نحو قراءة مغايرة ومضادة لتاريخ الفلسفة مع الفيلسوف ميشيل أونفراي


فئة :  مقالات

نحو قراءة مغايرة ومضادة لتاريخ الفلسفة مع الفيلسوف ميشيل أونفراي

تقديم عام

تندرج فكرة إعادة قراءة تاريخ الفلسفة لميشيل أونفراي* ضمن تصورات ما بعد حداثية للفلسفة التي تعتبر التفكير الفلسفي شأنا مرتبطا بقضايا الحياة، وانشغالا بالذات في معترك الوجود. وقد كان وراء هذا المنظور الجديد في الساحة الفكرية الفرنسية بداية كل من الفيلسوف بيير هادو، ولوسيان جيغفانون؛ ثم ورثه عنهما هذا الفيلسوف، خصوصا في هذا الكتاب الموسوم "حكم قديمة: ضد تاريخ الفلسفة".[1] فما هي أطروحته الأساسية في هذا الكتاب السّجالي؟ وكيف قرأ تاريخ الفلسفة خارج التصورات الرسمية التي دأب عليها المؤرخون والفلاسفة؟

لقد تجنّب التقليد الجامعي لأمد طويل أن ينكبّ على فلسفة منسية في قراءته لتاريخ الفكر الغربي، إذ لم يفعل سوى أن استبعد من دائرة الضوء فلسفة قائمة الذات والصفات، فلسفة بديلة كانت منصبة على قضايا الحياة الواقعية، لصالح ما يعرف عادة بالفلسفة النظرية والميتافيزيقية النسقية التي روّج لها على أساس أنّها التي تمثل تاريخ الفلسفة الحقيقي بكثير من الحماس المثالي. فلماذا هذه النظرة؟

يبرّر أونفراي سيادة هذه النظرة الكلاسيكية لتاريخ الفلسفة من خلال كونه قد كتب من طرف المنتصرين في حرب التصنيفات والاختزالات التي سادت تاريخ الأفكار؛ إذ دأب هذا التقليد على إجراء واصطناع تقابلات وهمية بين المثاليين والماديين من الفلاسفة. وقد لعب الإرث المسيحي من جهته أيضا دورا كبيرا في تكريس هذه القراءة المغلوطة، حيث بوأ هذا الأخير الفلاسفة النظريين والمثاليين مكانة الرّيادة في تاريخ الفكر الغربي.

نتيجة لهذه التصنيفات تم تفضيل الفلاسفة والمفكرين النظريين (حكماء الأكاديمية والجامعة) على فلاسفة الحياة العملية وعالم العيش العادي (حكماء الحانة والمأدبة والشارع) الذين كانوا يروّجون لنوع من الفلسفة العملية التطبيقية التي تجد في قضايا الحياة العادية مادتها الفكرية والتأملية. ولأنّ هؤلاء لم يتم إنصافهم في تأملاتهم الفلسفية وحكمتهم العملية، فقد أخذ أونفراي على عاتقه إنجاز قراءة مضادة لتاريخ الفلسفة يعيد فيها الاعتبار لمجموعة من الحكماء والفلاسفة المغمورين الذين همّشهم تاريخ الفلسفة الكلاسيكي كما هو الحال في تاريخ الفلسفة الغربية.[2]

إنّ إعلان أونفراي على كتابة تاريخ جديد الفلسفة يقوم على رفض التصورات الموروثة عن التقليد النظري المسيحي في تأريخ الفلسفة، لهو عمل مختلف ومضاد للتصور الشائع عن الفلسفة كممارسة نظرية ميتافيزيقية تروم بناء التصورات وتشييد الأنساق والمفاهيم المجردة. فضدّا على المنظور الكلاسيكي، عمل هذا الفيلسوف على اجتراح طريقة جديدة في قراءة تاريخ الفلسفة، طريقة تأخذ بعين الاعتبار زيف التقابل بين الحكمة النظرية والحكمة العملية، ومن ثم إسقاط أفضلية الأولى عن الثانية.

لذا؛ فمتى عدنا إلى تاريخ الفلسفة نفسها بشكل غير انتقائي، تأتى لنا اكتشاف عدد كبير من الفلاسفة غير المشهورين، نتيجة تهميشهم من طرف التأريخ الكلاسيكي للفلسفة، الذين كانوا يفكرون بطريقة مختلفة عن تلك التي فكّر بها الفلاسفة الكلاسيكيون. كان اشتغال هؤلاء بالفلسفة والحكمة على جهة البحث عن سبل فن العيش، [3] أو حول ما يسمى بالتوافق مع حياة الحكمة والفضيلة بعيدا عن صخب العامة ومجون الحكام والأغنياء؛ حيث كانت الحياة الطيبة المعتدلة الخالية من المرض الثقافي والفكري غاية هؤلاء الحكماء وهدفا لتأملاتهم الفلسفية. فكيف قرأ أونفري حكمة وأفكار هؤلاء الفلاسفة المغمورين؟

يتأتى لنا متى عدنا إلى تاريخ الفلسفة نفسها اكتشاف عدد كبير من الفلاسفة غير المشهورين نتيجة تهميشهم من طرف التأريخ الكلاسيكي للفلسفة

1- الحكماء الكلبيون نموذجا للمغمورين

تناول أونفراي في هذا الموضع حكمة الكلبيين التي تدور حول فن تربية الرجال من خلال ما يسمى لدى هؤلاء بفن رياضة النفس، كنوع من التمرين الروحي يعوّد الذات على الصبر والجلد والتحمّل. أما حياة الفضيلة بالنسبة إليهم، فهي قابلة للتعلم، كما كان يقول أونتيستين، ليس على جهة الممارسة العقلانية كما كان أفلاطون وأرسطو يدّعيان، بل من خلال المران والتمرّس (Askesis) التي تكسب النفس القوة والفضيلة والحكمة وليس بالنظر العقلي والخطابات الكلامية الجدلية العقيمة.[4]

تقترب هذه الرياضة النفسية قليلا من الطريقة الشعبية في التعليم، لكن تختلف عليها من حيث كونها محكومة بوعي وإرادة فلسفية التي تروم أن يقوم الشخص الكلبي بدور يقدم فيه نفسه كبطل وحكيم يجب الاقتداء به. لذلك، فالعالم بالنسبة إلى الكلبيين بمثابة مسرح حقيقي يلعب فيه كل شخص دورا تمثيليا ليثبت حنكته وجلده وقوة تحمله، بذلك تصبح الكلبية فلسفة في الحياة أكثر منها تيارا فكريا معلوما.

إنّ الحكيم الفيلسوف الكلبي هو ذاك الشخص الساخر من المجتمع، يسير حافي الرجلين تحت المطر وفوق الثلج، ويقف تحت الشمس الحارقة في الصيف، يعيش على الخبز والتين والماء، لا يدعي الانتماء إلى أية فئة من المجتمع. إنّه شخص صريح لا يراعي الحياء العام، جريء على الوجهاء والحكام كما على العوام، حتى أنّ البعض يصفهم بالفظاظة والسفاهة والوقاحة. باختصار إنّه، كما يقول ديوجين الكلبي على نفسه، شخص "بدون مدينة، ولا مأوى ولا وطن، فقط يهيم على وجهه ليشحذ كفاف يومه من الخبز والماء".[5]

كان ديوجين هذا نموذجا للكلبي الساخر من المجتمع، الهائم الرافض للرسميات الذي يؤم الساحات العمومية وقارعة الطريق؛ حيث يلوذ بسقوف المعابد أو بداخل برميل خشبي، يتطفل ويشحذ ما يأكله. يعيش حياة المجون غير مبال ولا كابح لرغباته، ساخرا من أفلاطون وأفكاره في الفضيلة والحكمة، مدافعا عن الحياة المُتَعِية (Hédonisme) ومتحلّل من روابط الدين والمجتمع والقوانين.

هكذا يقدم كتاب "ضد تاريخ الفلسفة" سيرة ديوجين الكلبي، لاعتبارها سيرة عملية لصيقة بممارسة معيّنة للفضيلة بعيدا عن المماحكات النظرية التي كان أفلاطون يقوم بها في محاوراته وكتبه المعلومة. فبخلاف ذلك، كان الكلبيون ينأون بأنفسهم عن المعرفة النظرية لصالح المواقف العملية والممارسات والتمارين التطبيقية، فكانت مواقفهم دليلا على تفلسفهم في الحياة العملية، فكانت حياة الفضيلة بالنسبة إليهم غير مرهونة باكتساب العلم والمعرفة النظرية، بل مجرد ثمرة للممارسة والتمارين الروحية التي يعيشون بها يوميا (Askesis).

بهذا المعنى يعتبر الفيلسوف كائنا حرّا بامتياز، لأنه هو من يصنع نفسه بنفسه؛ فهو لا يردّد ما يقوله غيره ولا يفعل إلا ما يراه مناسبا له وللحياة الفاضلة التي يعيش عليها. فاللذة الحقيقية، مثلا، لا تكمن في الاستسلام لتلك الرغبات والمتع التي يجري وراءها الجمهور، بل هي قائمة في التهكّم على تلك اللذة نفسها واستهجانها. من هذا المنطلق تصبح الفلسفة نوعا من تحرير الذات من عبودية المتعة والرغبة والاستلاب، إنّها نوع من العمل على تهذيب النفس وتربيتها والتحكم فيها.

يعرض أونفراي فلسفة الكلبيين بنوع من الجدّة حين يقاربها في بعدها العملي الأصيل، حيث يركزّ على مواقفها من القضايا المطروحة عليهم في حياتهم، ويلاحظ أن تصرفهم تجاهها كان محكوما بنوع من النقد والسخرية اللاذعة التي تمج سوقية الرأي العادي وتعالي وترفع الرأي النظري الذي كان يتخذه أفلاطون كموقف معرفي من الحياة. [6]

إنّ فلسفة ديوجين السينوبي وباقي الكلبيين تقوم على نوع من المران والتربية المتقشّفة إيمانا منهم بأن المران الصعب والشاق هو ما يصنع الرجال الحقيقيون.[7] لذا تقوم كلبية ديوجين مثلا على الإيمان التام ببذل الجهد والتعب من خلال تجارب الحياة وخبراتها، وذلك عبر المجهود الذي يصاحبه الموقف العقلي لأن الجهد من دون تعقّل لا يؤدي إلى شيء. من هنا يتضح أنّ فلسفة هذا الفيلسوف الكلبي تنطوي على نوع من إرادة البحث عن حياة السعادة بطريقته الخاصة، أي عبر بدل الجهد بعقلانية للخروج من حياة الشقاء والعدمية التي يقع فيها إنسان المتعة والمال والسلطة والجاه.

إذن، فالكلبية فلسفة في الحياة وفق العقل وليست زيغا وخروجا عن المألوف كما كان يصورّها تاريخ الفلسفة الرسمي الذي خطّته أقلام المثاليين الذين يمجدّون المعارف النظرية والعلمية، كما لو أنّ الفلسفة هي مجرد آراء معرفية وليست مواقف من الحياة وطريقة في عيشها. في هذا الإطار تقدم الوصفة الكلبية طريقة في فلسفة قيادة الذات والتحكم فيها من خلال رغباتها وغرائزها ودوافعها وأهوائها، أساسها توجيه النفس عبر تمارين ومجهودات فكرية وبدنية قاسية لكن مفيدة للأخذ بزمامها نحو حياة الفضيلة والسعادة كما يفهمونها؛ وبذلك تصبح فلسفتهم تمرينا روحيا وانشغالا فلسفيا بالذات.[8]

2- حكماء اللذة نموذجا للبحث عن الخير الأسمى

يرجع أونفراي بصدد الحديث عن اللذة إلى مجموعة من الفلاسفة المغمورين الذين تعرّضوا للتهميش والتجريح من طرف الفلاسفة الرسميين (أفلاطون وأرسطو). ومن بين هؤلاء، يقف عند أريستيبوس فيلبوس وأدوكس. وسوف نتحدّث هنا عن واحد من بين هؤلاء، وهو أودوكس الأوكندي؛ ذاك الفيلسوف غير المعروف كثيرا إلاّ فيما يخص تصوراته في أفلاك التدوير في علم الفلك.

كان هذا الأخير عالم رياضيات في مدرسة الأكاديمية، وقد عهد إليه إيجاد حلّ للظاهرة المعروفة تحيّر الكواكب فصاغ نظرية حسابية في أفلاك التدوير. أما آراءه الفلسفية، فقد أورد له أرسطو في كتابه الأخلاق إلى نيكوماخوس، الجزء العاشر، تصوّره في اللذة وانتقده بدعوى عدم واقعيته. فما هي تصورات هذا الأخير للذة والسعادة في الحياة؟

لقد تعرّض أفلاطون لمذهب أدوكس وأريستبوس فانتقده بشدّة، حيث اعترض على قولهما بأنّ اللذة خير، معتبرا أنّه لو كانت اللذّة هي الخير الأسمى لما أضاف إليها اكتساب خير آخر (مثل الحكمة) شيئا قطّ، وهذا مرفوض. لذا يستحيل أن تكون اللذة خيرا أسمى لأنّ من طبيعة هذا الخير ألا يزيد وألاّ ينقص. غير أنّه وضدّا على التصور المثالي الأفلاطوني، يأبى أونفراي إلاّ أن يعيد الاعتبار للمنظور المُتَعي Hédonisme الذي ينطلق منه أودوكس. كيف ذلك؟

ليست الفلسفة محصورة على الممارسة النظرية المثالية كما يريد دعاة المثالية إقناعنا بذلك؛ بل هناك أيضا جوانب أخرى تهتم بها الفلسفة ربما هي أكثر أهمية من تلك التمرينات النظرية والصياغات المفهومية التي دأب عليها الفلاسفة المثاليون. إنّها الجوانب العملية المرتبطة بالحياة الواقعية للناس وما يتخلّلها من أشياء وممارسات فلسفية جديرة بالاعتبار. في هذا الإطار، يأتي ردّ اعتبار أونفراي لأودكس الأوكندي وأريستبوس القورنائي، فما هي تصوراتهما للحياة السعيدة؟

كان أودكس إنسانا محتشما معروفا بوقاره، لكن رغم ذلك يعتبر حياة اللذة ضرورية إذ يؤكد على ضروريتها للحياة، حيث كل شخص إنّما ينشدها ويهرب من الألم؛ فهي إذا أضيفت إلى شيء هو في أصله خير زادته خيرية ورفعت من قيمته. وقد كان أودكس في قوله هذا ينشد إقناع فيلسوف آخر مغمور هو سبوسيبوس الرافض كلية للذة على اعتبار كونها شرّا في نظره.[9]

كان هذا السجال بين الاثنين حوارا فلسفيا حول مبادئ الحياة الحسنة والفاضلة انطلاقا من الاهتمام بمتطلباتها العملية والواقعية وليس من خلال التصورات النظرية المثالية كما فعل أفلاطون. بالنسبة إلى أدوكس واريستبوس لابد من تحقيق اللذة في الممارسة الحياتية للناس على اعتبار كونها خيرا جديرا بالسعي وراءه، فهي غاية كل أشكال الخير التي نسعى إلى تحقيقها في حياتنا سواء عبر ملذات الروح أو ملذات الجسم.

وعليه، سيكون البحث عن هذه اللذة بموازاة البحث عن تجنب الألم، وهذا ما من شأنه أن يوّلد الإحساسات السلبية، كالمخاوف والانفعالات السلبية. لذا فالفيلسوف الحكيم معرّض للألم، وهو بذلك ليس بمنأى من الأهواء من حيث كونه يحس بلا شك بما يترك الانطباع السلبي في النفس. لكن دور الفلسفة كممارسة وتمرين في الحياة يكمن في مساعدة الحكيم على تخفيف وقع الألم واستبعاد ما من شأنه أن يكدّر عليه راحته وسعادته.

دور الفلسفة كممارسة وتمرين في الحياة يكمن في مساعدة الحكيم على تخفيف وقع الألم واستبعاد ما من شأنه أن يكدّر عليه راحته وسعادته

يؤمن القورنائي بأنّ اجتماع كل اللذات التي ستألّف السعادة أمر غير ممكن، إذ هناك دوما شيء ناقص؛ لذلك لا ينبغي استنتاج أي شيء من الإحساسات التي نشعر بها، لأنّه لا يوجد ما يمكن أن يكون معرفة أو وجودا خارج الإحساس نفسه. لذا لا يمكن للمعرفة النظرية أن تفيد في استحصال مبادئ الحياة السعيدة، بل يلزمنا أن نبحث عن مرتكز لنا انطلاقا من ذواتنا فقط، وذلك بالرجوع إلى الذات والاعتناء بها والإنصات إلى مطالبها. وذاك ما عزّزته الأبيقورية في وصفتها الفلسفية للسعادة.[10]

3- الأبيقوريون نموذجا للاعتناء باللذة المعتدلة

يرى أونفراي في الحكمة الأبيقورية الفلسفة التي تكتفي بالواقع المعطى، حيث لا تجعل المرء يعيش من أجل عوالم خفية أو ما ورائية؛ بل تعتقد أنه لا يوجد إلا عالم واحد هو علمنا الواقعي؛ لهذا السبب تستبعد هذه الفلسفة أية إمكانية للقول بوجود خطيئة ما في الحياة الواقعية، ومن ثم يكون الإخفاق في حياة الناس مجرد خطأ في تقدير الذات وإهمالها وعدم الاعتناء بها من جهة رغباتها الضرورية في إسعادها. فكيف ذلك؟

في هذا الإطار، يعتبر أبيقور بطن الإنسان بيت رغباته التي هي على ثلاثة أصناف: 1) طبيعية وضرورية: وتكون مشتركة بين الحيوانات والإنسان، حيث إن عدم إشباعها يفضي إلى الموت، مثل: الشراب والأكل. 2) طبيعية وغير ضرورية: وتكون مشتركة بين الإنسان والحيوان، وعدم إشباعها لا يؤدي إلى الموت، كالجنس على سبيل المثال. 3) غير طبيعية وغير ضرورية: وهي من خاصة بالإنسان، مثل: الرغبة في التملك، الرغبة في المقام الرفيع، الرغبة في الثروة، الشهرة، إلخ.

يوضّح أبيقور بأنه من أجل معرفة الإنسان بالسعادة، ينبغي إشباع الرغبات الطبيعية والضرورية فقط؛ مثل: الشراب عند الإحساس بالعطش، والأكل عند الإحساس بالجوع، وذلك بهدف التخفيف من الألم الذي هو العطش والجوع. فالتخلص من المعاناة التي هي الجوع والعطش يتأتى بالخبز والماء فقط، وهذا ما يسمّيه غياب الاضطراب، أو طمأنينة النفس؛ أي تلك السعادة التي يدعو تلامذته إليها ويحثّهم عليها.[11]

يقدّم أبيقور طريقته في الاهتمام بالذات من خلال تفعيل ما يسمّى بالعلاج الرباعي، وهو على الشكل التالي: 1) الإله غير موجود، إذ ليس هناك ما نخاف منه من هذا الجانب؛ 2) لا ينبغي أن نخاف الموت، لأنّه مجرّد نهاية تركيب يحمل اسمنا حين تتفكّك ذراتنا التي نتشكّل منها؛ 3) المعاناة يمكن احتمالها، حيث يمكننا، بالفعل، التأثير، من خلال الإرادة، على الجزء التمثلي الذي يعتبر ألما خارج جزئه الموضوعي؛ 4) السعادة ممكنة، إذ يتوجب التركيز على الذات كذاتية حرة، واعتباره الزوائد الخارجية أمورا هامشية مثل: المقام الرفيع، الشهرة، الثروة، السلطة... إلخ.[12]

في مقابل ذلك، كان أبيقور ضحية حكم قيمة حين اتهم بكونه منغمسا في الملذات من طرف الفكر الأخلاقي الذي جاء بعده وبخاصة من طرف الرواقية.[13] لقد كتب الكثير حول الأبيقورية، غير أن الثابت هو ما تعرّض له المتن الأبيقوري من التلف والضياع عبر قرون عديدة من المسيحية. وبما أنّ الأفكار العامة المهيمنة في كتابة التاريخ المسيحي قد تمت استعادتها مؤخرا من قبل المؤرخين (بول فين مثلا: Paul Veyne)، فإن انتصار المسيحية قد كان على حساب الأبيقورية كفلسفة ملحدة في الحياة.[14]

لقد تمت إبادة الوثنية في ظل الإمبراطورية الرومانية كما يؤكّد ذلك المؤرّخ بنيامين غراس (Benjamin Gras)؛ وبالفعل، فقد علمنا تاريخ الفلسفة أنّ انحصار الفكر الفلسفي اليوناني كان موازاة صعود اللاهوت المسيحي الوسيطي. لقد فرضت المسيحية نفسها وهيمنت على التاريخ بعد ذلك، ولجأت في ذلك إلى الباطل والخداع والعنف، والوحشية وتخريب النفائس. هكذا تم تفضيل الفلاسفة الذين كان فكرهم متناغما مع المسيحية: مثالية أفلاطون والأفلاطونيين، ميتافيزيقا أرسطو والأرسطيين، مذهب الألم والمثال الزهدي الرواقي.[15]

بالمقابل، كان كل فكر غير متناغم مع المسيحية غير مرغوب وموضوع اتهام واضطهاد، حيث تم إغلاق مدارس الفلسفة وتخريب المكتبات واضطهاد الفلاسفة، كمثل رجم هيباشيا الإسكندرانية من قبل المسيحيين في بداية القرن الخامس. لقد تحملت الأبيقورية تكاليف هذا الاضطهاد جرّاء قولها بوجود آلهة مادية متعددة، حيث إنّ اللذة تعتبر جذر الأخلاق؛ لذلك لا وجود للخطيئة في تقديرها للحياة، كما أنّ الإنسان ليس سوى ذرات محكمة التنظيم، لذلك لا داعي للخوف من الموت أصلا مادام أنه لا وجود لنفس مجردة وقابلة للخضوع لشريعة إله واحد.

لقد خلّف أبيقور العديد من الكتب والرسائل، لكن تم إتلافها كلّها ولم يتبقى لنا منها إلا رسائل ثلاث وبعض حكم قليلة. نجت هذه الرسائل الثلاث من غضبة المحققين المسيحيين المتعصبين ضد الفلسفة، وذلك فقط، لأنها ضاعت في ذلك الوقت ولم يتمكنّوا منها. فلولا ذلك، لمسح المسيحيون الأوائل من على الخارطة الفلسفية كل الإنتاج الأبيقوري.

لم يكن إعدام كتب الأبيقورية حرقا وحده النهج المتبّع، بل ثمة طريقة أخرى تم اللجوء إليها في تلك الفترة التاريخية، من أجل منع قراءة أعمال فيلسوف كان يضايق ويجادل بأطروحاته في صلب الموضوع الذي يهم المسيحية (الأخلاق)، ألا وهي تشويه سمعته وسمعة حكمته. لقد جعلوا من أبيقور فاجرا يدفع النساء إلى البغاء، وأكولا يتقيأ حتى يشرع من جديد في الأكل مثل الحيوان الشره، مراء يعلم الزهد لكنه يعيش حياة العربدة ويعيش في البذخ.

أيضا بعد ذلك، قام الرواقيون بدورهم بتشويه الأبيقورية، حتى يتسنّى لهم أن يفرضوا هيمنتهم على الحياة الفكرية والثقافية لذلك العصر. ففي الحملات السياسية من أجل الترّشح لمجلس الشيوخ، يكون من السهل التقليل من شأن الخصم بتصويره مثل خنزير؛ لذلك صوّروا أبيقور في أدبياتهم كخنزير لا يشبع. وهكذا انغرست صورة سلبية عن الحكمة الأبيقورية في تاريخ الفلسفة إلى الفترة الحديثة والمعاصرة، حيث سيعاد إليها بعض الاعتبار، كيف ذلك؟

لقد تطلب الأمر، وجود حس متنور لأجل رد الاعتبار إلى صورة وعمل أبيقور، ففي القرن السابع عشر حاول المفكر غاساندي أن يقيم تصالح بين الأبيقورية والمسيحية، وهو تقريب وصلح نجده كذلك لدى إيراسموس ومونتاني. ثم بعد ذلك، جاء نيتشه ليرى في الأبيقورية وثنية بدون فكرة الخطيئة؛ أي فلسفة أخلاقية للخلاص ما قبل المسيحية.

لقد خرج نيتشه من لحظته الفكرية الأولى بفضل الحكمة الأبيقورية، وذلك قبل ولوجه اللحظة الثالثة؛ أي فترة الإنسان الأعلى.[16] كان أبيقورية الفترة الثانية عنده لحظة سلام وسكون؛ أي إيطاليا بعد ألمانيا، جينوفا بعد بايرويت، الشمس المتوسطية بعد الضباب الجرماني. في تلك الحقبة، كان يطمح إلى الاستقلال في الحياة من خلال ابتكار وممارسة إمكانات جديدة للوجود. كان ذلك بنهج طريقة الحمية في المأكل والمسكن، حتى أنه كان يفكّر في حياة العزلة لعقله الحر؛ حياة يتم فيها تكوين أخلاق جديدة مناقضة للمسيحية.[17]

كانت الأبيقورية فلسفة الواقع المعطى، فلسفة ترى أنه لا يوجد إلا عالم واحد لا خطيئة فيه؛ وبالتالي فليست لنا سوى حياة واحدة نعيشها هي هذه الحياة. لذلك تتبدى حديقة أبيقور كما لو أنّها حديقة مضادة لجمهورية أفلاطون، حيث تستقبل الجميع: النساء، الأطفال، الشباب، الشيوخ، الأجانب، المستأمنون (الأجانب المقيمون)، المحرومون من المواطنة.

يعتقد أبيقور أن المرء ليس بحاجة كي يكون إنسانا، مواطنا لأنه ابن مواطن، شاب، من أجل التفلسف، على خلاف أفلاطون الذي ينتخب تلامذته كي يجعل منهم رجال سلطة. يرغب أبيقور في طائفة فلسفية سعيدة في المدينة، مستقلة، مثل مجتمع مصغر يقاوم مجتمعا ينخره الفساد.[18] يرغب أفلاطون في تحويل المدينة، بطريقة أرستقراطية، من أجل تحقيق مجتمع يكون فيه الفيلسوف هو الملك الرئيس في القمة؛ في حين يبقى العمال ينتجون لصالح الطبقة الأساسية بغاية إطعام طبقة الجنود التي تمنع الشعب من القضاء على ملكها.

على خلاف ذلك، تعتبر الأبيقورية أساسا صلبا لكل ديمقراطية في المستقبل، حيث إذا كان أفلاطون صالحا لكل شمولية، فإنّ أبيقور هو المفكر الذي يمنح الوسائل للصمود في وجه الشموليات الممكنة. لذلك، شكّلت الأبيقورية دائما فلسفة الصمود في وجه النماذج المهيمنة التي هي المثالية والروحانية؛ لذلك تعتبر المثالية رفيقة للتيوقراطية، في حين تمثّل الأبيقورية رفيقة الديمقراطية.[19]

تعتبر الأبيقورية أساسا صلباً لكل ديمقراطية في المستقبل، حيث إذا كان أفلاطون صالحاً لكل شمولية، فإنّ أبيقور هو المفكر الذي يمنح الوسائل للصمود في وجه الشموليات الممكنة

تعطينا هذه الحكمة، باعتبارها فلسفة للذة والبحث عن السعادة والاهتمام بالذات، إمكانية مختلفة لعيش حياة فلسفية أساسها الاهتمام بالذات والعناية بها وفق وصفات حكمية عملية وفكرية توجيهية، عمادها جعل المرء نفسه موضوع انشغاله الفكري والفلسفي.[20] وهذا ما لا يوجد عادة في تلك النظريات الفكرية المغلقة التي تمحوّر تاريخ الفلسفة الغربية حولها، ودّب عليها التقليد الميتافيزيقي العقلاني الغربي من أفلاطون إلى كانط.

خلاصة

إذا كان التقليد التاريخي للنظر في الفكر الغربي قد رسّخ اعتقادا خاطئا يزعم أنّ بعض المفكرين: ديوجين الكلبي، أودوكس، سبوسيب، أبيقور، سينيكا... إلخ هم فعلا ليسوا في مستوى أصحاب المذاهب الفلسفية الكبرى: سقراط، أفلاطون، أرسطو، أفلوطين؛ فإنّ محاولة أونفراي الجرّيئة هذه تعتبر بحقّ نموذجا طموحا لفعل تأريخ جديد للفلسفة المهمّشة والمنسية طيلة قرون قد خلت.

يعدُّ نفض الغبار عن هؤلاء المفكرين الذين لم ينصفهم التاريخ الرسمي للفلسفة الغربية دفعا قويّا لدى ميشيل أونفراي للدعوة إلى معارضة هذا التاريخ الرسمي، وذلك لمعاودة قراءتهم من داخله ونفض الغبار عليهم لإعادة تأهيلهم، كما فعل هايدغر بحكمة السابقين على سقراط (هيراقليطس وبارمينيدس خصوصا).

البيّن من كلّ ما سلف، أنّ التقليد الغربي الرسمي لتأريخ الفكر قد غفل فعلا عن الكثير من الجوانب الفلسفية الفكرية الأصيلة لدى المفكرين غير الرسميين المنسيين، الذين طالما بقوا على هامش تاريخ الفكر الفلسفي الأوروبي. لهذا السبب، كانت العودة إلى هؤلاء وقراءة تاريخ الفلسفة من خلالهم خطوة ضرورية لإعادة تشكيل مسار جديد ورسم صورة أخرى مختلفة للفلسفة الغربية تنمحي فيها الحدود بين الهامشي والمركزي.

هذا ما كان يبتغيه مشروع الفيلسوف أونفراي النقدي، وذلك لغرض تصحيح الصورة النمطية القائلة بأنّ الفكر الإنساني يدين دوما لتلك النظريات الفكرية الذائعة الصيت التي أنشأها كبار الفلاسفة. فخلافا للتوجّه الرسمي المهيمن على التقليد الفكري الغربي، يمكن إنجاز تأريخ مضاد للنزوع النظري الميتافيزيقي الكلاسيكي عن طريق تسليط الضوء على فكر الهامش، وإعادة قراءة حكمة المفكرين المغضوب عليهم من طرف التقليد العقلاني الديني الرسمي للثقافة الغربية.

لقد حاول ميشيل أونفراي في كتابه "ضد تاريخ الفلسفة" أن يعيد الاعتبار للمفكرين الهامشيين الذين استبعدت أهميتهم في تاريخ الأفكار الفلسفية، مقارنة مع الذين تسيّدوا هذا التاريخ، وذلك من زاوية نظر فكرية تعتقد أنّ الفكر الفلسفي هو في المقام الأول اهتمام بالإنسان في الحياة اليومية، سواء من حيث طريقة العيش أو طريقة التفكير. لذلك، عمل على إحياء مجموعة من تصورات المفكرين المنسيين حول قضايا أل "هنا" و"الآن"؛ أي قضايا الحياة العملية بما فيها تحصل السعادة وتحقيق اللذة، والعيش في راحة البال والاهتمام بالذات.

والنتيجة المقرّرة لدينا، بهذا الخصوص، أنّ أونفراي قد صّرف انشغاله بتاريخ الفلسفة إلى الاهتمام بوضعية الذات في العالم، في مقابل استبعاد أسلوب التشييد والبناء المفهومي النسقي الذي دأب عليه التقليد الفلسفي النسقي المعتاد في المؤسّسة الجامعية. لذلك، نعتبر هذا الأسلوب محاولة منه لتوسيع استراتيجية الفيلسوف نيتشه في نقد تاريخ الفكر الغربي، المهووس بالنظريات والبحث عن الحقائق المفترضة مسبقا، بدلا من البحث عن سبل عيش الحياة والاهتمام بوضعها الراهني والواقعي.

أ

 

بيبليوغافيا الموضوع

- المراجع بالعربية:

- إميل برهييه: تاريخ الفلسفة، الجزء الثاني: الفلسفة الهلنستية والرومانية، ترجمة جورج طرابيشي، ط الثانية، دار الطليعة، بيروت – لبنان، 1988

- المراجع بالفرنسية:

- Brun, (J): Les Stoiciens; in “Les grands textes”, Bibliothèque classique de philo; édition PUF, quatrième édition, Paris, 1968

- Onfray, (M): La Sagesse tragique: Du bon usage de Nietzsche; le livre de poche, Biblio essais,1er pub, LGF, 2006

- Onfray, (M): Contre-histoire de la Philosophie t1; le livre de poche, Biblio essais, 2007

- Onfray, (M): Puissance d’exister; le livre de poche, Biblio essais, 2008.

- Onfray, (M): Contre-histoire de la Philosophie t3; le livre de poche, Biblio essais, 2009

- Onfray, (M): Vivre une vie philosophique; éd le Passeur, Paris, 2017

- المجلات والمقالات:

- Le Point Références, Hors série: «le Bien et le Mal»; Décembre, 2016-2017

* Michel Onfray.

[1] Onfray, (M): Les sagesses antiques: Contre-histoire de la Philosophie t1; le livre de poche, Biblio essais, 2007

[2] Ibid, p 22

[3] Onfray, (M): Vivre une vie philosophique; éd le Passeur, Paris, 2017, p53

[4] Ibid, p.54

[5] Ibid, p.137

[6] Ibid, p.145

[7] إميل برهييه: تاريخ الفلسفة، الجزء الثاني: الفلسفة الهلنستية والرومانية، ترجمة جورج طرابيشي، ط الثانية، دار الطليعة، بيروت – لبنان، 1988، ص 15

[8] Ibid, p.153

[9] Ibid, p.162

[10] «Le bien comme plaisir» par Christelle Veillard, in Le Point Références-bien et mal, Décembre 2016-2017, p.46

[11] Onfray, (M): Les sagesses antiques; op. cite, p.195

[12] Ibid, p.181

[13] Brun, (J): Les Stoiciens; in “Les grands texts”, Bibliothèque classique de philo; édition PUF, quatrième édition, Paris, 1968, p.81

[14] Onfray, (M): Les sagesses antiques; op. cite, p.195

[15] Ibid, p.197

[16] Onfray, (M): La Sagesse tragique: Du bon usage de Nietzsche; le livre de poche, Biblio essais, 1er pub, LGF, 2006, p.117

[17] Onfray, (M): Les sagesses antiques; op. cite, p.210

[18] Ibid, p.224

[19] Ibid, p.228

[20] Onfray, (M): Puissance d’exister; le livre de poche, Biblio essais, 2008, p78