إشكالية علاقة المسلمين بالجسد

فئة :  مقالات

إشكالية علاقة المسلمين بالجسد

إشكالية علاقة المسلمين بالجسد

إن إشكالية العلاقة التي تربط المسلمين بالجسد، وخاصة جسد المرأة، وما يترتب عنها من تصورات سلبية في الخطاب الديني والثقافة الإسلامية، تمثل أساسًا لكثير من المشاكل الاقتصادية والاجتماعية والأخلاقية والسياسية التي يعاني منها المسلمون أفرادًا وجماعات. كما أن عودة التيار المحافظ ووصوله إلى السلطة في الكثير من الدول الإسلامية وما رافقها من إقرارات أولية تتعلق بالجسد من أجل الضغط عليه، يجعل من الاهتمام بهذه الإشكالية وتناولها بالدراسة والبحث أمرًا مهمًّا.

يأتي الإنسان إلى الحياة عاريًا

الجسد المعني بالأمر هو الذي لا تغطيه الثياب؛ أي العاري الذي يمثل الحالة الطبيعة للإنسان حين يأتي إلى الحياة؛ إذ يولد عاريًا، وقد عاش آلاف السنين عاريا قبل أن يتعلم كيف يصنع لباسه. ولم يكن ذلك لأن جسده يمثّل مشكلة بالنسبة إليه، بل فقط ليحمي نفسه من البرد وحرارة الشمس.

لقد كانت كثير من الشعوب في إفريقيا تعيش عارية أو شبه عارية قبل أن تجتاح هذه القارة تلك الأفكار التي تختزل الإنسان في جسده. وما زالت هناك إلى اليوم شعوب تعيش بهذه الطريقة، لكنها ليست أقل أخلاقًا ممن يغطّون أجسادهم كلّها؛ فأخلاق الإنسان تحددها القيم التي يؤمن بها، لا مقدار ما يغطيه من جسده.

في الماضي كان العراء عند الفلاسفة اليونانيين قيمة جمالية وأخلاقية، حتى إنه كان قاعدة لا بد من احترامها للمشاركة في الألعاب الأولمبية مثلما يذكر السياسي والمؤرخ الأثيني توسديد Thucydide وكان "الفلاسفة العراة" يجتمعون للمناقشة والحديث دون أي لباس يغطي أجسادهم. وعلى المنوال نفسه، كان العراء عند الجمنوفيست gymnosophistes في الهند القديمة أسلوب حياة وفلسفة؛ فالجسد العاري بالنسبة إليهم ممارسة فلسفية يبين بها الشخص انفصاله عن الملذات السطحية لهذه الحياة الأرضية وعن المطالب الاجتماعية. فعلا عراة، يصبح البشر كلهم متساوين؛ إذ إن الملابس والمجوهرات المضافة إلى الجسد هي التي تميز الغني عن الفقير، وتحدد مرتبة الفرد الاجتماعية وانتماءه الديني أو المهني.

واليوم أيضا يتخلص الطبيعيون من الملابس كأسلوب حياة يقوم على احترام الجسد والطبيعة. لكن ليس ذلك موقف الكل من العراء. فكلمة عراء nudus عند شيشرون (Cicéron 106 قبل الميلاد - 43 قبل الميلاد) مثلا تعني المحرومين من كل شيء والمعدومين، وهي بذلك تدلّ على الضعف والفقر. وتستعمل كلمة "عريان" في الجزائر للدلالة على الفقر والحرمان. أما موقف المسلمين المحافظين خاصة، فهو سلبي من العراء، ولكن لأسباب أخرى.

المسلمون والنظرة السلبية للجسد

يعدّ المسلمون الجسد مصدرًا للسوء والقبح والعار. ويكشف التاريخ الفقهي الإسلامي كيف بذل رجال الدين في القرون الأولى جهودًا كبيرة لوضع القوانين التي تتحكم فيه. وإذا كانت هذه القوانين لم تُعفِ الرجال، فإنها انصبت خصوصًا على النساء، وعلى كيفية إبعاد أجسادهن عن الأعين. وهكذا لم يعد العراء، حين يتعلق الأمر بالمرأة، يعني الجسد العاري تمامًا من اللباس، بل الجسد الذي لا يُغطَّى كله. فأصبحت المرأة تُعَدّ عاريةً لمجرد أنها لا ترتدي الحجاب الذي يغطي جسدها بالكامل.

لقد أراد الخطاب الديني إخفاء جسد المرأة عن الأنظار في المجال العام، ولم يجد وسيلة أنجع من حبسها في البيت. وإذا اضطرت إلى الخروج إلى الفضاء الخارجي، فُرض عليها تغليف جسدها كله بالقماش. ولأن المرأة لا وجود لها من دون جسدها، فقد كان وجودها كإنسانة وكفرد اجتماعي هو الذي مُحيَ من الفضاء العام والمجتمع بفعل هذا الخطاب. وهذه العادة ما تزال راسخة في كثير من المناطق إلى اليوم.

لم يتغير أي شيء

في القرن الواحد والعشرين لم يغيّر المسلمون المحافظون شيئًا من موقفهم تجاه الجسد، بل على العكس، مع عودة التيار المحافظ ارتفعت أصواتهم أكثر لمهاجمته، خاصة جسد المرأة، والتذكير بوجوب إخفائه عن الأعين. حتى إن الخطاب في المساجد أصبح يركّز بشكل شبه حصري على جسد المرأة وكيفية ستره، بما في ذلك جسد الفتيات الصغيرات. وكأن الدين نفسه اختُزل إلى الحديث عن الجسد وكيفية جعله – حسب تصورهم – لا يلحق الضرر بالمجتمع.

وإذا وصل الإسلاميون المحافظون إلى السلطة، فإن أول قراراتهم المعلنة تتعلق بجسد المرأة وكيفية إخفائه، وكأن ذلك من أولويات اهتماماتهم السياسية، كما هو الحال في ليبيا. فبالرغم من كل الأزمات السياسية والاقتصادية والثقافية والأمنية التي يعانيها البلد، كان أول ما شغل بال وزير الداخلية هو جسد المرأة، إذ أعلن عن رغبته في فرض الحجاب على كل النساء ابتداءً من سن التاسعة.

وفي أفغانستان، بمجرد عودة طالبان إلى الحكم، سارعوا إلى سنّ قوانين عديدة تخص المرأة، هدفها جميعًا إخفاء جسدها وصوتها، بل محو وجودها من الفضاء العام كليًّا. أما في سوريا، ورغم الأزمات السياسية والطائفية التي تهدد كيان الدولة، فقد كرّس الحكام الجدد وقتهم لوضع قوانين تتحكم في الجسد، وكأنها من أولوياتهم، وهي قوانين لا تعفي الرجال وإن كانت تمسّهم بدرجة أقل بكثير مما تمس النساء.

وفي الجزائر، بعد أن فُرض الحجاب عمليًّا على معظم النساء، جاء الدور على الفتيات الصغيرات، حيث يُغطّي الأولياء في العديد من الأحياء أجساد بناتهم بالقماش كاملًا. وهي ظاهرة جديدة تُظهر مدى تغلغل السلفية المتشددة في المجتمع الجزائري. ولا يكترث هؤلاء الأولياء بانعكاسات هذا الغطاء على صحة الفتيات النفسية والجسدية؛ فالطفلة التي تُحرم من اللعب وضوء الشمس، ويُزرع في نفسها شعور بالذنب لمجرّد امتلاكها جسدًا يُعتقد أنه مصدر للشر، لا يمكن أن تنمو نموًا سليمًا لا جسديًّا ولا نفسيًّا.

العورة؟

يبرر المسلمون القيود التي يحيطون بها الجسد بما يسمى بالعورة. الكلمة التي تعني الجزء من الجسد الذي لا يجب أن يرى. حسب القاموس العربي كلمة "عورة" هي من فعل أساء، وبالتالي فمرادفها هي كلمة "سَوْءة" التي تعني ما يشير إلى الخطأ والقبح والفساد. هذا التصور السلبي للجسد، الذي يعد كله عورة لما يتعلق الأمر بالمرأة، يطرح مشكلة كبيرة؛ لأنه يضع المسلمين في تناقض كبير مع دينهم ما دام أن الله، الكائن الكامل حسب العقيدة الإسلامية، هو الذي خلق الجسد، جسد المرأة وجسد الرجل. اعتبار الجسد خطأ وقبح وفساد، وما يجب أن يستحي منه الإنسان معناه أن الله أساء الفعل، وأن ما خلقه خطأ وقبح وفساد وقلة حياء. منطقيًّا إن العمل القبيح أو المرتبط بالشر والفساء والفجور لا يمكن أن يصدر من الله بصفته كائنًا كاملًا. كذلك يتعارض التصور السلبي للجسد مع الخطاب القرآني نفسه الذي يقول في الآية 4 من سورة التين 95 أن الله قد خلق الإنسان على أحسن صورة، وما خُلق على أحسن صورة لا يمكنه إلا أن يكون جميلا، وبالتالي لا يمكن أن نستحي منه مع العلم أن اللباس هو من صنع البشر، وأن الإنسان لم يخلق لابسا.

في القرآن عورة آدم وحواء واحدة

يدعي المسلمون المحافظون ورجال الدين أن القوانين التي أحاطوا بها جسد المرأة، والتي تتعلق بالعورة تستند إلى القرآن. فعلا فالآية 121 من السورة 20 سورة طه، تقول: "فلما أكلا من الشجرة المنهي عنها بدت لهما سوءاتهما (أي بدت لهما عوراتهما) وطفقا يخصفان عليهما من ورق الجنة". لكن هذه الآية لا تفرق بين جسد الرجل وجسد المرأة فيما تراه جزءًا من” عورة “الإنسان، من جهة ومن جهة أخرى، يؤكد جميع المفسرين أن العورة التي سترها آدم وحواء بورق العنب هي الأعضاء التناسلية فقط. لذلك فرجال الدين هم الذين قرروا أن جسد المرأة كله عورة بما فيه صوتها، وأن عورة المرأة التي تمثل كل جسدها ليست كعورة الرجل التي تمثل بعض جسده فقط. مع العلم أن الآية 59 من سورة الأحزاب التي تطلب من الرسول أن يقول للنساء بأن يلبسن جَلَابِيبِهِنَّ، وهي جمع جلاب التي تعني الفستان الطويل، لا تقول لأن جسدهن عورة، بل لتميزيهن عن بقية النساء، فلَا يلحق الرجال بهن الأذى. للتذكير أن تغطية الجسد الذي فرض على النساء حوالي ثلاثة آلاف السنة قبل الميلاد غايته تمييز النساء اللواتي يمكن للرجال إيذاءهن عن اللواتي لا يمكنهم ذلك، والمشكلة الكبيرة أن الكثير من الرجال ما زالوا يعتقدون أنهم لديهم الحق في إيذاء المرأة التي لا تلبس الحجاب؛ أي التي لا تغطي كل جسدها ورأسها، وهو ما يفسر ظاهرة العنف ضد المرأة في المجتمعات الإسلامية.

كراهية الجسد والتخلف

كراهية المسلمين للجسد وخاصة جسد المرأة كانت لها انعكاسات سلبية كبيرة على كل الجوانب الحياة الاجتماعية للمسلمين. من الناحية الاقتصادية حبس المرأة في البيت واختصار وظيفتها في التربية والعناية بالمنزل أبعد ‫نصف المجتمع عن ميدان الإنتاج الاقتصادي، وهو سبب من أسباب تخلف العالم الإسلامي مقارنة بالمجتمعات الأخرى. ولقد أشار الفيلسوف والفقيه الأندلسي ابن رشد في القرن الثاني عشر للعلاقة موجودة بين ظاهرة حبس النساء في البيوت وفقر المجتمعات الإسلامية؛ لأن ذلك منع نصف المجتمع من المساهمة في الإنتاج الاقتصادي. بالنسبة إليه، لا يمكن لمجتمع أن يكون غنيًّا إذا كان نصف مجتمعه فقط هو الذي يعمل. كذلك إن تغطية جسد المرأة كله ‏بالقماش يثقل حركاتها ويمنعها من استعمال يديها وفي كثير من الأحيان عينيها حول نصف المجتمع إلى معوقين غير قادرين على العمل والإنتاج. ولقد انتقد المصري محمد عبده، رغم كونه رجل دين الطريقة التي تتحجب بها المرأة المصرية، وعدّه السبب الذي يعرضها خاصة في الأرياف للفقر أكثر من الرجل؛ لأن ذلك لا يمكنها خاصة في الأرياف من العمل للحصول على المنتوج اللازم لها ولأسرتها. في القرن التاسع عشر عندما طرح المفكرون والسياسيون في العالم الإسلامي أسباب ضعف مجتمعاتهم اجتماعيًّا وثقافيًّا، وجدوا ‏أنفسهم مباشرة وجها لوجه مع مشكلة وضعية المرأة وعادة حبسها في البيت وفرض الحجاب عليها. فدعوا إلى تحريريها من هاتين العادتين السيئتين اللتين أبعدتا نصف المجتمع عن مجال الثقافة والتعليم. كان ذلك بالنسبة إليهم شرط خروج مجتمعاتهم من التخلف. في شمال إفريقيا، من ليبيا إلى المغرب، كانت هناك الحملة للتخلص من الحايك الذي تغلف المرأة به جسدها حين تخرج إلى الشارع. فعلا كان الحايك يمثل حاجزًا بينها وبين المجتمع ليس فقط من ناحية الوجود المادي، وإنما من ناحية الوجود الفكري والثقافي والاجتماعي.

من كراهية الجسد إلى سلطة الجسد

لم تحظَ انعكاسات النظرة السلبية إلى الجسد، وخاصة جسد المرأة، على الجانبين الإنساني والأمني باهتمام المفكرين في العالم الإسلامي، على الرغم من وجود بعض المحاولات في هذا الصدد، مع أن هذين الجانبين هما الأكثر تضررًا.

إن هدف الخطاب الديني، الذي يبذل كل ما لديه من طاقة لإقناع الرجل منذ صغره بأن كل شبر من جسد المرأة يثير شهوته الجنسية، وأنه كرجل عاجز عن التحكم فيها، هو أن يجعل المرأة حبيسة البيت ومضطرة إلى تغطية جسدها بالكامل. وإذا اضطرت إلى الخروج، فإنها لا تفعل ذلك إلا كخيار أخير إذا أرادت أن تنجو من اعتدائه عليها.

هذا الخطاب، الذي لا يرى في المرأة إلا جسدًا، قد اختزل الرجل بدوره إلى جسد تتحكم فيه الغريزة الجنسية، وشرعن سيادة الجسد عليه، وجعله خاضعًا لسلطانه. وهكذا، فإن الكراهية الشديدة لجسد المرأة نزعت من الإنسان إنسانيته، وقدّمته ككائن غير مسؤول عن سلوكه؛ أي إن هذا الخطاب قدّم إنسانية الرجل قربانًا مقابل بقاء المرأة في البيت أو تغليف جسدها بالقماش.

وهذا ما يجب أن يثير اشمئزاز أي عاقل؛ فإنسانيتنا هي الشيء الوحيد الذي لا يمكننا التنازل عنه. فبالنسبة إلى هيجل، حتى أشنع المجرمين يجب أن يستعيد إنسانيته بالمطالبة بالعقاب على فعله؛ إذ إن حرمانه من العقوبة بحجة عدم مسؤوليته هو في الحقيقة حرمان له من المسؤولية والحرية.[1]

لذلك، فإن خطاب رجال الدين المتعلق بالجسد يمثل أكبر مساس بإنسانية الإنسان، وقد كانت له نتائج وخيمة على الرجل والمرأة والمجتمع.

فمن الناحية الأمنية، أدى إقناع الرجل بأنه عبد لغرائزه إلى منعه من تحقيق نضجه الإنساني والعيش في المجتمع كفرد قادر على التحكم في ذاته، مع العلم أن الغريزة ليست جنسية فقط، بل متعددة؛ منها غريزة التملك والسيطرة والأكل. وهذا ما جعله عاجزًا عن التصرف وفق القواعد الأخلاقية والحضارية اللازمة للعيش مع الآخرين في سلام؛ أي باحترام ممتلكاتهم وحياتهم دون الاعتداء عليهم، سواء كانوا رجالًا أم نساء.

ومن هنا، فإن العنف الذي يعانيه الفرد في المجتمعات الإسلامية يرتبط مباشرة بإشكالية الموقف السلبي من الجسد. فما يزال الرجل المسلم، حتى غير الملتزم دينيًّا، عاجزًا في كثير من الحالات عن رؤية امرأة في الشارع دون أن يستشعر دافعًا لممارسة عنف لفظي أو جسدي ضدها، ونادرون هم من ينجون من هذه الظاهرة. وكأن الرجل، عبر هذا السلوك، يبرهن لنفسه على رجولته بمجرد امتلاكه غريزة جنسية.

وما دام ما لا يحترمه في المرأة هو إنسانيتها - والإنسانية واحدة للرجل والمرأة معًا - فإنه يمارس العنف ضد الرجل أيضًا، إذا شعر بأنه أقوى منه. وهكذا، فإن العنف اليومي الذي يعانيه الفرد في المجتمعات الإسلامية سببه غياب ثقافة وفلسفة قائمة على احترام الإنسانية؛ أي احترام الإنسان في ذاته ولذاته، جسدًا وروحًا.

هذه الفلسفة هي ما يتيح للإنسان في المجتمعات الغربية أن يتجول في الشارع محتفظًا بكرامته؛ إذ يقوم احترام الآخر لشخصه على احترام جسده أولًا؛ ذلك أن الجسد هو أول ما نراه في الإنسان، وبدونه لا وجود لنا أصلًا.

[1] - رزيقة عدناني، المصالحة الضرورية، دار النشر أبليشار، الطبعة الثانية، ص 69