عندما تصبح العدالة... انتقالية!


فئة :  مقالات

عندما تصبح العدالة... انتقالية!

عندما تصبح العدالة... انتقالية!*


ما الذي يشرع للحديث عن العدالة: الواقع أم الحلم، الموجود أم المنشود؟ وما الذي يجيز حصر المفهوم في كلمات، إذا كانت المفاهيم نفسها تتحرك أسرع من اللغة؟ وكيف نضبط مفهوما هو من الاتساع، حيث لابد من محاصرته بمجال أو سياق؟ فالعدالة تنتمي إلى مقام القيم، وهو مطلب ينشد الكلي أكسيولوجيا، أضف إلى هذا أن للعدالة وجوها: في المجتمع والسياسة والقضاء والوجود وما بعد الوجود... ومن خصائص الإنسان، أنه يتجاوز الفعل إلى تقييم الفعل، ويتجاوز البحث عن الكائن إلى البحث عما يجب أن يكون.

يذهب أفلاطون في محاوراته إلى أن العدالة هي رأس الفضائل، ويجزم أرسطو بأن العدالة هي الفضيلة التامة؛ أي مجموع الأخلاق التي تجعل المرء يتجاوز في تصرفاته الفاضلة رعاية مصالحه إلى رعاية مصالح الغير. فهذا التصرف وحده هو الذي يكفل للإنسان أن يكون عادلا. إن العدالة في التصور الأرسطي هي ذلك النور المشع الذي يتخطى الإنسان إلى غيره من بني جنسه؛ فلا يجوز أن يكون مقصورا على مصلحة فردية، ولذلك فالعدل عند أرسطو هو أعظم صفات الفعل الإلهي.

وقد تعرض المتكلمون المسلمون لقضية العدل الإلهي، ولا سيما أهل الاعتزال؛ ففي الوقت الذي اعتقد فيه الأشاعرة أن أبرز صفات الله هي أن يكون عالما قادرا مريدا يفعل ما يشاء، ألح المعتزلة في أن أولى صفات الله بالاعتبار هي العدل، بل هي صفة مقدمة عندهم على التوحيد؛ لأن موضوع التوحيد مقصور في النظر إليه على الذات العلية. أما العدل، فصفة مجال تصورها هو المخلوق؛ أي عدالة الله في الكون وما برأ من الخلق.

خلاصة التفكير الفلسفي والنظري للعدالة أنها قيمة ذات تمثّلين:

-التمثل الأول هو العدالة بوصفها قيمة مطلقة؛ أي هي الصفة التي تؤسس المطابقة مع الحق وتبني التجسيد له. وإذا اعتبرنا الحق قيمة أخلاقية، مؤسسا لها عقليا، صار بإمكاننا اعتبار العدالة ذات طبيعة عقلانية كما تصورها أفلاطون في الجمهورية لما ذهب إلى اعتبارها فضيلة شاملة أسها المواءمة بين قوى النفس وقوى المجتمع؛ حيث يكون العدل هو أن يقوم كل فرد بالوظيفة التي أنيطت إلى عهدته، والتي وجد من أجلها بغية كمال المدينة.

-التمثل الثاني هو العدالة بوصفها قيمة نسبية مرتهنة بالواقع والتاريخ، بالآن والهنا؛ أي مرتبطة بمرجعية ثقافية وأنظمة قانونية من أجل تحقيق مبدأي المساواة والإنصاف. فإذا كانت المساواة اليوم مطلبا طبيعيا من عوارض البداهة، فإنها بالأمس لم تكن كذلك حين كان صاحب الدار مقدما على الغريب، والمؤمن أولى من الكافر، والرجل أحق بالاعتبار من المرأة، والحر قبل العبد.... وإذا كانت المساواة في الحقوق والحريات والفرص وأمام القضاء تغري بتبني هذه القيمة على أساس أنها مطلب شمولي كوني، فإن كثيرا من الفلاسفة أعلنوا إفلاسها في مجال المنافسة الاقتصادية والتملك؛ لأنها أدت إلى هبوط مادي وتنافسي اقتصادي مريع، ونشرت روح التواكل والخذلان. يقول إيريك فايل: "إن العدالة دون مصلحة وهم"[1]. فهل نلوذ بخيار جون راولس الذي تمثل العدالة كإنصاف واشترط لها شرطين؛ الأول هو المساواة في الحقوق والواجبات والحريات؛ والثاني هو اللا مساواة في الثروة والسلطة؟ هل نؤكد ما سبق لأرسطو أن بينه في كتابه عن الأخلاق النوقوماخية من أن "العدالة مساواة فقط بين المتكافئين واللا مساواة عدالة بين اللا متكافئين"؟[2]

الأمر المؤكد في حاصل نظرنا، أن العدالة موضوع إشكالي، بل مفهوم ملتبس ومترجرج لا بين اعتبارها من جنس الحق الطبيعي من جهة، واعتبارها من جنس الحق الوضعي من جهة أخرى فحسب، وإنما أيضا من جراء تلون مدلولها بين مختلف التشريعات والقوانين. فإذا كان القانون تمليه أوليغارشية غاشمة أو كان موضوعا بين يدي طبقة مستبدة، فإن العدالة تتلاشى وتخبو جذوتها، وهذا يعني أن العدالة تستمد كنهها من طبيعتها الإلزامية المفروضة عبر منظومة قانونية شرعية، تضمن الحقوق في نطاق الوجود الاجتماعي على أساس أنها قيمة إنسانية وحق مشروع للحياة الحرة التي أسس لها العقل لا القوة وقبل بها الجميع منظومة تحقق المساواة والإنصاف، وتضمن الاستقرار والاستمرار. وهذا الإطار السياسي – القانوني هو الذي تضمنه الديموقراطية كنظام اجتماعي وسياسي يأمل من خلاله الناس في الوجود والعيش المشترك في كنف الاحترام والحرية.

لكن الديمقراطية لم تكن هي النظام الذي يعم معظم أرجاء المعمورة ولا كانت المنظومات القانونية والحقوقية منظومات ذات أولوية في كثير من دول العالم؛ لقد عرف التاريخ أكثر ما عرف الأنظمة الامبراطورية والأنظمة الملكية، وهي في معظمها أنظمة سياسية استبدادية فردية، سواء أضفت على نفسها مبدأ التفويض الإلهي أو مارست القهر عنوة أو اتخذت تبريرا آخر. ولم تصبح الديموقراطية مطلبا فعليا في مستوى القواعد كما في مستوى هرم السلطة السياسية، إلا مع انهيار الديكتاتوريات في العصر الحديث وبداية انتقال الكثير من البلدان والأمم إلى مسارات التحول الديموقراطي؛ فكان ذلك مدعاة للخوض في قضية العدالة الانتقالية.

هي إذن، قضية حديثة ارتبطت بالبلدان والأمم التي تتطلع إلى القطع مع ماضيها الاستبدادي من أجل إعادة البناء السليم والمهيكل في ضوء المسار الحقوقي والديموقراطي، وهذا يعني أن مفهوم العدالة الانتقالية لم يتبلور إلا بعد الحرب العالمية الثانية، ولا سيما منذ بدأت المحاكمات المتصلة بحقوق الانسان في أمريكا اللاتينية ثم في أوربا الشرقية، وعبر إنشاء لجنة الحقيقة والمصالحة في جمهورية جنوب إفريقيا التي كان هدفها الرئيس فضح جرائم الميز العنصري. وبعد تجربة رواندا ويوغسلافيا، تشكلت منظومة من المعايير القانونية لتحقيق العدالة التي تساعدها على المضي قدما نحو البناء الديموقراطي، فضلا عن التجربة المغربية الرائدة في هذا المجال. وهكذا اتخذت العدالة صفة "الانتقالية" لوسم المرحلة الزمنية لا لوصف العدالة بما هي قيمة إنسانية كونية. وباتت هذه العدالة الانتقالية اليوم مطلبا لهذه الأصقاع التي هبت عليها رياح الربيع العربي، وسقطت فيها ديكتاتوريات من أعتى ما عرف التاريخ الحديث ظلما وقمعا وانتهاكا لحقوق الانسان.

كانت صنوف القمع والاستعباد والاقصاء التي مورست على الإنسان بآلة البطش البوليسي والتضييق السري إبان تلك الديكتاتوريات تتجاوز العذاب المادي بواسطة الحبس الانفرادي والتنكيل بحرمة الجسد، وتتجاوز التعدي على حقوق الإنسان بحرمان من اعتبر مذنبا من أبسط حقوقه المدنية، وهي المحاكمات العادلة والترافع للدفاع عن النفس؛ فقد كان السجن آليا والنفي جبريا والحصار علنيا وسريا، كانت صنوف التعذيب وضروبه تتجاوز ذلك إلى المراهنة على منع القوت وتسليط سياط البطالة القسرية أنى يممت، وتوسيع دائرة التنكيل والتسلط والابتلاء لتشمل الأهل والصحب الأقرب فالأقرب.

كانت العدالة الانتقالية إذن، مجموعة من الخطوات الإجرائية والآليات التي تتبعها دول خرجت لتوها من ذلك العسف والاستبداد من أجل مواجهة إرث ثقيل من الجرائم والانتهاكات الاخلاقية والحقوقية، حتى نحاسب من ظَلم ونرد الاعتبار لمن ظُلم، ونمنع عودة أشباح الجور والقهر والظلم.

إن الديموقراطية لا يمكن لها أن تترسخ وتشد أزرها – في سياق ما تبلور من تصور عن العدالة الانتقالية – إلا بعد تصالح البلد المكلوم مع نفسه وآلامه، وبناء المستقبل لا يطيب لأحد، ما لم ينقشع ضباب الفظائع السالفة، ويكون ذلك عبر مسار قضائي وغير قضائي وبواسطة مراحل أهمها:

-المحاكمات (التحقيق في جرائم حقوق الانسان ومحاسبة المتورطين...).

-البحث عن الحقيقة والتقصي الدقيق لما حصل من انتهاكات بشرية ومالية وأخلاقية وفكرية ونفسية...

-التعويض وإعادة الاعتبار للضحايا.

-اتخاذ التدابير والإجراءات الكفيلة بعدم تكرار سيناريوهات الماضي، واتخاذ الوسائل اللازمة لإصلاح المؤسسات.

-تكريم الشهداء والضحايا وتخليد ذكراهم.

لكن دون تحقيق هذا المطمح عراقيل وملمات، لابد من الوقوف عندها حتى لا تصبح العدالة الانتقالية مجرد شعار سياسي يرفع مع الحملات الانتخابية، ويعود الى الحياة مع كل طلب للمعونات الدولية.

إذن، ماذا يقتضي تفعيل العدالة الانتقالية؟ من أجل أن تصبح العدالة الانتقالية مسألة راهنية مفعلة، لا بد في رأينا من أن نوفر أطرا وأسسا تضمن هذا التحقيق والتفعيل، حتى لا يصبح الشأن كمن يخرج للرماية ولم يملأ الكنائن. وأول الشروط التي من شأنها أن تفعل العدالة الانتقالية وتربط بين حلقتي البطان في موضوع التحول الديموقراطي، هو وجود نظام اجتماعي سياسي مستقر من جهة شعور الفرد بقوة الدولة، وشعور السلطة الحاكمة بخضوع الفرد. وعلاقة الحكم بالطاعة هذه لا تنجح إلا حين تستطيع الدولة تلبية حاجات المواطن، ولا سيما الحياتية منها كالعمل وتحسين القدرة الشرائية وحرية التعبير وتوفر الخدمات الصحية... حينها يمتثل الفرد للهيئة الحاكمة ويقوم بما عليه من واجبات في الأداءات والانتخابات واحترام النظام العام. وفي مجتمعات، مثل تونس ومصر لا تبدو الأوضاع مهتزة والعلاقة بين الحاكم والمحكوم مشوبة بالشك وانعدام الثقة فحسب، وإنما هي إلى ذلك ممزقة بفعل عودة النعرات القبلية والجهوية التي لم تغب في التاريخ العربي القديم والحديث خاصة "وأن أغلبية الأحداث السياسية والعسكرية والدينية التي تطبع الصراعات في بلدان الجنوب تحركها نوازع "ما تحت وطنية" كالقبلية والإثنية والطائفية. هذه المحددات التي كثيرا ما تكون متداخلة أو متعاقبة، تمثل القاسم المشترك لأغلب هذه المجتمعات"[3] فضلا عن هشاشة تجارب البناء الوطني والتحريكات الخارجية التي تزيد من تعميق بؤر التوتر.

ومتى انعمنا النظر أكثر لاحظنا دون شك صعود تشكيلات دينية متصلبة هي إلى الانغلاق الفكري أقرب منها الى روح الايمان وسماحة الدين. والأنكى من ذلك أن هذه الحركات لا تدخل في مواجهة مع السلطة الحاكمة بقدر ما تدخل في صراعات مستترة مع المواطن العادي؛ أي مع الخيار التاريخي للفرد التونسي أو المصري ثقافيا ودينيا واجتماعيا، ذلك المواطن المعتدل الذي ورث إسلامه بعفوية وسلاسة وفهمه وتمثله تاريخيا بلا زرع قسري لمنظومات فكرية بدوية لا علاقة لها بمنطقة المتوسط وتاريخه المفتوح حضاريا. أما تلك الحركات الدينية – السياسية، فغايتها مرتهنة باستلام السلطة أو باخضاع من يمتلكها لتنفيذ مشروعها الماضوي، وهو تطبيق الشريعة. وتتناسى هذه الحركات أو لعلها تنسى أن هدفها هذا لم يكن يوما وليد الضمير الإسلامي الجمعي، لأن إسلام المجتمع كان على الدوام معطى موضوعيا وأمرا تاريخيا وحقيقة تتحرك واقعيا، وليس وجهة نظر مسقطة أو تفرض قسر إرادة الإنسان.

والشرط الثاني لنجاح هذه العدالة والتمكين لها في أرض الواقع هو توفر نظام قضائي صلب ومحل ثقة؛ على أن النظام القضائي الموروث عندنا قد لاثته يد النظام السابق بلوثة الارتشاء، حتى بات الفرد عاجزا عن تصديق أي قاض ولو أقسم في محراب الأنبياء. والأنظمة السياسية التي تحكمنا في هذه الفترة الانتقالية بعد الثورات العربية الأخيرة، لم تستطع أن تقاوم التيار السابق لأنها بحكم العدوى صارت جزءا منه، وكأن المعارضة التي يطول أجلها في مربع المعارضة لابد أن تصيب شيئا من أخلاق النظام الذي طالما حاربته، بل تجد نفسها بعد وجيز أمد جزءا من آليات متناغمة للبيروقراطية والحسابات الحزبية وتلبية استحقاق الولاءات وتصفية الحسابات، وتغرق في غمرة انتصار الأغلبية لينتهي المواطن إلى محاربة ما سماه جون ستيوارت ميل استبداد الأغلبية. يقول الفيلسوف الانجليزي: "... في إطار التأملات السياسية نضيف الآن استبداد الأغلبية إلى عدد الشرور التي يجب أن نحمي منها المجتمع. وشأن استبداد الأغلبية شأن غيره من أنواع الاستبداد أنه يوحي منذ البدء بالرعب ولا يزال عموما كذلك، لأنه يتراءى قبل كل شيء من خلال أعمال السلط العمومية"[4]. والتنظيمات السياسية الحاكمة الموجودة في مصر وتونس الآن- وهي تنظيمات ذات مرجعية دينية- ترفع باستمرار شعار الأغلبية على أساس أنه مبدأ ديموقراطي، وهو إنما يخفي لونا من ألوان العسف والاستبداد الذي حدثنا عنه جون ستيوارت ميل.

ولا بد من إصلاح القضاء حتى نضمن حرمته، ونجعل أحكامه مسلكا إلى تحقيق المساواة والإنصاف وضمان الحقوق بعيدا عن الإكراهات المادية والنفسية، لأن استقلال القضاء قيمة أولية في العمل الديموقراطي وضمان حقيقة دستوريتة، وهي القيمة التي تساعد على الاستقرار والتماسك الاجتماعي والأخلاقي، فضلا عن القيم الكلية السامية. فإذا انفلت القضاء من استبداد الفرد ووقع في براثن استبداد الأغلبية كان أمره كمن يستجير من الرمضاء بالنار.

إذن، لا بد من تقوية القضاء كمؤسسة دستورية والعمل على تحييد النيابة العمومية عن وزارة العدل، وتحييد وزارة العدل عن أي مجلس أعلى للقضاء ينتخب ليكون ضامنا لاستقلال المهنة، بل لا بد من تكوين إطار جديد للقضاء لا يكون متشبعا بفصول القوانين فحسب، وإنما إلى ذلك متشربا لروح القوانين، بل ولا مفر من جعل هذا الإطار ممتلئا بثقافة حقوق الإنسان؛ فلعل ذلك يكون ردءا من كل تورط أو انسياق.

أما الشراع الثالث من أشرعة الانتهاء بالعدالة الانتقالية إلى مرافئ التحقيق، فهو توفر العدد والعدة والعتاد المادي واللوجستيكي من جهة، وتوفر الرصيد البشري المختص من جهة ثانية. ورغم أن هذا الأمر يبدو قابلا للتحقق نظريا، فإنه في المستوى العملي لا يبدو صحيحا؛ فتونس ومصر – على الأقل في هذه الظروف وهذه الأوقات – لا يملكان جهازا بشريا وإداريا قادرا على القيام بمسار العدالة الانتقالية، ولا غنى لهما عن الاسترفاد بما تقدمه كتلة الاتحاد الاوروبي مع ما في ذلك من استنزاف سياسي وسيادي للبلدين يعرفه الضعفاء والأقوياء على حد سواء في مجال اللعبة السياسية.

إذن، نحن في الواقع أبعد ما نكون عن تحقيق العدالة الانتقالية رغم تأكيد معظم المثقفين على أهمية أن تنجز هذه العدالة. فإذا كان لابد لها أن تنجز، فإن الأمر يجب أن يخلو في نظري من تصفية الحسابات. لا بد أن يكون ذلك في إطار تصور آخر للتحول الديموقراطي، ولابد أولا من استفتاء الشعب لمعرفة رأيه في آلية العدالة الانتقالية وطرائق تحققها، ثم النظر في مدى موافقتها لروح الدساتير الوطنية التي لم ينجز بعضها بعد.

إنني على يقين أن من أهم طرائق تضميد الجراحات القديمة هي تنمية ثقافة الحوار وتطوير سلوك التفاعل الإيجابي بين المواطنين، تعميقا لقيم حقوق الإنسان ونشرا لروح المواطنة.

كنت قد دعوت سابقا إلى تعويض مفهوم التسامح الذي يفترض المن بمفهوم السماحة الذي من معانيه الحلم والنسيان،[5] رغم أن معظم الحقوقيين يرفضون صيغة السماحة هذه، لأنهم لا يؤمنون الا بالمحاسبة مع يقينهم. إن مفهوم المحاسبة لا يخفي ضمنا غير مفهوم الانتقام، ولا تستطيع مجتمعات – في رأيي – أن تكفكف دمعها وتضمد جراحها بالتشفي والانتقام. قد يرى البعض أن فكرة طي الصفحة ليست إلا مناورات من الأنظمة السابقة حتى تغطي جرائمها. قد يكون ذلك صحيحا ولكن فكرة المحاسبة هي أيضا من المناورات وإن كانت من الأنظمة الحالية التي تريد أن تغطي حقيقة انتقاماتها.

إننا بالبحث عن المحاكمات والمحاسبات، نخشى أن ننسى العدالة بما هي قيمة أخلاقية إنسانية كونية، وبما هي جزء من مطلب الكلي، ولا نستبقي غير تابعها من الوصف، وهو "الانتقالية". ونخشى أكثر أن تتحول العدالة الانتقالية إلى عدالة انتقائية أو انتقامية. فمن يتكفل بتحقيق هذه العدالة؟ من يضمن حياد القائمين عليها؟ وهل الحياد حقيقة ممكنة أم أن الإيديولوجيا قدر الإنسان حتى حين لا يريد ذلك؟

إن موضوع القيم ليس فقط هو ما نتطلع إليه ليتحقق، بل هو في تجاوز ما تحقق أيضا. يقول بول ريكور: "أن تكون إنسانا ليس معناه أن تعمل عملا محددا فحسب، وإنما أيضا أن تدرك الموضوع وتجنح إلى أفق كلي للوجود الإنساني"، وأساس هذا الكلي الإنساني هو الحرية، الحرية المسؤولة التي تصبح مبدأ إيطيقيا وأسا أنطولوجيا لكينونة الإنسان. "يشعر الشخص أنه حر أخلاقيا عندما يشعر بأن عاداته ونزواته لا تتحكم فيه، وإنما هو الذي يتحكم بها... وأنه إذا رغب في كبح جماح نزواته لا يلزمه من أجل ذلك قوة رغبة أكبر مما يعرف أنه قادر عليها"[6]. لذلك فلا بد أن نترك للمواطن حريته ونحمله مسؤوليته بعيدا عن جر الأهواء ودفع الرغائب، وإنما عبر الإحساس بالسلوك المدني وروح المواطنة، واستلهام القيم الدينية السمحة ونبذ الحس الانتقامي، وجعل الواقع والتاريخ كفيلين بتحقيق العدالة.

إننا نريد للعدالة أن تظل قيمة عليا وخلقا مثاليا يسير في ظل الحِلم والسماحة لا في ركاب التشفي والقصاص، وهل أرفع خلقا من العفو عند المقدرة؟ فلولا الظلم ما فقهنا للعدل معنى، ولولا الحلم ما بات للندم مرارة.


*- مجلة يتفكرون، العدد 2، منشورات مؤسسة مؤمنون بلا حدود للدراسات والأبحاث، خريف 2013

[1]- Eric Weil, Philosophie politique, Paris, Vrin, 1956, P 183

[2]-Aristote, L’éthique à Nicomaque, Paris, Flammarion, 2004

[3]- محمد نجيب بوطالب، سوسيولوجيا القبيلة في المغرب العربي، مركز دراسات الوحدة العربية، 2002، ص- ص 160 - 161

[4]- جون ستيوارت ميل، في الحرية، ترجمة محمد الخراط، مجلة الأزمنة الحديثة، عدد 5، صيف 2012، ص8

[5]- راجع مقالنا "من يد التسامح إلى عناق السماحة" الوارد في مجلة "يتفكرون"، العدد الأول، 2013

[6]- J.S.Mill, système de logique déductive et inductive, traduction Louis Peiss, Livre 6 § 3, P15