمع المغربي، فهي خطة في الدين لخدمة الصلاح الفردي والجماعي، الدنيوي والأخروي. إنها تدشن مرحلة جديدة في تدبير الشأن الديني المغربي، بالانتقال من الهيكلة والمأسسة من أجل تحقيق الاستقرار والأمن، إلى صناعة سياسة دينية تستثمر مقومات التدين المغربي في تقويم الاختلالات التنموية وتطوير قدرات الفرد والجماعة، باستثمار ثمرات التدين.

يتمحور هذا البحث حول خطة تسديد التبليغ من حيث سياقها وغاياتها وطريقة أجرأتها وخلفياتها، لكننا سنعمد بداية إلى وضع هذه الخطة في سياقها، بربطها بما قبلها من برامج واستراتيجيات إصلاح الشأن الديني في المغرب. فهذه الخطة جاءت بعد مسلسل من الإصلاحات التي شملت كل مناحي الشأن الديني المغربي، بمأسسته وفق تدبير إداري وقانوني، وضبط كل تدخلات الفاعلين الدينيين. وبعد استتباب أمور هذا المرفق الحيوي واستوائها على المنوال المطلوب، جاءت هذه الخطة الجديدة لاستثمار المكتسبات، وتعبئة القدرات المتوفرة لتحويل التدين الجمعي والفردي إلى قوة فاعلة في تغيير الأوضاع في جميع المجالات الاجتماعية والاقتصادية ..إلخ. وهذا ما يحيلنا، رغم اختلاف السياقين الغربي والمغربي، على فكرة الفيلسوف الألماني المعاصر يورغن هابرماس، التي تسلط الضوء على الأدوار الجديدة التي يمكن أن يضطلع بها الدين في المجتمعات المعاصرة، بالعمل على تحديث التدين والوعي الديني، وتفسير التعاليم الدينية وتسويغها بشكل يتناسب مع متطلبات العصر؛ وذلك حتى تصبح مناسِبة للولوج إلى الحياة الاجتماعية والسياسية بطريقة سلسة، حتى لا يظل الدين مجرد طقوس غريبة عن معيش الناس، قابعا في جزيرة معزولة لا تربطه جسور متينة بقارة المجتمع.

ـ من مأسسة الشأن الديني إلى تسديد الخطاب الدعوي

بداية يجب الإشارة إلى أن تدبير الحقل الديني في المغرب شأن مؤمم، تشرف عليه الدولة من خلال مؤسسات متنوعة، ذات اختصاصات واضحة وفق ضوابط محددة، تحت الإشراف السامي للملك بصفته أمير المؤمنين وحامي حمى الملة والدين، بالتنصيص الدستوري على كون كل ما يتعلق بالشأن الديني مدرج في مجاله الخاص. فقد نهجت الدولة المغربية منذ قيام الشرفاء السعديين في القرن السادس عشر الميلادي إلى الآن، سياسة دينية جعلت "السلطان الشريف" فوق كل الفاعلين الدينيين، سواء كانوا علماء ممثلين للإسلام الشرعي، أو صوفية ممثلين للإسلام الشعبي، والعمل على مراعاة التوازن بين النمطين من الإسلام، الشرعي والشعبي. وتعتمد الدولة في تصريف سياستها الدينية الرسمية على آليات مؤسساتية؛ كوزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية، والمجالس العلمية، ومختلف المؤسسات الدينية.

إن الحقل الديني يحظى بعناية مباشرة من طرف الملك بصفته أمير المؤمنين، فهو الذي يحدد التوجهات الكبرى في تدبير الشأن الديني، ويوظف صلاحياته بصفته أميرًا للمؤمنين في المجالين معا، الديني والسياسي، فإذا كانت الشرعية السياسية هي القَبول الطوعي على طاعة الحكام والامتثال لتعليماتهم وتنفيذ سياساتهم، مقابل دفاع الحكام عن مواطنيهم والإسهام في الرقي بأوضاعهم وتحقيق التنمية والعدل والحرية والديمقراطية، فإن المقصود بالشرعية الدينية هو "الحفاظ على الهوية الدينية المغربية، كاختيار استراتيجي يتماهى فيه الشرعي الديني بالسياسي في شخص أمير المؤمنين، القيِّم على حفظ الدين وضمان حرية ممارسته وحماية بيضة الإسلام، باعتباره نتيجة سياسية وقانونية مباشرة لعقد البيعة، عبر الإبقاء على العلاقة بين الإسلام وإمارة المؤمنين، ضمن وحدة المذهب المالكي والعقيدة الأشعرية والسلوك السني. إن من خصائص المفهوم السياسي الديني لإمارة المؤمنين توفيره للمؤسسة الملكية، القدرة على الانتقال من الحقل السياسي إلى الحقل الديني، أو الانطلاق من مجال الدين إلى ميدان السياسة، للحسم عند الحاجة في العديد من القضايا الاجتماعية والسياسية"[2].

تتأسس السياسة الدينية الرسمية المغربية على مجموعة من الثوابت الضامنة للوحدة الروحية والعقدية والمذهبية، وفي مقدمة هذه الثوابت: قراءة الإمام نافع، ومذهب أهل المدينة وهو مذهب الإمام مالك، وعقيدة أهل السنة والجماعة للإمام أبي الحسن الأشعري، والتصوف على طريقة الإمام الجنيد، وطائفة أهل السنة أتباع التصوف السني. لذا عملت المؤسسة الرسمية منذ الاستقلال على ضبط الحقل الديني على أساس هذه الثوابت، والعمل على استتباع مختلف الفاعلين الدينيين، سواء كانوا منتظمين في جماعات دعوية أو سياسية أو خطباء أو علماء مستقلين، أو شيوخ الزوايا. لكن هذا الضبط لم ينجح إلا من خلال اهتمام المؤسسة الملكية بالتحكم في الفضاءات الدينية من مساجد وزوايا وغيرها، نظرًا إلى ما تشهده هذه الفضاءات من استغلال من طرف الحركات الإسلامية المعارضة للدعوة، واستقطاب الجماهير إلى مشاريعها.

لقد كانت بداية تدشين الدولة لمشروع هيكلة الشأن الديني المغربي في عهد الملك الحسن الثاني، ولقي الأمر استحسانا كبيرًا، لكن بعض الجهات الدينية الإيديولوجية، فرادى وجماعات، صدحت بالانتقاد والرفض، منتشية آنئذ بمفعول انتصار الثورة الخمينية، وصعود الإيديولوجية الوهابية والإخوانية؛ فأضحت مقاومة الإصلاح الديني آنذاك واقعا جليا، لِما كانت تملكه تلك التيارات الدينية من حضور في الساحتين الدينية والاجتماعية، من خلال استقوائها بالخارج، ووعيها بكون هيكلة الشأن الديني ومأسسة الخطاب الدعوي، سيؤديان إلى تضييق مساحات التعبئة التي كانت تستثمرها، وتستفيد منها.

إحساسًا منها بخطورة الحقل الديني إذا ترك دون رقيب، وانطلاقا من التجربة التاريخية المغربية، عملت المؤسسة الرسمية على هيكلة وتنظيم هذا الحقل، وتأسست التجربة الأولى مع الملك الحسن الثاني، وكان هدفها البارز يتمثل في تحصين الهويتين الدينية والسياسية للمغرب، بفعل الارتباط الوثيق بين الهويتين. لقد أسهمت مجموعة من العوامل الخارجية والداخلية في هذا التوجه الإصلاحي، أبرزها تنامي الإيديولوجيات الدينية المتطرفة، كالإيديولوجية "الخمينية" الرامية إلى تصدير الثورة الإيرانية إلى باقي الدول الإسلامية، والإيديولوجية "الوهابية" المتشددة التي أضحت تؤثر في المجتمع المغربي، علاوة على الإيديولوجية "الإخوانية" المصرية التي أضحى لها حضور في الأوساط الاجتماعية المغربية، وخصوصا عند فئات عريضة من الشباب، إضافة إلى الفراغ أو الإفراغ الحاصل في الساحة الدينية بفعل ابتعاد الفاعلين الدينيين من علماء وأئمة ووعاظ ومرشدين عن أدوارهم التقليدية، واقتصارهم على أداء الشعائر الدينية، ومن هذه الإجراءات المتخذة "إعطاء دور جديد للعلماء كفاعلين دينيين أساسيين منتجين لأفكار ومشاريع جدية، لا مجرد مدبرين للطقوس التعبدية البسيطة. فكان لصدور مجموعة من الخطب التاريخية والظهائر والتشريعات المنظمة لهذا الحقل، أول هيكلة تستهدف الحقل الديني وتطمح التأسيس لإطار عقلاني لحركته، وتحدد الاختصاصات والمسؤوليات المندرجة ضمن ميدان عمله".[3]

يمكن اعتبار الخطاب الملكي الصادر في غشت 2000 بداية مرحلة الهيكلة التدريجية للمجال الديني، وقد عمد الملك في هذا الخطاب إلى إعطاء مفهوم جديد للمساجد، بوصفها أمكنة لممارسة الشعائر الدينية، ومنحها دورًا جديدًا، وذلك بتحويلها إلى فضاءات لمحو الأمية والتثقيف والتوعية وفقا للثوابت الدينية والوطنية الأصيلة، على أساس أن تظل هذه المساجد تحت إشراف الملك بصفته أميرا للمؤمنين، عبر وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية المكلفة بالسهر على تدبيرها ومتابعة شؤونها. وتلا ذلك تنصيب جلالة الملك للمجلس العلمي الأعلى، والمجالس العلمية الإقليمية في خطاب 18 رمضان 1421 الموافق 15 دجنبر 2000 بتطوان. والذي دعا فيه الملك إلى بعث جديد لهذه المجالس العلمية، وتقوية قدراتها العلمية في التأطير والتجديد والاجتهاد، وتجديد نخبها حتى تكون في مستوى التحديات وحجم الأدوار المنوطة بها.

لقد حكمت مجموعة من الاعتبارات والمحددات المرجعية على هذه المرحلة التأسيسية الأولية في تدبير الحقل الديني، وهي [4]:

ـ ضرورة دعم الجهود الرامية إلى تحصين المغرب عقيدة وشريعة وسلوكا.

ـ التأكيد على الربط المحكم بين الإسلام ونظام الحكم ممثلا في إمارة المؤمنين، وتكثيف حضورها السياسي والديني في فترة اشتدت فيها حدة تصاعد المد الديني المتطرف الجانح نحو العنف الدموي.

ـ الإقرار بعدم تعارض الإسلام بكونه دينا ونظام حياة سماوي، والديمقراطية بوصفها نظاما سياسيا واجتماعيا، فهما عنصران متكاملان يعضد أحدهما الآخر، ويؤْمنان بحرية الإنسان واحترام حقوقه.

ـ ربط مؤسسة العلماء بإمارة المؤمنين تقوية لها ودعما لجودة أدائها وسلامة توجيهها.

ـ تركيز ثقافة الوسطية والاعتدال، وإشاعة روح التسامح والتكافل والتآخي بين بني الإنسان.

شكلت أحداث 16 مايو 2003 منعطفا حاسما في هيكلة الحقل الديني بالمغرب، فقد تبين أن المجال الديني والاجتماعي يمكن أن يتحول إلى قنابل مدمرة وأحزمة ناسفة، إذا تُرك أمام التيارات الدينية المتطرفة، التي مازالت تنشط في الأوساط الاجتماعية، عبر قنوات تعبوية مختلفة، لشحن الشباب، على وجه الخصوص، وتحريضهم ضد المؤسسات، باستثمار أوضاعهم الاجتماعية المتردية، مما يسهل تهييج فكرهم وعاطفتهم الدينية وشحنها بأفكار إرهابية مدمرة للاجتماع الوطني، الشيء الذي عَجّل بتدشين مرحلة جديدة من الإصلاحات المؤسساتية، وسن سياسة دينية جديدة تهدف إلى تكريس ثقافة التسامح والتآخي، وممارسة الدين في اعتداله ومرونته لا في غلوه وتشدده، وتأهيل الحقل الديني حتى يتلاءم مع التغييرات المجتمعية الداخلية والخارجية.

لقد كان محتما على الدولة الحرص على إنتاج خطاب ديني رسمي عبر القنوات الخطابية والمؤسساتية، وتعد وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية المشرف الرسمي على الشأن الديني، علاوة على المجالس العلمية في مختلف الجهات والأقاليم، ورابطة علماء المغرب التي أُنشئت لاحتواء النخبة الدينية داخل النسق الرسمي، ومؤسسات التكوين في مجال العلوم الدينية. وتشغل وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية مكانة خاصة داخل بنية النظام السياسي المغربي، وتجسد الأداة المركزية لترجمة السياسة الدينية للدولة، ويحدد تنظيمها واختصاصاتها بالظهائر الشريفة، لكونها ترتبط بشكل مباشر باختصاصات الملك بصفته أميرا للمؤمنين، وتنبني الهيكلة الحالية لوزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية على تطبيق مبدأ القابلية للتكيف، ويتشكل هذا الهيكل التنظيمي الجديد للوزارة ـ الذي نص عليه الظهير الشريف 1/3/193 الصادر في شوال 1424، الموافق ل 4 دجنبر 2003 ـ من مديريتين مركزيتين جديدتين هما: مديرية المساجد، ومديرية التعليم العتيق.

تأسيسا على ما سبق، نستنتج أن السياسة الدينية في المغرب مرت بشكل تدريجي من التحرير النسبي إلى التأميم، فقد كانت الكثير من الفضاءات والقنوات الدينية غير مضبوطة وفق إطار مرجعي محدد، وكانت للأشخاص والجماعات مساحات واسعة لنشر خطابهم الديني، ومنذ الاستقلال عملت الدولة على احتواء كل المنتسبين إلى الشأن الديني بشكل تدريجي، وتم توظيفهم مؤقتا في سياق الصراع السياسي ضد قوى اليسار، وضد بعضهم البعض، لكن أحداث داخلية وخارجية دفعت الدولة إلى سحب البساط من تحت أرجل كل الفاعلين الدينيين بالتأسيس القانوني والفعلي لإمارة المؤمنين باعتبارها حامية لحمى الملة والدين، والضامنة لحرية ممارسة الشؤون الدينية، ورعاية سلامة هذه الممارسة في دائرة وحدة العقيدة الأشعرية والمذهب المالكي والتصوف السني.

ـ خطة تسديد التبليغ: السياق والغايات والخلفيات

تأتي خطة تسديد التبليغ لتدشين مرحلة جديدة من تدبير الشأن الديني بالمغرب، فبعد مأسسة الشأن الديني من جهة تدبيره الإداري والتكوين العلمي لأطره والقيمين عليه، واستتباب أموره إداريا وقانونيا، توفرت فرص سانحة لبلورة سياسة دينية جديدة "خطة تسديد التبليغ". لا شك أن التبليغ من المهام التي درجت المؤسسة العلمية المغربية على أدائها مسنودة بوزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية، لكن تغير السياق، وبتغير السياق يتغير التصور والتخطيط وطرق الاشتغال والتنزيل، لذلك تُعتبر هذه الخطة مرحلة جديدة في تدبير الشأن الديني في المغرب، وبمقتضاها يمكن تحويل الدين الإسلامي، إلى قوة فاعلة في النموذج التنموي الجديد، وفي مختلف مسارات الإصلاح الاجتماعي والتربوي والاقتصادي والسياسي.

إن صياغة خطة عمل جديدة بهدف تسديد التبليغ، عبر قنوات تواصلية مختلفة، كالمساجد والقنوات الإعلامية وأنشطة الوعظ والإرشاد المختلفة، تؤشر على كون العملية التبليغية شابتها في السابق جملة من الاختلالات المنهجية والمقاصدية والمضمونية: ومنها عدم البداية من حيث ينبغي ذلك، فلا تتغير الأوضاع الجماعية دون البدء بتغيير النفس الفردية، وعدم الربط بين العبادات وثمراتها في السلوك والأخلاق، وانتفاء التمييز بين كليات الدين وجزئياته، وغياب الوعي بالمنافع الدنيوية للتدين السليم[5]. بسبب هذه الاختلالات قامت مؤسسة العلماء بصياغة نموذج جديد يحمل تصورا معاصرا، يستهدف جعل مهمة التبليغ ناجعة وفعالة، ومصيبة للأهداف المسطرة، وذات مردودية على مقياس النتائج الواقعية، لذلك رُبط التسديد بالتبليغ، لتحقيق الغاية المثلى من الممارسة الدينية وهي تحقيق "الحياة الطيبة".

لقد أضحى تدبير الشأن الديني في المغرب نموذجا يحتذى به؛ وذلك بفعل السياسة الدينية التي توفر عوامل مساعدة لإنجاح أي مشروع إصلاحي يستثمر الفرص المتاحة ومنها: "إمارة المؤمنين الحامية للملة والدين، والحاسمة لسؤال الشرعية والتنافس أو التنازع باسم الدين، ومشيخة العلم المتوارثة التي أنيط بها شأن الدين والقول فيه، حسما للفتنة والخلاف المفرق للجماعة، وخاصة الهيأة المكلفة بالإفتاء في الشأن العام، ووحدة الاختيارات المذهبية، ورسوخها في حفظ أمن البلد واستقراره، والمؤسسة العلمية التي أنيط بها تدبير الشأن الديني على المستوى المحلي، وبالقرب المباشر من المواطنين وأحوالهم؛ بما ينفي عن التبليغ آفات التوجيه عن بعد، وآفات التجريد غير الملتصقة بالواقع؛ وتوفر حياة سياسية واجتماعية آمنة ومستقرة، بتظافر وازعي القرآن والسلطان (...) ووجود مؤسسات علمية تكوينية للقيمين الدينيين"[6]. إنها فرص سانحة يُمَكّن استثمارها من إبداع نموذج مغربي يحول الدين من التصور التعبدي الفردي لتحقيق الخلاص الأخروي، إلى محرك دينامي ينشد تحقيق التنمية والسعادتين، الدنيوية والأخروية، للفرد والمجتمع كافة.

إن فلسفة خطة تسديد التبليغ تكمن في مراجعة الفكرة المترسخة في الوعي الجمعي، والمتمثلة في ربط الدين بالنجاة الأخروي فحسب، لتَعتبر أن قيم الدين وأخلاقه يمكن استثمارها في سائر مجالات الحياة بمقتضى: "العمل على التمكين لمضامين تلك القيم والأخلاق في قطاعات الحياة المختلفة؛ تقويما للاختلالات الموجودة فيها وتصويبا لها، وإرشادا إلى الهدى والاستقامة الجالبين للنفع الدنيوي وللفلاح الأخروي"[7]. تقدم خطة تسديد التبليغ منظورا إجرائيا وعلميا لمقولة "الإسلام دين ودنيا"، وقراءة جديدة للآيات القرآنية التي تربط دوما بين الإيمان والعمل الصالح، وثمراتهما في الحياة والممات.

لقد ارتبطت أنشطة الدعوة والوعظ الدينيين، قبل تدخل الدولة، بالتيارات الدينية المختلفة، بل إن طريقة الخروج إلى الأحياء والقرى ومختلف الفضاءات التي يجتمع فيها الناس، طريقة ابتدعتها الجماعات الدينية في وقت سابق، قبل مشروع مأسسة الشأن الديني في المغرب، ومع ذلك فمازالت الكثير من الأصوات الناشزة عن التوجه الرسمي في مجال التبليغ والوعظ والإرشاد تنشط في فضاءات محدودة. فبعد إبعاد تيارات الإسلام السياسي عن المشهد الدعوي والاجتماعي، وانكشاف مشاريعها الإيديولوجية والسياسية، وبيان ضيق رؤاها وتهافتها البراغماتي لتحصيل مكاسب مختلفة، وإدماج بعضها في النسق السياسي أو الديني، أخذت الدولة مبادرة التبليغ عبر خارطة طريق تستهدف الخروج إلى القرية والحي والإعلام بمختلف قنواته، لتبليغ مقتضيات الدين وفق تصور جديد، يتمركز على ربط الإيمان بثمراته في السلوك الفردي والاجتماعي، وخلق تكامل بين مقاصد الدين ومقاصد تدبير الشأن العام، وخدمة الدين لقيم المواطنة والديمقراطية، واعتماد أساليب مستجدة تمتاح طرق اشتغالها من أدبيات التخطيط الاستراتيجي.

ـ المؤسسة العلمية: من تحصين النموذج الديني المغربي إلى تجديده

إن المهمة التي أنيطت بالمجلس العلمي الأعلى وفروعه المحلية، تتمثل في تحصين الهوية الدينية المغربية من الغلو والتشدد والتأثيرات الخارجية، وحماية ثوابتها الدينية ومنهجها الوسطي المعتدل، وبموجب خطة "تسديد التبليغ" تتهيأ المؤسسة العلمية للدخول في مرحلة جديدة، ترنو من خلالها إلى استثمار القيم والأخلاق الإسلامية في الارتقاء بالخلق الجماعي للناس، وتأطير مناحي حياتهم المختلفة، وتحسين ظروفهم وأوضاعهم على جميع المستويات، بهدف تحقيق السعادة في الدارين، الدنيوية والأخروية.

جوهر خطة تسديد التبليغ كما يبين دليلها المرجعي في مجمل محاوره، معززا بالتأصيل لذلك في القرآن والحديث، هو تفعيل دور الدين في حياة الناس من مختلف زواياها، بإعادة النظر في مفهوم التعبد، الذي يقصره البعض في أداء الشعائر والعبادات، دون شموله للأعمال الحياتية الأخرى، في حين أن كل الأعمال موزونة بميزان الشرع، إضافة إلى ضرورة وصل الإيمان بثمرته في العمل الصالح، وربط العبادات بثمراتها في تجنب المعاصي والمنكرات، وأن الدين للحياة الدنيا قبل الحياة الآخرة، وأن بناء الحياة الاجتماعية السليمة يكون على أسس أخلاقية.

لقد ذهبت خطة التسديد في هذا المنحى إلى أبعد مدى؛ وذلك بالعودة إلى مفهوم السياسة الشرعية، أي تدبير الشأن السياسي وأمور الدولة من زاوية دينية، مستحضرة دور العلماء في هذا المجال، ومبعدة كل أنواع التشويش على الاختيارات السياسية للدولة المغربية، المدعومة بالعلماء، والمجتهدة في ضمان الوفاء بالواجبات وبالكليات الخمس التي تنبني عليها مشروعيتها: "ومن ثم وجب أن يدخل في تبليغ العلماء بيان السياسة الشرعية في مساندة الدولة في الوفاء بكليات الدين؛ كما تتعين حمايتها من جميع أنواع المشوشين على اختياراتها، لأنهم مشوشون في الوقت ذاته على مهمة العلماء في التبليغ وعلى أدائهم لأماناتهم المنوطة بهم"[8]. إن مبتغى هذه الخطة هو التقاطع الوظيفي بين منافع التدين ومختلف السياسات القطاعية في مجالات الصحة والسياسة والأسرة، للرفع من مؤشرات التنمية.

تتحدد مهام المجلس العلمي الأعلى في التأطير الديني للمجتمع المغربي، من خلال إنتاج خطاب ديني في مجال الإرشاد والتعليم والفتوى، تحت الوصاية السامية لأمير المؤمنين، ويشرف المجلس العلمي الأعلى على عمل المجالس العلمية المحلية، بتنسيق مع وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية، وأنيطت به مهام إنتاج الخطاب الديني، عبر الإشراف على كراسي الوعظ والإرشاد والثقافة الإسلامية، والتوجيه الديني ونشر الوعي الإسلامي الصحيح، وكذا الإشراف على عمليات اختيار القيمين الدينيين، واختيار قدراتهم العلمية والفقهية، لشغل مهام الإمامة والخطابة والوعظ والإرشاد بمختلف مساجد المملكة، وتنظيم دورات للتكوين الأساس والتكوين المستمر لفائدة القيمين الدينيين، وغيرها من المهام التي حددت في ظهير إعادة تنظيم المجالس العلمية.[9]

يُعرف الدليل المرجعي خطة تسديد التبليغ بكونها مشروع تسعى من خلاله مؤسسة العلماء، إلى النهوض بأمانات العلماء في واجب تبليغ الدين، من أجل تحقيق مقومات الحياة الطيبة في المعيش اليومي للناس، حيث يكون لإيمانهم وعملهم الصالح (العبادات والمعاملات) ثمرات تنعكس على النفوس والسلوك، وتحقق الحياة الطيبة في الدنيا والآخرة، بالانطلاق من قوله تعالى: "من عمل صالحا من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فلنحيينه حياة طيبة ولنجزينهم أجرهم بأحسن ما كانوا يعملون"[10].

يحضر الدين في منظور هذه الخطة باعتباره مصدر سعادة للناس في حياتهم الدنيوية قبل الأخروية، وتراهن على تفعيل منظومة قيم الدين وأخلاقه في مجالات الحياة المختلفة كما "يحضر (الدين) فاعلًا تنمويًا داعما لبرامج النهوض والتنمية في قطاعات التربية والتعليم والاقتصاد والصحة والأسرة والمجتمع والبيئة (...) ومنميا للوازع الذاتي في الوظائف والمهن والمسؤوليات المختلفة وفاء وإخلاصا، التزاما وإتقانا (...) ذلك أن الالتزام بهذه القيم المادية والمعنوية، كان ولا يزال عاملا حاسما في نهضة الأمم وتقدمها"[11].

انطلاقا من هذا المنظور، يمكن اعتبار هذا المشروع الدعوي بمثابة تنبيه لدور الدين في التنمية، وتخليق حياة الناس على جميع الأصعدة، وتحقيق السعادة بحفظ النظام وتنظيم الحقوق وضمان الكرامة للجميع. إنه مشروع يهدف إلى إعادة الدين إلى الحياة العامة، في الوقت الذي بدأ فيه جوهر الدين القيمي والأخلاقي ينسحب من حياة الناس، في مقابل تنامي المظاهر الدينية المتعلقة ببعض العبادات، الشيء الذي يستدعي مراجعة لأساليب التبليغ السابقة، وإبداع طرائق جديدة كما تبين آليات تنزيل هذه الخطة، التي تبنت مبادئ التخطيط الاستراتيجي، من حيث التشخيص العلمي والمعالجة والتتبع والتقييم والتقويم.

ـ الخطبة المنبرية من التوجيه إلى التوحيد

إن توحيد خطبة الجمعة ما هو إلا إجراء من بين العديد من الإجراءات التي تنتظم في مشروع متكامل موسوم بـ "خطة تسديد التبليغ"، أعده المجلس العلمي الأعلى منذ سنتين، برعاية من إمارة المؤمنين، وتم إعداد "دليل مرجعي في التأصيل والفهم والتأويل"، يبين مختلف حيثيات هذا المشروع من حيث السياق الذي جاء فيه، والتأصيل المقاصدي لمختلف إجراءاته التبليغية، ومحاور الخطة، ومنهجية تنزيلها على أرض الواقع، وما يلي عملية التنفيذ من آليات التتبع والتقييم والتقويم. ولكن الواقع أن هذه الخطة تم اختزالها في مسألة توحيد خطبة الجمعة، دون غيرها من الإجراءات التبليغية، مع العلم أن خطب الجمع تقدم فيها بشكل دائم توجيهات عديدة بقصد مراعاة السنة واتباع أسلوب النجاعة والملاءمة بين متطلبات أحوال الناس ومقتضيات الدين من طرف المجلس العلمي الأعلى بتنسيق مع وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية.

يتم تنزيل مقتضيات خطة تسديد التبليغ من خلال وسائل التبليغ والتكوين المختلفة: كخطبة الجمعة، ودروس الوعظ والإرشاد، وبرنامج ميثاق العلماء، والمحاضرات والندوات الداعمة، وكذا في مقررات معهد محمد السادس لتكوين الأئمة المرشدين والمرشدات، ومدارس التعليم العتيق، وفي دروس التوجيه والتوعية عبر وسائل الإعلام والتواصل السمعية والبصرية، في إطار تعاوني مع جميع القطاعات المتقاطعة مع أهداف الخطة. لكل ذلك يتبين أن الخطبة يمكن اعتبارها أحد منافذ هذا الخطاب الديني الجديد، وإحدى آليات التبليغ الكلاسيكية، مع العلم أن الإعلام ومنصات التواصل الاجتماعي على وجه الخصوص أضحت أكثر الآليات تأثيرا في الناس من شعيرة الخطبة الأسبوعية.

تبين الكلمة التوجيهية لوزير الأوقاف والشؤون الإسلامية، بمناسبة إعلان المجلس العلمي الأعلى عن خطة "تسديد التبليغ"[12]، الدور المنتظر من أئمة المساجد في شرح الخطة وتنزيلها لاعتبارات عدة منها: قرب الأئمة من الناس انطلاقا من المساجد، وإمكانية تواصلهم اليومي مع الجماعة التي يتعين عليهم توسيعها خدمة لهذه الخطة، وكذا ما يكنه الناس للأئمة من ثقة جريا على أعراف المجتمع المغربي، إضافة إلى دراية الإمام المُؤَهل بمقاصد الخطة، ومعرفته بأحوال الجماعة، وما يتيحه ذلك من تشخيص الاختلالات، ومن معرفة الحكمة المطلوبة للتدخل بمعية العلماء والمرشدين. لكل ذلك يُنتظر من الخطباء شرح مقاصد الخطة في خطبة الجمعة الأسبوعية، وترسيخ الوعي بأن أعمال الصلاح تدخل في صميم العبادات، مع إمكانية تحرر الخطيب في أسلوب التبليغ في حدود المطلوب، وتجنب الانسياق وراء الإغراء الشعبوي بتعبير وزير الأوقاف، (أي تملق بعض الناس بإسماعهم ما تهوى أنفسهم).

تراقب الدولة المساجد بشتى الوسائل بوصفها واحدة من المؤسسات المرغوب استغلالها من قِبل القوى السياسية والاجتماعية الإسلامية، وتراقب الدولة كذلك التمويل الموجه إلى هذه المرافق الحساسة، وتعدّه مكانا مُؤَمَّمًا للعبادة ونشر المعرفة الإسلامية الرسمية، القائمة على أساس المذهب السني المالكي، المعتدل والمنفتح، والعقيدة الأشعرية، والتصوف السني. إلى جانب ذلك تعزز الدولة حماية مجالها الديني الرسمي بتأسيس قناة إذاعية وأخرى تلفزية، وحصر مجال الفتوى وضبطه، باعتبار المجلس العلمي الأعلى، الذي يترأسه أمير المؤمنين، هو الجهة الوحيدة المؤهلة لإصدار الفتاوى التي تُعتمد رسميًّا، كما جاء في دستور فاتح يوليوز 2011.

لقد عمدت الدولة منذ الثمانينيات من القرن الماضي إلى ضبط فضاء المسجد من خلال مجموعة من الإجراءات الوقائية من قبيل:

-          إلزام الخطباء باتباع توجيهات وزارة الأوقاف فيما يتعلق بخطب الجمعة والحرص على الدعاء لأمير المؤمنين.

-          تكوين قواد للإشراف على الشؤون الدينية والتحركات داخل المسجد.

-          المراقبة المستمرة لأعوان السلطة لما يجري داخل المساجد.

-          إغلاق المساجد فور الانتهاء من أداء الصلوات الخمس [13].

يقر الباحث محمد شقير أن هذه المقاربة المعتمدة اكتست طابعا أمنيًّا، واستطاعت أن تَحرم الجماعات الإسلامية من استغلال هذا الفضاء وتوظيفه سياسيا، لكن هذا لم يمنع هذه الحركات من البحث عن فضاءات أخرى خارج المساجد الرسمية، من خلال بناء مساجد من لدن بعض المتطوعين والمحسنين، وتكثيف أنشطة الوعظ في أماكن أخرى. لمواجهة هذا الوضع نهجت الدولة المغربية مقاربة أخرى تعتمد على تقليص النشاط الدعوي للمعارضة الأصولية، من خلال ملء فضاء المسجد والتحكم في مجاله. وقد "تجسدت هذه المقاربة من خلال المذكرات الأربع التي أصدرتها وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية، خاصة المذكرتين 16، 18؛ فالمذكرة رقم 16 تنص على فتح المساجد" ابتداء من صلاة الصبح وساعة بعد صلاة العشاء، وتبقى مفتوحة بين ذلك على الدوام"، والعمل على وضع سبورة في كل مسجد وتنظيم دروس لمحو الأمية في المساجد، تتولى وزارة الأوقاف انتقاء الأشخاص المكلفين بهذه المهمة"[14]. ويتضح من مقتضيات هذه المذكرة أن المؤسسة الرسمية كانت ترمي إلى تحقيق الأهداف التالية:

- الهدف الأول يتمثل في إعادة إصلاح سلبيات المقاربة الأمنية من خلال إغلاق المساجد وما ترتب عن ذلك من انتقادات أثرت على مصداقية السلطة، خاصة أنها كانت تتناقض مع المبدأ القرآني القائم على كون "المساجد لله".

- الهدف الثاني يتجلى في ملء تلك الفترات الفاصلة بين الصلوات بحصص لمحو الأمية، والتي كثيرا ما استغلت للدعاية الأصولية.

- الهدف الثالث يكمن في منافسة المعارضة الأصولية في ملعبها؛ وذلك من خلال حرمانها من الشعار الذي كانت تتستر وراءه للدعوة والاستقطاب، وتحويله من شعار ديني إلى شعار أكثر علمانية يرمي إلى محاربة الأمية بكل أشكالها بدل الاقتصار على الجانب الديني فقط[15].

أما المذكرة رقم 18، فقد نصت على "فتح المساجد للنساء الواعظات واستدعاء العالمات والنساء المؤهلات، سواء في الجمعيات النسوية وغيرها، وتسهيل مهامهن سواء في القيام بالوعظ والإرشاد أو دروس محو الأمية. ويتضح من مقتضيات هذه المذكرة أن المؤسسة الرسمية كانت ترمي إلى تحقيق عدة أهداف من أهمها:

- منافسة نشيطات المعارضة الأصولية في ميدان الوعظ والإرشاد داخل المسجد.

- الإشراف على عملية الوعظ والتوجيه الديني، من خلال استدعاء العالمات والأستاذات المتخصصات في الفقه والدين.

- عرقلة عملية الاستقطاب النسائي التي كانت تقوم بها نشيطات المعارضة الأصولية من خلال دروس الوعظ والإرشاد.

- تحسين صورة السلطة من خلال تزعمها حركة الانفتاح الديني وإشراك العنصر النسوي في ذلك[16].

سعيا إلى ضبط الفضاء التعبدي، أُصدر ظهير ينظم مهام القيمين الدينيين من أئمة وخطباء ومرشدين دينيين ومؤذنين، والتي تم حصرها في الالتزام بخمسة مبادئ رئيسة وهي: "الالتزام بالمذهب المالكي والعقيدة الأشعرية، وثوابت الأمة وما جرى عليه العمل، ومراعاة حرمة الأماكن المخصصة لشعائر الدين الإسلامي، والقيام بالمهمة الموكولة إليه مع ارتداء اللباس التقليدي المغربي عند أدائها، واحترام المواقيت والضوابط الشرعية عند أداء مهامه، وعدم القيام بأي عمل يتنافى مع طبيعة المهام الموكولة إليه. واستنادا لمبادئ هذا الدليل، أوقفت وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية عدة خطباء وأئمة، بسبب خرقهم لهذه الضوابط"[17].ومن ضوابط التحكم في مجال المسجد كذلك، ضبط خطب الجمع وتحديد مضامينها.

لاشك أن هناك الكثير من الانفلاتات في خطب الجمع في المساجد المغربية، بالرغم من تأطير المؤسسات الوصية لهذا المجال الحساس؛ وذلك بتحديد الأطر المرجعية الضابطة للخطابة، وتكوين الخطباء والأئمة في هذا الشأن، وذلك لما للخطابة الدينية من دور كبير على مدار التاريخ الإسلامي والمغربي في أمور الدين والدنيا، وما تملكه صلاة الجمعة عند المغاربة من مكانة اعتبارية، بكونها طقسا دينيًّا أسبوعيًّا، يحج فيه الناس إلى المساجد من كل مكان، فتمتلئ حتى يفيض الناس على الطرقات والأزقة المتاخمة للمساجد، وبذلك تكون لحظة الجمعة قابلة للاستثمار الديني والسياسي وعلى مختلف الأصعدة، إما في سبيل البناء أو الهدم.

نتساءل: ما درجة تأثير خطب الجمع التي يلقيها الخطباء فوق منابر المساجد؟ الجواب عن هذا السؤال يحتاج إلى بحث كمي وكيفي، تقاس فيه درجة تأثير متغير الخطبة المنبرية في الوعي الفردي والجمعي. لكن تأثير الخطاب الديني لا يمكن قياسه بأجوبة واستمارات وإحصاءات كمية، لأن الأمر متعلق بالسلوك والفكر والإحساس والوجدان، بمدى زمني نسبي، قريب أو متوسط أو بعيد. فلنأخذ مثلا خطبة جمعة حول المعاملات البنكية بمنظور ديني خاص، ينظر إلى الاستدانة من الأبناك غير التشاركية باعتباره ربا. فالخطيب، إن كان عارفا بالدين قبل النظام البنكي الحديث، وليست له معرفة بديناميات الاقتصاد الحديث، ولا يدري أن قطاع الأبناك يعد المحرك الرئيس للاستثمار والاقتصاد والتشغيل، سيوظف أية التحريم القطعي للمعاملات البنكية وسيسمها بالربا.

إن الدائرة التي يمكن للخطيب أن يتحدث فيها، وبدرجة من التصويب، هي دائرة الشعائر الدينية، وما عداها يحتاج إلى معرفة بالعلوم الإنسانية، وغيرها من المعارف في الحقول المتعددة. وعلى كل حال، لا يمكن مقاربة كل المواضيع مقاربة دينية صرفة، فقد استجدت في الحياة المعاصرة إشكالات تستعصي مقاربتها بالقياس والاجتهاد في غياب النصوص الشرعية، وحتى بوجودها بتأويلها القديم، والتي بدورها تطرح إشكالية الصلاحية لكل زمان ومكان. وبذلك يحتاج إعداد خطبة في مواضيع راهنة متشعبة إلى تكامل معرفي، وإسهام من ذوي الاختصاص، فقد يفهم الخطيب في أمور الدين، لكن مقاربة قضايا المجتمع، مثل الظواهر ذات الصبغة الاقتصادية أو الاجتماعية أو العلمية، تحتاج معالجة تخصصية تفيد من دائرة المعارف والعلوم التي تتوسع يوما بعد يوم.

يرد الكثيرون على مبادرة توحيد الخطبة بقولهم: بأي وجه حق تَترك الدولة المغنيين يقولون ما يشاؤون وتمنع الخطيب من قول ما يشاء؟ هذه مقارنة ما لا يقارن، ولمناقشة هذا الرأي نقول ببساطة: إن الدين جد، والغناء فن لا يحمل على محمل الجد، بل يقاس بمعيار الجمال، ولا يراد منه أمر بمعروف أو تغيير منكر كسائر الفنون التي تراد لذاتها. إن الخطاب الديني مؤثر في النفوس والأفكار والأفعال، يستطيع أن يجيش، ويحرض، أن يبني وأن يهدم، لما يملكه هذا الخطاب من مكانة سامية في البنية الروحية والرمزية للأفراد والمجتمعات الإسلامية.

لا يخفى علينا دور الخطابة الدينية في تنظيم المجتمع وتأسيس البناء الاجتماعي على أسس الاستقرار واستتباب الأمن والسلم، وكذلك وظائفها في التربية على القيم، وتهذيب النفوس، والتذكير المستمر بمكارم الأخلاق، ومناقب الصلاح والإصلاح في الدين والدنيا. بالمقابل يعد صعود المنابر دَيْدن العديد من حاملي الإيديولوجيات التخريبية، فزعيم داعش مثلا كان خطيبا في البصرة، وخطبه كانت وسيلته في التجييش والدعوة إلى العقيدة الداعشية، وكذلك كان حال كل دعاة وحاملي المشاريع السياسية، عبر التاريخ الإسلامي؛ لأن أقصر طريق للوصول إلى قلوب الناس ووعيهم ولا وعيهم، هو ركوب صهوة المنابر، وتغليف المشروع السياسي والإيديولوجي بلبوس ديني.

في ظل ما تعج به وسائل الإعلام القديمة والجديدة من خطابات دينية متنوعة ومتناقضة، عملت الدولة المغربية على ملء الفراغ الإعلامي الوطني في هذا الباب، بتأسيس قنوات إعلامية سمعية وبصرية ومكتوبة وإلكترونية. وفي إطار استراتيجية ضبط كل منافذ الخطاب ومأسستها: كالفتوى والإعلام، والتعليم إلخ، ليس من المنطقي ترك أن تترك السلطات المنابر تصدح بما يحلو لها من كلام، انسياقا وراء الشعبوية الدينية، وانجرافا مع التيارات المنساقة وراء تأويل الجاهلين، وتحريف الغالين، وانتحال المبطلين، خارج الثوابت الدينية للمملكة. ولذلك جاءت خطة تسديد التبليغ لصون المساجد والاهتمام بوظائفها الثابتة، "من جهة وقايتها من التشويش والمنازعة وأسباب الفتنة والخلاف؛ ومن جهة تنميتها عناية بكتاب الله، وبسنة الرسول الكريم، وسائر الأنشطة العلمية الأخرى المقررة."[18]

ـ مفاهيم جديدة في الخطة: الجماعة العضوية والمسلم العضوي وعالم الأمة

تضمنت كلمة وزير الأوقاف المدرجة ضمن وثيقة خطة تسديد التبليغ، مفاهيم جديدة تؤلف بين التأصيل الديني والفكر المعاصر، ومنها: الجماعة العضوية والمسلم العضوي وعالم الأمة. فالجماعة مفهوم ديني يحيل إلى الجماعة المؤمنة، وهي، حسب أحمد توفيق [19]، كيان عضوي يصفه الحديث الشريف الذي رواه النعمان بن بشير: "مثل المؤمنين في توادهم، وتراحمهم، وتعاطفهم مثل الجسد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى"، هذه الوحدة العضوية للمجتمع، تقتضي انخراط الجميع في إصلاح التدين وهداية المجتمع، والتعاون على البر والتقوى، وحمل الهم الجماعي ورسالة التبليغ، وتتجلى صفة العضوية في: "هَمّ ينبغي أن ينطلق من المساجد التي يأتي إليها الناس للصلاة جماعة، إنها (الجماعة) ليست مجسدة في مجرد من يحضرون للصلاة، وهم متناكرون يتزاحمون في الخروج من المسجد."[20]

يستطرد أحمد توفيق في تجديده لمفهوم الجماعة وتدقيق مواصفات أعضائها، معتبرا أنه ليس المقصود بها لائحة اسمية محددة لأشخاص معنيين داخل مسجد الحي أو الدوار، بل أشخاص يتحلّون بشرط التحاب في الله، والتعاون على البر والتقوى، وتزكية النفس. وتضمن توصيف هذه الجماعة تنبيها للإمام بعدم التساهل في التعامل مع الجماعة المكلفة بالتبليغ، لكي لا تكون فرصة لمترصدي الاستقطاب السياسي أو الانحراف العقدي والمذهبي أو الطموح الزعامي الموطَّن عند مرضى القلوب. وتقتضي الوحدة العضوية للجماعة المؤمنة أن يكون كل فرد فاعلا عضويا فيها، لا يكتفي بتدينه الفردي، بل يخدم المجتمع والصالح العام، فيما يرادف "المثقف العضوي" عند غرامشي، وهو ما ينطبق على "عالم الأمة" الذي تستخدمه مؤسسة العلماء، وهو "العالم المنخرط بعلمه في المجتمع تبليغا وإصلاحا"، مقابل "عالم نفسه" أو "عالم الطائفة"، وهو المتردد في هذا العصر بين التقية وبين السعار في منصات التواصل الاجتماعي"[21]. بهذا المعنى فخطة تسديد التبليغ، تحتاج إلى عالم متكلم في أمور الدين من جهة الدعوة والإرشاد، سواء كان عضوا في الهيئة العلمية أم لم يكن، وهذا أمر قد يفتح باب الإرشاد على مصراعيه لكل من هب ودب، وقد يكون المبتغى احتواء علماء من خارج الهيئات العلمية المحلية للانخراط في هذه الخطة.

ـ التأصيل الديني للوازع السلطاني والقانون الوضعي

يتأسس الاجتهاد والتأصيل في وثيقة تسديد التبليغ على منهج الإمام الشاطبي، فتبليغ العلماء يقتضي الانضباط لقاعدة جلب المنافع للناس ودفع المفاسد عنهم، والقصد من ذلك أن يغلب الطيب الخبيث، وأن يعم المعروف لا المنكر في حياة الناس؛ لأنه لا يوجد خير محض خالص، وإنما تناط الأحكام وتترتب بحسب الغالب والراجح من ذلك في سلوك الناس وأحوالهم. إن تأصيل مهمة التبليغ خاصة بالأنبياء في زمانهم، ويحمل هذا التبليغ ورثتهم من العلماء بمقتضى أحاديث كثيرة: "فواجب العلماء إذن، باعتبارهم حاملي ميراث النبوة، تبليغ ما حملوه بقدر تفقههم فيه وعلمهم به"[22].

وفي بيان دور التبليغ في تقوية الوازع القرآني والوازع السلطاني، تبين الخطة بالاعتماد على التأصيل الشاطبي أن الوازعين متكاملان في حفظ مصالح الناس ودفع المفاسد عنهم؛ ذلك أن كل نظام أو قانون يخدم مقصدا من مقاصد الدين "جلب المنافع ودفع المضار"، يأخذ شرعيته من الدين باعتباره وسيلة لتحقق ذلك المقصد، ومعروف أن الوسائل تأخذ حكم مقاصدها، والدين قد فسح باب الاجتهاد في الوسائل والنظم التي تحقق مقاصده ومعانيه الكلية في الحياة، مثلا إذا كان لليبرالية دور في التشغيل وتوفير الرخاء والرفاهية للناس، فهي وسيلة فضلى لتحقيق مقصد شرعي.

الوازع القرآني هو وازع معنوي يقتضي تزكية النفس، والالتزام بالأخلاق الدينية، وتنفيذ مقتضيات القرآن والسنة. أما الوازع السلطاني، فهو مادي، تجسده سلطة الدولة والقانون والنظام، وقد اشتهر عن سيدنا عثمان قوله: "إن الله يزع بالسلطان ما لا يزع بالقرآن". فإذا وافقت مقاصد الوازع السلطاني جلب المصالح ودفع المضار فهو من صميم الشرع. وتدعو المؤسسة العلمية في هذا الإطار إلى ضرورة إصلاح فهم الناس، وبالخصوص التيارات النازعة إلى الخروج عن النظام وإلى رفض القانون؛ لأن الوازع السلطاني من صميم الدين، لما يحققه من استتباب الأمن وحفظ النظام، ودفع الفوضى والتنازع.

القاعدة تقول: إن كل نظام أو قانون يخدم مقصدا من مقاصد الدين، يأخذ شرعيته من الدين نفسه باعتباره وسيلة لتحقق ذلك المقصد، ومعروف في فقه المقاصد أن الوسائل تأخذ حكم مقاصدها، وبذلك فطاعة الحاكم في حفظ النظام العام وفي التزام القوانين أمر مشمول بالدين وبمقاصده الكلية، وكذلك لا معنى للطعن في كل ما هو وضعي من القوانين والنظم التي تواضع الناس عليها لحفظ أنفسهم ومصالحهم؛ فهي من صميم الشرع مادامت تحفظ المقاصد الشرعية. "فالدين قد فسح باب الاجتهاد في الوسائل والنظم التي تحقق مقاصده ومعانيه الكلية في الحياة"[23]. إن التفصيل في التأصيل الديني المقاصدي للقانون الوضعي والوازع السلطاني، في صلب وثيقة خطة تسديد التبليغ، أمر بالغ الدلالة، ينسجم مع التوجه العام للخطة، والمتمثل في إخراج الدين من التأويل الجامد على التصور الطقوسي والنزوع الأخروي، إلى جعله مسوغا لكل ما من شأنه خدمة النظام القانوني وشرعية النسق السياسي، بتوسيع ممكنات التأويل المقاصدي الشاطبي.

ـ خطة تسديد التبليغ: مضمون أصيل بأسلوب جديد

كثيرة هي الجهود الإصلاحية التي رفعت شعار الإصلاح والتغيير باسم الدين كمفكري النهضة العربية، والإخوان المسلمين، ومختلف حركات الإسلام السياسي الحديثة والمعاصرة، لكن أحوال الأمة لم تتغير وظل السؤال الحضاري المعروف معلقا: "لماذا تأخر المسلمون وتقدم غيرهم". لقد حددت وثيقة تسديد التبليغ بعض أسباب فشل تلك المقاربات الإصلاحية في تحقيق النهضة، ومنها: أن معظم تلك المشاريع الإصلاحية يغلب عليها التنظير أكثر من العمل، وتتسم كذلك بكونها نخبوية، وجزئية بالتركيز على مدخل واحد للتغيير وإهمال المداخل الأخرى، ومثالية تستشهد نظريا بتجارب الماضي دون وعي بحركة التاريخ، وصراعية لأنها تريد إحلال شرعية محل أخرى، كما أنها تريد إحداث تغيير بالطفرة لا بالتدرج، ولم تعط لتزكية النفس والبناء السلوكي والأخلاقي الحيز المناسب في عملية التغيير.

تقر خطة تسديد التبليغ بكون المشاريع الإصلاحية الأوفر نجاحا وتأثيرا على العموم هي "التي تملك مشروعًا ينفي عنها صفة الارتجال، وتمتلك شرعية تنفي عنها صفة المنازعة، وتمتلك سندا من الأمة ينفي عنها صفة النخبوية والانعزال."[24] كما تقدم خطة تسديد التبليغ تصحيحا للاختلالات التي شابت المشاريع الدينية الإصلاحية الفاشلة، وتتمثل في البدء بتغيير النفس، والربط بين العبادات وثمراتها في استقامة السلوك والأخلاق، والوعي بالمنافع الدنيوية للتدين السليم، وبتكامل المنافع الدنيوية والأخروية بين الفرد والجماعة، والتمييز بين كليات الدين وجزئياته، الأولى هي الأركان والأصول ذات الأولوية، ثم الفروع والجزئيات المكملة والمتممة.

إن هذه الخطة لا تحمل جديدًا على صعيد المضمون، ولكنها تسلك أسلوبا جديدا في الدعوة والتبليغ لإصلاح تدين الناس ودنياهم، عبر تكثيف الخروج الميداني للعلماء، وتسديد التبليغ بإعمال فقه الأولويات، وحفظ المقاصد وجلب المنافع ودفع المضار، بمقاربة ميدانية تتأسس على التكرير والتقرير، والتركيز على السلوك العملي، لا على الخلافات الجزئية النظرية، بهدف بناء خطاب موحد يتم تصريفه في وسائل الإعلام ومنصات التواصل الاجتماعي، وفي المنابر وجلسات الوعظ، بإشراك الأئمة والمرشدين والعلماء والجماعة، وفق سيرورة دائمة، وقابلة للتعديل والتقويم حسب المستجدات.

تهدف الخطة إلى إحياء العمل بالدين وتفعيله باعتباره رافدا مهما في التنمية، وإدماجه في مختلف البرامج التنموية العامة والقطاعية، والبحث عن سبل الإصلاح الاجتماعي من جهة الدين، في إطار الثوابت والاختيارات المذهبية للدولة المغربية، المتمثلة في العقيدة الأشعرية، والمذهب المالكي، ونظام إمارة المؤمنين. وترتكز الخطة على دور العلماء في خدمة المجتمع والوطن، من خلال حاجة الناس إلى تأطيرهم وتقوية مناعتهم الروحية، وحاجة المغرب إلى العلماء المتقين لحماية البلد ممن يتربصون به من أعداء الوطن والدين من الجاهلين والمبطلين والمتطرفين.

أشار أحمد توفيق في كلمته المضمنة في وثيقة خطة تسديد التبليغ إلى تعدد مداخل الإصلاح، فمنها السياسية والمجتمعية .. إلخ، ويَعتبر أن كل من يحمل هما إصلاحيا، ويرفع شعار تخليق الحياة السياسية والاجتماعية، ويحمل غيرة حقيقية على الدين من موقع ما، ليس له عذر في ألا يبارك خطة العلماء ويسهم فيها وينخرط فيها، وهذه الرسالة موجهة إلى الفاعلين المدنيين والسياسيين، الذين ينادون بمشاريع الإصلاح من داخل الدين، من جماعات وجمعيات وأفراد وأحزاب؛ وذلك بهدف انخراط الجميع في إنجاح هذه الخطة التي ترنو الإصلاح والتخليق، بواسطة الانفتاح على أعطاب المجتمع، والسعي إلى تقويمها لتحقيق السعادة الدنيوية والأخروية.

تعتمد هذه الخطة على آليات اشتغال حديثة كالتخطيط والبرمجة والتقويم، فمن زاوية التقويم يرتكز قياس الأثر فيها على مؤشرات قابلة للقياس كما وكيفا، لمعرفة مدى تحقق التغيير المنشود على سلوك الأفراد وحياتهم، بالاستعانة بذوي الخبرة في هذا الاختصاص العلمي. وتحرص هذه الخطة في تنفيذها كذلك على المتابعة والتقويم من طرف فريق العمل الموكول إليه التبليغ، ويتكون من الإمام والمرشد والعالم. ففي الواقع نجد الخطيب يخطب وينصرف، والواعظ يعظ وينصرف، دون أن يتبع ذلك بتقويم أو قياس لمدى التأثير في الناس، أو اعتماد مؤشرات سلوكية أو معيشية على تحسن أحوال الأفراد أو الأسر أو الجماعات.

إن مؤسسة العلماء هي قطب الرحى الذي تتمحور حوله كل عمليات الخطة، من خلال الاضطلاع بالتزامات عملية تتجلى في تطوير مناهج الاشتغال، بتبني العمل المنظم والمعقلن، والتخطيط الجيد والتنفيذ الفعال، والعمل بالنتائج من خلال قياس آثار تدخلات المؤسسة العلمية في حياة الناس، انطلاقا من الأهداف والمؤشرات الاجتماعية المرصودة، وتطوير أساليب الاشتغال في الخطابة والوعظ والإرشاد الديني، وفي الإعلام السمعي والبصري، ووسائل التواصل الاجتماعي، وأن يكون مجهود مختلف المتدخلين في التنفيذ قاصدا في الأهداف، ومقصودا في النية، ومقتصدا في الجهد.

تستهدف خطة التبليغ محاور متعددة: كالعبادات والتدين العام وأثرها في معاملات الناس، وعلاقاتهم المالية والتجارية والاجتماعية والأسرية، وتستهدف كذلك مجال التضامن والتكافل الاجتماعي، والأسرة والتربية ومحو الأمية، ومجال الصحة والتغذية، والمحيط البيئي والوقاية من الإدمان وسائر الانحرافات. أما الموضوعات المبرمجة في التنزيل الأولي لخطة تسديد التبليغ، فهي الإيمان وثمراته، بتفقيه الناس في دور الإيمان في تحريرهم من اتباع الهوى، ومحاسبة النفس، والصحة النفسية، وصلاح المجتمع، وتزكية النفس وثمراتها، وأداء العبادات واستجلاء ثمراتها في السلوك، وصدق المعاملة ورعاية الحقوق. وقبل تعميم الخطة سيتم تجريبها في نطاق ضيق بدءا بعينة نموذجية وبعد ذلك سيتم تعميمها حين تطرد نتائجها، حيث تستهدف الخطة في المرحلة الأولى أربعة أحياء في المدن، وأربع قرى في البادية، وتشتمل المادة العلمية ومضامين التبليغ من خطب الجمعة في الدرجة الأولى ثم دروس الوعظ والمواد الإعلامية.

خاتمة

إن أخطر ما يهدد الاجتماع الوطني في بلدان شمال إفريقيا والشرق الأوسط هو الفكر الإرهابي والجماعات الإسلامية المتطرفة والصراعات الطائفية، وقد يتساءل سائل: أين نصيب الفقر والبطالة والفساد والتدخل الخارجي من خطر تهديد أمن هذه الدول؟ أقول: هذه العوامل الاقتصادية، والاجتماعية، والسياسية، والخارجية، يمكن التغلب عليها في إطار الوحدة الوطنية ودينامية المؤسسات ووعي الأفراد والمجتمعات، لكن عمل الجماعات المسيِّسة للدين تنسف أسس التنظيم والاجتماع الوطنيين، وتُفكِّك أوصال الأوطان، مستثمرة العاطفة الدينية للمجتمع، والظروف الاجتماعية والاقتصادية، وربما تكون مسنودة من لدن مصالح خارجية، والنتيجة بادية في وضعية العديد من بلداننا كالعراق وليبيا وسوريا ولبنان واليمن.

إن مشروع الجماعات الدينية السياسية لا يسهم في تدعيم الاجتماع الديني الوطني، والاستقرار السياسي، والأمن الروحي للمغاربة، وتحصين هويتهم المتفردة المتأسسة على ثوابت متجذرة في التاريخ المغربي، واختيارات دينية ضمنت وحدة المغرب وانسجام خطابه الديني، المتسم بالوسطية والاعتدال والسماحة، ونبذ نزعات الغلو والتشدد، وهي: المذهب المالكي، والعقيدة الأشعرية الرافضة لنزعات التكفير، والتصوف الجنيدي المرسخ لقيم التزكية وأخلاقها، وإمارة المؤمنين الحامية للملة والدين. إن استقرار المغرب السياسي يرجع النصيب الأوفر فيه إلى هذه الثوابت، وهو الأمر الذي لا تضمنه الرؤى الإيديولوجية المتشظية والصراعية لجماعات الإسلام السياسي، بل تحفظه وحدة الهوية الدينية العقدية والمذهبية والشرعية السياسية.

لكل ذلك يُعتبر النسق السياسي المغربي فريدا في تدبيره للشأن الديني، بوضعه تحت إشراف إمارة المؤمنين، وإبعاده عن نزاعات الجماعات والأفراد، وتدبير الشؤون الدينية من طرف مؤسسات ذات اختصاصات واضحة وفق ضوابط منهجية ومعقلنة. لقد انتقلت الدولة المغربية من مرحلة الهيكلة والمأسسة الإدارية والقانونية للشؤون الدينية، إلى مرحلة جديدة تؤطرها خطة تسديد التبليغ، يتحول فيها التدين الفردي والجماعي إلى محرك للتنمية الذاتية والجماعية، في مختلف المجالات النفسية والروحية والأخلاقية والاجتماعية والاقتصادية والسياسية.

لطالما وجهت انتقادات إلى السياسة الدينية للدولة المغربية، من حيث رغبتها فقط في السيطرة على المجال الديني واستثمار إمكاناته في تثبيت الشرعية السياسية وضمان استدامتها؛ وهل يمكن بناء اجتماع وطني في الدول الإسلامية دون وضع الدين تحت تصرف النظام السياسي، وتحييده عن نزاعات الجماعات والأفراد؟ يبدو أن الدولة المغربية قد تجاوزت هاجس تحصين الدين من التلاعبات الإيديولوجية، من خلال تقديم مجموعة من المبادرات والتصورات الجديدة لاستثمار الدين في النموذج التنموي، ويمكن اعتبار "خطة تسديد التبليغ" من بين العديد من المشاريع الإصلاحية التي تنبثق من عمق مقاصد الدين، وتريد من التدين أن ينتقل من المستوى المظهري والشكلي والطقوسي، والانحباس في الهاجس الأخروي، إلى قوة فاعلة في التغيير الفردي والجماعي، لخدمة الدنيا والآخرة، فللعبادات والمعاملات ثمرات كثيرة يمكن استثمارها في تنمية أوضاع الناس على جميع المستويات.

 

لائحة المصادر والمراجع:

*ـ القرآن الكريم.

ـ رشيد مقتدر، الشرعية الدينية في فلسفة الحكم الملكي بالمغرب، مجلة المجلس، المجلس العلمي الأعلى، ع 1، رمضان 1429هـ/أكتوبر 2007م، من ص 25 إلى 30.

ـ خطة تسديد التبليغ، دليل مرجعي في التأصيل والفهم والتأويل، منشورات المجلس العلمي الأعلى، الطبعة الأولى، الرباط، 2024.

ـ ظهير شريف رقم 1.03.300، صادر في 2 ربيع الأول 1425 (22 أبريل 2004) بإعادة تنظيم المجالس العلمية.

ـ محمد شقير، هذه آليات المؤسسة الملكية للتحكم في الحقل الديني بالمغرب، جريدة هسبريس الالكترونية، الرابط: https://www.hespress.com/orbites/332912.html

[1] ـ خطة تسديد التبليغ، دليل مرجعي في التأصيل والفهم والتأويل، منشورات المجلس العلمي الأعلى، الطبعة الأولى، الرباط، 2024

[2] ـ رشيد مقتدر، الشرعية الدينية في فلسفة الحكم الملكي بالمغرب، مجلة المجلس، المجلس العلمي الأعلى، ع 1، رمضان 1429هـ/أكتوبر 2007م، من ص 25 إلى 30.

 

[3] ـ رشيد مقتدر، الشرعية الدينية في فلسفة الحكم الملكي بالمغرب، المرجع السابق.

[4] ـ المرجع نفسه.

[5] ـ وزير الأوقاف والشؤون الإسلامية في كلمته الافتتاحية للقاءات الجهوية للمجالس العلمية لتوضيح معالم خطة التبليغ، الدليل المرجعي لخطة تسديد التبليغ، ص: 80.

[6] ـ خطة تسديد التبليغ، دليل مرجعي في التأصيل والفهم والتأويل، منشورات المجلس العلمي الأعلى، الطبعة الأولى، الرباط، 2024، ص: 82

[7] ـ المرجع نفسه، ص: 95

[8]ـ خطة تسديد التبليغ، دليل مرجعي في التأصيل والفهم والتأويل، المرجع السابق، 2024، ص: 45

[9] ـ ظهير شريف رقم 1.03.300، صادر في 2 ربيع الأول 1425 (22 أبريل 2004) بإعادة تنظيم المجالس العلمية.

[10]ـ سورة النحل، الآية: 97

[11] ـ خطة تسديد التبليغ، دليل مرجعي في التأصيل والفهم والتأويل، منشورات المجلس العلمي الأعلى، الطبعة الأولى، الرباط، 2024، ص: 9

[12] ـ خطة تسديد التبليغ، دليل مرجعي في التأصيل والفهم والتأويل، المرجع السابق، الرباط، 2024، ص: 17

[13] ـ محمد شقير، هذه آليات المؤسسة الملكية للتحكم في الحقل الديني بالمغرب، جريدة هسبريس الإلكترونية، الرابط:

,https: //www.hespress.com/orbites/332912.html

[14] ـ محمد شقير، مرجع سابق.

[15] ـ. المرجع نفسه.

[16] ـ محمد شقير، مرجع سابق.

[17] ـ نفسه.

[18] ـ خطة تسديد التبليغ، دليل مرجعي في التأصيل والفهم والتأويل، مرجع سابق، ص: 109

[19] ـ المرجع نفسه، ص: 20

[20] ـ نفسه، ص: 20

[21] ـ خطة تسديد التبليغ، دليل مرجعي في التأصيل والفهم والتأويل، مرجع سابق، ص: 20

[22] ـ المرجع نفسه، ص: 59

[23] ـ خطة تسديد التبليغ، مرجع سابق، ص: 66

[24] ـ خطة تسديد التبليغ، مرجع سابق، ص: 79