الهُويّاتُ الدّينيّة


فئة :  مقالات

الهُويّاتُ الدّينيّة

إنّ المتابع للهويّات الدّينيّة المتعدّدة؛ يلاحظ أنّها توجد على شكلين: يتّسم الشّكل الأوّل بدرجة من الثّبات والسّكون في الأوساط الاجتماعيّة؛ فهي لا تعدو أن تكون نماذج تفسيريّة للخطاب الشّرعيّ، بينما يأتي الشّكل الثّاني متحرّكًا وفاعلًا في محيطه، ويجدُر القول: إنّ الشّكل الأوّل السّاكن يتمثّل في المدارس الفقهيّة القديمة: كالحنفيّة، والشّافعيّة، والمالكيّة؛ إذ لا علاقة لهذه المدارس بقضيّة السّلطة أو الإمامة في الخطابات المتصارعة، ولا تحتكّ كثيرًا بمعتركاتها.

يأتي هذا المقال مركّزًا - في الدّرجة الأولى - على الشّكل الثّاني من الهويّات الدّينيّة الأيديولوجيّة الفاعلة وبيان ملامحها؛ فهي - أي الهويّات الدّينيّة الفاعلة في الخطاب الإسلاميّ - تُعدّ ظاهرة لافتة تتحرّك في اتّجاهين: اتّجاه بناء موقف مضادّ تجاه هويّات دينيّة تمثّل الخصم المباشر، واتّجاه يذهب نحو السّلطة الدّينيّة أو السّياسيّة، أو تعويضًا عن الإمامة أو سلطة الخلافة الغائبة، فالهويّات الدّينية المتصارعة في الوسط السّوسيو-ديني، أو السوسيو-سياسيّ، تمتلك - من هذا المنطلق - السّمتين ذاتهما اللّتَين أعطاهما فرديناند دي سوسير للألسن، وهما: مبدأ الوحدة، والتّغير عبر الزّمن[1]، وذلك يعني أنّنا أمام ظاهرتين:

1. وحدة الهويّة الدّينيّة عبر التّاريخ الإسلاميّ منذ لحظة الانقسام الأوّل، كما ينقلها مؤرّخو الفرق وأصحاب المقالات، من حيث إنّ الصراع هو نفسه لم يتغيّر عبر الزّمان، ولا يمكن فصل الدّينيّ فيه عن السّياسيّ أو التّاريخيّ؛ فهو صراع - وإن بدا يتلمّسُ الحقَّ ويصرّ عليه - إلّا أنّه متضمّخٌ بالأهواء، ويمكن للمتابع أن يلاحظ الفجوة والخصومة نفسها بين التّيار السّلفيّ والشّيعة - مثلًا - فالنّقاش حادّ بين هذه الهويّات المتصارعة حول شرعيّة الإمامة؛ إذ تحوّلت قضيّة ترتيب الخلفاء وتفضيلهم؛ من السّياسة إلى العقيدة؛ فلا يمكن أن تجتثّ هذه الهويّات من تاريخها ومسارها، فهي تشكّل وحدتها، وسيولتها الزّمانيّة المتواصلة.

2. حركيّة أو ديناميّة الهوية الدينية؛ فهي - مع اتّحادها - تولّد جماعات دينيّة أو هويّات جديدة تنتمي أو تتعالق مع الهويّات المركزيّة؛ فهناك تغيّر مستمرّ مع هذه الوحدة، وإنتاج جديد للهويّات، وتحتفظ فيما بينها بنوع من الرّوابط المعنويّة أو المادّيّة وفق مقولات كلاميّة أو سياسيّة، إلى أن تصل إلى لحظة الانقسام الأولى، ولا يوجد - الآن - خطابٌ سَلَفيّ واحد، ولكنْ خطاباتٌ سلفيّة متعدّدة تتغيّر وتتوالد بسبب الاختلاف السّياسيّ، وتحويله إلى اعتقاد دينيّ، فطريقة التأويل والأهواء تلعب دورها في استمرار التّغيّر.

وفي فضاء الوحدة والتّغيّر تعدّ الهُوية الدّينيّة انتماء، لا يستطيع الفرد ممارسته إلّا في وسط اجتماعيّ، على الرّغم من أنّ الدّين - في أصله - علاقة إيمان وصلاح مع الله ومسؤوليّة أخلاقيّة، فإذا كانت الهويّات الدّينيّة قد تشكّلت في رحم هذا الانتماء إلى موقف سياسيّ، أو الانتماء إلى شخص داخل دائرة دينيّة محدّدة أو دائرة اجتماعيّة؛ فإننا نلاحظ وجود ظاهرتَين تسِمان الهويّات الدّينيّة:

1. الانتماء إلى الشّخوص الدّينيّة لم يكن لحظة تاريخيّة منتهية في آنها، لكنّه ممارسة شديدة القوّة في بقاء الهويّات الدّينيّة، من حيث إنّ الشخصيات الدّينيّة المؤثّرة إيديولوجيًّا، لا تزال تتوارث هذا التّأثير الجمعيّ في منظومة الفعل الاجتماعيّ، وهناك نوع من التّتابع التّاريخيّ الّذي يشبه توارث السّلطة الدّينيّة في الأوساط الاجتماعيّة - بوعي أو دون وعي - في دائرة الهويّة الدّينيّة؛ لذلك، تولّدت الوظائف الدّينيّة داخل المجتمعات أو دولة الخلافة، مثل: المفتي، والمرشد الدّينيّ، والواعظ، وهذه وظائف تعويضيّة عن الشّخص الأوّل الّذي يغذّي الهويّة الدّينيّة ويشحنها.

2. الانتماء إلى الفضاء المعرفيّ لهويّة دينيّة محدّدة، ومع ضعف القوّة المعرفيّة في الأوساط الجمعيّة؛ فإنّ الهويّات الدّينيّة تتمظهر - ولو عبر الأشكال المعرفيّة - في الطّقوس العباديّة أو مظاهر اللّباس، أو العادات الاجتماعيّة؛ إذ لا تستطيع الأوساط الشّعبية لمدرسة ما استيعاب المقولات الكلاميّة، ثمّ تتحوّل الهويّة إلى شكل يعبّر عن الانتماء دون وجود المضامين الفكريّة الّتي بثّها الرّجل الأوّل، أو يبثّها خلفاؤه الدّينيّون؛ فالخلفاء ينتمون إلى الفضاء المعرفيّ للهويّة الدّينيّة ويمارسون دور الدّفاع، والأتباع ينتمون إلى الشكل الممارَس من العبادات لتمييزهم وشحنهم عاطفيًّا، ويمارسون دور الانفعال والاندفاع.

ومن السّمات الأربع وطبيعتها، نستطيع أن نضع - بشيء من الرّيبة - السّمةَ المركزيّة البارزة في الهويّات الدّينيّة، وهي: أنها حالة من الاعتبارات الافتراضيّة تظهر على أشكال مختلفة للتّديّن، وتتموضع بوصفها علاماتٍ فاعلةً في وسط اجتماعيّ محدّد، خشية الاضمحلال في وسط آخر؛ ذلك أنّ الشّخص المنتمي إلى هويّة دينيّة محدّدة، لا يجد ظهوره "الافتراضيّ" إلّا عبر الوعي الجمعيّ، الّذي قد لا يُمثّل - في حقيقته - شيئًا من المقالات السّوسيودينيّة؛ لذا فإنّ الهويّة؛ هي اعتقاد أو وهم بامتلاك شيء ما يتشارك الفرد المنتمي في امتلاكه مع آخرين يميّز وجودهم الدّينيّ، وضدّ هويّات دينيّة مختلفة، ولولا هذا الشّعور المعتَقدِي أو الوهميّ لانمحت الهويّات الدّينيّة في ظلّ قيم المواطنة والمدنيّة، لذلك؛ فإنّ أفضل عامل فاعل لاستمرار الهويّات الدّينيّة: هو وجود خصم للجماعة الدّينيّة، ودعم السّلطة السّياسيّة برفع درجة خطورة الخصم، والأمر ذاته قد حدث إبّان الحرب الأفغانيّة بتصعيد خطر الاتّحاد السّوفييتيّ، لذلك؛ فإنّ المدارس إن لم تجد خصمًا لها تضمحل أو تتحوّل إلى تاريخ، وهذا التّحليل ينسحب على الصّراع الطّائفيّ في اليمن وسوريا؛ إذ يظهر الخطاب السّلفيّ ضد الخطاب الشّيعيّ، وتغيب المصلحة والمواطنة، وتشتغل الهويّات - وفقَ ذلك - داخلَ البؤرة الجغرافيّة للهويات أو خارجها؛ فالخلفاء الدّينيّون يشحنون التّيّارات الدّينيّة التّابعة.

وفي قضية الانتماء إلى الشّخوص الفاعلة داخل المدارس الكلاميّة أو الهويّات؛ نفترض أن مدرسة ما قد نشأت في لحظة تاريخيّة محدّدة وفي بيئة سياسيّة أو دينيّة، فهل ينتمي الشخص المؤسِّس لتلك المدرسة في فضاء ثقافيّ محدّد - بمعتقداته الخاصّة الّتي أعلن عنها عند تأسيس فكره - إلى فضائه الفكريّ الخاصّ الّذي أعلن عنه في مؤلّفاته أو محيطه عند تأسيس المدرسة؟ أم ينتمي بوصفه مشاركًا سمة من سمات الجماعة الافتراضيّة الّتي لا وجود لها واقعيًّا من حيث إنّ الشّخص هو واقع في حدّ ذاته؟

إنّ هذا الشّخص المؤسِّس لا ينتمي عكسيًّا إلى الفضاء المتشكّل بعد إعلان تعاليمه أو مقالاته الدّينيّة أو السّياسيّة، لكنّه ينتمي إلى فضاء سابق أو آني؛ وهو يتشارك مع الفضاء الاجتماعيّ جزئيًّا؛ لأنّ اكتساب الهويّة يجري على حساب التّقليل من الفرديّة؛ فلا تمنح الهويّات - كما يرى سايمون ديورنغ - وفقًا لما يكون عليه الأفراد ككل؛ بل وفقًا لصفات يمتلكونها منتقاة عشوائيًّا نوعًا ما، وفي معظم الأحيان لا يمتلك الأفراد سوى القليل من الشّأن في انتقاء الميّزات الّتي تستخدم للتّعريف بهم؛ فهذه تتحدّد اجتماعيًّا - أي من الخارج[2] - إنّ الهويات لا تتشكل دون الوسط الاجتماعيّ، وليس لها - باعتبار القيمة اللّسانيّة عند دي سوسير - من معنى سوى في إطار منطق العلاقات مع الآخر؛ فالهويّة - أي مجموعة السّمات الّتي يتشارك بها الفردُ مع الآخر - هي الّتي تبني العلاقة، وبذلك يتشكّل الانتماء إلى المجتمع، بيد أن الانتماء إلى الفرد المؤسّس مشكوك فيه لولا وجود التّشارك[3]، فهو لا يعدو من كونه رمزًا داخل الفعل الهويّاتيّ.

يزداد الأمر تعقيدًا حين يوصف الفرد بأنه عنصر يحتوى ذرّاتٍ، وهو - في امتلاكه لها - يتعالق بواحدة أو أكثر مع آخرين، ولتكن هذه الذرّة العاطفةَ المذهبيّة أو الدّينيّة، لكنّه وهو ينتمي إلى تلك المجموعة المذهبيّة أو الدّينيّة، يقذف في لحظة ما - رغم انتمائه المذهبيّ - بتلك الذّرّة إلى المجموعة خارج الهويّة المذهبيّة؛ بسبب احتفاظه بذرّة أخرى: كاللّون أو العرق، أو اللّغة، وهو - في هذه الحالة - يبني هويّة أخرى مع مجموعة بشريّة ثانية، فلا ينتمي إلى الهويّة المذهبيّة مع الجماعة الأولى كليًّا؛ إذ يحتاج إلى مجموعة سمات تجعل العلاقة أقوى، يعني ذلك: "أنّ الشّروط الّتي تعزى بموجبها الهويّات، لا تصف - في العادة - السّمات والمجموعات بشكل حياديّ؛ فهي مشتقّة ثقافيًّا، وتقرّرها علاقات القوّة ضمن الجماعة في نهاية المطاف، خاصّة، كيفيّة تشكيل تلك العلاقات لعلاقات اجتماعيّة بين أولئك الّذين يستخدمون موصف- الهويّة (identity-descriptor)، وأولئك الّذين يطبق عليهم الموصف"[4]، إنّ الّذي يجعل المرء يمارس هويّات مختلفة في المجتمع الواحد: هو قلق المصير، ولعبة المصالح؛ فالإنسان في الوسط الاجتماعيّ تقلقه المصلحة الدّينيّة، لكنّها قد لا تفي بكل حاجاته، لا سيّما عند وجود ذرّة ما تقذفه - أحيانًا - خارج المجموعة الّتي تشاركه الهويّة؛ فالعرق أو اللون يلعبان دورهما في تنظيم مصلحة الزّواج مثلًا، مما يعني وجود لعبة هويّات تشتغل وفق أنساق اجتماعيّة من الصّعب مخالفتها، وإن تناقضت مع الشّعارات الدّينيّة؛ فهي شعارات برّاقة خدّاعة في كثير من الأحيان الّتي لا تتعلّق بالخصم الخارجيّ للهويّة الدّينيّة، إنّما بالتّنظيم الدّاخليّ الفوضويّ المنتظم.

إنّ هذا التّعالق بين الهويّات المختلفة في المجتمع الواحد يتشابه - إلى درجة كبيرة - مع ما طرحه غوتفريد ليبنتز من أنّ "المخلوق يفعل فعلًا خارجيًّا بقدر ما فيه من كمال، وينفعل بفعل مخلوق آخر بقدر ما فيه من نقص"[5]، فالفرد يتفاعل بسبب ما يمتلك من سمة دينيّة أو مذهبيّة، لكنّه "يتسالب" مع ذات المجموعة لينفعل مع مجموعة أخرى؛ بسبب "النّقص العرقيّ" مع المجموعة الأولى، ومع اختلاف الهويّات من حيث الذَريّة والسّمة؛ فإنّ حدّتها تختلف من بيئة اجتماعيّة إلى أخرى، بفعل عوامل ضعف المواطنة والمدنيّة أو قوتها، كما تزداد أو تذوب عند وجود الأزمات والكوارث الطّبيعيّة من حيث إنّ الإحساس بوحشة المصير سمة إنسانيّة لها علاقة بالسّلوك في الوسط الاجتماعيّ.

وانطلاقًا من الهويّات وموصفاتها، باعتبارها دلالات أو علاماتٍ تشتغل في السّياقات المختلفة؛ فإنّه من الضّروريّ الاعتراف بأنها ليست حياديّة - كما أشار سايمون ديورنغ - وتختلف دلالاتها من بيئة إلى أخرى، وفي سياق الهويّات المذهبيّة؛ نجد أنّ الموصّف "أهل السّنّة والجماعة" (مثلًا)، تستخدمه جماعة دينيّة أو جماعات مذهبيّة في العالم الإسلاميّ، وفي الوقت ذاته، يتغير الوصف عند خصوم الجماعة عند اتّحاد الإحالة أو المرجع، واختلاف المفهوم للعلامة اللّسانيّة ذاتها؛ فيستخدم "الخصم" وصفًا آخر للجماعة تلك؛ فتتضح العلاقة ذات الطّبيعة الإيجابيّة أو السّلبيّة:

- فإذا كان الموصّف (أهل السّنّة والجماعة) يبرز علاقة إيجابيّة ذاتيّة للهوية؛ فإنّ العلاقة السّلبيّة مع هويّة مذهبيّة أخرى، تجعل من الموصّف غير صالح للاستخدام أو لتمييز الهويّة المتسالبة مع الشّيعة مثلًا؛ فأهل السّنّة هم أنفسهم "النّواصب"، كما أن لفظ "الشّيعة" - بعدّه موصفًا يرتبط بحدث تاريخيّ يتعلّق بمناصرة أهل البيت - لم يعد صالحًا مع أهل السّنّة والجماعة، لما له من سمة قد تبدو إيجابيّة لا تغذّي فاعليّة الخصومة، فيشتغل بديلُه وهو "الرّوافض".

- في الجانب الآخر، ومع وجود هذه الموصّفات بين الهويّات الدّينيّة المختلفة ورحلتها المتعاكس؛ إلّا أنّ فاعليّتها ودلالاتها تختلف؛ فموصّف "النّواصب" فاعلٌ في الوسط الشّيعيّ، وموصّف "الرّوافض" صالح في الوسط السّنّيّ، فالتّبادل بين الموصّفات يشتغل اشتغال التّرجمة، بسبب وجود قيمة دلاليّة في المفهوم مع وحدة المرجع الخارجيّ، وكلّ ذلك بسبب درجة الارتباط والانفصال في الهويّات؛ فالموصّفات تستخدم بوصفها نضالًا في التّميّز والعزل (dis-(identify[6]، وتتلقّفها الأوساط الشّعبيّة الدّينيّة بضبابيتها؛ فهي فاعلة مع طبيعتها الغامضة بالنّسبة إلى عامّة المنتمين، وربما تفقد الكثير من قيمتها عند تفسيرها العلميّ.

ولكن ما إن يتخلّص الفرد من تاريخه ووعيه الجمعيّ اللّذَين يغذّيان هويّته الدّينيّة، يعود إلى كائن طبيعيّ لا يختلف عن أي كائن آخر يشاركه في بيئته، على الرغم من انتماء الأخير إلى هويّة دينيّة يتسالب معها، ويعني ذلك؛ أنّ الهويّات الدّينيّة - مع قوّتها ودرجة فاعليّتها الشّديدة، لا تخلو من الوهم ولا تشتغل خارج المصلحة، لكنّه وهم يشكّل وجودنا الدّينيّ ويبنيه، وأعتقد أنّ الهويّات الدّينيّة تزداد قوّة بوجود الخصم الافتراضيّ، لذلك؛ تشتغل القوى السّياسيّة على بناء الخصم الدّينيّ للجماعات داخل المجتمعات أو خارجها؛ لأنّ انتهاء الخصومة الدّينيّة يؤدّي إلى اضمحلال الهُويّات المتصارعة وتحوّلها إلى تاريخ - كما أشرت سابقًا - وقد يؤدّي إلى إفلاس السّياسة في وقت هي في حاجة إلى استخدام تلك الورقة في لعبة سياسيّة قادمة؛ الأمرُ الّذي لا يبرِّئ الدّول العَلمانيّة من توظيف الهويّات الدّينيّة في حاضرها وتاريخها.

على أنّنا لو نظرنا إلى الهويّة بعيدًا عن تعقّدها وتركيبها؛ نستطيع استيعاب المصلحة الاجتماعيّة - مهما كانت بسيطة - في توظيف هويّة ما أو تعطيلها؛ لأنّ "سياسة الهويّة تتحرّض بواسطة الرّغبة في الحصول على الاعتراف"[7]؛ فإذا كانت الهويّة الدّينيّة عاتية وقويّة، متوارثة ومبهمة؛ فإنّ الهويّة العرقيّة أو الاجتماعيّة - في بعض مظاهرها - عاتية كذلك؛ بل تزداد قوّة، لا سيّما عند الارتباط بمصلحة اجتماعيّة كالزواج والشّرف؛ إذ تتصارع الهويّة الدّينيّة الّتي تزعم النّزاهة والتّقوى، مع الهويّة العرقيّة؛ فيوظّف التّديّن عنصر الكفاءة - مثلًا - لاستبعاد عنصر اجتماعيّ محدّد من دائرتها؛ لأنّ الهويّة العرقيّة لهذه الجماعية تبرز على سطح الصّراع الاجتماعيّ، ما يجعل السّياسة الهويّاتيّة تبحث عن بديل للحصول على اعتراف جماعة عرقيّة تنشئ معها العلاقات، تفعيلًا للمصلحة الاجتماعيّة المفقودة مع الجماعة الأولى، لكن ما إن ولجنا مسألة التّعدديّة الثّقافيّة أو الدّينيّة، حتّى "ثقافة التّسامح"؛ فإننا نستطيع تحليل العلاقة بينها وبين الهويّات الدّينيّة المتمركزة وفق القوى السّياسيّة أو قوى التّكتّلات الدّينيّة عبر مسارين:

1. الهويّة الدّينيّة لم تتشكّل من فراغ؛ إنما كانت في البؤرة أو "عين العاصفة"، فدافع الرّغبة في السّلطة متمثّلة في "الصّراع على الإمامة" كانت الأهم، على حساب القناعات الدّينيّة أو الإيمان، يعني ذلك؛ أنّ بروز المقالات الكلاميّة للهُويّات المذهبيّة كان لأجل التّميّز، أو لإظهار الاختلاف عن الآخر؛ فالخصمُ كان حاضرًا ومغذّيًا للهويّة الدّينيّة، ولأنّ المقالات الكلاميّة عقائديّة أو مفهوميّة؛ أي تحمل المعنى الصّوريّ أو الميتافيزيقيّ مقابل الواقعيّ أو الظّاهريّ؛ فإنّ الهويّة الدّينيّة أو المذهبيّة كانت - ولا تزال - تبحث عن العلامات الفارقة الّتي تجعل الذّات مختلفة إزاء الآخر؛ إذ كان "الانشغال بشرح العقائد ضروريًّا قرابة منتصف القرن الأوّل الهجريّ، عندما كان أهل السّنّة والجماعة مجبَرين على شرح موقفهم الخاصّ إزاء العقائد الّتي جاءت بها الفرق الدّينيّة"[8]، حتّى تكتمل العلاماتُ الفارقة، وتشتغل في الفضاء الاجتماعيّ من حيث إنّ الهويّة تكتسب قيمتها بوجود المخالف؛ ولأنّ العقيدة لا تضطّلع بهذا الدّور الظّاهر بسبب خفائها وصعوبة مقولاتها؛ فإنّ الدّمج بين الكلام والفقه كان ضروريًّا لإعطاء الاختلاف المعنى الفعليّ أو الواقعيّ، وتمثّل ذلك الدّمج في الصّلاة أو العبادات العمليّة الّتي تميّز الهويّة، ويمكن ملاحظة الاندماج بين ظاهرتَي العقيدة والعمل في المؤلّفات الكلاميّة القديمة؛ ففي وصيّة أبي حنيفة في التّوحيد: "ونقرّ بأنّ المسح على الخفّين واجب للمقيم يومًا وليلة، وللمسافر ثلاثة أيام ولياليها؛ لأنّ الحديث ورد هكذا فمن أنكره فإنّه يُخشى عليه الكفر؛ لأنّه قريب من الخبر المتواتر"[9]، وكلّ ذلك يدل على أنّ الطّقوس والعبادات اشتغلت في فضاء الهويّات داعمة العقائد ومقولات الكلام، لتمييز الطّوائف الدّينيّة وتحديد الخصوم.

2. العلاقة بين المدارس الكلاميّة أو المذاهب: هي علاقة تشاكل وتعالق وتمايز؛ فالمدارس الكلاميّة عند المسلمين تترابط باعتبار عاملَيْ الوحدة والتّغيّر - وفق التّحليل الّذي قدّمناه قبل قليل - من حيث وجود سمة أو سمات بطريقة عنقوديّة مع مدرسة أخرى، لتبني علاقات القرب أو البعد لتكشيل الهويّات الفاعلة، فمثلًا؛ تعدّ الهويّة السّلفيّة خصمًا للمدرستين: الأشعريّة والماتريديّة، لكنّهما أقرب إليها من الإباضيّة، وهي أقرب إليها من الشّيعة، لذلك كانت الطّقوس العباديّة الظّاهرة مهمّة في اشتغال الهويّات واستمرارها.


[1] انظر: لويك دوبيكر، فهم فرديناند دو سوسير وفقًا لمخطوطاته؛ مفاهيم فكريّة في تطوّر اللّسانيّات، ترجمة: ريما بركة، المنظمة العربيّة للتّرجمة- بيروت، 2015م، ص ص 96- 70

[2] سايمون ديورنغ، الدّراسات الثّقافيّة: مقدّمة نقديّة، ترجمة: ممدوح عمران، عالم المعرفة- الكويت، 2015م، ص ص 239- 240

[3] المرجع السّابق، ص 241

[4] المرجع السّابق، ص ص 240- 241

[5] غوتفريد ليبنتز، المونادولوجيا، ترجمة: ألبير نصري نادر، المنظمة العربيّة للتّرجمة- بيروت، 2015م، ص 71

[6] سايمون ديورنغ، الدّراسات الثّقافيّة: مقدّمة نقديّة، ص 241

[7] المرجع السّابق، ص 243

[8] روبيرتو روبيناتشي، الإقرار بالإيمان، ترجمة: لميس الشّجني، دار الغشام- مسقط، 2014م، ص 17

[9] أبو حنيفة، الوصيّة، تحقيق: محمد زاهد الكوثري، المكتبة الأزهرية للتّراث- القاهرة، 2001م، ص 78. وانظر: الأسعد النّجار، أصول الدّين من خلال مجموعة شروح الفقه الأكبر، المركز الثّقافيّ العربيّ- الدّار البيضاء، 2015م، ص ص 183- 199