الإعلام الثقافي وأثره في الأمن القومي
فئة : مقالات
الإعلام الثقافي وأثره في الأمن القومي
يُعَد الإعلام من الأسلحة الحيوية ذات الأثر المعنوي الذي يترتب عليه بالضرورة سلوك مادي على نحوٍ إيجابيٍّ أو سلبيٍّ، وقد كان الإعلام في العصر الجاهلي في يد الشاعر والخطيب، وكان الشِّعر في المقام الأول فوق الخطابة؛ لأنه أوجز كلمةً وأيسر حفظًا وأسرع انتشارًا، لذلك كانت القبائل تحتفي بشعرائها وتجعل لهم الصدارة في صفوفها، ولما جاء الإسلام كان للشِّعر دور كبير لدى الفريقين -المؤمنين والكافرين- بوصفه وسيلة الإعلام الأولى، وكان رسول الله -صلَّى الله عليه وسلَّم- ينتدب أقوى شعرائه ليخوضوا الحرب الإعلامية ضد شعراء المشركين، وكانت مفاضلته -صلَّى الله عليه وسلَّم- بين الشعراء قائمة على أساس علمي متين، وقد تناولتُ هذه المسألة تحديدًا في مقالةٍ سابقةٍ نُشِرت في إحدى المجلات العلمية بعنوان "ميزان النقد عند النَّبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم"، فمن أراد الاستزادة، فليرجع إليها.
وعَودًا على بدءٍ أقول: إنَّ الإعلام له أثره القوي الفعَّال، على مستوى الفرد والجماعة، ولذلك نهى رسول الله -صلَّى الله عليه وسلَّم- عن إنشاد القصائد التي قيلت في هجاء بعض الصحابة رضي الله عنهم، مع أنها قيلت في الجاهلية؛ كقصيدة الأعشى [ت: 7هـ] في هجاء علقمة بن علاثة رضي الله عنه [ت: 20هـ] ومديح عامر بن الطفيل [ت: 11هـ] في أثناء المنافرة المشهورة التي جرت بين ابنَيِ العم علقمة وعامر، ومع أن الأعشى وقع بعد ذلك في يد علقمة فاسترضاه ومدحه ونقض هجاءه السابق، ورسول الله -صلَّى الله عليه وسلَّم- يعلم ذلك، لكنه يعلم أيضًا أنَّ رواية هذا الهجاء تهيج الحزن في نفس علقمة، إضافة إلى استغلال المشركين هذا الهجاء في تشويه صورة رجلٍ مسلمٍ من أصحاب النَّبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم، ومن ذلك يتضح الإدراك النَّبوي الواعي لأهمية الإعلام وأثره في الأمن القومي.
وفي العصر الحديث تنوعت وسائل الإعلام بين مقروءة ومسموعة ومرئية، وأصبحت أسرع انتشارًا من الشِّعر، حتى أصبح الشاعر يحتاج هذه الوسائل الإعلامية ويستخدمها لنشر أشعاره، والفارق معلوم بين طبيعة هذه الوسائل الإعلامية الحديثة، وبين الشعر والخطابة في العصور القديمة، وانطلاقًا من هذا الاختلاف في الماهيَّة جاء الاختلاف في الأداء.
وقد كانت هذه الوسائل الإعلامية الحديثة تهدف في بدايتها إلى خدمة الكلمة في المقام الأول؛ كالصحف، التي كانت تستمد مكانتها من قيامها بخدمة الأدب، وسرعان ما توسعت في بداياتها الأولى، وأصبحت تقوم بمتابعة جادة لجميع مجالات الحياة، وكان القائمون بتلك المتابعات متخصصين في المجالات التي يتابعونها ولديهم علم وافر واطِّلاع واسع، ثم بدأ ذلك يتغير شيئًا فشيئًا حتى ظهرت مواقع التواصل الاجتماعي فألقت بتأثيرها السلبي في العملية الإعلامية بأنواعها الثلاثة: المقروءة والمسموعة والمرئية، فقد كشفت مواقع التواصل عن كثيرٍ من المتطفلين والمدَّعين، في جميع العلوم والمعارف الإنسانية، وفي مقدمتها الأدب بجميع فنونه؛ وصادف ذلك وجود أعداد من العاملين بالصحافة والإعلام، لا خبرة لهم ولا كفاءة تؤهلهم للقيام بمهام عملهم، إضافة إلى المجاملات وتبادل المصالح وغير ذلك من الظواهر السيئة التي تسيطر على بعض الناس في تعاملاتهم الاجتماعية والمهنيَّة؛ وقد أدى هذا الواقع الاجتماعي إلى بروز أسماء كثيرة وتصدُّرها إعلاميًّا تصدُّرًا مصحوبًا بادِّعاءاتها الانتماء إلى مجالٍ بعينِه، دون حقيقة ثابتة تؤيد ذلك الادعاء.
لقد ساهمت بعض وسائل الإعلام في انتشار وتفاقم بعض الأمراض الاجتماعية، من خلال الترويج الإعلامي لها وللعوامل المؤدية إليها، بل أصبحت بعض وسائل الإعلام تقوم بدور الدعاية لمنتجاتٍ فكرية هابطة، ويُعَدّ الإعلام المقروء المتمثل في الصحف تحديدًا هو صاحب النصيب الأكبر من الخلل الإعلامي؛ نظرًا إلى أن الكلمة المكتوبة أطول بقاء من المرئية والمسموعة، وتُعَد الصحف الرسمية في صدارة القائمة؛ حيث يُعَد العاملون بها موظفين، منهم الناجح المجتهد في عمله، ومنهم الفاشل، ومنهم من يجعل ذوقه الخاص حكَمًا فيما يتناوله إعلاميًّا، فيحاول أن يفرض رؤيته وقناعته الشخصية لتحل محل القواعد والثوابت، ومنهم من يستغل نافذته الإعلامية التي يعمل بها، فيتيح الفرصة ويفسح المجال لأصدقائه وأقاربه فينشر لهم كتاباتهم التي قد لا تنتمي إلى أي فنٍّ من فنون الأدب أو أي فرعٍ من العلوم، ومنهم من يتعمد التعتيم على النوابغ المتفوقين ولا يدرك أنه موظف من أجل خدمتهم في النافذة الرسمية التي يعمل بها، وأن هذه الصحف وغيرها من وسائل الإعلام -ولا سيَّما الرسمية- تم تأسيسها لتكون مادتها الإعلامية صورة صادقة لما يجري في المجتمع، وليس من أجل تعبئة محتوى هابط لا يعبر عن الواقع المجتمعي، ولا من أجل التعتيم على المتفوقين وتلميع الضعفاء والمتطفلين بقصدٍ أو بغير قصدٍ.
إن ما يدور في أروقة الإعلام بجميع أنواعه يساهم في تشكيل الثقافة العامة للمجتمع، فيجب أن تكون المادة الإعلامية صحيحة وقوية وصادقة في تعبيرها عن المجتمع؛ لأن أي خلل في شيء منها يتم اعتباره خللًا في المجتمع الذي تعبر عنه هذه الوسائل الإعلامية، ويتم التواصل مع المجتمعات والحضارات والثقافات الأخرى انطلاقًا من هذه الصورة التي تعبر عن المجتمع؛ سواء أكانت صورة صادقة أم مزيفة، كما يجب أن يدرك القائمون على أجهزة الإعلام أن الأقسام المتخصصة التي تتطلَّب العلم والفهم تختلف عن الأقسام العامة التي لا تتطلَّب أكثر من سرد مادة الخبر الإعلامي أو الصحفي؛ فإن الإعلامي إذا كان جاهلًا بماهيَّة المادة التي يقدمها في نافذته الإعلامية؛ فإن المعايير تختلط لديه وتلتبس عليه، ويجد نفسه مساهمًا في صنع واقعٍ مزيَّف، يقع عليه نصيب كبير مِن وزره، ويحتجُّ به العوام وبما يقدِّمه، وفي الوقت نفسه يساهم في التعتيم على أهل العلم والخبرة، وفي تضليل متلقِّي المادة الإعلامية.