في تعليم الدين وتعليبه وتداوله! "تسليع الدين" و"توثين الفهم"


فئة :  مقالات

في تعليم الدين وتعليبه وتداوله! "تسليع الدين" و"توثين الفهم"

لماذا نعلّم الدين ونتعلمه خارج حدود الممارسة التي تعدّ جانبا استعماليا للدين ووجها لفهم الدين، حيث يتحول إلى اختصاص أرثوذوكسي؟ هل في الدين أجزاء غامضةٌ عصية على الفهم؟ هل يتخذ التعليم الديني أشكالا مختلفة؟ لماذا يتمظهر التعليمُ الديني غالبا بوصفه جاها أو مكانة اجتماعية لنيل المصالح في الوقت الذي يدّعي ابتغاء مرضاة الله؟ هل يمكن للدين أن يصبح اختصاصا محايثا أو منظومة مغلقة على شاكلة النزعات العلموية؟ لا أريد الإجابة عن التساؤلات السابقة؛ ولكنني أحاول فهم حالة التيارات الدينية بوصفها مكونا طبقيا في المجتمعات له مصالحه؛ وأعتقد أنه عند اهتزاز هذه المصالح أو عند وجود نوع من الخطر؛ فإن الصراع يتحول من كونه تدافعا فكريا ونقدا علميا إلى كونه امتلاكا للمعرفة، أو الحقيقة الدينية؛ أي أنه يصبح صراعا طبقيا، وتصبح السلطة الدينية أحد أهم أوجه السلطة السياسية أو مكوناتها؛ بيد أن "التعليم الديني" بوصفه ممارسة تكريسية وأيديولوجية لا يشتغل إلا بوجود ضمانات اجتماعية لها علاقة بالوهم وفق ثنائية العالم/ المتعلم، أو العالم/ الجاهل.

ولا يمكن لنا أن نتجاوز حالة التلقين الديني للطهارة، والصلاة وغيرهما من العبادات، وإعادة إنتاجها عبر القرون المتطاولة، فهذه الظاهرة تحيل فلسفيا على ثنائية الحضور والغياب؛ والتفاعل بينهما يلغي الإنسان بوصفه طرفا في التلقي الديني بوجود النص وحثه على التدبر والتفكر، "وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ"، "أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَىٰ قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا"، كما يلغي أولية فهم الدين وبساطته بوصفه عنصرا من عناصر فلسفة الأخلاق، ولا يمكن تفسير ظاهرة استمرار "انتقال الدين" بهذا الشكل التقليدي المغرق في السذاجة والأنانية في آن معا: سذاجة الفهم- الإفهام، وأنانية الذات المتعالية- المتعالمة التي تجعل الدين مصدر ارتزاق ومصلحة إلا بالتعمق في مضامينه وأهدافه وغاياته وارتباطه بالسلطة.

تتحول الذات "المعلِّمة" في سياق تعليم الدين وتلقينه إلى ذات مقدَّسة مباركة؛ من سنخ تقديس النبوة؛ وبذات اعتبارات المثلنة النفسية خشية وقوع هذه الذات في دائرة النقد أو التهاوي المنطقي؛ وبما أن النبوة هي واسطة العقد بين الله وعباده؛ ليكون التدين مرتكزا على حرية اختيار الإيمان باستقلال التفكر أو التعقل، أو اختيار غيره؛ فإن "ذات المطوع" أو "الشيخ المعلم" أو "المفتي" للدين تمارس دور النبوة. لذلك، فإن مقتضيات التقديس والمثلنة تطرح مرتكزين لاستمرار الوظائف الدينية:

تتحول الذات "المعلِّمة" في سياق تعليم الدين وتلقينه إلى ذات مقدَّسة مباركة؛

أولهما: أن "العلماء" ويقصد بهم حصريا علماء الدين التقليديين المحافظين على بروتوكولات التعليم الديني، وبراديغماته، وليس لهذه الطبقة من شأن سوى نقل الدين نقلا هُويانيا متميزا عن الآخر في دوائر المذاهب الإسلامية؛ فهم بذلك "ورثةُ الأنبياء"؛ مع لِحاظ ما لمصطلح "الورثة" من ظلال الحق والنسب الطاهر المتّصل بالنبوة؛ وبهذا فإن ترسيخ الفكرة مرده إلى إعادة موضعة "العالم" من كونه إنسانا كبقية البشر يمارس دوره التعليمي كأي حقل معرفي أو فكري إلى كونه وريثَ النبوة، العالم الرباني الطاهر، التقي الورع قدَّس الله سرّه؛ فيتحول من كونه معلما للعبادات؛ إلى كونه نورا مقتطعا من حياض النبوة متبركا به.

ثانيهما: أن العلماء في هذه الدائرة؛ ولأنهم كالمعتاد يمارسون شكلا معرفيا أو ظواهر تستدعي التعقّل؛ فإن الاحتفاظ بثبات البراديغم يقتضي استمرار المصالح؛ وهو يستدعي "تسييج العقل الديني في المتلقي"؛ وإلا فإن قيمة السلعة المنتجة في هذا الصراع والتدافع والتنافس يتهاوى؛ طالما اكتشف الإنسان أن العلاقة مع الله لا تستدعي الاحتكار في الفهم أو الإفهام؛ وفعل "التسييج العقلي" جزء من منظومة الإنجاز المؤثّر الذي يقتضي الاستعانة بالتدبير الوعظي، والمثلنة النفسية، بترويج المفردات الدينية واستهلاكها من مثل أن "لحوم العلماء مسمومة"؛ استعدادا لترويج مغالطة تسميم البئر النقدية المضادة للتعليم الديني المتجهة إلى إنتاج العلماء التقليديين؛ من حيث إن هذا النقد الموجه إلى العلماء هو في حقيقته "إثمٌ" يتحمّله الناقد على ظهره ويتحول بفعل ذلك مهما اصطبغ بالصبغة العلمية إلى كبيرة من كبائر الذنوب المتمثلة في الاستهزاء بالعلم وأهله؛ ولأنه يتماس مع المقدسات فعلى الناقد أن يتجنبه؛ ولذلك فإن التيارات الدينية ذات العلاقة المشبوهة بالسلطة تتوسل بها لمصادرة النقد الموجه إلى إنتاج أصحاب اللحوم المسمومة.

إن العودة إلى سؤال البدء؛ يجعلنا ننظر إلى التعليم الديني لا من حيث عمقُه ومضمونُه فحسب؛ وإنما يتجاوز المضمونَ إلى الشكل بوصفه في حد ذاته دالا مزدوج الفعل؛ لا يحيل على الممارسة؛ بقدر ما يحيل على "الانتماء الطبقي" وتوسلاته، وتفكيك العناصر الفاعلة في الدائرة التدليلية هذه؛ يضعنا دائما أمام "فعل تعليم الدين" بوصفه سلعة لها استهلاك ومستهلكٌ محدد ذو سمات خاصة؛ وإلا تتهاوى القيمة الإنتاجية والتداولية؛ فعمليات التسليع للدين تحتفظ بسمة مفارقة غير فاعلة في أسواق التداول الاعتيادية في الاقتصاد؛ ولكنها تعدّ في دائرة تسليع التعليم الديني أهم عامل في ترويج السلعة، وأعني بها "إعادة الإنتاج" بذات الهُوية التجارية إن جاز لنا هذا التعبير والتمثيل؛ إذ نلاحظ أن "الدين" من حيث إنه تعاليمُ وفتاوى قواعدُ قديمة مستمدة ومجترة من مصنفات القرون الوسطى يتحول إلى سلعة من نوع "التحف الفنية" التي تحتاج إلى فئات محددة من المجتمع، وإلا فإن إعادة التداول للقديم لا يزيد من قيمته بقدر ما يتحول إلى سلعة مستعملة؛ فهي عملية تنطوي على مفارقات تعيدنا إلى سؤال مركزي يتمثل في "ما الدين؟" ولكنه سؤال يتضمن قوة "الغياب" للحاضر في الحياة؛ فالدين مع شدة حضوره وبساطته بالمفهوم الرشدي في "الضروري" غائب يروّج غيابُه لغرض توثين "التعليم الديني" في ظل اغتراب الإنسان ووحشة مصيره؛ فحضور الدين في الممارسات عبر الأجيال نوعُ من التداول والاستعمال الذي يفترض أن يُغني عن إعادة إنتاج التعليم الديني؛ ولكن هذا الحضور يُحدث نوعا من الشلل أو تعطيل المصالح التعليمية لهذه الطبقة؛ مما يجعل فعل التعليم الديني بوصفه وظيفة اجتماعية وأحيانا أداة وسيطة على رَكح العمليات السياسية يفتقر إلى تغييب الدين أو تضليل الوعي به، أو مصادرة فهمه لتعويضه بعمليات الإفهام، أو بعبارة أخرى تغييب فهمه الأرثوذوكسي مقابل الفهم الباطل.

في سياق كهذا، نستعيد "الهفوات في الأفعال" كما هي عند سيغموند فرويد، ويقصد بها "إخفاقنا في العثور على شيء، بالرغم من أننا أودعناه في مكان"[1]، وهذه الهفوة تجعل التناقض شديدا في عمليات التعليم الديني الأشد تقليدية؛ فدعاته يزعمون أن الدين أشد وضوحا وصحة؛ وفي الوقت ذاته يحتكرون فهمَه الأرثوذوكسي لأنفسهم لممارسة عمليات التفسير والتلقين للآخر، مما يجعل الدين يسيرا وصعبا، وواضحا وخفيا يجمع التناقضات، بحضوره وغيابه؛ وهو يشبه عند ليوتار درس الفلاسفة الافتتاحي والمتواتر الذي يعد هفوة في الفعل؛ فالتعليم الديني يخون ذاته؛ كما تخون الفلسفة ذاتها وهما معا يدخلان في حال من الاضطراب؛ بيد أن الفرق يكمن في اعتراف الفلسفة بوقوع الهفوة، وتعالي التعليم الديني بعدم الاعتراف وادعاء النزاهة المطلقة؛ لذلك نحن نبحث عن الدين عند تعليمه "التعليمَ التقليدي" من نقطة الصفر، ونتمادى في تغييبه؛ فهو يظهر ويغيب ويعتّم على نفسه حتى تشتغل عمليات التسليع، انطلاقا من ترسيخ مبدأ الحاجة إلى التصنيع[2]؛ فالسؤال "ما الدين؟" وما ينبثق منه من أسئلة هي أساس عمليات إعادة الإنتاج، وهذا السؤال مضمّن في عمليات تعليم الدين؛ وهو بهذا المعنى مؤدّ إلى إعدام المسؤول عنه، وعند وجوده وجب الاعتراف بتعدده فهو "مشتبه" ولكنه "غير متشابه"؛ وعلى "المطوع" أو "المفتي" أو "العالم الديني" أن يضع لنا علامات على المشتبهات الدينية لنختار من بينهما "فهما" محددا من بين الفُهوم المختلفة التي قد تؤدي إلى الضلال والانحراف.

إن سؤال البحث عن الدين؛ مؤدٍّ إلى الفعل وإخفاقاته، ويزيد "الإخفاق"؛ بإلغاء "الفاهمة الإنسانية" أو تعطيلها إلى حين إعادة إنتاج الفهم الديني؛ تماما كوجود العناصر الغذائية ذاتها في الزهر، ولكنها عناصر غير قابلة للاستعمال، حتى يتم تصنيعها عبر النحل؛ فتخرج على هيئة العسل المصفى؛ وهذه العملية تندرج تحت تغييب الدين، حيث يتم عزل الذات الإنسانية في مقابل "علماء الدين" عن أخص عمليات العقل وهو "الفهم"؛ فالتعليم الديني لا يصادر الفهم مكتفيا بذلك، ولكنه يبني مسافة كهنوتية بين الذات المتعلمة والنص، بإلغاء محاولات الفهم للنص، لأن لتداول النص ذات شروط الأسواق؛ فهناك سلطة دينية تسمح لك بممارسة الفهم، أو تطلب إليك بالامتناع؛ لأنها وحدها تمتلك المقاييس والمواصفات والمساطر؛ فالفهم المسموح به هو "الفهم- بشرط استعارة فهم الشيخ العلامة"؛ فيكتسب الدين العنصر الكهنوتي داخل المنظومات التقليدية، ولم يعد الفهم ممكنا إذَّاك إلا وفق شروط إلغاء الفهم؛ وتعويضه بعمليات التفسير، والإفهام، والتلقين، والتكريس، وعليه فليس لهذه الذات الحرة من إرادة ممكنة مستقلة خارج إرادة "مولانا الشيخ" الذي يقوم بإنتاج المصنوعات الدينية المعلبة للمستهلكين في الطهارة، والصلاة، والزكاة وغيرها؛ بما يضمن بقاء الشيخ الذي يعتاش على تجهيل الآخر بكل الامتيازات والهبات من الدولة؛ لذلك فإن محاولات الفهم الحر للدين ونقد العلماء يكون السبب الكافي لإقصاء الذوات المتفاعلة مع النص الديني.

التعليم الديني لا يصادر الفهم مكتفيا بذلك، ولكنه يبني مسافة كهنوتية بين الذات المتعلمة والنص

إن التعليم الديني بوصفه قناة مهمة لنقل الدين من حالته الساكنة إلى حالة الممارسة والحركة؛ يحمل ضمن طوابعه البعد الهُوياني الموغل في التميز؛ لأننا نلاحظ في التدين مكونين؛ هما: "الشكل" و"التدين" أو بالاستعارة من اللسانيات نلاحظ وجهي العلامة: الدال المتمثل في شكل المتدين، والمدلول وهو مضمون التدين الأخلاقي؛ وبهذا فإن التدين يكاد يكون علامة أو أيقونة تحمل في طياتها البعد العلائقي؛ فالجانب المضموني المتمثل في السلوك، باعتبار فهم الدين وتأويله يصبح بمثابة "الكلام" في علاقته باللسان عند دي سوسير؛ فالتدين يتضمن في أصلة حرية شخصية، ولكنها لا تخرج من الإطار الثقافي ومواضعاته؛ يعني ذلك أن التدين متغير في شكله وفقا للبيئات الاجتماعية التي يعيش فيها، ولكنه يعتمد في بيئته على البعد الهُوياني؛ باعتبار أن الشكل يمثل مذهبا دينيا محددا لا يبارحه، يظهر في اللباس الديني الموحد؛ فشكل العمامة دال لا ينفك عن مدلوله المذهبي، علاوة على "اللحى"، وأساليب الكلام وتداول المصطلحات الدينية التقنية، وصفة ممارسة العبادة، وفي مواقع التواصل الاجتماعي ينضاف نوع التداول الوعظي، والتعليمي، وخلفيات الصور للرموز الدينية والأماكن الدينية للدلالة على التكريس والانتماء الأرثوذوكسي، وكل مظاهر الدلالة الدينية تسمح للعلامات الفارقة أن تتشكل في أسواق التداول الديني بوصف الدين استهلاكا يوميا؛ مما يجعل "التعليم الديني" ضرورة ملحة للمحافظة على الطبيعية الدينية الموروثة بكل التراكمات التاريخية.

إن الشكل في حالة التلازم مع المضمون يشكلان علامة أيقونية؛ حيث إن المضمون يفقد قيمته دونما البعد التمايزي للشكل؛ إذ يصبح الشكل في علاقته بالمضمون هو المضمون ذاته؛ ليتحول التدين من الطبيعة الأخلاقية إلى الطبيعة الأرثوذوكسية الشكلية؛ لأن الانتماء الفارق هو أساس الاشتغال؛ فتصبح العلاقة السلبية مع الأيقونات الدينية الأخرى هي أساس إضفاء المعنى على التدين؛ وعليه يتحول التدين في غياب "مضمون الدين" الأخلاقي إلى عملية "نسخ" الأشكال والأيقونات لتفريخ الأتباع، والمحافظة على أسواق الاستهلاك وتسليع الدين.

وعليه، فإن دراسة الأنظمة الكنسية أو الأرثوذوكسيات الإسلامية، والتي يقصد بها ذلك التماسك العنيف، والمرجعي لكل أشكال التدين وأيقوناته داخل الحدود المذهبية؛ يعد مهما لفهم طبيعة التعليم الديني، أو "الفهم بالنيابة عن..." ليكون سمة بارزة؛ يجعل من العقل قدرة معطلة لتمييز الحق والباطل في الذات المتدينة؛ بسبب تكوين المرجعيات الدينية المقدسة ورموزها؛ لذلك فإن ما ذهب إليه هنري كوربان من غياب الظاهرة الكنسية في الإسلام؛ لعدم وجود إكليروس ديني يتسلط في تحديد العقائد والسلوك الديني يعد بعيدا عن الفهم الصحيح للظاهرة الدينية الإسلامية[3]؛ فالدين الرسمي الكنسي الأرثوذوكسي يتولّد في الإسلام عبر اندماج السلطة الدينية بالسلطة السياسية، ومن جود التراتبية السلطوية أو البيروقراطية الدينية في المؤسسة الدينية الرسمية، بفرض الآراء الدينية التي لها طبيعتها الخاصة التي لا تحاول خدش المذهب، أو الكيان السياسي معا؛ فالإنتاج الديني داخل هذه المنظومة يفرض سلطته في سوق تداول الدين؛ بحيث يعد الخروج عنه خروجا من الدين كله وممارسة للصعلكة الدينية بهذه الاعتبارات.


[1] جان فرانسوا ليوتار، لماذا نتفلسف؟، تر. يوسف السهيلي، بيروت: دار التنوير، 2017، ص. 23

[2] المرجع السابق، ص. 23

[3] انظر: هنري كوربان، تاريخ الفلسفة الإسلامية، تر. نصير مروّة، وحسن قبيسي، بيروت: عويدات للنشر والطباعة، 2017، ص. 52