سوسيولوجيا الإسلام: ملاحظات أولية


فئة :  مقالات

سوسيولوجيا الإسلام: ملاحظات أولية

تقديـم

في إحدى مقالاته الموسومة بـ"فكرة أنثروبولوجيا الإسلام"[1]، يرى طلال أسد بأن أولى الصعوبات التي قد تعترض الباحث في هذا المجال هي المرتبطة أساسا بالتعريف؛ إذ ما الذي نعنيه هنا بأنثروبولوجيا الإسلام؟ وما هو موضوع بحثها؟ وإذا كان الجواب قد يبدو بديهيا لأول وهلة، اعتبارا بأن ما تبحث فيه هذه الأنثروبولوجيا هو "الإسلام" طبعا، فإن مسألة "التحديد المفهومي للإسلام، موضوعا للدراسة الأنثروبولوجية، ليس بالأمر الهين"؛ ولعل هذا ما انعكس بشكل جلي على مستوى تعدد واختلاف المواقف والاتجاهات بهذا الخصوص. فما الذي يعنيه هذا التوصيف "إسلام"؟ هل الأمر يتعلق هنا بالإسلام كـ "دين"، بما يعنيه من قواعد ومن مذاهب وتشريعات، أو كنمط/ أنماط من "التدين"، بما ترتكز عليه من معتقدات وطقوس وممارسات؟ أم إن الأمر يتجاوز حدود التجربة الدينية ذاتها إلى مستويات وأبعاد أخرى؟

لعل نفس الملاحظة قد تنسحب، بشكل أو بآخر، على كل التراث السوسيولوجي الذي يمكن إدراجه هنا في إطار سوسيولوجيا الإسلام، باعتبارها تخصصا معرفيا يسعى - وفي تقاطع مع تخصصات أخرى كالتاريخ والأنثروبولوجيا والفينومينولوجيا وعلم الأديان المقارن - إلى دراسة الأسس والأشكال والممارسات الاجتماعية للإسلام. وعلى اختلاف هذه المستويات من الرصد والتحليل طبعا، وبالنظر إلى تعدد التصنيفات أو البناءات السوسيولوجية والأنثروبولوجية لهذا المسمى "إسلام"، فإن ما يمكن الاتفاق حوله مبدئيا هو كون الديني Le religieux، أو الظاهرة الدينية في الإسلام، لا يمكن فهمها واستيعابها إلا كإحالة على الظاهرة الاجتماعية في شموليتها وتعدد أبعادها. على هذا المستوى من الإدراك إذن، يصبح البحث في إطار سوسيولوجيا الإسلام هو بحث في أشكال وسيرورات حضور "الديني" وانعكاساته، أو بالأحرى، امتداداته إلى حقول الفعل والنشاط الأخرى الاجتماعية منها والسياسية والثقافية؛ لكن هذا لا ينبغي أن يفهم هنا بالمعنى الذي تصوره إرنست غلنر في كتابه "المجتمع المسلم"، حيث اعتبر الإسلام بمثابة مخطط لنظام اجتماعي يؤمن بقواعد إلهية أبدية مستقلة عن إرادة الإنسان[2]. إننا على عكس ذلك تماما، نتصور الإسلام هنا ليس كـ"مخطط" ناجز يؤكد سلطة النص المقدس ويفرضها على الواقع فرضا، بل بالأحرى هو سلسلة من "الروابط" تم التأسيس لها (كرها وطوعا)، وفي سياقات تاريخية واجتماعية مختلفة، عبر سيرورة من التفاوضات والتوافقات والتواطؤات أيضا. إنها حصيلة تفاعل وتعايش الإسلام النموذج أو "النصي" مع مختلف البنيات الذهنية والاجتماعية والثقافية والسياسية. ولعل هذا ما يسمح بالحديث هنا عن إسلام، أو بالأحرى، إسلامات تاريخية وسوسيولوجية كما يحياها الناس في مجتمعاتهم ويمارسونها باختلاف ثقافاتهم وقناعاتهم ورهاناتهم أيضا. وفق هذه الرؤية إذن، أمكننا الانتقال من مفهوم "الدين" La religion إلى مفهوم "الرابط الديني" Le lien religieux.

سوسيولوجيا الإسلام: من مفهوم الدين إلى مفهوم الرابط الديني

في الواقع، لم يحظ الإسلام بنفس الاهتمام الذي حظيت به ديانات أخرى من قبل السوسيولوجيين والأنثروبولوجيين، وهذا من شأنه أن يطرح صعوبات نظرية ومنهجية أمام أية محاولة لتقديم مفهوم شامل بإمكانه استيعاب الظاهرة الدينية في الإسلام بأبعادها وتجلياتها المختلفة. فقد ارتبط تعريف الدين، بالأساس، بدراسة ديانات أخرى غير الإسلام، سواء تعلق الأمر بالمسيحية أو اليهودية أو البوذية، هذا دون استثناء دراسات بعض الأنثروبولوجيين حول ديانات الشعوب المسماة "بدائية" أيضا. وكما لاحظ ذلك براين تيرنر[3]، فإنه من الصعب العثور "على دراسات سوسيولوجية أساسية للإسلام والمجتمع الإسلامي"، ولعل السبب الرئيس قد يكمن في اعتبار البعض بأن الإسلام لا يشكل دينا في الأساس، أو هو حالة خاصة فريدة، مما أبقاه خارج نطاق اهتمام علماء اجتماع الدين. هذا من جهة، ومن جهة أخرى، وهذا ما يزيد الأمر تعقيدا، لا بد من التأكيد أيضا على أن تأسيس تعريف للدين، سواء مع دوركهايم أو فيبر أو ماركس، كان في جوهره محكوما بفكرتي التقابل والتنافي مع الحداثة ومنجزاتها، مما كان مؤشرا دائما على فكرة نهاية الدين أو انحساره أمام صعود النظام الرأسمالي بتناقضاته وبمنجزاته أيضا، كما عبر عنها ذلك الاكتساح المستمر لمسلسل التصنيع والعقلنة والعلمنة.. فمع إيميل دوركهايم مثلا، كلما تعزز تقسيم العمل الاجتماعي بالانتقال من التضامن الآلي إلى العضوي، كلما تراجع الدين وما يرتبط به من قيم الجماعة والمقدسات لصالح قيم تعزز مكانة الفرد والمؤسسات؛ ومع ماكس فيبر أيضا، فإن النظام الرأسمالي بما يميزه من نزوع نحو العقلنة والتنظيم البيروقراطي، يعني نهاية الدين، ولعل هذا ما عبر عنه بمفهومه حول نزع الطابع السحري عن العالم Le désenchantement du monde. أما كارل ماركس، وعلى الأقل في كتاباته المبكرة، فلم ير في الدين إلا تعبيرا عن الوعي الزائف، أو بالأحرى مخدرا إيديولوجيا (أفيون) سرعان ما يزول تأثيره، وينتهي بتجذر الوعي الطبقي.

بعد هذا العرض السريع حول تصورات السوسيولوجيين الكلاسيكيين حول الدين، وفي علاقة بموضوع الإسلام أيضا وما تطرحه الظاهرة الدينية من خصوصيات، يمكننا الخلوص إلى استحالة وجود أي أساس نظري أو إمبريقي معقول يمكنه المساعدة في تقديم مقاربة شاملة ودقيقة للظاهرة الدينية اليوم. فمن وجهة نظر سوسيولوجية طبعا، هناك صعوبة كبيرة في إنتاج مفهوم للدين يناسب جميع الثقافات، كما أن تصور كل باحث حول الدين قد يكون محددا لطبيعة الأسئلة والقضايا التي يراها جديرة بالدرس والتحليل؛ وهذا ينعكس بدوره على مستوى طبيعة المعرفة السوسيولوجية في هذا المجال. لعل الوضع هنا أقرب ما يكون إلى حالة ركود عام كما لاحظ ذلك كليفورد غيرتز بخصوص "الدراسة الأنثروبولوجية للدين"، حيث يستحيل الخروج من هذا المأزق النظري والمنهجي "بمجرد إنتاج تغيرات هامشية في المواضيع النظرية التقليدية"، أو بهجر التقاليد الكبرى في إطار دراسة الدين، كما أسست لها إسهامات كل من دوركهايم وفيبر وفرويد ومالينوفسكي. يبقى الرهان إذن هو وضع هذه الإسهامات في سياقات أوسع من تلك التي أنجزت فيها، مما يقتضي توسيعا للمفهوم من شأنه تيسير عملية التحرك في عدد أكبر من الاتجاهات؛ ولعل هذا ما يندرج، حسب غيرتز، في إطار "تطوير البعد الثقافي للتحليل الديني"[4].

لم يحظ الإسلام بنفس الاهتمام الذي حظيت به ديانات أخرى من قبل السوسيولوجيين والأنثروبولوجيين

بناء عليه، وبالنظر إلى ما قد يعنيه الأمر من اختلافات ثقافية عميقة فيما يتعلق بالمجال الإسلامي، نقترح هنا مفهوما وسيطا نتوسم فيه تلك القدرة على استيعاب مختلف أبعاد وخصوصيات الظاهرة الدينية في الإسلام، ولعل الأمر يتعلق هنا بمفهوم "الرابط الديني" كما تقدم[5]. قد يبدو الأمر أقرب هنا إلى محاولة في جينيالوجيا الحقل الديني، مما يقودنا، بشكل أو بآخر، نحو مساءلة أسس وأشكال وسيرورات تشكل الروابط الدينية وانبناءاتها الاجتماعية والثقافية والسياسية. فـ"الديني" إذن قد يتجسد في جوهره كرابط روحي، مما يسمح بالانتقال هنا من مفهوم "الدين" كقواعد ونصوص وتشريعات إلى مفهوم "التدين"، بما يتأسس عليه كتجربة روحية من طقوس ومعتقدات وممارسات فردية وجماعية.. ويعني ذلك أيضا الرابط الاجتماعي كما تبلور في إطار أنماط مختلفة من التنظيم الجماعي/ الاجتماعي، والتي لا يمكن البتة نفي ارتباطاتها تصورا وممارسة بقيم ورمزيات الحقل الديني.. وبالمثل يمكن أن يتحدد كرابط سياسي، وهنا يمكن الحديث، وبأشكال مختلفة، عن نوع من التوظيف السياسي للدين، حيث تكتسي المسألة هنا صيغة إعادة إنتاج موسعة لذلك الرابط الروحي سياسيا؛ وهكذا يتم التحول والانتقال بالديني من "سلطة المقدس" إلى "تقديس السلطة"، حيث يتشكل النسق السياسي ويعاد تشكيله في هيمنة مطلقة للمقدسات على حساب المؤسسات... وعلى مستوى آخر من التحليل طبعا، ليس هناك ما ينفي حقيقة الديني كرابط ثقافي، ولعل هذا ما يفسر اختلاف أنماط التدين باختلاف المجتمعات وثقافاتها، حيث يستحيل الديني نفسه إلى نسق ثقافي بامتياز حين يتم إدراكه كنظام من الرموز والقيم والتصورات[6].

على هذا الأساس إذن، وبالرجوع إلى أهم الدراسات والأبحاث الأنثروبولوجية والسوسيولوجية التي أنجزت حول الإسلام، أمكننا الوقوف إجمالا على ثلاث أطروحات أساسية؛ حيث تم تصنيف كل واحدة منها بحسب أهمية "الرابط" الذي انطلقت منه كأساس إمبريقي ونظري أيضا في فهم وتحليل موضوعة الإسلام. فمن جهة هناك أطروحة البقايا الوثنية التي انطلقت في دراستها من الديني كـ"رابط روحي"، مما جعل حقل اشتغالها يتجه رأسا من مفهوم الدين إلى مفهوم التدين؛ ومن جهة ثانية هناك الأطروحة الانقسامية، حيث الديني يتحدد أكثر كرابط اجتماعي وسياسي، مما يطرح سؤال الوظيفة التي يمكن أن يضطلع بها الدين في بناء وتثبيت السلطة والمجتمع؛ وأخيرا هناك الأطروحة التأويلية، حيث الديني منظورا إليه كرابط ثقافي بامتياز.

هذه إذن أطروحات نعتبرها، بشكل أو بآخر، جزءا لا يتجزأ من التراث النظري لسوسيولوجيا الإسلام؛ وهي تشكل في اعتقادنا، وبعد إخضاعها لمراجعات نقدية رصينة، مداخل أساسية يمكن الإفادة منها ومن غيرها من الإسهامات طبعا، لبناء وتطوير مقاربات سوسيولوجية أشمل وأكثر موضوعية فيما يتعلق بدراسة الإسلام.

في الواقع، وفي حدود ما تسمح به هذه المقالة، سنكتفي فقط بإبداء بعض الملاحظات التي نعتبرها أولية فيما يخص التعريف بهذه الأطروحات، وذلك بالوقوف على أهمية كل رابط من هذه الروابط في صياغة مفهوم خاص للإسلام؛ مما قد يسمح، بشكل من الأشكال، بإعادة صياغة مفهوم موسع قائم على الدمج بين كل هذه الروابط.

أولا: أطروحة البقايا الوثنية، أو الديني كرابط روحي

ما من شك، طبعا، بأن معظم الدراسات التي أنجزت حول الإسلام في إطار هذه الأطروحة، بدأت متحيزة تحكمها رؤية إثنو- مركزية، كما أنها لم تكن لتخفي ارتباطاتها الضمنية أو الصريحة بالإدارة الاستعمارية. ولعل هذا ما دشنت له بداية الخطاب الاستشراقي، ليستمر الوضع بشكل أقوى وأوضح مع سوسيولوجيا الإسلام الفرنسية تحديدا، في إطار ما يمكن تصنيفه هنا بشكل عام ضمن الأطروحة الكولونيالية. وبخصوص هذه الأخيرة، وحتى تتضح الرؤية أكثر، وجب التنويه إلى أن هذا التوصيف (كولونيالي) قد ينسحب على مجمل الدراسات والأبحاث التي أنجزها باحثون أوروبيون، فرنسيون في معظمهم، حول المغرب ومجتمعات شمال إفريقيا، وقد كان الهدف بالأساس هو معرفة هذه المجتمعات عن قرب، ومن ثم ضبط بنياتها وتناقضاتها بغية تيسير عملية السيطرة الاستعمارية عليها، وذلك تفعيلا لشعار "المعرفة أساس السيطرة". في هذا السياق طبعا، كان لابد من إطلاق دينامية قوية للبحث السوسيولوجي، في إطار سياسة لإنتاج "خطاب كولونيالي" حول هذه المجتمعات؛ وتبقى مقولة "السيبا"، الأكثر تداولا من داخل هذا الخطاب، بمثابة المفتاح لفهم مضمراته ومرتكزاته الإيديولوجية. فالسيبا في التحديد السوسيولوجي الكولونيالي ظاهرة سياسية، وهي تعبير عن حالة الانشقاق السياسي والتمرد القبلي الدائم ضد السلطة وضد كل ما هو مناف لاستقلالية "الشخصية القبلية البربرية". وبخصوص حالة المغرب، ووفق هذا التصور، فقد ظل البلد دائما مقسما بين (بلاد للسيبا) وتتشكل في معظمها من القبائل البربرية المتحصنة بالجبال، و(بلاد للمخزن) لا تكاد تتجاوز حدود المدينة العاصمة ومحيطها. أما عن العلاقة التي تربط المجالين، فهي دوما علاقة حرب وصدام سيتم التعبير عنها عبر سلسلة من التقابلات كصراع بين: (عرب/بربر)، (غزاة/أهالي)، (مخزن/زوايا)، (شرع/عرف)، (إسلام رسمي/إسلام شعبي)...إلخ. لعل هذا ما تلخصه أطروحة روبير مونطاني حول "البرابرة والمخزن بالجنوب المغربي"[7]، وتعتبر نموذجا لغيرها في هذا الإطار.

في نفس السياق أيضا، نجد باحثا آخر، وهو ميشو بيلير قد قسم مجالات البحث السوسيولوجي بالمغرب عبر ثلاثة تصنيفات: من جهة هناك سوسيولوجيا المخزن، وهي المختصة بدراسة مناطق نفوذ المخزن التي لا تتجاوز في الأصل المدينة العاصمة ومحيطها؛ ومن جهة ثانية هناك السوسيولوجيا الإسلامية، والتي ينحصر مجال اهتمامها في دراسة مظاهر "الإسلام الرسمي"؛ وأخيرا السوسيولوجيا المغربية، وهي المختصة بدراسة القبائل البربرية ومؤسساتها ومعتقداتها الدينية الما قبل إسلامية، حيث تبدو دراسة "التدين الشعبي" هنا، وبما يكرس له من استمرارية لطقوس ومعتقدات وممارسات وثنية من قبيل: السحر والاعتقاد في الأرواح والعين الشريرة وتعدد الآلهة، هي من أجل تأكيد أطروحة صراع البربر ضد المخزن على مستوى "ديني" أيضا[8].

لقد دافع إدمون دوتي، من خلال كتابه الموسوم بـ"الدين والسحر في شمال إفريقيا"[9]، على فكرة استمرار البقايا الوثنية على مستوى بنية التدين الشعبي، وقد اعتبرها شكلا من أشكال مقاومة الاكتساح العربي الإسلامي لبلاد البربر أو الشمال الإفريقي. وفي هذا الإطار، جاءت أطروحته مرتكزة على مسلمتين أساسيتين: أولهما تتمثل في عملية "الأسلمة" التي ستتعرض لها المعتقدات الوثنية السابقة عن الإسلام، والثانية لخصها في الطبيعة التوحيدية المفرطة للديانة الإسلامية، مما يستدعي بالضرورة ظهور وسطاء. لقد فشل الإسلام إذن في فرض نفسه أمام مقاومة تلك المعتقدات، ولعل هذا ما اضطره إلى التعايش معها، مقدما بذلك عددا من التنازلات سمحت باستمرار العديد من المعتقدات والطقوس الوثنية التي تم تكييفها، بشكل من الأشكال، مع بنية المعتقد الإسلامي، أو ما عبر عنه بمفهوم "الأسلمة". وبخصوص ظاهرة تقديس وعبادة الأولياء، فقد ربط ذلك بعامل "التوحيد المفرط في الإسلام"، الأمر الذي كان يقتضي في اعتقاده ضرورة تحقيق مسافة معقولة بين الإنسان والله على مستوى "التدين الشعبي"، ولو عن طريق خلق وسائط "ملموسة" في شخص رجال يفترض أنهم الأقرب إليه (الأولياء).

لم يستطع الإسلام إذن، وبالرغم من طبيعته التوحيدية المفرطة، منع استمرارية وتطور هذا النمط من الاعتقاد في الأولياء، والذي يجد أساسه، حسب إدوارد ويستر مارك، في بنية المعتقدات الوثنية الما قبل إسلامية[10]. لقد كانت الحاجة إلى وجود مثل هؤلاء الوسطاء، على مستوى التدين الشعبي، دافعا نحو "أسلمة هذه المعتقدات الوثنية" واحتضانها في إطار الإسلام الصوفي.

بل أكثر من ذلك، وحسب إيميل درمنغن، فإن عملية التقديس هذه امتدت، وعلاوة على هؤلاء الأشخاص، لتشمل عالم الأشياء والأمكنة أيضا، باعتبارها تمثل تجليات للمقدس السماوي (مغارات، منابع المياه، أشجار..)[11].

لعل هذا ما ستسمح به بنية المعتقد الصوفي، خاصة أمام طبيعة الإسلام الفقهي النصية والمفرطة في التجريد. وهكذا، وكما دافع عن ذلك ألفرد بيل في كتابه الموسوم بـ"الديانة الإسلامية في بلاد البربر"[12]، كان التصوف، وبحكم مبادئه البسيطة وطبيعته المرنة، أقرب إلى الانتشار بين القبائل البربرية لأنه الأكثر توافقا مع طبيعة ذهنيتهم المحدودة والمجبولة على التجسيد؛ هذا في الوقت الذي ظل فيه تطبيق الإسلام الفقهي "الرسمي" محصورا في نطاق النخب الحضرية. لقد شكل الصلحاء وشيوخ الزوايا في هذا الإطار إذن، وبالنظر إلى ما ارتبط بهم من قدرات خاصة (البركة)، نمطا فريدا من "التدين الشعبي" قائم على نوع من التعايش بين الإسلام ومعتقدات بربرية وثنية قديمة.

ثانيا: الأطروحة الانقسامية، أو الديني كرابط اجتماعي وسياسي

باختصار شديد، يمكن الاكتفاء هنا بتقديم بعض الأفكار الأساسية حول هذه الأطروحة، وذلك من خلال نماذج لأبحاث أنجزها أنثروبولوجيون (أنجلوساكسون) حول المغرب، والتي عرفت أوجها في فترة الستينيات من القرن الماضي. في هذا الإطار إذن، تأتي دراسات كل من: إرنست كلنر ود.هارت ورايمون جاموس وكذلك جون واتربوري[13].

لقد انطلق هؤلاء من تمييز صارم بين بنيتين اجتماعيتين متعارضتين، بنية القبيلة، والتي تتأسس على نسق انقسامي يجهل أي تقسيم اجتماعي للعمل، مع ما يوازي ذلك سياسيا من تجزيئ للسلطة، وبنية اجتماعية تراتبية بالمدن وخاضعة لسلطة المخزن؛ كما أن التمييز يطال هنا حتى الجانب الديني، حيث يسود نمط من التدين (الشعبي) الصوفي على مستوى القبيلة مقابل التدين (الرسمي) الفقهي على مستوى المدينة. على هذا الأساس إذن، فالبنية الانقسامية للقبيلة تحول ضد أي تمركز للسلطة، ونفس الوضع ينعكس على مستوى علاقتها بالدولة. لكن كيف يتم الحفاظ على الأمن والنظام، بخصوص مجتمع كهذا تخترقه الصراعات بين القسمات، وفي ظل غياب سلطة سياسية مركزية؟ الإجابة تكمن، حسب هؤلاء، في طبيعة النسق الانقسامي القائم على أساس التعارض المتوازن لمختلف المجموعات الانقسامية، أو ما يصطلح عليه إرنست كلنر بـ"معادلة الخوف"، هذا علاوة على الدور التحكيمي والتسكيني الذي تضطلع به المجموعات الدينية، خاصة "الصلحاء" و"شيوخ الزوايا" لما يتمتعون به من حياد.

شدد إرنست غلنر على أهمية الديني باعتباره رابطا أساسيا، إن على مستوى اجتماعي أو سياسي

هنا بالذات تتأكد قيمة الديني كـ"رابط اجتماعي"، حيث تتحدد وظيفة الصلحاء في حفظ النظام والسلم الاجتماعين، وذلك بالنظر لما يتمتعون به من سلطة روحية (دينية) تمنحهم القدرة على التحكيم والصلح بين الفرقاء. لعل هذا ما حاول توضيحه رايمون جاموس في كتابه "العرض والبركة"، حيث ميز بين نظامين اجتماعيين مختلفين، نظام العرض المؤسس للنسق الانقسامي (العوام)، وهو نظام غير تراتبي وقائم على تبادل العنف مع نزوع نحو تجزيئ أو تكسير السلطة، ونظام البركة (كما يمثله الشرفاء) الذي يستمد خصوصيته من طبيعته السلمية والمحايدة، هذا علاوة على بنيته التراتبية وطبيعته السلطوية. إننا هنا أمام نمط خاص من السلطة قائم على الوساطة والتحكيم، وهي سلطة ملزمة للجميع، وذلك بالنظر لما يحتكم عليه هؤلاء الشرفاء، في تمثل الجماعة، من قدرات خارقة (البركة) تفسرها مكانتهم الدينية الخاصة. لكن، وعلى عكس غلنر وهارت، يرى جاموس بأن هذه السلطة لا تبقى عند حدود "الروحي" بل تتجاوزها إلى سلطة زمنية، خاصة حين يتم الانتقال من المحلي (القبيلة) إلى المركزي (الدولة)، وهكذا يتم الانتقال بـ"البركة" من "الرابط الاجتماعي" إلى "الرابط السياسي" في شخص "السلطان" الذي يعتبر أميرا للمؤمنين وشريف بركة؛ وهكذا يصبح نجاح بركته مؤشرا على نجاح قوته السياسية والعسكرية، والعكس صحيح. وعلى مستوى آخر، فقد ذهب جون واتربوري أبعد من ذلك معتبرا بأن الملك، وعلاوة على حقل "إمارة المؤمنين" الذي يمنحه شرعية الحكم باسم "الحاكمية الإلهية"، فهو أيضا كشريف بمثابة رئيس لـ"زاوية كبرى" يحتكم إليها الخصوم والفرقاء السياسيون، ولعل هذا ما يعزز سلطة الحكم لديه، باعتباره "حكما" Arbitre محايدا. أكثر من ذلك، فقد شدد إرنست غلنر على أهمية الديني باعتباره رابطا أساسيا، إن على مستوى اجتماعي أو سياسي، ولعل هذا ما تلخصه أطروحته حول "المجتمع المسلم"، حيث الإسلام يشكل مخططا لنظام اجتماعي ونموذجا تتفاعل فيه البنية الاجتماعية والمعتقد الديني والسلوك السياسي.

ثالثا: الأطروحة التأويلية، أو الديني كرابط ثقافي

بالنسبة إلى هذه الأطروحة، سيتركز البحث أساسا حول الأبعاد الثقافية للتجربة الدينية، وكيف تتأثر أنماط التدين وتختلف باختلاف الأنساق الثقافية الخاصة بكل مجتمع. ففي كتابه "تأويل الثقافات"، حاول غيرتز تقديم تعريف للدين، باعتباره نظاما من الرموز والتصورات، كما اعتبر هذه الرموز تساهم في صياغة مطابقة أساسية، على مستوى الواقع، بين أسلوب حياة معين وميتافيزيقا ماورائية محددة. وبالمثل فقد أكد الباحث على ضرورة وضع النسق الديني في سياقه التاريخي، مما يسمح بفهم طبيعته المتغيرة أيضا بتغير الأنماط الثقافية. من هذا المنظور يصبح الدين إذن شبكة لتأويل الثقافات، ولعل هذا ما حاول تأكيده - في كتابه الإسلام ملاحظا - من خلال مقارنته بين الإسلامين المغربي والأندونيسي. فمن خلال نموذجي "الفقيه اليوسي" و"كاليجاغا"، كأحد وجهي القداسة بكل من البلدين، يمكن الوقوف على المفعول الثقافي في نحت تجربتين دينيتين مختلفتين؛ الأولى محكومة بعمقها الثقافي البربري، والثانية بثقافة هندوسية جاوية[14]. وعلى نفس المنوال، سيحاول ديل إيكلمان فهم أشكال التدين المرتبطة بالزوايا والصلحاء بالمغرب، والتي تشكل في تصوره نوعا من الإيديولوجيا الدينية الضمنية، حيث لا يمكن النفاذ إلى منطقها الناظم إلا عبر فهم واستيعاب عمقها الثقافي. في هذا الإطار، سيعتبر مفهوم "البركة" كنواة لهذا النمط من التدين، وبما ارتبط به من معاني ودلالات مختلفة، مفتاحا لفهم وتأويل كيف يصاغ المعتقد الديني وتعاد صياغته ثقافيا. ولعل الأمر ينطبق، وبشكل أوسع، على كل التجربة الحياتية للمغاربة، حيث تتحدد نظرتهم للكون "ثقافيا" عبر خمسة مفاهيم مفاتيح هي: "المكتوب"، "العقل"، "الحشومية"، "الحق" و"العار"[15]. إن الدين إذن، باعتباره نسقا من الرموز والتصورات، يسهم من جانبه في تشكيل رؤية الناس للواقع وللعالم، وذلك في تفاعل مع ثقافتهم التي يصبح عنصرا متكيفا معها، بل أكثر من ذلك، فالديني كـ"رابط ثقافي"، قد يشكل أساسا لروابط أخرى بما فيها "السياسي"؛ وربما هذا ما دافع عنه عبد الله حمودي في كتابه "الشيخ والمريد"، حيث إن هذه الخطاطة (شيخ/ مريد) - المتسربة من الثقافة الدينية (الصوفية) - توجد في أساس تشكل وشرعنة "التسلطية" المميزة للأنظمة السياسية بالعالم العربي الإسلامي[16].

ختاما، وبعد هذا العرض المركز حول الأطروحات الثلاث، والذي حاولنا من خلاله الوقوف على أهمية كل "رابط" في صياغة مفهوم خاص للإسلام بالنسبة إلى كل واحدة منها، وجب التأكيد أن أي فهم لـ"الإسلام" اليوم، وبعيدا عن تجزيئه واختزاله (كموضوع) في أحد تلك "الروابط"، يستدعي مقاربة تستند إلى رؤية موسعة وعبر- تخصصية transdisciplinaire. هكذا فقط يمكن إدراكه كتركيب جدلي لكل هذه الروابط، مما يسمح بالوقوف على طبيعة ودينامية التفاعلات فيما بينها، من جهة، وفي علاقة بسياقات اجتماعية وثقافية وسياسية، مأخوذة في بعدها التاريخي[17]. على هذا الأساس طبعا، يأتي نقدنا للأطروحات الثلاث، علاوة على بعض الدراسات السوسيولوجية والأنثروبولوجية المعاصرة حول الإسلام؛ وهي الانتقادات التي ضمناها في كتاب صدر لنا في مستهل هذه السنة حول "الإسلام المغربي"[18].


 

[1] يمكن الرجوع إلى المقال: The Idea of an Anthropology of Islam- (تعريب سامر رشواني)، وهو محاضرة ألقاها في مركز الدراسات العربية المعاصرة بجامعة جورج طاون بواشنطن سنة 1985، وطبعت في آذار 1986)

[2] E. Gellner, Muslim Society- Cambridge University Press 1981

[3] براين تيرنر: علم الاجتماع والإسلام، دراسة نقدية لفكر ماكس فيبر، ترجمة أبو بكر باقادر، دار القلم، بيروت 1987، ص. 21

[4] كليفورد غيرتز: تأويل الثقافات، ترجمة محمد بدوي، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت 2009، (الدين بوصفه نظاما ثقافيا، ص 221- 288

[5] وجب التنويه هنا إلى أن الفصل بين هذه الروابط، على مستوى الظاهرة الدينية، هو فصل منهجي بالأساس؛ فالأمر يتعلق تحديدا بنماذج مثالية بالمفهوم الفيبيري، حيث لا يمكن أن يشتغل رابط بمعزل عن الآخر على مستوى الواقع العيني.

[6] غيرتز: مرجع سابق، وانظر أيضا: 2009 – - C. Geertz, Islam Observed- New Haven ; Yale University Press, 1968

[7] R.Montagne: Les Berbères et le Makhzen dans le sude du Maroc, essai sur la transformation politique des Berbères sédentaires groupe Cheluh ; Ed. Alcan, Paris 1930

[8] ميشو بيلير، السوسيولوجيا المغربية، مجلة أبحاث، عدد (9- 10) – السنة الثالثة، 1986 ص ص (28 – 41)

[9] Edmond Douté: Magie et religion dans l’Afrique du nord, 1909

[10] Edward Westermarck: Pagan survivals in Mohammedan civilization, London, 1933

[11] Emile Dermenghem: Le culte des Saints dans l’Islam Maghrebin ; Ed.Gallimard-Paris, 1954

[12] Alfred Bell: La religion musulmane en Berbèrie, Paris, 1938

[13] Voir à ce propos:

- Raymond Jamouss: Honneur et Baraka: les structures sociales traditionnelles dans le Rif ; Ed la maison des eciences de l’homme, Paris 1981

- D.M. Hart: the Ait Waryaghar of the Moroccan Rif, in Ethnography and history; Tucson University of Arizona press, 1976

- Erneste Gelner: the Saints of Atlas; London, Weindefeld and Nicolson, 1969

- جون واتربوري: الملكية والنخبة السياسية في المغرب، ترجمة ماجد نعمة وعبود عطية، دار الوحدة للطباعة والنشر، الطبعة الأولى، بيروت

[14] يمكن الرجوع إلى كتابي غيرتز المحال عليهما في الهامش (6)

[15] ديل إيكلمان: الإسلام في المغرب، ترجمة محمد أعفيف، دار توبقال للطباعة والنشر، الدار البيضاء 1989

[16] عبد الله حمودي: الشيخ والمريد - النسق الثقافي للسلطة في المجتمعات العربية الحديثة، ترجمة عبد المجيد جحفة، دار توبقال للنشر، الدار البيضاء 2000

[17] نعطي المثال هنا بظاهرة المواسم الصوفية، وما يرتبط بها من معتقدات وممارسات اعتبرت، وعلى مستوى "التدين الشعبي"، كـ"مخلفات وثنية".. فبعيدا عن اختزال المسألة هنا في حدود هذا "الرابط الروحي"، قد نقف على "أبعاد أخرى" متداخلة بإمكانها التأكيد أن ما هو "غير عقلاني" من منظور هذا الرابط، قد يكشف عن "معقولية" هذه الممارسات و"عقلانيتها" أيضا على مستوى الروابط الأخرى: فثقافة المواسم والأضرحة قد تكرس لنوع من المصالحة أو "التواطئ" بين "لا عقلانية الطقس" و"معقولية" الطلب الاجتماعي (الاستشفاء والاقتلاع من الضيق)؛ كما قد تجعل هذا الطقس "اللا عقلاني" يكشف عن "عقلانية" اقتصادية واجتماعية، باعتباره إمكانا للاستثمار (اقتصاد المواسم)؛ كما يصبح بالمثل عنصرا أساسيا في هندسة السياسة الدينية للدولة، كواحد من أدوات الضبط والتحكم (التوظيف السياسي للتصوف).

[18] محمد جحاح: الدين والسلطة والمجتمع - دراسات وأبحاث حول المغرب، منشورات أفريقيا الشرق، الدار البيضاء 2019