عيسى ومحمد توازي المسارات، توازي السير .

فئة :  قراءات في كتب

عيسى ومحمد  توازي المسارات، توازي السير .

عيسى ومحمد

توازي المسارات، توازي السير

فرانسيس إدوارد بيترز، ترجمة علي بن رجب

الكتاب من إصدارا دار مؤمنون بلا حدود في طبعته الأولى 2025م، وهو كتاب يبحث في سردية وسيرة كلّ من عيسى ومحمد.

أهمية الكتاب

تتجلى أهمية هذا الكتاب في كونه مساهمة خلاقة تنضاف إلى مختلف المساهمات العلمية التي أخذت على عاتقها العمل على تحرير تاريخ النبوات والرسل [بالأخص عيسى ومحمد]، مما لحق به من الزيادات والإضافات، وتحريره من مختلف الروايات والتصورات التي ترسبت نتيجة خلفيات تاريخية وسياسية واجتماعية، منها ما ارتبط بإحساس الناس وشعورهم الوجداني الذي حضر فيه مع مرور الزمن ما هو عجائبي على حساب ما هو واقعي وتاريخي، ومنها ما أقرته مختلف المؤسسات والزعامات الدينية عبر التاريخ الطويل.

الكتاب بصورة مباشرة أو غير مباشرة يلفت نظر القارئ، إلى أن صورة عيسى ليست هي بالضرورة هي نفس الصورة التي تقول بها الأناجيل الأربعة المتفق بشأنها عند المسيحيين، كما أن صورة محمد ليست بالضرورة هي الصورة نفسها التي تقول بها السيرة النبوية معتمدة على مختلف الروايات والآثار؛ فالضرورة العلمية والمعرفية في نظر المؤلف تقتضي البحث في مختلف الآثار والوثائق والقرائن بهدف الاقتراب من الصورة الحقيقية لكل من عيسى ومحمد، مع العلم أن صورة عيسى ومحمد في الإسلام/القرآن صورة متكاملة ولا تقبل التعارض. أما عند المسيحيين، فذلك أمر آخر.

اقترنت الديانة المسيحية بعيسى عليه السلام، الْمَسِيحِيَّة، أو النَّصْرَانِيَّة، هي ديانة إبراهيمية، وتوحيدية، متمحورة في تعاليمها حول الكتاب المقدس، وبشكل خاص يسوع، الذي هو في العقيدة متمم النبؤات المُنتظَر، وابن الله المتجسد الذي قدّم في العهد الجديد ذروة التعاليم الروحيّة والاجتماعية والأخلاقية، وأيّد أقواله بمعجزاته، وكان مخلّص العالم من الخطيئة الأصلية، بموته على الصليب وقيامته، والوسيط الوحيد بين الله والبشر، وينتظر معظم المسيحيين مجيئه الثاني، الذي يُختم بقيامة الموتى، حيث يثيب الله الأبرار والصالحين بملكوت أبدي سعيد. تؤمن المسيحية بإله واحد، ويشمل مفهوم الله الواحد عند أغلب الطوائف المسيحية ثلاثة أقانيم متحدين في الجوهر، وهم «الأب والابن والروح القدس»، وهو ما يُعرف بالثالوث الأقدس.

واقترن الإسلام برسول الله محمد عليه السلام؛ ففي الوقت الذي يعتقد فيه المسلمون أن الإسلام هو النسخة الكاملة الشاملة للعقيدة التوحيدية التي أُوحيَ بها مرات عديدة إلى الأنبياء، كآدم وإبراهيم ونوح وداود ويعقوب ويوسف وصالح وهود ويونس وموسى وزكريا ويحيي وعيسى. فالوحي قد تجسد في القرآن الكريم. يعتقد المسيحيون عكس ذلك، فهم لا يؤمنون بنبوة ورسالة محمد عليه السلام، وينكرون ذلك. يذكرنا فرانسيس إدوارد بيترز بقوله: إذا تمّ توجيه المسلمين من خلال كتابهم المقدّس إلى احترام عيسى، فإنّ التقاليد الدّينيّة المسيحيّة تنبّه المسيحيّين من أنّ محمّداً كان نبياً زائفاً.

فكرة الكتاب

كتاب عيسى ومحمد توازي المسارات، توازي السير، لمؤلفه فرانسيس إدوارد بيترز، ترجمة علي بن رجب، يضعنا أمام مسارين لرسولين، هما: عيسى ومحمد، والمسار هنا ارتبط عند المؤلف بسؤال مفاده البحث في سيرة كل من عيسى ومحمد، من زاوية المقارنة بينهما، من جهة دعوة كل منهما، والمكان والزمن الذي ظهر كل واحد منهم فيه، ومن زاوية الصعاب والمحن التي واجهها كل منهما، ومن زاوية اتساع الديانتين المسحية والإسلام، عنصر المقارنة هذا الذي اعتمده المؤلف يحمل بين طياته، بأن المسارين مختلفان، بالرغم من أوجه التشابه، فالمسار التاريخي ليسرة عسى ومسار الديانة المسيحية بشكل عام في خط يتوازى مع مسار وتاريخ الإسلام سيرة محمد. وعلى الرغم من عودة كلا الديانتين لصلب الديانة الإبراهيمية أي وحدة الأصل، فإنهما يختلفان من جهة المسار التاريخي والتصوري لمسألة الرسالة والرسول والوحي والنبوة. وقد جاءت فصول الكتاب خادمة لفكرة البحث بمنطق التوازي في النظر إلى كلتا الصورتين لعيسى ومحمد؛ إذ يضم الكتاب تسعة فصول من بينها: عيسى ومحمد/ نقد المأثور: بلوغ سنّ النّضج/ الصوت الحيّ/ الرّسالة: عيسى في الجليل/ الرّسالة: محمّد في مكّة/ فجر جديد: الآثار والتراث

وفكرة التوازي هذه؛ تعود إلى مجال الهندسة، فالمستقيمان المتوازيان لا يتقاطعان أبداً ويقعان في المستوى نفسه، وكلاهما يتوقف وجوده على الآخر، هل هذا يعني أن المسيحية والإسلام في توازٍ لا يقبل بأي شكل من التلاقي والتقاطع فيما بينهما؟ وفي الوقت ذاته لا يمكن لكل طرف من طرف التوازي تجاوز الطرف الآخر أو الإحاطة به، التوازي إذن يقتضي توقف طرف على وجود طرف آخر، وكل طرف في تحدي مستمر ليقنع الجمهور والأتباع بقدر من المعقولية حتى لا ينصرفوا نحو الطرف الآخر، فكل طرف يسيج مجالات الخروج من دائرته إلى دائرة الطرف الآخر؛ وذلك بتسفيه كل مقولة الطرف الآخر، ونعته بالباطل أو الكفر أو الضلال...

الاستمرار في حالة التوزي هذه بين كلتا الديانتين المسيحية والإسلام، أخذت جذورها من سرديات سير الرسل والأنبياء على رأسهم سيرة عيسى وسيرة محمد، قد نجد في المسيحية سردية لسيرة محمد، طبعا ليست هي نفسها السردية التي يعتقد بها المسلمين، فمحمد عند المسيحين مبدع وصاحب هرطقات، بينما في الإسلام هو الرسول المبعوث رحمة للعالمين، وعيسى في المسيحية تحكم صورته مختلف السرديات التي كرستها الأناجيل الأربعة المتفق بشأنها، بينما في الإسلام وعند المسلمين نجد لعيسى صورة وسردية أخرى مفارقة في كثير من صورها لتلك التي يقول بها المسيحيين؛ بمعنى الإسلام من خلال القرآن الكريم ينقل إلينا سردية أخرى لعيسى عليه السلام. فإذا اتفقت السردية المسيحية على أربعة أناجيل، فيمكن أن نضيف إنجيلا خامسا، وهو صورة وسيرة عيسى كما رواها القرآن. أما سردية محمد داخل الثقافة الإسلامية، فجزء كبير منها يعود لمختلف الروايات التي جمعت تحت اسم السيرة النبوية، ونشير هنا لطبيعة الأسئلة المنهجية التي ظهرت في القرن العشرين حول موضوع كتابة السيرة النبوية، هل هي نفس السيرة التي يضمها القرآن الكريم عن شخص محمد ابن عبد الله؟ أم إنها رواية مفارقة في كثير من جوانبها لسيرة وصورة محمد كما قصها القرآن الكريم؟ ففي هذا السياق، نستحضر ما كتبه هشام جعيط كتابه: في السيرة النبوية الوحي والقرآن والنبوة، وقد نحى متحيزا فيه إلى قراءة السيرة النبوية على ضوء ما ورد في القرآن الكريم. فالقرآن كما يضم سيرة عيسى وغيره من الرسل فهو يضم سيرة محمد.

كتاب عيسى ومحمد توازي المسارات توازي السير، يضعنا أمام مسألة معرفية مراجعة وتحليل سير الرسل والأنبياء، يقول المؤلف: لقرون عديدة، كان المُؤرّخون المسيحيّون والمسلمون قانعين بقبول تأكيدات الإيمان حول مواضيع عيسى ومحمّد، ولكن في القرن التّاسع عشر، في مصطلح التطوّرات الفكرية والدّينية التي كانت تحدث في الغرب، منذ إصلاحات القرن السّادس عشر على الأقل والتّنوير في القرن الثّامن عشر، بدأ المُؤرّخون يتناولون من جديد حياة هذيْن الرّجليْن القدّيسيْن فوق الطبيعيّين، يضعون جانباً لتجاهل تأكيدات الإيمان ويطرحون أسئلة تاريخيّة حقيقيّة. ففي سياق التوازي بين مسارات يلفت المؤلف النظر إلى فكرة مفادها بأن أتباع كلا الرّجليْن يرى أنّهما ملهمان من الله، لكن ليس لدينا أدوات لسماع صوت هذا الوحي من السّماء. يمكننا أن نغوص، إلى حدّ ما، في لاوعي كلّ واحد منهما، لكن لا يمكننا الاستماع إلى المحادثة بين يسوع و«أبيه الذي في السّماء» أو سماع ما حدث بين محمّد والملاك جبرائيل.

فالمؤلف يشير هنا إلى طبيعة التحولات العلمية، والتي لحقت مختلف المعارف بما فيها المعرفة الدينية وصور مختلف رجالاتها بما فيهم الأنبياء والرسل. ونقصد هنا بالمعرفة الدينية ذلك الجانب المرتبط بمختلف التصورات والانطباعات التي يقول بها المحبين والأتباع، وقد تتضخم وتتسع مع مرور الزمن وتفارق الواقع والأحداث ومجريات التاريخ مدشنة بذلك مستويات تشكيل وعي يحضر فيه العجائبي والخيال أكثر ما يحضر فيه الواقع وما هو موضوعي في استرجاع صورة كل الأنبياء والرسل. يرى المؤلف أن ذكريات القديسين بما فيهم الأنبياء والرسل وقدرتهم المستمرّة على أداء الأعمال الخارقة تجذب النّاس إلى مقابرهم وأضرحتهم. ولكن إذا نمت سمعتهم بشكل أكبر، فستزداد الأساطير حولهم أيضاً. فالذّكريات تَتوسّع، وَتَتضخّم القصص عند إعادة سردها.

يلفت المؤلف نظر القارئ لأهمية المعرفة التاريخية في إعادة قراءة سير ومسارات صورة كل من عيسى ومحمد، فهو يرى أن صورة عيسى ومحمّد هي في صلب كلّ من المسيحيّة، ليس كرسوم فقط، ولكن كصور مستمدّة من الحياة، روايات يمكن التحقّق منها لشخصيتيْن تاريخِيَتيْن وما حدث لهما ومن حولهما. بالنسبة إلى المؤمن، فإنّ هذه الصورة قد تمّ رسمها بالتفصيل ابتداءً بملامحها الرئيسة، وانتهاءً بخصائصها الدّقيقة وبألوان ودرجات متفاوتة التفصيل. إنّها حزمة معقّدة بالفعل يقبلها المؤمن عندما يُؤكّد، كما يجب على كلّ مسيحي، «أنا أؤمن بيسوع المسيح، ابن الله الوحيد»، أو المسلم، «أشهد... أنّ محمّداً رسول الله»، هي حزمة معقّدة ومُتطوّرَة. إنّ صورة عيسى، التي أعيد رسمها بشكل كبير بألوان رئيسة مختلفة في القرن الرّابع، قد أعيد تشكيلها للكثيرين في منتصف القرن التّاسع عشر ومنتصف القرن العشرين. ما ذا يعني هذا؟ يعني أن صورة كل من عيسى ومحمد عرفت نوع من التزحزح. نعم، ربما هي الصورة نفسها، ولكن بألوان مختلفة وبإحساس آخر وشعور وإيمان مفارق، أو يكاد يفارق كل ما هو عجائبي أو خرافي. في هذا السياق، يجتهد كل من المسيحيين والمسلمين في إعادة اكتشاف كل من عيسى ومحمد بشكل جديد وبصورة مختلفة، صحيح أن ذلك الاسترجاع قد يصاحبه كثير من الجدل والرفض والخلاف والاختلاف... نتيجة طبيعة الصراع ما بين القديم، وبين روح العصر. فالمؤرخون في نظر المؤلف بإمكانهم اليوم إلقاء نظرة على صُور الرّجليْن الحاليّة، والكشف عن العديد من الطبقات المختلفة (وإن لم تكن بالضرورة خاصّة بهم!) التي تمّت إضافتها إلى الأصل. ما يحاولون تمييزه ليس فعلاً، الرّجل الحقيقي الذي يكون قد اختفى بالنسبة لنا، ولكن الصورة الأصليّة، تلك التي بدأ الجيل الأوّل من المؤمنين برسمها لأنفسهم.

مفارقات التوازي

الوحي في الإسلام ظرفيّ تاريخيّ؛ إذ تمّ تسليم رسالة الله الأخيرة للبشريّة من خلال عربيّ في منتصف العمر في زمان ومكان معيّنيْن: محمّد بن عبد الله، أوّلاً في مكّة ثمّ في المدينة، ما بين 610 و632م. وهو القرآن الكريم أمّا بالنسبة إلى المسيحيّين، فالوحي هو التّاريخ نفسه. ينبثق الإسلام من وحي داخل التّاريخ، بينما تعتمد المسيحيّة على التّاريخ بوصفه وحياً، ففي الوقت الذي يتعبد فيه المسيحيون بسيرة عيسى الأناجيل الأربعة، يمتلك المسلمون نسخة من الوحي، فسيرة محمد ليست هي الوحي بل هي جز من تاريخ صاحبه الذي نزل عليه، بينما المسيحيون ليس لديهم هذا الفصل المنهجي بين سيرة عيسى والكتاب الذي جاء به.

في الوقت الذي نعلم تاريخ محدد للقرآن واللغة التي نزل بها، فسياق ظهور الأناجيل يختلف كثير عن سياق القرآن، فيرى المؤلف أن الإنجيل عرف نوعا من التفكّك اللّغوي عند انتقال كلمات عيسى من لغته الآرامية الأمّ إلى لغة الإنجيليّين اليونانيّة، ولكن في هذه الحالة تمّ تسهيل انتقال تلك الكلمات من حقيقة أنّ ناقلي الأناجيل الأصليّين قد عاصروا عيسى وسمعوا كلماته، وكانت لهم آذان مثبّتة بقوّة في الأوساط الثقافيّة اليونانيّة السّامية والهندو- أوروبية. لقد تمّت كتابة الأناجيل في يونانية شعبية، شبه عامّيّة في عالم البحر الأبيض المتوسط.