تفكيك الثنائيات في "ما وراء الخير والشر": دراسة فلسفية في إرادة القوة لدى نيتشه
فئة : مقالات
تفكيك الثنائيات في "ما وراء الخير والشر":
دراسة فلسفية في إرادة القوة لدى نيتشه
ملخص:
ليست الفلسفة عند نيتشه مجرد بحث عن حقائق ثابتة أو تأملات باردة في مفاهيم ميتافيزيقية جوفاء، بل هي فعل إبداعي وإرادة حيّة، وقوة تنبع من أعماق الوجود لتدمير القيم القديمة وخلق قيم جديدة. فمنذ أفلاطون، وقع الفلاسفة في وهم الموضوعية، متظاهرين بأنهم يكتشفون حقائق أزلية، بينما كانوا في الحقيقة يدافعون عن تحيزاتهم وأوهامهم. هذا الادعاء الذي لا أساس له أدى إلى تآكل الروح الأوروبية، وحوّل القيم إلى أفكار قابلة للنقد، فتلاشت قوتها وجوهرها، وأصبحت أشباحًا فارغة، مما مهّد الطريق للعدمية الكبرى.
لكن نيتشه يثور على هذه الرؤى البالية؛ إذ يرفض أن تكون الفلسفة مجرد تبرير أو تفسير للقيم، بل يراها عملية خلق، يُفرض من خلالها على العالم ما يبتكره الفرد من قيم، كما تفرض العاصفة سيطرتها على البحر. فالقيم، بالنسبة إليه، لا تأتي من العقل، بل من الحياة نفسها، من تلك القوة الدافعة التي تمزق السكون وتخلق معاني جديدة بكل حرية وشجاعة. الفلسفة، إذن، ليست مجرد أفكار، بل تعبير عن الجسد والقدرة الإنسانية على خلق العظمة.
كما أن العقول ليست متساوية، ولا جميع البشر قادرين على خلق قيم أصيلة، لذلك يميز نيتشه بين نوعين من البشر: الأسياد، والعبيد.
تمهيد:
في رحاب الفلسفة، حيث تتقاطع الأسئلة الكبرى مع زوايا الفكر المتجددة، تبرز تأملات نيتشه في "ما وراء الخير والشر: تباشير لفلسفة المستقبل" كمحاولة جريئة لإعادة النظر في مسلمات طالما اعتُبرت يقينية. فالكتاب يشكّل نقدًا للعلوم والسياسة والفن في العالم الحديث، من خلال مجموعة من الأقوال والشذرات التي يستخدمها نيتشه لإلقاء ضوء فريد على مفهومي الحقيقة والطبيعة.
يتألف الكتاب من تسعة فصول تعالج موضوعات متداخلة، مع قصيدة في الختام، ويُعدّ خيطًا متشابكًا في نسيج أعمال نيتشه، وامتدادًا لعمله السابق "هكذا تكلم زرادشت"، وتعبيرًا عن فلسفته في صورتها الأكثر نضجًا. لا يسعى نيتشه، من خلال هذا النص، إلى حل التناقض بين إرادة الحقيقة وإرادة القيمة، بل يطمح إلى تقديم تصور لفلسفة مستقبلية تتعايش فيها هاتان الإرادتان دون تناقض.
لذلك يمكن النظر إلى "ما وراء الخير والشر" بوصفه نقدًا متعاليًا للفلسفة الغربية والحداثة، وللمفاهيم التي اخترعتها مثل "الحقيقة المطلقة" و"الوعي الذاتي". وينبغي قراءته في ضوء الفكرة القائلة إن الحداثة ليست حديثة بما يكفي؛ إذ يرى نيتشه أن الحداثة ينبغي أن ترتقي إلى مستوى أعمق، وكذلك الفلسفة، لأنها تمثل أسمى مجالات المعرفة.
ينتقد نيتشه الرؤية التقليدية للفلسفة بوصفها خطابًا ثقيلًا ومملًا، ويقترح أن تكون الفلسفة ممتعة، ساخرة، ومتحررة من اللغة المعقدة والعبارات المظلمة. وفي هذا الإطار، تسعى هذه الورقة إلى تتبّع الكيفية التي يثور بها نيتشه على مفهوم السببية التقليدي، الذي يفترض وجود ترابط خطّي وحتمي بين الأسباب والنتائج، وكيف يفتح المجال لفهم أكثر مرونة وديناميكية للعالم.
فنيتشه لا يرى في العقل كيانًا منفصلًا ومتعاليًا عن الجسد، بل يعتبر الفكر امتدادًا للرغبات والشهوات التي تحرّك الإنسان من أعماقه. ومن خلال هذا التصور، يعيد نيتشه تشكيل العلاقة بين الإرادة والمعرفة، بين الغريزة والتفكير، ليكشف عن طبيعة الحياة كمسرح تتصارع فيه قوى متعددة لا تحكمها قوانين مطلقة، بل نزعات ورغبات تتشابك في نسيج معقد من التأثيرات المتبادلة. ومن هذا المنظور، يدعونا نيتشه إلى تجاوز أوهام الفكر التقليدي، واستكشاف أفق جديد يعيد للإنسان دوره الفاعل في تأويل العالم، بدلًا من الخضوع لتفسيرات جاهزة تدّعي امتلاك الحقيقة المطلقة.
مفترق الدروب: من تفكيك الشكوك إلى انطلاق إرادة القوة
في المقطع 36 من كتاب "ما وراء الخير والشر"، ضمن الفصل الأول المعنون بـ "تحكيمات الفلاسفة" (Des Préjugés des Philosophes)، يعالج نيتشه إحدى المسلّمات الراسخة في الفكر الفلسفي: الاعتقاد بعلية فعالة تُفترض كمبدأ تفسيري شامل للوجود. يشير نيتشه إلى أن هذه الفرضيات، التي تُوضع في خانة المقبول، تُنسى كيفية تشكّلها ويُغفل أصلها.
يتجلّى في هذا المقطع منهج نيتشه الذي، وإن بدا تفكيكيًا في الظاهر، إلا أنه يحمل طابعًا إيجابيًّا وبنّاءً في العمق. فهو لا يكتفي بنقد الأطروحات السائدة عبر تبنّي نقيضها – كما هو شأن بعض أنواع الدوغمائية – بل يعيد صياغة الأسس التي قامت عليها، من خلال طرح فرضيات جديدة قابلة للدحض، وهي السمة التي تميّز المنهج الافتراضي الذي يعتمده نيتشه.
يقدّم نيتشه في هذا المقطع أربع فرضيات متتابعة، تستكشف مجالات نظرية متباينة لكنها مترابطة، مما يشكّل ملامح منهج نظري موحد.
الفرضية الأولى: تهدف إلى التشكيك والتساؤل حول الثنائية التقليدية بين النفس والجسد "Dualisme de l’âme et du corps"، التي تُعتبر فيها النفس سابقة على الجسد وأعلى منها قدراً بوصفها "الأكثر وضوحاً ومعرفة" "mieux connue"، كما صاغها ديكارت[1].
الفرضية الثانية: تهدف إلى تقييم فكرة وحدة السببية "causality"، حيث يسود الاعتقاد أن فكرة العلاقة بين سبب ونتيجة واحدة لا تتغير بغض النظر عن المجال الذي تُطبق فيه.
الفرضية الثالثة: تُعيد طرح مفهوم الإرادة "Volonté" بشكل عام، و"إرادة القوة" "la volonté de puissance" بشكل خاص، وتعطي تفسير أوسع للإرادة الذي يمتد ليشمل أكثر من مجرد العلاقات السببية.
وأخيرًا، الفرضية الأخيرة: التي تمثل نهاية التقدم الجدلي والتكامل بين المجالات التي تطرقت إليها الفرضيات السابقة – تهدف إلى طرح وتقييم مفهوم إرادة القوة والتحقق من نوع الفهم الذي يتيحه هذا المفهوم.
هذه هي الفرضيات الأربع المتعاقبة والمتزامنة التي يقدمها نيتشه تشكل هذه الرؤية المنهجية التي أدعي بها والتي تدمج ما بين التفكيك والبناء.
الفرضية الأولى هي الافتراض الذي يحمل طابعًا مثيرًا للجدل، فهو يعيد تعريف الطبيعة البشرية وفق ما يسميه ("المعطى بوصفه واقعاً" "donné")[2]، فالحقائق الأولى التي ندركها تكون حقائق من عالمنا الداخلي عالم الرغبات والشهوات الداخلية لكل واحد منا، ("عالم الأطماع والأهواء الخاصة بنا" "monde de nos désirs et de nos passions")، هنا ينبغي التركيز على فكرة الاستقلالية الداخلية للعواطف والأحاسيس، هذه الفرضية تدعو إلى أننا لا نحتاج إلى مفاهيم خارجية أو عقليات فكرية لفهم أنفسنا، بل فهم النفس يبدأ من عالمنا الداخلي.
إذا كان مجموع عواطفنا، أو بعبارة أوسع، عواطف كل ما يتعلق بالكائنات الحية، يشكل عالمًا، فهذا لأن هذا العالم مكتفٍ ذاتيًّا، لا يخضع لأي عالم آخر، مثل عالم الأفكار أو الفكر، الذي قد يُفترض أنه يعتمد عليه؛ بتقديم العواطف أو المشاعر كأول معطى معرفي (أي البداية الأساسية للوعي)، ما يعني أن هذه المشاعر لها أسبقية على التصورات الفكرية أو العقلية التقليدية.
وبالتحديد، فإن الطابع الجدلي لهذه الرؤية للعواطف بوصفها الحقيقة الأولى، يكمن في التخلي عن التسلسل الهرمي بين النفس والجسد الذي حافظ عليه التقليد الفلسفي الغربي منذ العصور الوسطى وحتى العصر الحديث، حيث دائما ما يتم وضع خطوط فاصلة بين الروح والعقل من جهة، والجسد والمادة من جهة أخرى، ويمكننا بسهولة الإشارة إلى ديكارت الذي أسس لفكرة الثنائية بين العقل والجسد (الفكر والمادة)، حيث عدّ العقل أو الروح مستقلًّا عن الجسد المادي، والذي يمكن اعتباره تجسيدًا مثاليًا لهذه المفارقة.
لكن، من ناحية أخرى، فإن نيتشه لا يكتفي بوضع حد لهذه الهرمية التقليدية بين الجسد والروح، بل يقدم فرضية علاقة عكسية تُعدّ فيها الغرائز المنظمة في شبكة داخلية، هي المكونة للفكر ذاته؛ أي إن الدوافع والغرائز هي التي تشكل الفكر نفسه، ("والتفكير ليس سوى تصرف هذه الغرائز بعضها إزاء بعض" "car penser n'est qu'une relation de ces instincts entre eux")، بالتالي فالفكر لا يُنظر إليه كـ كائن مستقل عن مشاعرنا أو رغباتنا كذلك العقل ليس كيانًا منفصلًا عن الجسد والعواطف، بل هم نتيجة لتفاعل هذه الدوافع والقوى الداخلية الأخرى، مثل الرغبات والشهوات.
ولفهم مغزى هذا التحول الجذري في عكس الثنائية العقل والجسد من خلال منهج نيتشه بشكل أفضل، ولإدراك أنه لا يتعلق الأمر فقط بأن نيتشه يأخذ موقفا معاكساً من التقليد الفلسفي الغربي بشكل دوغمائي، قد يكون من المفيد أيضًا ملاحظة أن هذا المقطع 36 قابل للفهم من خلال المعايير التي تم تحديدها في المقطع 16، حيث أظهر نيتشه أن الموقف الديكارتي[3] حول الذات باعتبار ("الأنا جوهر" "res cogitans")، لا يعدو كونه تجسيدًا لقواعد اللغة العادية التي تجعلنا نرى ارتباط جوهر فاعل يسبق أي فعل ويبرره، حيث تجعلنا اللغة نعتقد بوجود فاعل مستقل (الـ"أنا") يسبق الفعل.، فتركيب الجملة في اللغة (فاعل + فعل = "أنا أفكر") يجعلنا نعتقد بوجود "فاعل" جوهر مستقل للـ"أنا" يسبق الفعل ويبرره، هذا التجسيد اللغوي هو مجرد افتراض لغوي يُعامل وكأنه حقيقة ميتافيزيقية.
الرابط بين الفاعل والفعل في عبارة «أنا أفكر je pense» جعلتنا نعتقد بوجود انفصال بين الفعل والفاعل، وأيضا في وجود مادة ذاتية مستقلة لم نتمكن من التحقق من وجودها، وهي "الأنا"، بالتالي هذه الثنائية لا تعدو كونها فرضية تدعي أنها حقيقة مثبتة موضوعيًا.
نستنتج إذن أن نيتشه يفكك هذه الثنائية لكي يخرج بفكرة «الفعل هو كل شيء l'agir est tout»، وبالتالي بما أن «الجوهر المفكرة Res cogitans» في جوهره مجرد فرضية، بالتالي وحسب أسلوب نيتشه الذي وضحت سلفا، ينبغي صياغة الفرضية المقابلة التي تقول إن «حقيقة La vérité» ما أنا عليه يجب أن تُفهم من خلال «الجوهر الممتد Res extensa»؛ أي الجسد؛ فالإنسان هو كيان موحد، حيث يلعب الجسد دورًا أساسيًّا ليس فقط كوسيط في الحياة المادية، بل كمصدر للإرادة، المشاعر، وحتى الفكر، فالجسد ليس مجرد آلة خاضعة للعقل كما يرى ديكارت، بل هو ميدان ديناميكي يحتوي إرادة القوة (Wille zur Macht) التي تعد جوهر الحياة في فلسفة نيتشه.
كما سيقول زرادشت، وهو يعبر عن شخصية الطفل[4] «لكنني جسد أيضًا Mais je suis corps aussi».[5]
إذن، أصبح من المشرع طرح سؤال ما هو الجسد؟
في نص «محتقرو الجسد Des Contempteurs du Corps»، في كتاب "هكذا تكلم زرادشت"، يقدم نيتشه مفهوماً حول الجسد، ويقول: "الجسد هو نظام عظيم للعقل، تعددية ذات معنى واحد، حرب وسلام، قطيع وراعٍ." "Le corps est un grand système de raison, une multiplicité avec un seul sens, une guerre et une paix, un troupeau et un berger."
بالتالي فالجسد هو («نظام système» أو «عالم un monde») من العواطف والغرائز التي يتم ترتيبها فيما بينها ليس بطريقة متعالية بوصفها خاضعة لـ«روح âme» تحكمها، بل بطريقة عرضية وفقًا للعلاقات المتبادلة بينها؛ فنيتشه بهذه الفكرة يرفض اعتبار الجسد كشيء سلبي أو خاضع بالكامل لسلطة العقل أو الروح، بل إن الجسد يتكون من مجموعة متنوعة من «الأحاسيس والدوافع affects et pulsions» التي تتفاعل وتتشكل ضمن نظام ديناميكي، هذه الدوافع إذن ليست مجرد أحاسيس عشوائية، بل تمتلك نظامًا داخليًّا ينظمها من خلال علاقاتها الذاتية، دون الحاجة إلى سلطة خارجية أو روح متعالية.
فالفلسفة التقليدية، خاصة تلك المتأثرة بالديانة المسيحية وأفلاطون من جهة، وديكارت من جهة أخرى، ترى أن الروح هي العنصر الحاكم الذي ينظم الجسد ويوجهه نحو الفضيلة أو الحقيقة، بالتالي نيتشه يقف موقف المعارض لهذا النموذج، معتبرًا أن الجسد هو الذي ينظم نفسه من خلال تفاعلاته الداخلية، هذه التفاعلات ليست فوضوية بل تخضع لترتيب داخلي ينبع من طبيعته.
ومن هنا، فإن الحديث عن الغرائز والعواطف كـ "معطيات أولية" يعني أن نيتشه قد قام بـ «قلب النموذج الفكري renversement de paradigme» الذي كان سائداً، واختيار "نموذج الجسد"؛ بدلاً من البدء بالروح أو الفكر كمبدأ أولي، أصبح الأمر مع نيتشه ينطلق من الجسد، معتبرًا أن الأحاسيس والدوافع هي المعطيات الأولية لفهم الإنسان،
هذا النموذج الجديد الذي يتحدث عنه نيتشه، قد يكون في النهاية الأمر، إن لم يكن أفضل نموذج، على الأقل فهو معروف، ليس كما يُزعم عن الروح؛ فالجسد هو على الأقل بنفس الأهمية وربما أكثر معرفة وفهمًا من الروح المزعومة، فالجسد في فلسفة نيتشه ليس مجرد "آلة" بل هو حامل للحياة، مصدر للرغبة والقوة، وأساس كل أشكال التعبير الإنساني.
إذن فنيتشه من خلال «نموذجه تفسيري جديد Nouveau Paradigme explicatif»، يسمح لنا بمعرفة نظام من الحقائق بشكل أفضل، ولكن نيتشه في المقطع 36، سوف يوسع هذا البراديغم ليشمل «العالم الميكانيكي (أو المادي) l'univers nommé mécanique (ou matériel)»، بناء على مقارنة مع العالم العضوي عالم الكائنات الحية؛ ذلك أن العالم المادي، في بعض الأحيان، يشبه العالم العضوي، وربما يمكننا العثور فيه على نفس الأنماط الغريزية التي تعمل في الكائنات الحية؛ أي إن العالم المادي قد يحتوي على "أنماط دفعية" شبيهة بتلك التي نراها في الكائنات الحية، ما يعني أن المادة ليست مجرد جماد بل تحمل في طياتها ديناميكيات داخلية.
إذن، لماذا لا نعكس التسلسل الهرمي بين المادة والروح الذي ينظم العالم المادي، كما تم عكس التسلسل الهرمي بين الروح والجسد في العالم العضوي؟؛ أي الاعتراف بأن المادة ليست خاضعة تمامًا للروح أو الوعي، بل تمتلك ديناميكيتاها الذاتية التي يمكن تفسيرها دون الحاجة إلى مفهوم متعالٍ.
عندما يطرح جورج بيركلي[6] «المبدأ اللامادي Immaterialism»، الذي يختزل الوجود في الإدراك، «أن تكون، هو أن تُدرك esse est percipi»، فإنه يضع الروح التي تدرك في موقف مبدع لما يتم إدراكه؛ أي لا يمكن أن توجد المادة إلا من خلال إدراكها من قبل روح واعية، وبالتالي فإنها أعلى هرميًّا من المادة المدركة؛ النموذج هنا هو نموذج الفاعل والمنفعل؛ أي إن الروح هي العنصر الفاعل (agent) الذي يمنح المادة وجودها من خلال عملية الإدراك، بينما تكون المادة مجرد عنصر منفعل (patient)، بالتالي نيتشه يرفض هذا النموذج الثنائي القائم على علاقة الفاعل والمنفعل بين الروح والمادة، بالنسبة إليه، لا توجد تراتبية بين المادة والروح؛ كلاهما يمتلك ديناميكية خاصة، يتضح كيف أن نيتشه يدعو مرة أخرى، إلى قلب هذه العلاقة التقليدية، حيث يتم منح الأولوية للمادة أو الجسد بصفته المصدر الحقيقي للحياة والفعل.
وبالمثل، عندما يعرض شوبنهاور فكرة «المايا Maya»[7] الهندوسية؛ أي الوهم الظاهري «وهم الظواهر l’illusion des phénomènes» الذي يشكل العالم وإعادة تمثيل هذا العالم من خلال الإنسان كوهم مضاعف في الروح؛ أي إن العالم الذي يظهر لنا هو نتيجة تمثيلات ذهنية للظواهر، هذا التمثل ليس فقط وهمًا في ذاته، بل هو وهم مزدوج عندما يدركه الإنسان عبر الروح، هذه الفكرة تتماشى مع رؤية شوبنهاور للعالم كـ "تمثيل" (Vorstellung) حيث تظل الظواهر مجرد مظاهر لحقيقة أعمق، وهي الإرادة (Wille)، بهذا الذي يقدمه شوبنهاور، ألا يمكن أن نرى أنه يعيد إنتاج الأنماط التقليدية في التفكير التي يفقد فيها «المادي» قيمته؟، الأمر الذي نجده في الفلسفات المثالية الغربية، حيث يتم التقليل من شأن المادة أو اعتبارها مجرد وهم أو انعكاس لحقيقة أعلى؛ فالمادة في فلسفته ليست سوى مظهر للإرادة، وهي جوهر العالم.
وبذلك يبرهن نيتشه مرة أخرى، على عدم توافقه مع فكرة -الروح التي يفهمها شوبنهاور على أنها الإرادة - ورفض فكرة أن العالم مجرد وهم أو انعكاس لإرادة ميتافيزيقية.
هذه الفرضيات إذن التي يقدمها أصحابها كـ "حقائق"، والسياقات التي سمحت لها بالظهور لا تظهر شيئًا سوى طابعها الدوغمائي، والأهم من ذلك أنها تتخلّى عن جزء غير ضئيل من الواقع. وبالتالي، تميز الفرضية النيتشوية حول الواقع الأولي للأحاسيس بطبيعتها المعلنة كفرضية، حيث إن نيتشه يؤكد فرضيته حول "الواقع الأولي للأحاسيس" (affects) بأنها ليست حقيقة نهائية، بل مجرد فرضية قابلة للتطوير، هذه الفرضية تفتح المجال لتفسير أكثر ديناميكية للوجود، حيث تكون الأحاسيس والانفعالات هي جوهر الواقع، والأكثر قدرة على تفسير «درجة الواقع degré de réalité» في العالم، الذي، بعيدًا عن أن يكون وهمًا أو مظهرًا أو تمثيلًا، هو في الواقع حقيقي مثل أي عاطفة يمكن تجربتها، ويمكن كذلك التحقق منه من خلال التجربة المباشرة للأحاسيس والانفعالات.
بل وأكثر من ذلك، يجب علينا أن نفترض أن الحياة بما هي دوافع وإرادة ليست مقتصرة فقط على الكائنات العضوية أو الحية، بل يمكن أن تكون موجودة ضمن مجال غير عضوي أيضًا وفي العناصر الطبيعية، لكن بشكل غير متبلور وظاهر، بالتالي فالافتراض سوف يقوم على فكرة أن لا يُنظر إلى الحياة على أنها ظاهرة مميزة للكائنات البيولوجية فقط، الأمر الذي يدفعنا إلى إثارة صورة الشجرة التي تتفرع تدريجيًا على غرار الحياة التي تتطور بلا وعي؛ فالشجرة تبدأ من بذرة صغيرة، ثم تنمو ببطء وتتشكل جذورها وأغصانها وفروعها تدريجيًّا، هذا النمو يعكس صورة للحياة التي لا تظهر فجأة وبشكل كامل، بل تنبثق وتتوسع شيئًا فشيئًا، أو بعبارة أخرى هذا النمو التدريجي للشجرة بتجلّي الحياة على مستويات مختلفة، في البداية، تكون الحياة كامنة في العالم غير العضوي (مثل العناصر الطبيعية والصخور) ثم تبدأ تدريجيًّا في التبلور والتفرع حتى تصبح واضحة في الكائنات الحية.
ومن ثم، إذا أخذنا هذه الاستعارة الحيوية على محمل الجد، فمن الضروري أن نعترف بأن الحياة نفسها تعبر عن نفسها في النظام العضوي كما في النظام اللامادي؛ فالتفرّع التدريجي للشجرة يشير إلى فكرة التعقيد المتزايد الذي يحدث مع الزمن، فالحياة أيضًا تبدأ بشكل بسيط (مثل خلية واحدة) ثم تتفرع وتتعقد في أشكال متعددة من الكائنات الحية، قد تعكس هذه الاستعارة أيضا فكرة أن الحياة ليست مجرد تمييز بين "حي" و"غير حي"، بل هي قوة كامنة في كل شيء، تتطور وتتحول باستمرار، هذه القوة الحيوية (Will to Power أو إرادة القوة) قد تكون هي "البذرة" التي تتفرع لتشمل كل مستويات الوجود.
في الواقع، إن رؤية الحياة كنوع من الأشكال الأولية في اللامادي، هي في منهج نيتشه لا تعدو كونها محاولة تجربة، بعيدًا عن أي دوغمائية تفسيرية، يسعى النهج النيتشوي ليكون تجربة أو فيرزوخ (Versuch الترجمة الألمانية لكلمة محاولة)، التي تشير إلى فكرة التجريب؛ أي لا يوجد حقائق نهائية أو أنظمة مغلقة، الحياة والفكر هما عملية مستمرة من التجارب والمحاولات.
إذن، فإن طبيعة منهج نيتشه غير النظامي، والتي عبرنا عنها بالـ فيرزوخ؛ أي تعتمد على التجريب ومواجهة العالم بدلا من فرض نظم فكرية شمولية، بالتالي يمكن عدّها نقيضًا للفكر النظامي الذي يسعى إلى التوحيد، والتبسيط، وتجذير الفروقات radicalisation des différences تحت ذريعة تحقيق السلام الفكري؛ الوصول إلى مرحلة من التوافق العقلي أو المصالحة مع التناقضات، كما هو الحال في الفلسفة الجدلية[8] عند هيغل، الذي يُعدّ أحد الأهداف النظرية لانتقادات نيتشه، حيث يرى الأخير أن الجدل الهيغلي يسعى إلى تهدئة الاختلافات والتناقضات ويجذر الفروقات باسم تحقيق المصالحة النهائية، عندما يكون الديالكتيك قد أنجز مهمته، بدلًا من الاعتراف بتعددية الوجود وتعقيداته، يحتفي نيتشه بالفروقات ويرفض محاولات مصالحتها داخل نظام موحّد.
وعكسًا لفكرة النظام، فإن الـ فيرزوخ تتوافق مع المنهج؛ أي إن فكرة Versuch (التجربة) تتعارض مع الفكر النسقي المغلق الذي يسعى إلى وضع تفسير شامل ونهائي للواقع، في المقابل لا تتعارض مع المنهج؛ أي إنها ليست تفكيراً عشوائياً، بل تخضع لأسلوب منظم يساعد على الاستكشاف والفهم؛ لأن التجريب لا يعني الاعتماد على الصدفة، بل تعني إثارة الأحداث واللقاءات الفكرية عمداً من أجل اختبار الأفكار وإنتاج المعرفة، حيث إن الأحكام السطحية والمتسرعة، هي ما يجعل الإنسان يدفع ثمن رؤيته الساذجة للعالم، يقول نيتشه: «العقل غير الواثق من نفسه بسبب نقص المنهج ينتهي به الأمر إلى دفع ثمن غالٍ؛ لأنه حكم على العالم من منطلق نعم ولا» «finit par expier durement d’avoir jugé le monde à coup de oui et de non»؛ أي إن الفكر الذي يعتمد على أحكام قطعية وثنائية مثل "نعم أو لا"، أو القبول المطلق والرفض المطلق في نمط ثنائي من الموافقة أو الرفض غير المدروس هو أمر مرفوض عند نيتشه حيث يراه تبسيطاً مفرطاً للواقع، فهو يرى أنه يجب على الفكر البشري أن يتحرر من التقسيمات الحادة وأن يسعى إلى فهم الواقع في تعقيده وتناقضاته.
إذن، فإن المنهج، بكونه ضرورة مطلوبة كشرط للفهم، وتشكل مبدأً للنظام والدقة التفسيرية القادرة على حماية الفكر من تحيزات وأخطاء الفلاسفة (وهو عنوان الجزء الأول "في تحكيمات الفلاسفة" / "Des Préjugés des Philosophes")، من بين هذه الأخطاء، إلى جانب «الثنائية Dualisme» التي ذكرناها؛ أي التفكير في الواقع وفق ثنائيات صارمة (خير/شر، عقل/جسد، روح/مادة...) هذا من جهة، من جهة أخرى يوجد أيضًا «الوثنية المنطقيةFétichisme logique » أو الاعتقاد في وجود سبب واحد للظواهر؛ أي الاعتقاد بأن المنطق وحده قادر على تفسير كل شيء، وأن لكل ظاهرة سببًا واحدًا محددًا، وهذا الأمر سوف نتطرق إليه لاحقًا.
وبالعودة إلى المنهج وانطلاقا من المقطع الخامس، يشكل المنهج الذي نحاول بناء صورة حوله أيضًا «مبدأً لـ الاقتصاد التفسيري principe d’économie explicative»؛ أي ضرورة تبنّي أبسط تفسير ممكن قبل الانتقال إلى تفسيرات أكثر تعقيدًا؛ أي قبل «قبول عدة أنواع من السببية admettre plusieurs sortes de causalité»، من الأفضل «اختبار tester» سبب واحد حتى النهاية، قبل استبدالها بأخرى، حتى لو أدى ذلك إلى بلوغ حد العبث؛ لأن ذلك يضمن استنفاد كل الاحتمالات الممكنة، زائد التأكد من أننا لم نغفل أي ملاحظة قد تكون مفيدة.
إن مبدأ الاقتصاد في التفسير هذا، بوصفه شرطًا منهجيًّا، يشكل أيضًا أساسًا لـ«أخلاقية المنهج morale de la méthode»؛ أي إن المنهج لا يعني مجرد أداة عقلية، بل يمتلك أيضًا أبعدًا أخلاقية التي يمكن فهمها أيضًا بوصفها تفرض على الباحث النزاهة والصرامة في تفسير الظواهر – لأن الهدف هو اكتشاف وفهم العالم découvrir et de comprendre le monde–، مما يلزم الباحث بتأويل نص العالم[9] بطريقة صحيحة كما يفعل فيلولوجي مدقق، يجب أن يعرف كيف يفسر ما يقرأ دون أن يشوهه، مع مراعاة عدم اختزال المجهول في المعلوم، فنيتشه لم تخف عنه نزعة العقل البشري إلى إخضاع المجهول لقوالب المعرفة السابقة، مما يؤدي إلى تفسير الظواهر الجديدة وفقًا لما هو مألوف فقط، وبالتالي قتل روح الاكتشاف، فالعالم الحقيقي هو من يترك مساحة للمجهول دون تسرع في تحويله إلى معلوم زائف؛ أي من يحترم تعقيد الظواهر بدلًا من اختزالها في مفاهيم جاهزة، كما يقول نيتشه: («كم هو سهل إرضاء علماء المعرفة!» «Qu’ils sont faciles à satisfaire les hommes de connaissance!»)، هكذا لإن أشباه رجال المعرفة يسهل إرضاؤهم؛ لأنهم يعتقدون أنهم يعرفون لمجرد أنهم استوعبوا الأفكار السائدة دون نقد أو اختبار، فالمعرفة الحقيقية، في المقابل، هي سيرورة مفتوحة ومتجددة باستمرار، تتطلب التشكيك، التجربة، وإعادة البناء الدائم.
وهكذا، فإن الـ Versuch كتجربة منهجية ستُفهم أيضًا على أنها تفسير دقيق، بل أكثر من ذلك يمكن اعتبارها شرطا أساسيا للتفسير الدقيق الذي لا يحق لنا أن نتهرب منه، إذا ما أردت أن تكون عالمًا أخلاقيًّا، أي دقيقًا، لا يمكن للعلماء التهرب من هذا التفسير الصارم إذا أرادوا أن يكونوا دقيقين في عملهم، وخصوصًا في المجال الأخلاقي (savant moral)، وهنا نجد أن الالتزام بالتفسير ليس مجرد خيار، بل هو واجب علمي وأخلاقي.
ومن المهم أن نلاحظ في هذا السياق أن النموذج الرياضي دائما ما يأتي كتصوير لمطلب الدقة والصرامة، لكن إذا ما قمنا بإعادة وضعه في سياق المقارنة، فإنه يُفهم أيضًا على نحو جدلي في علاقته بالتقليد الفلسفي؛ أي إن الصرامة المنهجية التي يرمز إليها النموذج الرياضي ليست مجرد أداة للفهم، بل تحمل بُعدًا جدليًّا ونقديًّا تجاه التقليد الفلسفي، على عكس ما يحدث عند أفلاطون، في التقليد الفلسفي الأفلاطوني، تعدّ الرياضيات أساسا ثابتا في طريق الارتقاء إلى "عالم المثل"، وهو عالم الحقيقة المطلقة المفارق للعالم الحسي، أفلاطون كان يرى أن العالم الذي نعيش فيه مجرد نسخة غير كاملة من عالم أعلى مثالي، وبالتالي فإن الفهم الحقيقي للوجود لا يتحقق إلا من خلال التجريد الرياضي والفكري الذي يقودنا إلى هذه المثل، هذا التصور انعكس في عبارته الشهيرة «من لم يكن مهندسًا فلا يدخل علينا Que nul n'entre ici s'il n'est géomètre»، والتي كانت منقوشة على باب أكاديميته، تعبيرًا عن إيمانه بأن الرياضيات ضرورية للوصول إلى الحقيقة الفلسفية العليا، لا يتعلق الأمر هنا بوضع واقع خارجي للعالم الذي يؤسسه، بل بالعكس، يتعلق الأمر بمعرفة كيفية الفحص الدقيق لهذا العالم، بدلا من افتراض عوالم ميتافيزيقية مفارقة يجب على الفلسفة أن تبقى داخل حدود العالم الواقعي، فمهمة الفيلسوف ينبغي أن تكون مثل مهمة كريستوف كولومبوس الذي لم يخترع أراضٍ جديدة، بل اكتشف أراضٍ كانت موجودة بالفعل، لكنها غير معروفة للآخرين، بنفس الطريقة. بهذا المعنى، لا يسعى الفيلسوف النيتشوي إلى ابتكار حقائق خارجية مطلقة، بل يعمل على الكشف عن جوانب خفية من العالم الذي نعيش فيه، من خلال الملاحظة الدقيقة والمنهجية.
إذن فالفيلسوف ليس شخصًا يبحث عن حقيقة ثابتة ومطلقة خارج العالم، بل هو مستكشف يحاول فهم هذا العالم بأدوات دقيقة ومنهجية؛ أي إن الفلسفة لا ينبغي أن تكون سعيًا وراء المطلقات المجردة كرحلة نحو الماورائيات، بل تحقيقًا معرفيًا داخل الواقع نفسه كمغامرة داخلية تهدف إلى كشف ما هو موجود بالفعل، ولكن بطريقة جديدة ومبتكرة، هذا ما يبرر معارضة نيتشه لنموذج الأفلاطوني وللفكر المثالي، مقترحًا بدلًا من ذلك نموذجًا أكثر تجريبيًا، يعتمد على الملاحظة الدقيقة والاستكشاف المستمر للعالم كما هو.
فإذا ما توسلنا بهذا المنهج، وفقًا للافتراض الثالث، أصبح الآن من المفروض طرح السؤال حول نوع التأثير الذي تستطيع الإرادة إحداثه.
فمن خلال استجواب مفهوم السببية انطلاقًا من المفهوم الأكثر شمولاً الذي حددناه للإرادة، يعيد نيتشه النظر في العقيدة الفلسفية التقليدية (la doxa) السائدة القائلة إن السببية موجودة بالفعل، فهو لا يميز بين المستويات المتغايرة التي تحدث فيها السببية؛ إذ يمكن مثلًا، قبول الحتمية ولكن ليس بوصفها مؤثرة على الإرادة، بل فقط على المادة، نيتشه يعارض التفريق الفلسفي التقليدي بين السببية الطبيعية (الحتمية التي تحكم المادة) والسببية النومية nouménal (التي تتعلق بالإرادة)، وهو تمييز أساسي عند كانط الذي يميز بين السببية الطبيعية والتحديد الحر للإرادة يمكن أن يوضح هذا التدرج في السببية، يرى نيتشه أن هذا التقسيم يعكس نموذجًا ثنائيًا زائفًا للواقع، لأنه يفصل بين الإرادة والمادة بشكل غير مبرر.
لكن، في مواجهة هذا الطرح الثنائي، يقدم نيتشه تصورًا أحاديًا للحرية، حيث يرى أن الإرادة، بوصفها مبدأ سببيًا، يمكن أن تكون سببًا لنفسها؛ فالإرادة ليست مجرد قوة (Kraft) مثل القوى الطبيعية التي تؤثر على الأشياء، بل يجب أن تُفهم وفقًا لنموذج القدرة (Macht)، الذي يعبر عن ديناميكية داخلية غير مرتبطة بعلة خارجية، فالإرادة لا تُحدث تأثيرًا خارجيًا، بل تشتغل على ذاتها، بمعنى أنها تخلق ذاتها وتعيد تشكيلها باستمرار.
يجب أن نفهم هذا الطرح، الذي يُقدّم لنا كأمر بديهي، انطلاقًا من رفض نيتشه للتصور المفرط الذي يضع العلة الفاعلة في مركز كل تحليل، فالإرادة ليست علة فاعلة مباشرة لآثارها؛ لأنه لو كان الأمر كذلك، لكانت تعمل تمامًا مثل القوة الفيزيائية (Kraft) وكان يمكن فهمها وفقًا لنزعة واقعية زائفة عن القوة، مما يشكل تفسيرا خاطئًا لنص العالم، الإرادة لا يُفهم منها أنها علة فاعلة مباشرة لآثارها؛ كسبب فاعل (ميكانيكي) لآثارها (الجسدية)، لكنها لا يمكن أن تخرج من نفسها لتؤثر على المادة؛ على العكس، لها تأثير فقط على نفسها وتعمل بطريقة ذاتية بالكامل. لفهم هذه الذاتية في الإرادة، سيكون علينا افتراض معنى آخر للإرادة الذي لا يعتبرها وفقًا للنموذج الميكانيكي للقوة (Kraft)، بل وفقًا للنموذج الغريزي للقوة (Macht)؛ يشير إلى طاقة داخلية تتحقق من خلال ذاتها، وليس من خلال تأثير مباشر على العالم المادي.
أما بخصوص الفرضية الرابعة والأخيرة، فهي تأخذ بعين الاعتبار «الطابع الغريزي أو الدافعي للحياة caractère pulsionnel de la vie».
الدافع (la pulsion) ليس مجرد قوة (Kraft) عمياء ومدمرة، بل هو على العكس ذلك تمامًا، فهو إرادة (Macht) تماسك ذاتي تنظم نفسها بنفسها، بما أن الحياة كما رأينا، هي تطور مستمر لأشكالها، فإن الإرادة ستكون هي القوة الحركية التي تشعل عملية تكوين الحياة. ومن ثم، يمكن فهم الإرادة على أنها ما ضمن الحياة، يتجه نحو القوة، هذا الفهم يحرر مفهوم الإرادة من الاختزال الفيزيائي، ليجعلها عملية مستمرة من التشكل الذاتي.
تظهر كلمة «إرادة القوة Wille zur Macht» بشكل واضح في طابعها العملي وليس المادي للإرادة؛ أي من خلال التوجه نحو المزيد من التماسك والتنظيم؛ فإرادة القوة عند نيتشه ليست جوهرًا ثابتًا يمكن تحديده بشكل مادي أو عقلاني، بل هي عملية تظهر في آثارها فقط؛ بمعنى أن الإرادة ليست شيئًا يمكن قياسه أو إثباته بمعزل عن التفاعلات التي تُنتجها؛ لأن الإرادة القوة ليست قوة بالمعنى المدمر؛ مثل القوة الفيزيائية أو القوة التي تُستخدم لتدمير الآخرين أو السيطرة عليهم، أو القوة كأداة مادية أو عنف يسعى إلى الإخضاع والهيمنة، بل إن إرادة القوة هي قوة تماسكية؛ تعمل على دمج القوى الداخلية (الدوافع والغرائز) في تفاعل مستمر لكي تحقق تنظيمًا داخليًّا قويًّا، هذا التنظيم لا يعني بالضرورة توافقًا تامًا أو هارمونيًا بين كل الدوافع، بل تفاعلًا وصراعًا مستمرًّا يؤدي إلى إعادة تشكيل الذات باستمرار؛ أي إن الصراع الداخلي بين الدوافع لا يبقى فوضويًّا، بل ينتج نمطًا معينًا من التنظيم داخل الفرد أو المجتمع، هذا التنظيم لا يعكس ثباتًا مطلقًا، بل هو مجرد مرحلة مؤقتة؛ لأنه يتغير باستمرار بفعل القوى المتصارعة داخله.
إذن، نفهم أن إرادة القوة بهذا المعنى هي صراع بين الغرائز والدوافع، صراع غير مكتمل ولكن ينبثق منه شكل الإنسان، كما يقول هيراقليطس: «التناقضات شرط الوجود، والتناقض هو أبُ الأشياء جميعها»، فإن الأشياء لا تُخلق إلا من خلال الصراع، لكن هذا الصراع لا يُنتج دمارًا فقط، بل يُنتج بنية جديدة أكثر توازنًا وقوة، كن بما أن هذا التنظيم ليس سوى نمط مؤقت، فهو يظل عرضة للتحول المستمر؛ لأن الدوافع تبقى فاعلة بلا انقطاع.
هنا سوف أقدم مثالا قصد تقريب معنى هذا الكلام، إذا ما فكرنا في الجسد البشري، نجد أنه مكوّن من خلايا تتجدد باستمرار، بعضها يموت وبعضها يولد، لو توقف هذا الصراع، سيموت الجسد تمامًا، وإذا ما فكرنا في النظام السياسي أو الثقافي، نجد أن المجتمعات تتغير بفعل الصراعات الفكرية والاجتماعية، لكن هذا لا يعني الفوضى، بل نشوء أنظمة جديدة أكثر انسجامًا مع الزمن.
بناءً على ذلك، فإن إرادة القوة لا يجوز إعطاؤها معان قريبة من غريزة الحفاظ على الحياة، هذه الأخيرة ليست سوى حالة خاصة من إرادة القوة؛ فـ «التكاثر» أو «التغذية» يتم تصورهما وفقًا لنموذج المحافظة على التوازن النظام «الهوميوستاتيكي Homeostatic»[10]، على العكس تماما حيث إن إرادة القوة تصف التفاعلات المتبادلة بين الغرائز والدوافع بعضها مع بعض وكيف تتفاعل فيما بينها؛ فالتوازن بينها ليس حالة ثابتة، بل يُفقد ويُستعاد باستمرار ضمن حركة لا نهائية ومتكررة، تمامًا كما يقدم لايبنيز المونادات بوصفها وحدات أولية من الوجود، لا تتفاعل بشكل مباشر مع بعضها البعض، لكنها تعبر عن بعضها البعض بطريقة تعكس ترتيبًا متناغمًا في الكون، حيث إن كل مونادة هي انعكاس للكون بأكمله، ولكن من زاوية رؤيتها الخاصة كما لا توجد مونادة مستقلة تمامًا، بل هي متشابكة مع المونادات الأخرى من خلال التعبير المتبادل.
كيف ينطبق هذا على إرادة القوة؟ الجواب يكمن في أن الدوافع لا توجد بشكل منعزل أو مستقل، بل هي تعيد تشكيل نفسها من خلال علاقتها بالدوافع الأخرى، كما أنها لا تعمل كـ "أسباب" تقود إلى "نتائج"، بل تتحدد من خلال صراعها المستمر مع غيرها، مما يؤدي إلى تشكيل أنماط جديدة من القوة.
هنا يمكن أن نلتمس نقد للفلسفة التقليدية التي تسعى إلى افتراض كيان أولي وأساسي؛ أساس وحيد وثابت لكل الأشياء (مثل فكرة الجوهر، أو الإله، أو القوانين الطبيعية الثابتة) تكون هي السبب في كل شيء، فنيتشه يرى فكرة الأساس الواحد مجرد وهم؛ لأن الواقع ليس قائمًا على أساس واحد، بل هو مجموعة من القوى المتصارعة والمتغيرة، بهذا المعنى إن إرادة القوة ليست جوهر مستقل يمكن عزله وفهمه بمعزل عن تأثيراته على العكس تماما، إرادة القوة لا تُعرف إلا من خلال آثارها، مما يجعلها افتراضًا وليس كيانًا قائمًا بحد ذاته. فما دمنا لا نستطيع التعرف على إرادة القوة إلا من خلال آثارها، فإن آثارها هي الحقائق الوحيدة التي يمكن التحقق منها، بينما تبقى هي غير قابلة للتحقق من موضعيتها، نظرًا لأنها في الواقع، لا يمكن أن تكون سوى فرضية تنهي الافتراض بوجود أساس واحد لتقديم تعددية الآثار التي تشكل بعضها البعض بالتبادل. لنأخذ مثالًا من السياسة أو المجتمع لنرى كيف يمكن أن نسقط هذا الفهم على الواقع، فعندما نتحدث عن "السلطة"، قد يبدو أنها كيان ثابت ومستقل، لكن في الحقيقة أن السلطة ليست شيئًا واحدًا موجودًا بذاته، بل هي نتيجة تفاعل قوى متعددة تتصارع فيما بينها؛ أي إن السلطة ليست "جوهرًا" يتحكم في الناس، بل هي نتاج علاقات القوة والصراع بين الفاعلين المختلفين، الأمر الذي نجده في الحكومات والأنظمة السياسية، حيث لا يمكن الحديث عن حكومة تحكم وحدها، بل هي دائمًا نتاج صراعات القوى بين الأحزاب، اللوبيات، الجيش، الشعب، الإعلام، الاقتصاد... إلخ، إذا ضعف أيّ من هذه القوى (مثلاً فقدان الحكومة دعم الجيش أو الشعب)، فإن توازن القوى يتغير وقد تنهار السلطة أو تتغير أي أن السلطة لا يمكن فهمها ككيان منفصل، بل هي موجودة فقط من خلال التأثيرات والنتائج التي تنتجها هذه القوى المتصارعة.
بالتالي السلطة السياسية لا تسبق الصراع، بل تنتج عنه، وهذا ما يتماشى مع فكرة نيتشه أن إرادة القوة لا تعمل كـ"سبب" متعالي، بل توجد فقط من خلال تأثيراتها، إذا تأملنا الثورات السياسية عبر التاريخ يمكن أن نلتمس الأمر، مثالا في الثورة الفرنسية (1789)، لم تكن هناك سلطة ثابتة تحكم فرنسا، بل كان هناك صراع بين النظام الملكي والنبلاء والطبقة الوسطى والفلاحين والمثقفين؛ أي إن سقوط الملكية لم يكن نتيجة سببًا واحدًا حتميًا، بل لأنها كانت تعبيرًا عن ميزان القوى في تلك اللحظة، هنا يمكن أن ننظر إلى الثورة نظرة أخرى تتجاوز مجرد "حدث"، إلى نظرة ترى في الثورة حركة مستمرة من صراع القوى على السلطة، بهذا المعنى يمكن القول إن كل سلطة هي مجرد "توازن مؤقت" بين قوى متصارعة؛ أي إن الحكم الاستبدادي يستمر طالما القوى المعارضة أضعف منه، والديمقراطية تستمر طالما هناك توازن بين القوى السياسية والاجتماعية، إذا تغيّر ميزان القوى، يتغير النظام السياسي؛ لأن السلطة ليست كيانًا مستقلًا بل تعبير عن القوى المتنافسة في لحظة معينة، الأمر الذي يمكن أن نراه في عالمنا اليوم، حيث إن القوى العالمية مثل الولايات المتحدة والصين وروسيا ليست قوى ثابتة، بل هي ديناميكيات متغيرة من القوة الاقتصادية والعسكرية والتكنولوجية، ومنه لا يمكن فهم السياسة العالمية عبر فكرة "دولة قوية تحكم العالم"، بل عبر الصراع المستمر بين القوى المختلفة، والذي يؤدي إلى تغير ميزان القوة بشكل مستمر. إذن، مثلما أن السلطة السياسية ليست شيئًا واحدًا ثابتًا، بل تتغير وفق توازن القوى، فإن إرادة القوة عند نيتشه ليست جوهرًا واحدًا، بل تتجلى فقط من خلال آثارها في الواقع.
يتضح إذن أنه مع إرادة القوة ما يتم طرحه، هو رفض التأسيس المتعالي لآثارها؛ أي فكرة وجود أساس متعالٍ ميتافيزيقي يمنح العالم معنى خارجيًّا، بالتالي رفض لوجود مبدأ تفسيري للعالم كما يظهر في تجليات الواقع، فلا يوجد ما يُطلق عليه «الطابع القابل للفهم caractère intelligible» العالم، أو بالأحرى (لأن استخدام علامات التنصيص يترجم لدى نيتشه إعادة قراءة جدلية للمصطلحات)[11] بمعناه التقليدي؛ أي لا يوجد نظام مفاهيمي خارجي ينظم العالم ويفسره.
بدلاً من أن يُفهم على أنه نظام خارجي أو ميتافيزيقي يضفي معنى، ينبغي أن يُنظر إلى "الطابع القابل للفهم" على أنه القدرة على استخلاص معنى من العالم استناداً إلى معطياته الحسية فقط؛ أي إنّ التفسير يأتي من الواقع كما هو، وليس من مفاهيم أو مبادئ خارجية؛ أي إن الطابع القابل للفهم يجب أن يُفهم على كونه شيئا لا يحافظ على المعارضة الثنائية بين القابل للفهم/الحسي، بل كشيء في قلب الحسي كأول وأوحد معطى، يمنح العالم قابلية للفهم، ويقدم لهذا الأخير تفسيرًا دقيقًا، ولا شيء أكثر؛ بمعنى أنه لا يعني وجود بنية أو نظام خارجي يفسر العالم، وإنما يشير إلى قدرة العالم على أن يُفهم من خلال ما يُقدم من بيانات حسية أولية، هذا يعني أن التفسير يجب أن ينطلق من الواقع كما هو، وليس من بناء نظري مفرط يتجاوز التجربة الحسية.
من خلال هذا المعنى، يمكن التأكيد على نقد آخر للثنائية التقليدية بين الفهم والحس؛ فبدلاً من أن يكون أحدهما ميدانيًّا والآخر متعاليا، يدعو نيتشه إلى رؤية شاملة يكون فيها الحسي هو المصدر الوحيد الذي يُستمد منه الفهم والتفسير، لننتهي إذن بالتأكيد إلى الطابع التفسيري لإرادة القوة؛ أي إن إرادة القوة ليست مجرد فرضية مادية أو نظرية سببية بحتة، بل تحمل في طياتها بعدًا تفسيريًا يتجاوز مجرد كونه شرح أو تفسير سطحي، بل هو إعادة بناء نص العالم ومنحه التماسك الذي فقده بفعل التفسيرات التقليدية التي اعتمدت على مبادئ ثنائية (كالخير والشر، أو الروح والمادة...إلخ) أو أحادية، حيث يُعزى كل شيء إلى سبب واحد أو مبدأ مهيمن، فلا يوجد شيء في العالم يفوق ذاته؛ فالعالم هو كما هو، وأي محاولة لإضفاء معنى خارجي عليه هي مجرد إسقاط لمفاهيم غير قابلة للتحقيق.
التفسير إذن، في هذه الحالة كما قلنا، هو استعادة الاتساق مع نص العالم الذي جرد منه بسبب «الثنائية dualisme» و«الولع بالسببية fétichisme de la cause»[12]؛ أي إعطاء السبب قيمة مطلقة، كأنه كيان مستقل بذاته، وليس مجرد جزء من عملية إدراكية وتأويلية، قد أدى إلى تجزئة أو تحريف فهمنا للعالم، عبر فرض افتراضات مسبقة حول طبيعة العلاقة السببية أو بالأحرى تؤكد عليها بشكل دوغمائي؛ هذه الأنماط الفكرية تعمل على تحديد الواقع بشكل مبسط وجاف، مما يُقلل من قدرة الإنسان على فهم تعقيدات الحياة والعالم من حوله، الدوغمائية في تتضح من خلال إغلاق الأفق الفكري؛ لأن الجواب المسبق الذي يقدمه الفكر الدوغمائي لا يُتيح فرصة اكتشاف الواقع كما هو، بل يُجبره على فهمه من خلال عدسات ضيقة، وهذا نقد للفكر الذي يقدّس العلة والسبب كما لو كانا أمرين قائمين بذاتهما، بدلًا من كونهما مفاهيم تُبنى داخل أنظمة فكرية.
أخيرًا يمكن القول إن نيتشه يضع كلًّا من الميتافيزيقيين والإمبريقيين الدوغمائيين جنباً إلى جنب وعلى حد سواء في نقده، الأمر الذي يعيد غنى العالم وعمقه من خلال تقديمه إرادة القوة كمبدأ تفسيري يجمع بين الوحدة والتعددية، ويتخلى في الوقت ذاته عن أي افتراض تأسيسي؛ فالنظرتان الميتافيزيقية والتجريبية تختزلان الواقع وتفقدانه عمقه الحقيقي، الأمر الذي نلتمسه عند نيتشه من خلال محاولة إعادة تقديم العالم كما هو، دون افتراضات مسبقة تحد من فهمه، فالعالم ليس مجرد كيان ثابت أو مجموعة من الظواهر المنفصلة، بل هو مليء بالقوى المتفاعلة والمتغيرة باستمرار، وليس مجرد سطح ظاهر كما يراه التجريبيون، ولا تحكمه قوانين ميتافيزيقية مطلقة كما يدّعي الفلاسفة التقليديون، بل هو مجال ديناميكي تتحكم فيه إرادة القوة.
إذن، فرضية نيتشه حول إرادة القوة قد تشكل مخاطرة (مخاطرة الأصالة، وبالتالي المخاطرة بعدم الفهم النظري) من خلال عدم القبض على المعنى الدقيق لها، بوصفها القوة الدافعة وراء كل الظواهر والكائنات ليست مجرد قوة مادية أو ميكانيكية، بل هي إرادة تسعى للتوسع والتأثير، تُشكِّل النسيج الأساسي للوجود عند نيتشه، بيد أن تقديم فكرة أصلية ومختلفة عن التيار السائد قد يؤدي إلى سوء الفهم من قبل الآخرين، فالفكرة الجديدة قد لا تُفهم كما ينبغي أو يُفسَّر بصورة خاطئة، هذه المخاطرة ليست مجرد خطأ، بل هي خطوة جريئة تفرض تحديًا للمفاهيم الراسخة وتفتح المجال لاستكشاف طرائق جديدة في التفكير.
على الرغم من المخاطرة التي تنطوي عليها فرضية إرادة القوة، إلا أنها تمنح نيتشه مكانة مميزة؛ فهو لا يكتفي بتكرار الأفكار التقليدية أو الانضمام إلى التيار الرئيس للفلسفة، بل يتجاوز القيود والأطر المُحددة مسبقًا، الأمر الذي يجعلني أرى في نيتشه ليس فقط "عاملًا فلسفيًا" (أي مجرد منفذ لمناهج وأفكار جاهزة)، بل أنه مبتكر ومجدد، قادر على إعادة تعريف المعاني والقيم بأسلوب شخصي مستقل.
خاتمة:
هكذا يُسدل نيتشه الستار على اليقينيات التي لطالما حكمت الفكر البشري، ليكشف لنا عن عالم لا تسيره قوانين ثابتة، بل تحكمه إرادات متصارعة ورغبات متشابكة، حيث وكما رأينا في تحليله للسببية والعلاقة بين الفكر والجسد، لا يكتفي نيتشه بنقد التصورات الفلسفية التقليدية، بل يدعونا إلى إعادة بناء فهمنا للواقع بعيدًا عن الثنائيات الزائفة التي فصلت العقل عن الغريزة، والروح عن الجسد، الأمر الذي يمكن اعتباره نداء إلى التحرر من قيود الفكر الدوغمائي، واستبداله برؤية أكثر حيوية وديناميكية، حيث لا يكون الإنسان مجرد متلقٍّ سلبي للحقيقة، بل فاعلًا في تشكيلها وإعادة تأويلها وفق إرادته. وبهذا، يصبح فكر نيتشه مرآة تعكس تعقيد الوجود، ودعوةً مستمرة للبحث والتساؤل، بدلًا من الركون إلى إجابات جاهزة لا تعكس إلا أوهام العقل المتعالي عن الحياة.
[1] اقترح الفيلسوف الفرنسي رينيه ديكارت (1596-1650) مفهوم الثنائية الجوهرية (Substance Dualism)، والذي يفصل بين العقل والجسد كجوهرين مستقلين ومتمايزين. يرى ديكارت أن العقل (أو الروح) هو جوهر غير مادي يتميز بالوعي والتفكير، بينما الجسد هو جوهر مادي يتميز بالامتداد في الفضاء.
قدم ديكارت عدة حجج لدعم فكرته عن الثنائية، من أبرزها:
حجة المعقولية (Conceivability Argument): يرى ديكارت أنه يمكنه أن يتصور وجوده ككائن مفكر دون الحاجة إلى وجود جسد مادي. هذا يعني أن العقل يمكن أن يوجد بشكل مستقل عن الجسد، مما يشير إلى تميزهما كجوهرين منفصلين.
حجة الشفافية (Transparency Argument): يعتقد ديكارت أن العقل شفاف بالنسبة لصاحبه؛ أي إن الشخص واعٍ تمامًا بكل ما يدور في عقله. في المقابل، الجسد ليس شفافًا بنفس الطريقة؛ فقد تحدث فيه عمليات لا يكون الشخص واعيًا بها. هذا الاختلاف يدعم فكرة أن العقل والجسد كيانان متميزان.
[2] "la donnée" ترجمتها الأفضل هنا هي "المعطى" كما ورد في النص العربي، والتي تعني ما يُعطى أو ما يُعدّ بداية أو أساسًا في المعرفة، فالـ "المعطى" هنا يشير إلى تلك التجربة أو الحقيقة الأولى التي تعتبر نقطة انطلاق المعرفة أو الوعي؛ تشير الفكرة إلى أن الإنسان لا يبدأ معرفته بالعالم المادي بل يبدأ من التجربة الداخلية، مثل الرغبات أو المشاعر.
[3] ديكارت يرى أن التفكير دليل على الوجود في عبارته الشهيرة "أنا أفكر إذًا أنا موجود" (Cogito, ergo sum)، هذا التفكير أدى إلى ثنائية ديكارتية تفصل بين:
Res cogitans (جوهر مفكر): العقل أو الروح, وRes extensa (جوهر ممتد): الجسد أو المادة.
[4] في كتاب هكذا تكلم زرادشت، يُمثل الطفل المرحلة النهائية من التحول الروحي الثلاثي الذي يبدأ بالجمل (الطاعة)، ثم الأسد (التمرد)، وأخيرًا الطفل (الإبداع والقبول بالحياة)، فالطفل هنا ليس مجرد مرحلة بيولوجية بل يمثل رمزية فلسفية: قول "نعم" للعالم وقبوله كما هو، بعيدًا عن القيود الأخلاقية والميتافيزيقية.
[5] فريدريش نيتشه، هكذا تكلم زرادشت كتاب للجميع ولغير أحد، ترجمة علي مصباح، ط 1، 2007، منشورات الجمل، بغداد، ص 75
راجع مقطع "عن المستهينين بالجسد" ضمن "خطب زرادشت" في الكتاب الأول.
[6] جورج باركلي (بالإنجليزية: George Berkeley) (12 مارس 1685 – 14 يناير 1753) الشهير بلقب "الأسقف باركلي" أسقف كلوين، فيلسوف أيرلندي كان إنجازه الرئيس- تطوير نظرية أطلق عليها اسم "اللامادية" (أشار إليها آخرون فيما بعد باسم المثالية الذاتية)، تنكر هذه النظرية وجود الجوهر المادي؛ إذ تؤكد بدلًا من ذلك على أن الموجودات المألوفة -مثل الطاولات والكراسي-ما هي إلا أفكار في عقول من يدركونها حسيًّا، وبالتالي فليس بإمكانها أن توجد دون أن تُدرَك. يُعرف باركلي كذلك بنقده للتجريد، وكان يتخذ ذلك مقدمةً منطقيةً هامةً في مناقشته لصالح اللامادية.
ففي 1709، نشر بركلي أول أعماله الرئيسية، مقال نحو نظرية جديدة للإبصار، وفيها ناقش حدود الابصار البشري ويقدم النظرية أن الأشياء المرئية ليست أشياء مادية، بل هي مجرد ضوء ولون، وقد غطت تلك النظرية على عمله الفلسفي الرئيس- دراسة تتعلق بمبادئ المعرفة البشرية A Treatise Concerning the Principles of Human Knowledge في 1710 التي، بعد استقبال سيء، أعاد كتابتها في شكل حوار ونشرها بعنوان ثلاثة حوارات بين هيلاس وفيلونوس Three Dialogues between Hylas and Philonous في 1713.
راجع: Richard A. Watson, Berkeley Newsletter, "Berkeley Is Pronounced Barclay", 1993–94.
[7] يشير مفهوم "مايا" في الفكر الهندوسي إلى الوهم أو الحجاب الذي يخفي الحقيقة المطلقة عن الإنسان، في فلسفة شوبنهاور، يتبنى هذا المفهوم ليعبر عن وهم الظواهر الذي يشكل العالم كما ندركه.
[8] الجدلية (Dialectique): عملية تصالح التناقضات من خلال مراحل ثلاث (أطروحة< نقيض <تركيب).
[9] وظفت كلمة "نص العالم" "Grammaire du monde" للدلالة على مفهوم "غراماطيق العالم"، كما وظفه الفلاسفة البنيويين والتفكيكيين، في الفلسفة البنيوية، يمكن اعتبار العالم بنية لغوية لها قواعدها الخاصة، تمامًا كما أن اللغة لها نحو (غراماطيق) ينظمها؛ أي إن الواقع ليس مجرد فوضى، بل تحكمه بنية خفية وقواعد داخلية، تمامًا كما تحكم اللغة قواعد النحو والصرف، وعند جاك دريدا، يمثل مفهومًا يدل على أن كل شيء نصٌ مفتوح للتفكيك، والعالم نفسه يعمل وفق "قواعد" لكن هذه القواعد غير ثابتة، بل تتغير باستمرار وفقًا للسياق والتفسير، في التفكيكية لا يوجد معنى ثابت، بل يعتمد الفهم على الاختلاف والتعدد في القراءة، مما يجعل العالم نصًا قابلًا لإعادة التأويل باستمرار.
[10] مصطلح الهوميوستاتيك (Homeostasis) مستورد من علم الأحياء ويعني التوازن الديناميكي الذي يحافظ عليه الكائن الحي للبقاء في حالة مستقرة، بمعنى أنه يشير إلى قدرة النظام (سواء كان جسد الإنسان أو أي نظام بيولوجي آخر) على تنظيم نفسه ذاتيًا ليحافظ على استقراره الداخلي، رغم التغيرات الخارجية، على سبيل المثال إذا تعرض الإنسان للبرد، فإن الجسم يستجيب برفع درجة الحرارة الداخلية للحفاظ على توازنه، أو عندما يرتفع مستوى السكر في الدم يفرز البنكرياس الأنسولين لتخفيضه، وعندما ينخفض يفرز الجسم الجلوكاجون لرفعه مجددًا.
[11] عند نيتشه، استخدام علامات التنصيص حول بعض المصطلحات ليس مجرد إشارة لغوية عادية، بل هو جزء من أسلوبه النقدي والجدلي\ن عندما يضع كلمة مثل "الطابع القابل للفهم" بين علامتي التنصيص، فهو لا يستخدمها بالمعنى التقليدي أو المتعارف عليه، بل يُعيد النظر في مفهومها بشكل نقدي، ويشكّك في دلالتها المتوارثة.
[12] الفيتيشية (Fétichisme) هي ظاهرة معقدة يمكن فهمها بطرق مختلفة حسب السياق: من علم النفس إلى الفلسفة وعلم الاجتماع، في السياق النفسي، يشير الفيتيشية الجنسية إلى انجذاب جنسي مفرط إلى أشياء غير بشرية أو جزء من الجسم بدلاً من الشخص بالكامل، يمكن أن تكون هذه الأشياء مادية، مثل الملابس الداخلية، الأحذية، أو أجزاء من الجسم مثل الأقدام. الفيتشية الجنسية تُعتبر نوعًا من الانحراف الجنسي، حيث يصبح الموضوع الفيتيشي (مثل الملابس أو الأشياء) هو مصدر الإثارة الجنسية الرئيسية للشخص.
في الفلسفة الماركسية، تُستخدم الفيتشية بشكل مجازي لتوضيح ظاهرة، حيث يُنظر إلى السلع (الأشياء المادية) على أنها تمتلك قيمة وقوة مستقلة عن العمل الاجتماعي الذي أُنتجت به، ماركس في "رأس المال" يشرح كيف أن السلعة تُعامل وكأنها تحمل في ذاتها قيمة خاصة، بينما هي في الحقيقة مجرد نتيجة لعملية الإنتاج الاجتماعي التي يشارك فيها الناس. فالفيتيشية السلعية تحدث عندما يُنظر إلى السلع كأشياء مستقلة عن البشر، بحيث تنفصل عن القيم الاجتماعية المرتبطة بها (مثل ظروف العمل وحقوق العمال).
في السياقات الدينية أو الثقافية، يشير الفيتيش إلى التماثيل أو الأشياء المقدسة التي يُعتقد أنها تمتلك قوى أو خصائص خارقة. في العديد من الثقافات، يُعتقد أن هذه الأشياء (مثل التماثيل أو الأحجار المقدسة) تحتوي على قوة روحية أو تستطيع التأثير في العالم المادي.
في الفلسفة، الفيتيشية تُستخدم كثيرًا للإشارة إلى المواقف الفكرية التي ترى الأشياء أو المفاهيم على أنها ثابتة ومستقلة، في حين أنها في الواقع تتشكل من خلال السياقات الاجتماعية والتاريخية. مثلًا، فيتيشية السبب التي تحدثنا عنها سابقًا تشير إلى منح قيمة مطلقة لمفهوم السبب، بينما في الواقع السبب هو نتاج تفكير بشري يحتاج إلى التأويل والتفسير.