نظرية الفعل عند الرازي المرجعية التاريخية
فئة : ترجمات
نظرية الفعل عند الرازي
المرجعية التاريخية
تأليف: أيمن شهاده
ترجمة: د. ماجدولين النهيبي
تعدّ أعمال الرازي الكلامية الأشعرية الخالصة البداية الأولى لفكره الأشعري التقليدي، وكذا الاتجاه الذي سينطلق منه فكره ويتطور فيما بعد. وسيتم، في السياق نفسه، تقديم مجموعة كاملة من المواقف والاتجاهات الأخرى المختلفة حول رصيده الفكري في أعماله اللاحقة، حيث سيبدأ بصفة عادية أبحاثه حول طبيعة الفعل البشري؛ وذلك بتدقيق وفحص الآراء الراهنة والسابقة.
في كتابه (أصول الدين)، يوافق الرازي التقسيم الكلامي الشائع للمخلوقات إلى جوهر وعَرَض، مؤكداً أن القدرة البشرية، أو «الاستطاعة»، عَرَض كامن في ذرات الذات البشرية. ويستدل الرازي، كما فعل الأشاعرة سابقاً، على أن القدرة، باعتبارها عَرَضاً، لا يمكنها أن تحتمل أكثر من لحظة واحدة، وهي الوحدة الزمنية الدنيا القابلة للتجزيء[1]. لقد خلق الله في الإنسان القدرة على التصرّف والفعل مباشرةً، تماماً كالفعل الذي يقع في الأعضاء الجسدية؛ فالله تعالى يؤسّس ويحفظ النظام الاعتيادي «العادة» المرتبط بالأشياء المخلوقة، ممّا يجعل بعض أنواع الأفعال البشرية تتبع، بشكل أحادي، لبعض أنماط القدرة البشرية[2].
في هذه المرحلة المبكّرة كان الرازي متفقاً مع عقيدة «الكسب» الأشعرية التقليدية، التي حاولت أن تقيم رابطاً بين قدرة الفاعل البشري وبين أفعاله، وذلك بغرض تأكيد المسؤولية والجبر.
في العرضية الأشعرية، يكون الرابط السببي بين المنفذ البشري وأفعاله محكوماً بالاعتقاد بأن القدرة الأولى الأزلية (القدرة القديمة) هي الموجدة للأعراض والموجودات، بينما القدرة البشرية، بوصفها حادثة، لا يمكنها أن تحدِث أيّ تأثير. ومع ذلك، يُعدّ الإنسان «مكتسباً» للفعل الواقع في أطرافه بحكم امتلاك القدرة التي ترتبط به[3].
لقد ناقش المتكلمون مسألة أسبقية القدرة على الفعل، أو كونهما متلازمين. فبالنسبة إلى الفيزياء الذريّة في علم الكلام الكلاسيكي، إذا بدأ شيء جامد بالتحرّك فسيكون جامداً في الزمن (ز1)، ومتحركاً في الزمن (ز2 = ز1 +Dز)؛ حيث (Dز) هي الوحدة الزمنية الأصغر. الآن إذا تحرك الشيء بسبب فاعل بشري، فهل ستكون القدرة البشرية المرتبطة بهذا التغيير موجودة في (ز1) أم في (ز2)؟ لقد اتفق جلّ المعتزلة حول الجواب الثاني: يحدث الأثر (الحركة) مباشرةً بعد السبب (القوة البشرية)، ومن ثمّة يُنتِج الإنسان أفعاله. بالمقابل، نجد الأشاعرة (ومن بينهم الرازي في بداياته) يدافعون عن كون القوة والفعل متزامنين «الاستطاعة مع الفعل»[4]. ومن ناحية أخرى، إذا كانت القوة موجودة في (ز1)، لكن ليس في (ز2) عند حدوث الفعل، فلن يكون هناك سبب لحدوث الأثر، وهذا غير ممكن في استدلالهم.
يمكن أن نجد التحليل نفسه للفعل البشري في كتاب (المحصّل) الذي كتبه الرازي في مرحلة متأخرة نسبيًّا:
«القوة عَرَض، ولذلك فهي ليست متأخرة [في أكثر من لحظة واحدة] إذا كانت سابقة على الفعل، لن يكون ذلك ممكناً [بالنسبة إلى المنفّذ] أن يكون قادراً على الفعل. حين تكون القدرة موجودة لن يكون الفعل موجوداً، فالعدم الممتد لا يمكنه أن يكون موضوعاً للقدرة (مقدور). إضافة إلى ذلك، في وقت حدوث الفعل، لن تكون هناك قدرة»[5].
ناقش المتكلمون الكلاسيكيون أيضاً إمكان ارتباط حالة للقدرة البشرية بأفعال متعارضة، أو بفعل واحد فقط. يكتب الرازي في (أصول الدين):
إن القدرة الناتجة مؤقتاً ترتبط بموضوع واحد للقدرة (مقدور)؛ أي فعل واحد. وهي بالنسبة إلى المعتزلة ترتبط بالمتعارضات. بالإضافة إلى ذلك، وفقاً لأغلبهم، ترتبط بمواضيع مختلفة للقدرة؛ أي تلك التي تكون متعارضة. يقولون «ترتبط القدرة الناتجة مؤقتاً بعدد لا محدود من مواضيع القدرة في أوقات متتالية»[6].
بالنسبة إلى الأشاعرة، الفعل الواحد المُعيَّن فحسب يمكنه أن ينتُج عن نوع معين من القدرة. والعَرَض لقدرة تحريك ذراعي ستكون موجودة في ذراعي في زمن وقوع الحركة، وسترتبط بهذا الفعل المعين فحسب، ولا يمكنها أن ترتبط بزوال هذه الحركة، أو بفعل مغاير. وخلافاً لذلك، استدل المعتزلة على أن هذا الرأي لا يترك مجالاً لحرية الاختيار لدى الفاعل.
وقد رفض الرازي، في مرحلة مبكرة، حجّة المعتزلة بأن حدوث فعل الفاعل باتفاق مع ما يريده «القصد» أو «الهدف»، دليل على أنه مسبب له. ورأى الرازي، معترضاً، أن هذا الزعم تفنده عدد من الاستدلالات، من بينها، مثلاً، ورود فعل متعارض مع، أو دون قصد، الفاعل، مثل أفعال النائم أو الفاقد للوعي. إضافة إلى ذلك، إذا سلّمنا بأن الله هو خالق الأفعال البشرية، فإن الرأي المعتزلي المذكور سيعني أن الله مضطر إلى خلق الفعل البشري في اتفاق مع الداعي البشري[7].
هناك رأي سابق للرازي حول رفض الارتباط بين الفعل البشري والقصد نجده عند الشهرستاني (ت 547/1153)، في كتابه (نهاية الإقدام)، وهو مفكر من المدرسة الأشعرية. وسنعود إلى هذا الإشكال لاحقاً[8].
إن النظرية الأشعرية التقليدية، التي أعاد الرازي إنتاجها في أعماله الأولى، سيستمر تأثيرها في فكره، على الرغم من أن نظريته اللاحقة حول الفعل البشري ستصير بالغة الانتقائية. وفي أعمال لاحقة، يقدم الرازي وصفاً أشمل لنظريات معاصرة أخرى للفعل، سيتبنّى بعض عناصرها في أعماله.
ويسرد الرازي المواقف الأربعة الآتية[9]:
1- الأشاعرة: وأغلب الأشاعرة، بما فيهم الباقلاني وابن فورك (ت 404/1015)، يؤكدون أن الله هو «المؤثر» الأوحد في الفعل البشري. ويشير الرازي إلى أن الأشعري بينما ينكر أيّ أثر للقدرة البشرية في الفعل البشري، يرى الباقلاني أن صفة الفعل، بأنه طاعة أو بأنه معصية، متوقف على قدرة الفاعل البشري، مع أن الفعل هو من خَلْقِ الله[10].
2- بالنسبة إلى الفقيه الأشعري أبي إسحاق الإسفراييني، ينشأ الفعل البشري عن التداخل بين القدرة الإلهية والقدرة البشرية، ويبرهن على ذلك بأن القدرة البشرية، بخلاف القدرة الإلهية، لا يمكنها أن تنتج أفعالاً بصفة مستقلة، وأن بإمكانها أن تكون فاعلة بوساطة «المُعين»، ومن ثمّ عندما تتداخل القدرة الإلهية مع القدرة البشرية تصير هذه الأخيرة فاعلة[11].
3- في حين تذهب نظرية أخرى إلى أن الفعل يحدث بالضرورة عندما تتحد القدرة والقصد في الفاعل. ويُعدّ أغلب الفلاسفة[12]، وكذا أبو الحسين البصري المعتزلي والجويني، من أبرز المدافعين عن هذا الرأي[13]. ويناقش الرازي: هل اتحاد القدرة والقصد يؤثر في الفعل، أو هو شرط له فحسب. هذا الرأي يدافع عنه الفلاسفة الذين يرون أن مُحدث العالم سبب ضروري، وأن هذا التداخل ينتج عنه «استعداد» يُمَكّن الفاعلية الذهنية من الإتيان بالفعل إلى الوجود. وهو أيضاً رأي تبنّاه المدافعون عن أن الله منفّذ إرادي، خلق القدرة والقصد والفعل في البشر مباشرة دون أيّ وساطة[14]. ويضيف الرازي أنه يوافق هذا الرأي الأخير، مع أنه سيحاول دمج الموقفين معاً.
4- يتمسك أغلب الأشاعرة بكون البشر يتصرفون بــــ «استـقلال» و«اختيار»، مؤكدين أن ذلك معلوم بــــ «النـظر» الفكري، أو بــــ «الاستدلال». ومع ذلك، تبعاً لأبي الحسين البصري، وابن مدرسته محمود بن الملاحمي الخوارزمي (ت 536/1141)، تـكون لنا معرفة مباشرة و«ضرورية» بأننا ننتـج أفعالنا[15].
ويرى الرازي أن هذا الموقف يتناقض مع رأي أبي الحسين القائل: إن الفعل البشري يتحدد بالتداخل بين القدرة والدافع، يكتب:
إنني في غاية الاندهاش من الطريقة التي يدافع بها، في الوقت ذاته، عن كلٍّ من هذا الرأي والرأي القائل: إن الفعل موقوف على الدافع. ويقود هذا الأخير إلى غلوٍّ في الجبر، ومن ثمّ، كيف يمكنه أن يتفق مع قدرية متطرفة كهذه؟[16].
تبعاً لهذا التقسيم تأتي الأفعال البشرية إلى الوجود بالقدرة الإلهية وحدها، أو بالقدرة البشرية وحدها، أو باتحادهما، أو بوساطة القدرة الإلهية بالتأليف بين القدرة البشرية والقصد بوصفه شرطاً مسبقاً. في ما يأتي سنرى كيف ساهمت كلّ نظرية، باستثناء الإسفراييني، في تشكيل نظرية الرازي اللاحقة حول الفعل، وقد طورها خلال انفصاله التدريجي عن الأشعرية الكلاسيكية نحو موقف بالغ الانتقائية.
نظرية الفعل البشري
لنظرية الفعل عند الرازي محوران بارزان؛ فهي ذات ارتباط بالعلوم الكونية في مسألة نشوء أفعال البشر، هل تأتي إلى الوجود من لدن البشر أو من لدن القدرة الإلهية؟ باعتبار [هذه القضية] المشكل الرئيس في المناظرات الكلامية التقليدية حول الفعل البشري.
سنفحص باختصار ما سُمّي مشكل «خلق الأفعال» في الفقرة الأخيرة من هذا المحور. من جهة أخرى، نجد أن لنظرية الفعل عند الرازي جانباً نفسياً (مرتبطاً أكثر بفكره الأخلاقي)، أوّلاً بالنظر إلى طبيعة الاختيار والقصد البشريين وآلياتهما، ويرتبط ذلك بمسألة: هل الفاعل البشري «مجبَر»أو «مخيَّر»؟
ونجد أهم المناظرات المتأخرة حول الفعل البشري في كتب (الأربعين)، و(المعلم) و(التفسير)، وبصفة أبرز في (المطالب)[17]، كما أن الرازي خصص كتاب (الجبر والقدر) لمناقشة القدر والاختيار البشري.
وتدور هذه المناظرات كلّها حول خلاف بسيط يعدّ مركزيًّا في نظرية الرازي المتأخرة حول الفعل البشري، وهو أن الفعل ينتج عندما تتحد القدرة البشرية والدافع. فبمجرد حصول هذا الاتحاد، يصبح ذلك سبباً طبيعيًّا يستلزم أثره بالضرورة. وسنفحص فيما يأتي كلّاً من العنصرين على حدة.
القدرة:
عرف النقاش حول القدرة البشرية تاريخاً طويلاً قبل الرازي. وقد اختلف المعتزلة حول ما إذا كانت القدرة هي «الصحة» و«السلامة» البدنيتين، أم هي عرَض آخر خارجي كامن في ذرات الذات البشرية[18]. وقد تبنّى الأشاعرة التقليديون الرأي الأخير.
يقرّ الأشعري بأن الصحة هي سلامة البناء، وأن السلامة هي غياب العاهات والإعاقات، وأن القدرة مظهر إضافي [لهذه العناصر][19]، كما أن الاستعداد للفعل هو نفسه القدرة، وأنها عَرَض لا يمكنه أن يوجد بذاته، لكنها توجد في «الجوهر الحي»[20]، وهكذا فإن الفرق بين الشخص الصحيح والشخص العاجز هو وجود صفة القدرة في الأول وغيابها في الثاني.
في أعماله المتأخرة، وبالخصوص في كتاب (المعالم)، يرفض الرازي هذا المفهوم الأشعري الشائع، والمتمثل في أن القدرة البشرية عَرَض، موجهاً انتقاده إلى الأشعري بالخصوص. وسيبرهن الرازي على أن القدرة البشرية ليست عرَضاً يسبق بالضرورة فعلاً معيّناً، بل هي سلامة الأعضاء وميزان الأمزجة البشرية[21].
في مسألة كون حالة معينة للقدرة منتجة لفعل واحد أم لأنواع من الأفعال، يكتب:
«يقول أبو الحسن الأشعري: إن القدرة لا ترتبط بالمتناقضات. وفي نظري، إذا كانت القدرة تحيل على ميزان الأمزجة وسلامة الأعضاء، فإنها سترتبط بكلٍّ من الإنجاز وعدمه، وهذا معلوم مباشرةً. لكن إذا دلّ ذلك على أنه، باستثناء اتحاد قصد حاسم ومهيمن مع القدرة، لا ينتج الأثر، وأن الاتحاد لا يرتبط بما يعارضه، يكون ذلك، بالتالي، صحيحاً فعلاً»[22].
هذان التأويلان للوضع -وليس أيّ منهما متوقعاً عند الأشعري- ناتجان عن تخلّي الرازي عن تعريف القدرة باعتبارها عرَضاً؛ بل إنه عادة ما يعني بالقدرة ميزان المزاج والسلامة البدنية. كما أنه يستعمل هذا المصطلح بالمعنى الآتي:
الإحالة على القدرة الفاعلة، وهي تداخل القدرة الممكنة والدافع. وهكذا يحتفظ الرازي بالعقيدة الأشعرية التقليدية التي تقول إن «القدرة ترتبط بفعل واحد فقط». وغالباً ما يقدم الرازي هذا الموقف على أنه الموقف السُّنّي المقبول، وذلك على الرغم من تحليله غير التقليدي له.
يذكر الرازي، أيضاً، في كتابه (المعالم) رأي الأشعري المرتبط بتعريفه للقدرة بأنها متزامنة مع الفعل[23]. إن القدرة، باعتبارها سلامة جسدية وميزاناً مزاجياً، ليست عرَضاً يظهر في الجسم في لحظة ويختفي في نهايتها؛ بل يمكنها أن توجد بصفة مستمرة، قبل وخلال وبعد الفعل، مع أنها تعمل سبباً فحسب عند اتحادها مع الدافع.
ينتج الفعل، إذاً، عن التقاء القدرة والدافع، لا عن مجرد حضور القدرة. عندما يحدث هذا الالتقاء يظهر «مؤثر تام»، وهو ما ينتج الأثر في اللحظة نفسها بالضبط[24]. يستنتج الرازي أنه إذا كانت الاستطاعة دالة على القدرة، فإنها ستوجد واقعياً قبل الفعل. أمّا إذا دلت الاستطاعة على التقاء القدرة والدافع، فإنها تكون متزامنة مع الفعل، «عند الفعل» بتعبيره. ويؤيد الرازي بذلك التركيبة الأشعرية التقليدية، القائلة إن: «الاستطاعة والفعل يكونان متزامنين».
يتفق تحليل الرازي مع الموقف الأشعري التقليدي، بالنظر إلى ذَرِّيّته وربطه الإرادة البشرية بالإرادة الإلهية، مع أن موقف الرازي يشكل نظرية مختلفة جداً. ومن جهة أخرى، تشكّل ذرية تحليل الرازي وربطه الإرادة البشرية بالإرادة الإلهية نقطة الخلاف بين نظرية الفعل عنده وبين نظرية الفعل عند ابن سينا، مع أنه يتفق معه في جملة من الأمور الأخرى.
يرى ابن سينا في (المباحث) أن الزمن خط مستمر، وينتقد من يرون أن «القدرة متزامنة مع الفعل»، ويرى أن عليهم قبول قدرة الشخص الجالس على الوقوف، (بمعنى أنه ليس من الممكن في وضعيته بالنسبة إليه أن يقف)[25] إلا إذا وقف فعلاً، إذاً كيف يمكنه أن يقف؟
ويبرهن الرازي في جوابه عن أن «القوة» هي مبدأ التغيير، وأنها توجد متزامنة مع التغيير الذي تحدثه، بينما ليست القدرة إلا مكوّناً للقوة، وهي موجودة قبل الفعل. ويضيف الرازي: «إذا كان ممكناً تأويل زعم هؤلاء بالطريقة التي نفسّر بها، فإننا لا بدّ أن نهاجمهم ونبرز تفاهة زعمهم!»[26]. من المؤكّد أن الرازي واعٍ تماماً بأنه لا يأتي بمجرد تأويل لموقف الأشاعرة؛ بل بنظرية مختلفة جذريّاً.
الدافعية:
يتطلب إنتاج الفعل البشري، بالنسبة إلى الرازي، اتحاد القدرة مع «المُرَجِّح»؛ إذ إن القدرة وحدها غير فاعلة، وغير ذات أثر، إلّا إذا حركها عامل خارجي. وبما أن الأفعال البشرية احتمالية، وبما أن غياب الاحتمال يتطلب سبباً «للترجيح»، فإن حدوث الفعل لن يكون ممكناً من دون هذا السبب، وسيتطلبه بالضرورة[27].
يرفض الرازي الرأي القائل إن السبب سيجعل حدوث الفعل (أولى) من عدم حدوثه، ويكون الإمكانان متكافئيْن، وفي هذه الحالة ستكون الغلبة للمرجِّح[28]. وبمجرد رجوح الفعلية، سيحدث الفعل على الفور[29].
ويختزل الرازي هذا الاستدلال في كتاب (الملخص):
في أن أفعال العباد خاضعة للجبرية. القدرة البشرية أيضاً لها إمكان إنجاز أفعال مضادة أو لا. يعود مثل هذا الرأي إلى إثبات الجبر. وفي الرأي الأول سيتوقف إنتاج أحد الموضوعين الممكنين من لدن القدرة البشرية على مرجِّح، أو لا يتوقف. إذا لم يكن الأمر كذلك، يستتبع أن أحد الإمكانين البديلين راجح على الآخر دون مرجِّح. وإذا كان القيام بالفعل متوقفاً على المرجِّح، فإن ذلك المرجح سينتج إما عن العبد (ويقع الاختلال المذكور مجدداً)، أو عن الله. ثم إن إنتاج ذلك الأثر، عندما يكون هناك مرجِّح، يكون إمّا ضرورياً وإمّا غير ضروري، وهذا الأخير غير ممكن، لأنه، في ما عدا ذلك، لن يبقى الأثر متكافئاً دون الوصول إلى حالة الضرورة، وهو ما رفضناه في موضع آخر. ويعود الأوّل إلى الجبرية[30].
يؤكّد الرازي، باستمرار، على أن إنكار مبدأ الترجيح سيكون له وقع إنكار وجود الخالق نفسه، وهو ما تتمّ البرهنة عليه بصفة أساسية في هذا المبدأ[31]:
«يعرَّف المرجِّح المعني باعتباره إرادة، أو 'مشيئة' تتصرف كــــ 'إرادة جازمة'، أو كــــ 'ميل جازم'، بما أنه سيتطلب أثره بالضرورة»[32]. وتنجم هذه الإرادة عن سبب نهائي كامن في الفاعل، ويتمثل في قصده، أو هدفه. يكتب الرازي معلقاً على ابن سينا:
ما أحسن قول الشيخ إن «العلة الغائية علة فعلية لعلية العلة الفعلية»! لأن الكائن الحي يحتاج إلى التحرك يميناً ويساراً، ولذلك، قبل رجحان أحدهما على الآخر، سيكون فاعلاً ممكناً. وإذا تخيل النفع في أيٍّ من الحركتين، سيصير هذا الخيال سبباً فعّالاً لذلك الإمكان، ليصير سبباً حقيقياً لأحد الحركتين[33].
في أعمال الرازي المتأخرة، يغدو مفهوم الــــ «الداعي» مركزيًّا عند مناقشته للأفعال البشرية؛ إذ يخصص فصلاً طويلاً لهذا الموضوع في (المطالب[34]). ويبرز ذلك مدى وقوعه تحت تأثير المعتزلة والفلسفة مقارنةً بتأثره السابق بالموقف الأشعري في أصول الدين؛ حيث كان يرفض تماماً المفهوم المعتزلي المتمثل في أن القصد يؤدي دوراً في الفعل.
يحدد الرازي الداعي على أنه حضور «الاعتقاد» أو «الظن» لدى المنفّذ بأن له مصلحة راجحة في إنجاز فعل معيّن، وهو ما يُحدِث ميلاً جازماً في قلب المنفّذ لإنجاز هذا الفعل[35]. في مقابل ذلك، يمكن أن يكون الدافع معرفة أو اعتقاداً أو ظنّاً بأن للفاعل «مفسدة» في فعل ما، ممّا يُحدِث نفوراً، أو «نفْرَة» من القيام به. ويسمى هذا الأخير «صارِفاً»[36].
يؤكد الرازي أن المعرفة دافع أقوى من الاعتقاد، بما أن هذا الأخير، مهما كان قوياً، يكون دائم الارتباط بالشك[37]. مع ذلك، سيشكل الاعتقاد، على أساس التقليد غير النقدي، دافعاً أقوى لدى البعض أكثر مما تشكله المعرفة لدى البعض الآخر. ويرجع ذلك إلى تداخل دوافع أخرى، كالعادات والأعراف الاجتماعية، أو توقع الفاعل نيل إعجاب أو مصلحة أو امتياز جزاءً لأفعاله.
بالإضافة إلى ما سبق، تتضمن كل من هذه الحالات المعرفية (المعرفة والاعتقاد والجزم) دوافع مختلفة جداً من حيث قوتها، ومن ثمّ إن الظن المرتبط بخبر واحد عن فعل ما يُشكّل، على العموم، دافعاً أضعف من الظن المرتبط بأخبار متعددة، ويُعدُّ هذا الأخير بدوره دافعاً أضعف من مشاهدة الحدث نفسه.
يميز الرازي بين «الغرض» باعتباره السبب النهائي لفعل معين؛ أي المصلحة المتوخاة نفسها، وبين القصد باعتباره المعرفة أو الاعتقاد المرتبط بالغرض[38]. ونجد ذلك معالجاً بشكل موسّع في (المطالب)، في محور بعنوان «أن لا شيء ما عدا الاعتقاد والجزم له أثر في الدفع إلى الفعل». وقد طرح فيه مجموعة من المفاهيم الأكثر توسعاً[39]؛ إذ يذكر، مثلاً، أن الدافع للقيام بالفعل هو أنه جالب لــــ «المنفعة»، ومحقق لــــ «المصلحة» في ذاته، بينما الدافع لعدم القيام بالفعل هو أنه جالب لــــ «المضرة» أو «المفسدة» في ذاته. ويبرهن الرازي على ضرورة اعتبار هذه المواقف مَجازية؛ فكون الفعل نافعاً وحسناً لم يكن أبداً سبباً لإنجاز الفاعل له؛ بل ما يؤثر في الفعلية هو معرفة الفاعل أن الفعل المعني يجلب تلك المنفعة[40].
ويرى الرازي، في السياق نفسه، أن وعد الله ووعيده ليس هو ما يدفع الفاعل إلى الفعل؛ بل هي معرفته للمنافع والمضار بعد الحياة. يتساءل الرازي، إذاً، عن تحفيز المعرفة للفعل مباشرة عبر وساطة «الإرادة»، أو «الميل»، أو «الكره والنفرة»، في حالة الردع[41]. وفقاً للرأي الأخير الذي تبنّاه، ستبقى المعرفة المحدد الوحيد للدافعية؛ بل يمكن اعتبارها هي الدافع بهذا المعنى. وتفسر هذا الرأي عملية الترجيح بين اعتقادات متعددة موجهة بطريقة متزامنة في الذهن، وهي التي تنتج إرادة واحدة فقط، أو ميلاً واحداً تجاه الفعل.
يورد الرازي مثال شخص غادر بيته لزيارة صديق له، لكنه تذكر أن عليه المكوث في البيت لأمر مهم؛ إذ سيكون له، في هذه الحالة، حافزان متنازعان: إذا وجد نفسه مقتنعاً بأن المنافع التي سيجلبها من زيارة الصديق ومن العودة إلى المنزل متساوية، فإنه لن يُغَلِّب أحد اختياري الفعل، وسيمكث في مكانه دون اتخاذ قرار، فاقداً لإرادة الفعل. أمّا إذا وقع في خاطره أن إحدى المنفعتين سترجح على الأخرى، فإنه سيتحرك في اتجاهها فوراً.
تبعاً لعبد الجبار، سيكون الحافز هو المعرفة، أو الاعتقاد، أو الظن لما هو صالح في ذاته خُلُقياً، أو ذا منفعة للمنفّذ، مع أنه يقبل بأن أغلب الفعل البشري موجه نحو هذا الأخير[42]. في مقابل ذلك، نرى الرازي يؤكد أن اعتبار المصلحة الشخصية هو الأساس الأول الوحيد لكل حافز بشري.
يستدلّ الرازي على أنه معلوم بــ «الضرورة» أن الطبيعة البشرية (طبع، فطرة) تميل، من دون شك، إلى ما تجده مرغوباً في ذاته، وتنفر مما تجده غير مرغوب في ذاته[43]. وكلّ الأشياء الأخرى مرغوبة أو مجتنبة لفائدة هذين الأمرين. يضيف:
لو أننا تأملنا ورجعنا إلى أنفسنا لوجدنا أن الشيء المطلوب في ذاته هو أحد أمرين، إمّا اللذة، أو الفرح، وأن الشيء المجتنَب في ذاته هو الألم أو الغم. وكل ما يؤدي حدوثه إلى المتعة والفرح مطلوب في سبيلهما، بينما كل ما يؤدي حدوثه إلى الألم أو الغم مجتنب بسببهما. ويحيل اللفظان «خير» و«مصلحة» إلى كل ما هو مطلوب، سواء في ذاته، أم في سبيل شيء آخر، بينما يحيل اللفظان «شرّ» و«مضرّة» إلى كلّ ما هو مجتنب، سواء في ذاته، أم بسبب شيء آخر[44].
البحث عن المتعة واجتناب الألم هما الغريزتان البسيطتان الأوليتان اللتان تحركان كل حافز بشري. هاتان الغريزتان الأوليتان تشكلان العنصرين الأساسيين للحسابات المتخذة في أكثر الدوافع تركيباً كما يأتي: فالضرر، على العموم، الذي يتم اجتنابه لذاته، ينقسم إلى ثلاثة أنواع رئيسة: (أ) الضرر الحقيقي، وهو التجربة الحقيقية للألم، (ب) غياب المنفعة، (ج) غياب ما يقي من الضرر (دفع دافع الضرر). وللمنفعة المبحوث عنها لذاتها، عموماً، ثلاثة أنواع: (أ) المنفعة الحقيقية، وهي التجربة المباشرة للمتعة، (ب) الوقاية من الضرر، (ج) الوقاية مما يعيق حصول المنفعة. ويعدّ بعض هذه الأنواع، على العموم، دافعاً أقوى من الآخر. فتوقع الضرر، مثلاً، دافع أقوى من توقع غياب منفعة مماثلة. بالإضافة إلى ما سبق، تختلف الدوافع من حيث القوة، وذلك بحسب كونها مرتكزة على المعرفة، أم على الاعتقاد، أم على الظن[45].
إن ذهن المنفّذ يقوم بقياس مختلف المنافع والمضار الناتجة عن فعل ما. وإذا اعتقد الفاعل أن الفعل مطلق المنفعة سيكون متحفزاً اضطراراً (مُلْجَأً) للقيام به، وسينجزه بالضرورة، وإذا وجده مطلق الضرر سيعدِل عن القيام به[46].
لكن إذا اعتقد المنفّذ أن الفعل ضارّ ونافع في الوقت ذاته، فإنه سيكون متحفزاً اضطراراً لإنجازه، أو لعدم إنجازه، بحسب إدراكه لغلبة أيّ من الاختيارين. أمّا إذا كان الاثنان متساويين، فإنه سيتوقف عن الفعل[47].
إن جميع الدوافع والموانع التي تؤثر في المنفّذ، في وضعية ما، سوف تتزايد وتتناقص في حسابية مركبة في الغالب داخل ذهنه. فــــ «كميات» الدوافع المتساوية المتنازعة سيحذف بعضها بعضاً، تاركةً كنتيجة أخيرة «كمية واحدة» تؤثر في الفعل. يستعمل الرازي نفسُه لغة رياضية لوصف هذه العملية، ويقول إنه عند حذف الدوافع المتساوية بعضها بعضاً سيبقى «العدد الزائد» بوصفه دافعاً خالصاً بالنسبة إلى الفعل[48].
وتتم هذه العملية الحسابية عبر عدة مراحل. لو فرضنا أن فاعلاً، في وضعية معينة، عليه أن يختار بين أكثر من اتجاه للفعل، وعندما يتوقع أن يؤدي كلٌّ من هذه الأفعال إلى منافع ومضار متنوعة، فإن ذهنه سيقيِّم، أوّلاً، كلّ فعل ممكن على حدة، عن طريق حساب مجموع منافع (هذه الأفعال) ومضارها المتوقَّعة[49].
أمّا المرحلة الثانية، فتتمثل في التوصّل إلى المجموع النهائي لكل جوانب الفعل التي ستنتِج الإرادة المؤدية إلى الفعل.
سيكون من المفيد المقارنة بين نظرية الدافعية عند الرازي وتأثيرها العام، وبين آراء بعض المعتزلة البصريين السابقين، وأهمهم عبد الجبار وأبو الحسين البصري وابن الملاحمي[50].
يرى عبد الجبار أن عملية الإضافة الآلية التي وصفها الرازي لا تستقيم؛ بل يمكن للمنفّذ أن يختار بين دوافع مستقلة تؤثر عليه في وضعية معينة، ولا يمكنه إلا أن يقوم ببعض الاختيارات المفضلة لديه، أو «الأوْلى» بالنسبة إليه.
بالنسبة إلى عبد الجبار، تزوّد الدوافع المنفّذ بمعنى الاتجاهات المختلفة للفعل في وضعية معيّنة؛ إذ [الدوافع] ليست ضرورية ولا فاعلة في عمله[51]. عندما يكون للمنفّذ دافع قويّ بما يكفي، فإنه سيتصرف عندئذٍ بموجبه.
وينتقد الملاحمي عبد الجبار في قوله: إن المنفّذ يمكن أن يتصرف دون دافعية، ويؤكد أن وظيفة الدافع شبيهة بوظيفة الأعضاء الجسدية؛ أي إنها بمنزلة شرط أساسي في إنتاج الفعل بوساطة السببية الفعّالة للقدرة وحدها[52]. وبينما تجعل الدوافع فعلاً «أوْلى» من الآخر[53]، يمكن للمنفّذ أن يختار بحريّة بين هذه الدوافع المختلفة. وفقاً لابن الملاحمي، لا تتبع الدوافع إرادة واحدة، أو ميلاً واحداً مباشراً يدفع المنفّذ إلى الفعل، كما يؤكّد الرازي[54]، لكن حينما يواجه المنفّذ عدداً من الدوافع المشكَّلة من معرفة وقناعات واحتمالات، يمكنه أن يختار نوعاً من الأفعال يوافق واحداً أو أكثر من هذه الدوافع.
يحِقّ، من ثمّ، لابن الملاحمي أن يدافع عن إنتاج دافع ما للفعل أكثر من الدوافع الأخرى، لكنه لا يكون محدِّداً له بالضرورة.
يشير الرازي إلى فرق حاسم بين نظريات الفعل لابن الملاحمي، وبين أستاذه أبي الحسين؛ إذ إن هذا الأخير يتبنّى كون «الفعل موقوفاً على الدافع»، بينما يرى الأوّل أن الدافع لا يُحدِث الفعل بالضرورة، لكنه يجعل حدوثه ممكناً[55]. مع أن أبا الحسين يقرّ بوضوح بأن الدافع ضروري في الفعل. وقد آخذه الغزالي على عزوفه عن الاعتراف بهذه النتيجة البدهية لموقفه. ويمكننا التساؤل، هنا، حول وجود خلاف كهذا بين ابن الملاحمي وأبي الحسين كما يزعم الرازي[56].
في كتابه (المعتمد في أصول الدين)، لا يبدو أن ابن الملاحمي يشير إلى هذه النقطة الخلافية مع أبي الحسين، لكنه يشير إلى خلاف آخر مهم انتبه إليه الرازي، ويتمثل في أن أبا الحسين يؤكّد دور الإرادة في الفعل البشري. فالإرادة بالنسبة إليه تنتجها الدوافع؛ إذ «عندما يعرف الإنسان أن شيئاً ما يتضمّن منفعة كبرى سيجد نفسه طالباً لها، وسيجد أن هذا الطلب ناتج عن هذه المعرفة، وناجم عنها»[57].
يصبح الدافع المباشر هو الإرادة، أو (ميل القلب إلى ذلك)[58]. لذلك، عندما يؤكّد أبو الحسين أن الفعل يفترض وجود الدافعية، وأن وجود دافع واحد لدى المنفّذ في زمن معيّن سيفرض عليه التصرف بموجبه، فإن ذلك يستدعي (وإن كان أبو الحسين لا يعترف بذلك) أن يُشَكِّل ظهور إرادة واحدة من بين دوافع جزئية متعددة؛ إرادة حاسمة. يبرهن الرازي أن أبا الحسين عليه الاعتراف بأن الإرادة تؤدي إلى الفعل، وهكذا يبدو اتهامه بالتناقض مبرَّراً[59].
في كتاب (المطالب) يخصص الرازي محوراً لهذا الرأي، الذي يعود إلى أبي الحسين، بعنوان: «حول ما إذا كان الفعل متوقفاً على الدافعية أم لا»، ويخصص محوراً آخر لاحتياج الفعل إلى الدافع[60].
وخلاصة المحورين هي أن الفعل يحصل إذا، وفقط إذا، حصل دافعه. يضيف الرازي بعد ذلك محوراً بعنوان: «في البرهنة على أنه عند حصول الدافع يصير حصول الفعل ضرورياً، وأنه لا تبقى هناك احتمالية أبداً»، ويعارض فيه القائلين «إنه عند حصول الدافعية يصير إحداث الفعل أكثر احتمالاً، لكنه لا يصل درجة الضرورة»[61]، وهو يقصد ابن الملاحمي[62].
يؤكد الرازي، إذاً، أن الدافعية ليست ضرورية للفعل فحسب؛ بل هي التي تحدِثُه بالضرورة. ويوجه بعض الاعتراضات المرتكزة على ملاحظات لأفعال واضحة مرئية غير مرتبطة بالدافعية.
بالنظر إلى الفعل اللاواعي، يبرهن الرازي على أن الفعل لن يحدُث إلا إذا قصده الفاعل[63]. فما يبدو كأنه تحريك لا إرادي للإصبع، عندما يكون المرء غارقاً في التفكير، هو فعل إرادي، بما أنه سينتِج منفعة (أو غياباً للألم)، وإن كانت ضئيلة ولا واعية في أغلب الأحيان. فمثلاً، قد يسبب عدم تحريك الإصبع لمدة طويلة نوعاً من الملل، أو قد تكون حركة الإصبع اعتيادية، وفي هذه الحالة قد يسبب عدم تحريكه انزعاجاً.
وفي حالة غياب الوعي عند النوم أيضاً، يمكن أن يكون للنائم خيال يدفعه إلى القيام ببعض الأفعال، كالاستدارة من جانب إلى آخر، أو الكلام؛ ويمكن أن تكون هذه الخيالات أحلاماً، أو أن تنتج عن أضرار جسدية، كالنوم لمدة طويلة على الجنب نفسه.
يسوق ابن الملاحمي التفسيرات نفسها حول سلوك النائم في اعتراضاته على موقف عبد الجبار، المتمثل في إمكان وجود الفعل دون دافع، ونجدها أيضاً عند ابن سينا في رفضه آراء المعتزلة حول الاختيار المستقل لدى البشر[64]. ويقبل الرازي تمييز ابن سينا بين الخيال وبين وعي الفاعل بهذا الخيال وتذكُّرِه له[65]. ولذلك، من الممكن أن يتصرف الفاعل بموجب دافع غير واعٍ، أو دافع واعٍ ينساه بعد ذلك.
نجد أيضاً أن كثيراً من المعتزلة، وضمنهم عبد الجبار، يُعرِّفون فعل «العبث» على أنه فعل لا دافع له[66]. لكن من وجهة نظر فلسفية، لا يرى الرازي العبث فعلاً من دون دافعية؛ بل يراه فعلاً غير عقلي دافعه الخيال، وهو فعل غالباً ما يكون غير واعٍ، ومرتبطاً بنتائج لا أهمية لها[67]. نجد ذلك في كتاب (المطالب) ضمن محور عنوانه: «في البرهنة على وجود الغاية في فعل العبث والجُزاف»[68].
يعالج الرازي أيضاً ظاهرة «التردد» التي يذكرها المعتزلة بوصفها علامةً على حرية الفاعل، ويزعمون على غرار الرازي، بأن «التكليف» غير وارد في الذهن عندما يكون الفاعل مدفوعاً بحافز، بينما يكون «التكليف» وارداً في الذهن عندما يكون الفاعل متردّداً إزاء عدد من الدوافع المتعارضة (متردد الدواعي إلى الفعل والترك)[69]. ويجيب الرازي بالبرهنة على أن سبب التردّد هو تعقّد العمليات الذهنية؛ فالدوافع تكون في تحرّك مستمر ومعقّد في قلب الفاعل، بما أن القناعات ظرفية «وسريعة الاختفاء والاستبدال»[70].
إن الأسباب الطبيعية دائمة ومستمرة. فسبب الحرارة يبقى أبداً متّصفاً بهذه الخاصية التي ينتج بموجبها الحرارة، ولا يتغير أبداً... بخلاف الأفعال الاختيارية؛ لأن ما يحدث الحركة نحو اليسار[71] هو تأليف بين القدرة والحافز للحركة نحو اليسار؛ هذه الحوافز أسرع في التقلب والتغير. وهكذا، إذا حدث الحافز للحركة نحو اليمين في قلب الفاعل القادر، سينتج عن هذا الالتقاء حركة نحو اليمين، ثم يختفي هذا الحافز بسرعة ويحلّ محلّه الحافز للحركة نحو اليسار، وينتج عن هذا الالتقاء الآن حركة نحو اليسار[72].
يحصل التردّد، إذاً، حينما يكون للفاعل دافع محفّز للقيام بعمل ما في لحظة ما، ودافع محفز للعدول أو للقيام بفعل مغاير في اللحظة التالية، ويشكل كلٌّ منهما دافعاً مُغرياً. ويسمّي الناس الشخص الدائم التردّد «ذي البدوات»؛ لأنه في لحظة ما «سيبدو» له فعل ما ذو منفعة مغرية، بينما سيرى في لحظة أخرى فعلاً آخر كذلك. ويتصل غياب القرار هذا بطبيعة الشخصية، كما يمكن للفاعل أن يدرك شيئاً يذكِّره، أو يخلق لديه نوعاً من المعرفة أو القناعة التي تحفزه، بينما يخلق إدراك شيء آخر في وقت لاحق قناعة مختلفة في ذهنه[73]. «اعتبارات المنفعة والضرر متعددة وغير قابلة للعد، فكلما زاد حسابها في الذهن كلّما كبرت الحيرة والتردّد»[74].
القدَر
يقدم الرازي حججاً متنوعة ضد زعم المعتزلة المتعلق بالاختيار الحرّ لبني البشر، وتتمثل أهم هذه الحجج في: أن تداخل القدرة والدافع يمكنه أن يُنتِج الفعل بالضرورة، أو لا ينتجه بالضرورة. ويقود الإمكان الأخير إلى نوع من الجبر، بما أن دوافع الفاعل لا يمكنها الارتباط بدوافع أخرى إلى ما لانهاية، لكنها لا بدّ من أن تنتج عن الدوافع التي يخلقها الله. ويستمر الرازي بتقديم حجّة موجهة ضد المعارضين، وهي أن الإمكان الأخير سيترتب عنه أنه حين تأتلف القدرة والدافع يأتي الفعل أو لا يأتي، بعبارة أخرى، إذا تخيلنا أن وضعية ما تفرض على الفاعل القيام باختيار معيّن، وأنها تتكرر في أزمنة متماثلة تماماً، فإن الاختيار الذي سيقوم به الفاعل سيتبع أحياناً لكن ليس في كل الحالات؛ أي إنه سيقع بالمصادفة «بمحض الحظ»، وليس لسبب ما، وهذا سينتج عنه نوع آخر من الجبر، حيث يكون الفعل البشري محدداً بمحض المصادفة، أو الحظ[75].
بعد أن برهن الرازي على أن تأليف الدافع والقدرة يحدّد الفعل، نجده يناقش المرحلة الوحيدة التي تسبق مرحلة إنتاج الفعل البشري؛ أي ظهور الدافع من خلال وضعيات معرفية. خلال استدلالاته على أن المرحلتين كليهما حاسمتان، يثبت الرازي أن الفعل البشري ككل يصبح محدداً، ويكتب في هذا الصدد:
يجد الإنسان نفسه أنه إذا لم يرد أن يفعل فإنه يكون غير قادر على أن يفعل، وإنه إذا لم يرد أن يمتنع فإنه يكون غير قادر على أن يمتنع، فهذه الإرادة ليست نتيجة لإرادة أخرى، ولأنه في حال العكس، سيؤدي ذلك إلى تراجع لا نهائي. من المؤكد، إذاً، أن تلك الإرادات ترجع نحو إرادة ضرورية تقع في القلب دون إرادة، وإذا وقعت هذه الإرادة الضرورية في القلب، سيكون من المؤكد وقوع الفعل بالضرورة. لذلك، فإن وقوع أي إرادة في القلب ليس من فعل الشخص، كذلك وقوع الفعل بعد وقوع الإرادة في القلب ليس من فعل الشخص. ومن ثمّ، الكل من الله، والإنسان مجبَر تحت مشيئة فاعل مريد[76].
في أحد أبواب كتاب (المطالب) يواجه الرازي مسألة: ما الذي يحدد الدافع؟ أي ما الذي يجعل دافعاً ما راجحاً مقارنة بباقي الدوافع في وقت معين؟[77]. ويجيب بأن الله هو الذي يُنشِئ هذه الدوافع، وأن مشيئته هي التي تجعل دافعاً ما راجحاً مقارنة بالدوافع الأخرى. إضافة إلى ذلك، يقسم الرازي الدوافع إلى تلك التي يكون الفاعل سبباً في وقوعها (بإيقاع العبد)، وتلك التي يجعلها الله «ابتداءً» في قلبه[78]. ويكون النوع الأول ممكناً حين يريد الفاعل أن يزيل دافعاً ما، أو ميلاً ما، من قلبه فيجد مقاومة لفعل ذلك. إذا فحص كل شخص نفسه، سيجد فيها القدرة لتغيير أو إزالة دوافع، وهو أمر يرى فيه الرازي حقيقة بدهيّة غير قابلة للنقاش. إن الدوافع التي يجعلها الله مباشرة في القلب تتضمن دوافع تحفّز الفاعل لتغيير دوافع أخرى، وإلا لتطلّب أي تغيير في الدافع وجود دافع آخر، فإن سلسلة الدوافع ستستمر إلى ما لا نهاية.
يستدلّ الرازي أيضاً على أن الدوافع تنشأ عن الأوضاع المعرفية للفاعل، وهي بدورها محدّدة بعوامل داخلية وخارجية[79]. وتتمثل أهم العوامل الداخلية في: (أ) التنوعات في أصل الأرواح البشرية[80]، (ب) الاختلافات في الأمزجة، (ج) الاختلافات الفيزيولوجية. وتتمثل أهم العوامل الخارجية في: (د) الاعتيادية، (هــــ) توقع بعض المنافع أو المضار ارتباطاً ببعض المعتقدات، (و) التمرين النظري. وستحدّد هذه العوامل الستة طبع الفاعل، بينما ستعمل ظروف «اتفاقية» مدرَكة عبر الحواس كعوامل مباشرة أكثر لإنتاج الدوافع[81]، ولن يكون للفاعل تحكّم في أيٍّ من هذه العوامل.
نجد في كتاب (الجبر) قسماً مطوّلاً يتضمن أدلة للفكرة القائلة إن الإنسان لا سلطة له كيف ما كان مضمون معرفته[82]. فالاعتقاد واللا-اعتقاد الديني ذاتهما ليسا نتاجاً لاختيار الفاعل؛ بل هما نتاج القدرة الإلهية المبدعة. وقد تمّ تقديم عدد من الأدلة على ذلك.
تمّ الاستدلال، بدءاً، على أن كل المعرفة المكتسبة تكون موقوفة على المعرفة «البدهية» التي يعرفها العقل مباشرة وتلقائياً، لا اختيارياً. إذاً، في وقت ما كلّ ما يكون ضروريّاً للمعرفة البدهيّة، من أجل استدعاء المعرفة المكتسبة، إمّا أن يكون حاضراً أو أن يكون غير حاضر لدى الفاعل؛ ففي حالة حضوره تأتي المعرفة المكتسبة إلى الوجود مباشرة، لا بالاختيار. أمّا إذا لم تكن موجودة، فإن كلّ ما هو ضروري موجود، وسيبقى ثمّة «أمر ما» ينقص لظهور المعرفة المكتسبة. هذا الأمر لا يمكنه أن يكون معرفة بدهيّةً (وهو ما تمّ افتراضه سابقاً)، ولا يمكنه أيضاً أن يكون معرفة مكتسبة في المقام الأوّل للمعرفة المكتسبة.
يبدو أن الرازي يُلمِّح إلى أن هذه المعرفة لا يمكنها إلا أن تكون إلهية، لا بشرية، ويستنتج أن المعرفة البدهية ليست من إنتاج الإرادة البشرية، وينطبق الأمر نفسه على الأول والثاني وما يتلو من مقامات المعرفة المكتسبة.
يتمثل الدليل الثاني للرازي في ما يأتي: المعرفة إمّا أن تكون «تصوّراً» وإمّا «تصديقاً»، باعتبار الأولى «إدراكاً» دون «حكم»، وباعتبار الثانية إدراكاً مع وجود حكم فعلي. ويستدلّ الرازي أولاً على أن التصورات ليست مكتسبة؛ فإذا أنا حاولت اكتساب تصور ما، إمّا أن يكون لدي شعور بجوهر ما هو متصوّر وإمّا لا يكون، وإذا كان لديّ شعور سأكون قد تصورته فعلاً، وفي حال العكس سيكون ذهني فارغاً منه، ولا يمكنه من ثمّ أن يطلبه. أمّا إذا كان هناك اعتراض بأن الذهن يمكنه أن يكون واعياً فحسب ببعض مظاهره، لا بكليته، فسينطبق الدليل نفسه، مع أن الشعور بجوهر التصور سيحلّ محلّه «الشعور بالمظهر غير المعروف للجوهر/الماهية».
يحتجّ الرازي أيضاً بأننا إذا فحصنا أنفسنا، فسنجد أن التصورات ستكون إما (أ) مشتقة من إدراك المعنى، وإمّا (ب) مؤسسة على الإدراكات البدهيّة، مثل معرفة اللذة والألم، أو (ج) مبنية من لدن الذهن أو الخيال انطلاقاً من النوعين الأولين، وهما غير مكتسبين. وسيكون إدراك شيء من بينهما مستحيلاً، في حين لا تكون التصورات مكتسبة[83].
باستدلاله على أن التصورات ليست مكتسبة، يعمل الرازي على إثبات أن المعرفة قناعة لا يمكنها أن تكون مكتسبة[84]، ويبرهن على أن حالة القناعة ستتطلّب تصوّرين، مثل الفاعل والمفعول. إن حضور هذه العناصر في الذهن ليس كافياً لإنتاج قناعة، وقد تكون هذه الأخيرة بدهيّة (مثل معرفة التصورات بأن واحداً هو نصف اثنين)، وقد لا تكون كذلك، وفي هذه الحالة ستكون القناعة الناتجة معرفة نظرية (كمعرفة «العالم» و«مؤقت»، بما أن حضور كليهما في الذهن كافٍ للاستنتاج بأن العالم مؤقت). في هذه الحالة الأخيرة، إذا كان ما هو ضروري للمعرفة البدهيّة المستدعية للمعرفة النظرية حاضراً في الذهن، ستتبع ذلك المعرفة النظرية بالضرورة لا بالاختيار. يستمرّ الاستدلال بعد ذلك عبر المسارات نفسها المتبعة في الإثبات الأول.
يقدم الرازي ثلاثة أدلة إضافية لدعم فكرته القائلة إن «كل المعرفة والجهل اللذين يقعان في قلوب الناس من الله، وإنهما ينتقلان بواسطته إلى حيّز الوجود»[85].
حين يوضح الرازي أن الفاعل ليس له سلطة على معرفته أو اختيارها، فإنه يغطي كل أجزاء نظرية الفعل الإنساني بإثبات الحتمية المطلقة: اكتساب المعرفة، ونشوء الدافعية من المعرفة، وكذا نشوء الفعل من تأليف الدافعية والقدرة[86].
بالنسبة إلى عبد الجبار، خلافاً للرازي، ليست المعرفة «المشتقة من النظر» محددة[87].
بعد البرهنة لصالح تحديد الأفعال البشرية وفق أرضية منطقية وميتافيزيقية واسعة، يواجه الرازي الاتهام بأنه يعلل الأفعال البشرية باعتبارها أسباباً طبيعية، ويُعقّب على ذلك بأن الدوافع مختلفة من طريقين أساسيين؛ أولهما أن الأسباب الطبيعية تكون ممتدة وأحادية الشكل، بينما تكون الأفعال الإرادية في حركة وتغيّر دائمين، ولا تكون آثارها، من ثمّ، أحادية ومتنبّأ بها دائماً[88]؛ وثانيهما أن الأسباب الطبيعية ليس ثمّة وعي أو معرفة أو فهم لآثارها، بخلاف الفاعلين الإراديين الذين يكونون واعين بأفعالهم، وتكون معرفتهم لفعل ممكن ومتوقع أحياناً جزءاً من السبب الذي أنتجه.
نصِف الفعل، مع ذلك، باعتباره إرادياً «اختيارياً»، والفاعل باعتباره مريداً «مختاراً»؛ لأن الفعل سيتم فحسب في حالة تصوّر المنفّذ أنه صالح «خيّر». هذا التحليل الإتمولوجي ينقل التركيز على كلمة «اختيار» من معناها الاختياري إلى المعنى الآخر المرتبط بــ الجذر «خ ي ر»، وهو اعتبار شيء أخْيَر أو أفضل من أشياء أخرى[89].
لذلك، بالنسبة مثلاً إلى الاعتراض القائل «إذا كان البشر مسيرين، فإن بعث الأنبياء، وفرض الأوامر والنواهي، والثواب والعقاب في الآخرة كلها أمور لا جدوى منها»، يجيب بأن كلّاً من امتثال البشر للأوامر الإلهية وعدمه، وكذا مصائرهم في الآخرة هي أمور مقدّرة. لا توجد نهاية ولا اكتمال للقدر، في أيّ نقطة يكون فيها الظلم منتهياً والعدالة محفوظة؛ بل إن شخصاً ما قُدّر له أن يعيش يوماً سيئاً اليوم، وكذا يوماً سيئاً غداً يضيف سوءاً إلى سوء اليوم مثلما يقدَّر للشخص أن يعيش ما لا نهاية له من الأيام السيئة في الآخرة.
في انتقادهم لمثل هذا التصور الحتمي يقدم المعتزلة اعتراضاً آخر قوياً يؤسسونه على التناظر (القياس)، أو الحكم على الشاهد بوساطة الغائب (ردّ الغائب إلى الشاهد). إذا كان حدوث الفعل البشري مرتبطاً فحسب بتأليف القوة والدافعية، فإن ذلك يصدق على الفعل الإلهي أيضاً، فلو كان كلّ ما هو مطلوب للفعل الإلهي (الفعلية) موجوداً منذ القِدم، لكان وجود العالم قديماً أيضاً.
فإذا لم يكن كلّ ما هو ضروري للفعل الإلهي موجوداً منذ القِدم، لجاء بعضه إلى الوجود في نقطة ما، ولتطلَّب ذلك سبباً آخر ليأتي إلى الوجود، ولتطلّب ذلك السبب سبباً آخر، واستمرت السلسلة إلى ما لا نهاية. يُستنتج من الدليل أن حتمية الرازي ستنطبق كونياً، على كلٍّ من الشاهد والغائب[90]، وستقود، لا محالة، إلى أن العالم قديم، وأن الله هو «العلّة الموجِبة»، وليس مجرّد فاعل مريد. ويقرّر الرازي أن هذه هي أقوى حجّة معتزلية في هذا السياق[91].
الجواب المباشر الذي يقدمه الرازي هو أن رفض الحتمية وإثبات حرية الاختيار البشري سيقود إلى نتيجة أكثر شناعة، وهي إنكار وجود الخالق؛ لأنّ في هذا الموقف مساس بالدليل الأهم على وجوده، وهو مؤسّس على حدوث هذا العالم، وحاجته لمرجِّح يأتي به إلى الوجود. ومع ذلك، يعترف الرازي بأن هذا الدليل المضاد ليس كافياً، ويعِد بالرجوع إلى هذا الموضوع لاحقاً في كتاب (الجبر) لتوضيح الفرق بين الشاهد والغائب بالنسبة إلى هذه القضية.
في محور آخر من هذا العمل، يردّ الرازي على الاعتراض نفسه باقتراح تمييز بين الإرادة البشرية، وهي ظرفية (حادثة)، وهي بذلك تحتاج إلى موجد (محدِث)، وبين الإرادة الإلهية، وهي أزلية ولا مسبب لها[92]، إلّا أن ذلك لا يحلّ المشكل؛ فالمعتزلة يمكنهم البرهنة على أن القدرة الإلهية القديمة، التي لا مسبب لها إطلاقاً، لا بدّ لها من خلق قديم. ولم أجد في كتاب (الجبر) موضعاً لبسط اعتراض المعتزلة في هذا الصدد.
في الحقيقة، يبدو أن إدراج هذا التأثر الفلسفي للرازي في نظريته للفعل هو من المواضع التي يصير فيها المزج بين الفلسفة والكلام أكثر صعوبة[93]، ولاسيّما أن عليه مواجهة انتقادات صارمة للفلاسفة، لكنه في (المطالب)، آخر كتبه الكبرى، يحلّ هذا المشكل في مناقشته لمشاكل أخرى مرتبطة بالفعل الإلهي، وذلك بتبني موقف غير معتاد البتّة، وهو كما يأتي:
في كل أعماله السابقة عن كتاب (المطالب) يؤكد الرازي الاعتقاد السني بأن الإرادة هي صفة إلهية حقيقية، وهي بذلك مختلفة عن صفات المعرفة والقدرة، وهو يموضع (الاختيار) الإلهي في هذه الصفة[94]. وهكذا تتكون صفة الإرادة من كلٍّ من القدرة على الاختيار بحرية بين أمرين ممكنين ومن الاختيارات الفعلية نفسها. ويرفض الرازي آراء بعض المعتزلة حول الإرادة الإلهية، ومنهم البغداديون وأبو الحسين البصري[95]، الذين يؤكدون على أنه، خلافاً للإرادة البشرية باعتبارها حقيقية وناتجة عن دوافع، تحيل الإرادة الإلهية إلى دوافع الإله فحسب، وهي موجودة في علمه[96].
إلا أن الرازي يُعرّف الإرادة في المخلوقات غير الحية؛ أي في «الشاهد»، بربطها بالميل الناشئ طبيعياً عن الدوافع، ويستثني منها، من ثمّ، مفهوم الاختيار. هذا النوع من الإرادة، مثل الإنتاج الطبيعي للدوافع، تصبح جازمة باعتبارها «ميلاً جازماً»، هو مناقض تماماً للاختيار الحر.
ومع ذلك فإذا كانت معرفتنا للصفة الإلهية للإرادة مرتبطة بالقياس، عندئذٍ يتم الحكم على الغائب بالشاهد، وستتبع ذلك نتيجة واضحة.
يصل الرازي إلى ذلك في محور حول طبيعة الإرادة (حقيقة الإرادة) خلال مناقشته للصفات الإلهية:
كل ما نعلمه بصدد معنى الإرادة والكراهية هو ميل الطبع للوصول إلى المنفعة، وميله إلى اجتناب الأضرار. بما أن ذلك ممكن في العلاقة بالله، سيكون من الممكن إثبات مفاهيم القدرة والكراهية له[97].
إن الله لا يفتقر إلى الدافع (وهو من ثمّ لا يحتاج إلى سبب)، وذلك لأنه ليس له إرادة؛ أي ميل ناتج عن دافعية. وكما سنرى في المحور الموالي، يؤكّد الرازي أيضاً أن الأفعال الإلهية ليست لها دوافع ولذلك، عندما يرى أبو الحسين أن «الإرادة الإلهية» لا تحيل إلا على الدوافع الإلهية، ينكر الرازي أن لله إرادة أو دافعية.
هذا الموقف غير العقَدي المتأخر أدى إلى نشوء صراع بين الرازي وبين الفكر السني الذي يؤكّد على أن لله صفة إرادة حقيقية ومتميزة[98]. إنها نتيجة لنظريته حول الفعل يعتقدها فعلاً، وهو لا يعترف لمجرد قناعات جدلية أنها حجة معتزلية قوية. ومن الغرابة أنه عند نفيه صفة الإرادة عن الله، لا يبدو أنه يموقع التدبير الإلهي في أي صفة أخرى، مع أنه يستمر في التأكيد أن الله فاعل له مشيئة.
بوصوله إلى مثل هذا الموقف القوي المتعلق بالفعل البشري والفعل الإلهي، يصير وصفه لموقف أبي الحسين بالتناقض أكثر صلابة:
لقد كان أبو الحسين مرتبكاً في مناقشته حول ما إذا كان إنتاج الفعل من لدن القدرة متوقفاً على الدافعية، فكلما تحاور مع الفلاسفة بصدد قولهم «لماذا خصّ الله زمناً محدداً، لا قبله ولا بعده، لخلق العالم؟» قال: «إن الفعل لا يتوقف على الدافعية»، وكلما تحاور مع أصحابه في كل الأمور الأخرى قال: «إن الفعل يتوقف على الدافعية، وإن الرجحان دون مرجِّح مستحيل في ذاته»[99].
بالإضافة إلى الحجة الأهم حول الرجحان، يعتمد الرازي الحجة التقليدية المتعلقة بالتقدير الإلهي لكل الأحداث انطلاقاً من معرفته القديمة[100]، وهو يرى أن هذه الحجّة، إضافة إلى تلك المرتكزة على نظريته للفعل، هما أقوى حجتيه[101]. وقد اعترف أحد المعتزلة الفطناء بأن هاتين الحجتين هما «عَدُوّا المعتزلية»[102].
وقد حظيت الحجّتان كما وردتا في كتاب (الجبر) بدعم روحي كبير من القرآن والحديث، وكذا آراء الصحابة والفقهاء[103]. وبتأليف هاتين الحجتين الأساسيتين، الأولى فلسفية أساساً، والثانية سُنيّة معروفة، يستنتج الرازي أن الإنسان، على الرغم من أنه فاعل مريد لأنه يتصرّف بوعي، فإنه مجبر أساساً، ويكتب، في هذا الصدد: إن الإنسان «مضطر في صورة مختار»[104]؛ إذ هو «مضطر في اختياره»[105]، وأفعاله «واقعة على سبيل الاضطرار»[106]. ولا ينفك الرازي يؤكّد الجبر بأوضح العبارات؛ فهو يكتب، مثلاً: «تأكيد الجبر لا مفرّ منه (القول بالجبر لازم)، و(ما في الوجود إلا الجبر)، الإنسان (مجبر على الإرادة)»[107].
لم يسبق في الفكر السُّني تأكيد وجود جبر صارم ونسقي كهذا، بالنظر إلى ما يخلقه من مشاكل بخصوص مسؤولية البشر والعدل الإلهي. وبالنسبة إلى الرازي، لا تقلّل مثل هذه المسائل ذات الطابع الأخلاقي من شأن حقائق الميتافيزيقا. ومع ذلك، يحتج على أن البعثة لم تدعُ المؤمنين إلى أن يؤمنوا بجبرية مطلقة نظراً للأثر الضارّ الذي سيحدثه ذلك على إيمانهم[108]. ومع ذلك، كانت للرازي دائماً وجهة نظر سلبية إزاء نعت (مجبرة، جبرية)، وهو يستعمله في مناظراته ضد جهم بن صفوان، وابن محمد النجار، وضرار بن عمر، وآخرين[109]، كما أنه يميز، في بعض المواضع، بين مختلف «الجبريات»؛ إذ يقبل بعضها ويرفض البعض الآخر[110]. في موضع آخر، يبرهن الرازي على أنه ليس جبرياً؛ لأنه يؤكّد أن الإنسان يتصرف بموجب الإرادة (مع أنها خاضعة للجبر أساساً)، بينما الجبرية الخالصة ترى أن الإنسان لا يتصرف بموجب إرادته[111].
يقرّ الرازي، على الرغم من جبريته الجلية، في موضع ما من كتاب (التفسير)، وهو من أعماله المتأخرة، بأنّ مسألة المصير البشري والاختيار لا تخلو من مشاكل، وليس لها حلّ نهائي، يقول: ثمّة سرٌّ بخصوص هذه القضية؛ فالبرهنة على وجود الله تضطرنا إلى القول بالجبر...بينما البرهنة على النبوّة تضطرنا إلى القول بالاستقلالية البشرية (القدرة)[112]. فإذا لم يكن البشر يتصرفون باستقلالية، ما جدوى بعث الأنبياء ونزول الكتب؟
من المؤكد ثمّة، أيضاً، سرّ آخر يتجاوز إدراك الجميع، وهو أننا إذا عدنا إلى طبيعة العقل الأول، سنجد أن الوجود والعدم مرتبطان سويّاً بشيء ما يقود إلى الجبرية، فلا شيء يرجح على الآخر من دون مرجِّح. إننا نجد تمييزاً بدهيًّا بين الحركات الإرادية والحركات بالإدمان، كما أن ثمّة يقيناً بدهيّاً بأن الثواب جيد، وأن العقاب سيئ، ويقيناً بوجود الأوامر والنواهي، وهو ما يقودنا إلى عقيدة المعتزلة. فكما لو أن هذه المسألة تقع في دائرة التناقض (في حيّز التعارض) في العلاقة بكلٍّ من المعرفة المباشرة والمعرفة المثيرة للجدل في علاقتها بتعظيم الله، بالرجوع إلى قوته ومشيئته، وفي العلاقة بإقرار وحدانية الله وتنزيهه، وكذا في العلاقة بما يثبته القرآن...المسألة إذاً صعبة وغامضة، نسأل الله أن يهدينا إلى الحق[113].
في موضع آخر، يكتب الرازي أنه إذا لم يكن هناك حلٌّ راجح لمشكلة ما، فإننا نتركها في (حيّز التعارض)، وذلك بتعليق الحكم[114]. ويبدو في الفقرة أعلاه من التفسير أن الرازي يتأمل في اتخاذ موقف تشكيك حول هذا المشكل، وهو، كما سنرى في الفصل الأخير من هذه الدراسة، ربّما قد نشأ عن تشكيك أوسع ظهر في أعماله المتأخرة.
محور خلق الأفعال البشرية
سنتطرق الآن، باختصار، إلى مسألة السببية التي تحكم الفعل البشري، وتتمثل فيما إذا كان الفعل منتَجاً من لدن القدرة البشرية، أم من لدن القدرة الإلهية. وقد شكلت هذه المسألة جوهر المشكل الكلامي المتقدم حول خلق الأفعال البشرية (خلق الأفعال). وسيستدعي الدفاع عن أن القدرة البشرية تؤثر في الفعل الاعتراف بنوع من السببية الطبيعية، وقد عدّها الأشاعرة التقليديون مناقضة لعظمة القدرة الإلهية، لكنهم، في الآن ذاته، استمروا في القول إن الأفعال البشرية هي من خلق الله مباشرة، وأن الوحدة الطبيعية ترتبط بنظام طبيعي (عادةً)، هو من اختصاص الله، ولا علاقة لها بخصائص كامنة في الذوات الطبيعية، بما فيها البشر. ولاجتناب الجبرية الصارمة، وكذا تأكيد الأوامر الدينية، حاولوا، بعد ذلك، تقريب المسافة التي بدت بعيدة بين الإنسان وأفعاله عن طريق إقامة عقيدة «الكسب». بالنسبة إلى الأشعري، يخلق الله الفعل البشري كما يخلق الاختيار الذي يكسب عن طريقه البشر الفعل وصفته؛ أي كونه طاعة أم معصية. وبالنسبة إلى الباقلاني، تؤثّر قدرة الفاعل نفسها في هذه الصفات المتصلة بالفعل، وتؤثر، من ثمّ، فيما يكتسبه الفاعل. لكن الجويني، الفقيه الأشعري، يخالف في عمله المتأخّر (العقيدة النظامية) الموقف الأشعري المعروف؛ إذ يرى أن الفعل البشري ليس من إنتاج القدرة الإلهية مباشرةً؛ بل هو من إنتاج قدرة الفاعل وحده، وهذه الأخيرة ممنوحة له من الله[115]، وبذلك يتخلى عن مفهوم الكسب الذي هو في نظره «مجرد كلمة ومصطلح لا يدلّ على أيّ معنى»[116]. لقد تعرّض الجويني، بعد ذلك، لانتقاد من قِبل الشهرستاني، وهو أشعري كلاسيكي، بخصوص التلميح إلى نوع من السببية الطبيعية؛ لأن في ذلك مساساً بالقدرة الإلهية المهيمنة[117].
بالرجوع إلى الأعمال الأولى للرازي، نجد أنه يوافق الأشعرية التقليدية في إنكارها للسببية الطبيعة: فهو يدافع عن أن قدرة الفاعل لا توجِد الفعل من أيّ ناحية، مع أنهما متزامنتان عادةً. وبذلك يرفض الرازي، إضافةً إلى موقف الجويني الأخير، عقيدة الكسب عند الباقلاني على أساس اعترافها بفاعلية القدرة المخلوقة، وما يرفضه الرازي يوافق موقف المعتزلة[118].
إذاً، ومنذ مرحلة مبكرة، سيتخلّى الرازي كذلك عن عقيدة الكسب التي كان قد تبنّاها في السابق، فقد توصل إلى أن كلّاً من الاختيار والفعل البشريين هما من خلق الله مباشرةً[119]، وأن الكسب لا يحيل إلى أيّ شيء واقعي؛ بل هو (اسم بلا مسمى)[120]. ويتصل ذلك باعتراض موجّه ضد هذه العقيدة من قِبل انتقادات متعددة موجهة للأشاعرة، بما فيها انتقادات المعتزلة[121]. ومع ذلك، يبرهن الرازي على أن العبارة القرآنية «كسب» تحيل فحسب على نتائج أفعال الفاعل: يدلّ الكسب على ما يصل إليه الإنسان بفعله، فهو إذاً «كسْبُه»- مع وجود شرط بأن ذلك يجلب منفعة أو يجنِّب ضرراً. وعلى هذا النحو، قد يقول قائل إن المنافع هي «كَسْبُ كذا وكذا»، وإنه «يكسب كثيراً أو قليلاً» بما أنها تحيل على المنفعة فحسب. أما بالنسبة إلى ما يزعمه أصحابنا بالقول إن «الكسب» منزلة وسط بين الجبر واستقلالية البشر (خلق)، فإن ذلك قد ورد في الكتب القديمة للمتكلمين[122].
لم يكن الرازي بحاجة إلى اللجوء إلى هذه العقيدة (المتجاوزَة كما يبدو)، إلى أن رأى بأن نموذجه للفعل البشري لا يقود إلى المشاكل نفسها التي ظهرت في النموذج الأشعري للفعل. ولذلك، يورد الرازي في كتاب (الجبر) الأخير دليلاً للمعتزلة من النصّ القرآني حول بدهيّة كون الإنسان ينتج أفعاله، وهو ما يعارض عقيدة الكسب. ويذكر أن المعتزلة يستنتجون أن إيراد كلمة «الكسب» في هذا الموضوع هو (محض تزوير). ويجيب، بالإشارة إلى الفكرة المعارضة القائلة إن الله يخلق ويُقدر كل الأحداث:
من الضروري التأليف بين الموقفين. نقول: إن التأليف بين القدرة والدافعية (مؤثرة) في الفعل، وخالق هذا التأليف هو الله جلّ وعلا. ولما كان هذا التأليف يستلزم وقوع الفعل، فإنّ إلحاق الأفعال بفاعلين بشريين سيكون حقيقياً. ولما كان هذا التأليف يتطلّب موجِباً لوقوع هذه الأفعال، يصح القول إن كلاً بمشيئة الله وقدرته. وفق هذا المسار يختفي التعارض بين البداهة العقلية والبداهة القرآنية. اعلم أن ذلك صحيح تبعاً لموقفي بالخصوص، بما أنني أتبنّى أن التأليف بين القدرة والدافعية يستدعي الفعل. أمّا من لا يتبنّى ذلك، فسيكون من الصعب عليه قبول هذه الآيات[123].
بعيداً عن الدفاع عن موقف الأشاعرة، يقدم الرازي موقفه بديلاً أكثر تقدماً. ويبدو أنه يتبنى، في هذه الفقرة الأخيرة على وجه التحديد، القول إن الفعل ناتج عن تآلف القدرة والدافعية بدل كونه صادراً عن الفعل الإلهي مباشرة. وسيقوده ذلك إلى نزاع عنيف مع الأشعرية التقليدية، التي تؤكد، ليس فحسب الهيمنة الإلهية المطلقة على الموجودات؛ بل أيضاً أنه خلقها كلّها مباشرةً: لقد حاولوا إثبات كلّ من القضاء والخلق. وهذا يضطرنا إلى السؤال الآتي: هل عمل الرازي في كتابه المتأخر (الجبر) على إثبات القضاء فحسب؟ لكنه نادراً ما كان يناقش مشكل السببية الطبيعية مباشرة، وهناك إشارات في الأعمال المتأخرة للرازي إلى أنه تخلّى عن الموقف الأشعري الكلاسيكي بخصوص هذه القضية؛ فمثلاً خلال تعليقه على السورة القرآنية [البَقَرَة: 22]: {وَأَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَراتِ رِزْقاً لَكُمْ}، يطرح السؤال حول ما إذا خلق الله الثمرات بعد المطر بالحفاظ على الترتيب المعتاد للأشياء المخلوقة، أم أنه خلق الطبائع الأصلية للماء والأرض لينتجا نباتاً حين يلتقيان. ويكتب الرازي أنه مع أن الله قادر على خلق هذه الثمرات مباشرة (ابتداءً)، دون أية وساطة، فإن ذلك لا يتعارض مع قدرته على خلقها عبر وساطة ظواهر طبيعية. ويضيف بعد ذلك أن المتكلمين يبدو كأنهم عدّوا هذين الرأيين متعارضين، لكنهم ليس لهم دليل على هذا الموقف[124]. يبدو أن الرازي ينكر، مع ذلك، أن يأتي الأثر إلى الوجود عن طريق هذه العمليات الطبيعية، بما فيها تلك التي تتحكم في الفعل البشري، والسبب في (هذا الموقف) تأثره بالفلاسفة في قولهم:
عند حدوث القدرة مع الدافعية، يقع (استعداد تام) لإنتاج الفعل، فهذه القدرات الفيزيقية ليست لها القدرة على الإحداث أو التأثير في أيّ شيء. عندما يحدث الاستعداد التام، ينشأ الوجود عن (واهب الصور) عبر هذه الجواهر فتصير موجودة، وهكذا يُنتج حدوث القدرة مع الدافعية الاستعداد التام، بينما الوجود والحدوث (الحصول) يُنشئها واهب الصور[125].
على الرغم من رفضه عقيدة الفلاسفة المتمثلة في الانبثاق والوساطة الكسمولوجية للعقل الفاعل[126]، يقبل الرازي مفهوم ابن سينا المتمثل في أن الأشياء الفيزيقية يمكنها أن تنتج الاستعداد لحصول حدث ما في العالم الفيزيقي، لكن الحدث سيأتي إلى الوجود بفعل الله مباشرة. يكتب:
يستلزم التقاء القدرة والدافعية حدوث الفعل، لكن كلّاً من الملزوم واللازم يحدث بالقدرة الإلهية. كذلك، على الرغم من أن المادة والحادث متلازمان، فإنهما يأتيان إلى الوجود بقدرة الله وحده[127]. وهكذا، فكل الأسباب المخلوقة، بما فيها الإرادة البشرية، هي في الحقيقة مجرد أحداث ناشئة عن الإرادة الإلهية الفعلية، وهي تتصرف لا بوصفها أسباباً فعلية؛ بل بوصفها أسباباً مادية لحدوث الأفعال البشرية.
يؤكد الرازي أن كل المخلوقات تأتي إلى الوجود من الله مباشرة، وبينما يمكن وجود بعض الأشياء فحسب لكونها ممكنة، فإن أشياء أخرى ستتطلب وجود بعض العوامل «المُعِدّة»[128]. ويوضح أنه على الرغم من هذه الطريقة التي ينتج بوساطتها الأثر عادة، فإن ذلك لا يتعارض مع قدرة الله، بما أنه مبدئياً قادر على تعليق النظام الطبيعي وخلق آثار دون أيّ أسباب مساعدة، كما هو الحال في المعجزات النبوية مثلاً. بعد كتاب (الجبر)، يلخّص الرازي في (المطالب) موقفه كما يأتي:
لتفسير الكيفية التي يكون فيها العامل فاعلاً، نرى أن التقاء الإرادة والدافع الخاص (مستلزم) لوقوع الحدث. وقولنا «يستلزم» يحيل إلى عامل مشترك (قدر مشترك) لهذا الائتلاف باعتباره سبباً مُهيِّئاً (سبب مُعِدّ) لحدوث ذلك الفعل، ولكونه (سبباً مؤثراً) فيه. وبما أن موجد[129] القدرة والدافعية هو الله جلّ وعلا، وبما أن ثمّة برهان على أن التقاءهما يستلزم وقوع الفعل، سيصبح العامل فاعلاً حقيقياً (فاعل في الحقيقة)؛ لأن المؤثر في هذا الفعل هو قدرته ودافعيته. كلّ أفعال البشر، إذاً، تحدث وفقاً للأمر الإلهي وتقديره (سلسلة قضاء الله وقدره). ويتمثل الاستدلال على ذلك في أن رجحان أحد البديلين يتوقف على المُرجِّح، وقد تم الاستدلال على أن المرجِّح هو من صنع الفعل الإلهي[130].
لكن هذه الفقرة ليست واضحة. فهل يأتي الفعل إلى الوجود بالتقاء قدرة الفاعل ودافعيته، أم بالقدرة الإلهية؟ وعلى أيّة حال، مع أن آراء الرازي في هذا الصدد تستحقّ فحصاً أدقّ ممّا تتيحه هذه الدراسة، يمكننا أن نستنتج بوضوح أنه في أعماله المتأخرة يقبل نوعاً من السببية الطبيعية المتعارضة أساساً مع الموقف الأشعري التقليدي، ويقيم ربطاً حقيقياً مباشراً وأحاديّاً وضروريّاً بين الحدث وسببه الطبيعي. وعلى هذا النحو يتمّ إنتاج الفعل بمعنى حقيقي من لدن فاعله البشري، ويكون هناك رابط حقيقي ومباشر بين الحالة الداخلية للفاعل وبين فعله.
لقد طوّر الرازي نظريته حول الفعل متأثراً بمصادر مختلفة، فلسفية وأشعرية ومعتزلية، لكنه يطرح حلّاً متميّزاً. ومع أنه يحتفظ بعدد من العقائد الأشعرية المركزية، فإنه يحتفظ بعباراتهم الشكلية العقدية تقريباً، لكن دون الكثير من تفاصيلها ومضامينها النظرية. وقد شكّل التساؤل حول موقفه، أهو أشعري أم فلسفي، موضوعاً لمناظرات الأشاعرة المتأخرين. وفي إحدى المناظرات التي أقامها محمد عبده (ت 1323/1905)، يقول: «مع تفسير الرازي، يلتقي موقف الشيخ [الأشعري] بموقف الفلاسفة...وموقف الإمام [الرازي] هو موقف الباحث المحقِّق»[131].
[1] - أصول الدين، ملف 220، Harry Wolfson, Philosophy of the Kalam, 522. ff.
[2] - انظر فقرة في الملل، ص100 وما بعدها.
[3]- أصول الدين، ملف 231، حول عقيدة الكسب، انظر: Daniel Gimaret, Théories.de l'acte humain, 69 ff
[4] - أصول الدين، ملف 222، 225.
[5] - المحصل، 253.
[6] - أصول الدين، ج. 227
[7] - أصول الدين، ملف. 203-4.
[8] - الشهرستاني، نهاية الإقدام، 80-3.
[9] - الجبر، 9-13، الأربعين، 227-8. المحصل، 455، البراهين، 1، 216-7، التفسير، 4، 87-8.
[10]- انظر الباقلاني، التمهيد، 286. انظر: .D. Gimaret, Théories de l'acte humain, 92 ff
[11] - انظر الشهرستاني، نهاية الإقدام، 87، D. Gimaret, Théories de l'acte humain، بالنسبة للإيجي في المواقف، 8، 147، يتفق ذلك مع رأي الإسفراييني أن أثراً واحداً يمكنه أن يكون نتيجة لسببين منفصلين.
[12] - انظر سلمان البدر، نظرية ابن سينا في الفعل، 65 وما بعدها.
[13] - في التفسير، 4، 88، تمت الإشارة إلى عمل الجويني العقيدة النظامية.
[14] - الجبر، 11، 2.
[15] - الجبر، 12، الأربعين، 228.
[16] - الأربعين، 228، الجبر 228، البراهين، 1، 216-7.
[17] - الأربعين، 122-54، 227-46، المعالم، 78-85، المطالب، 3، 9-73.
[18] - الأشعري، المقالات، 229، أبو رشيد، المسائل، 241 وما بعدها.
[19] - ابن فورك، المجرد، 117.
[20] - ابن فورك، المجرد، 107.
[21] - المعالم، 81-2، انظر الجبر، 40.
[22] - المعالم، 83-4.
[23] - المعالم، 83.
[24] - المعالم، 83.
[25] - ابن سينا (الشفاء، الإلهيات، 1، 176-7) ينسب هذا الرأي إلى بعض القدماء، وضمنهم الغاريقوي (هكذا وردت)، وكذا بعض الناس أتوا بعده بزمن طويل، ومن المحتمل أنهم الأشاعرة. بالإشارة إلى القرنين الرابع والثالث قبل الميلاد نجد أن أصل المدرسة الغارقية هي الميتافيزيقا الأرسطية. (ابن رشد، تفسير ما بعد الطبيعة، 2، 1124-6)، تعاليق: في أيامنا، من بين أتباع ديانتنا، هذا الرأي متبنى من الأشعرية، وهو رأي ضد الطبيعة البشرية، بالنظر إلى كل من العقائد والأفعال. انظر المدرسة المغارية.
[26] - المعالم، 1، 382-3، الملخص، 159 ب-160 أ، ابن سينا، الشفاء، الإلهيات، 1، 176-7.
[27] - المباحث، ملف.1، 383، الملخص، 160 أ.
[28] - المباحث، 2، 516-7، انظر الجبر، 33-4.
[29] - الجبر، 29.
[30] - الملخص، ملف. 349 ب.
[31] - الجبر، ملف 22، وانظر التفسير، 13، 187.
[32] - المباحث، 2، 517-8، 3، 13، المحصل، 257، الجبر، 25، 41.
[33] - اللباب، 85-6، انظر شرح الإشارات، 1، 192-4، ابن سينا، الشفاء، الإشارات، 3، 30-1.
[34] - المطالب، 3، 7-73. وقد خصص عبد الجبار سابقاً كتاباً لموضوع الدافعية، ولا يُعلم أنه من الممكن العثور عليه (انظر: ابن الملاحمي، المعتمد، 510).
[35] - المطالب، 3، 9.
[36] - المطالب، 3، 13.
[37] - المطالب، 3، 14-6.
[38] - المطالب، 3، 10.
[39] - المطالب، 3، 17-8.
[40] - المطالب، 3، 18.
[41] - المطالب، 3، 19-20.
[42] - مثلاً: عبد الجبار، المغني، 6/1. 196.
[43] - المطالب، 3، 21، الجبر، 41.
[44] - المطالب، 3، 21، انظر النفس، 19-20، المعالم، 86.
[45] - المطالب، 3، 23 وما بعدها.
[46] - المطالب، 3، 25. يستعمل الرازي لفظ «الإلجاء»، وهو لفظ استقاه مباشرة من استعمال المعتزلة. ويبدو أن عبد الجبار اقترض هذا اللفظ من أبي الهاشم الجبائي للتعبير عن الحالة الخاصة للفعل القصدي الذي يجد الفاعل نفسه مجبراً على فعله (المغني، 11، 395، 12، 128. انظر: Richard Frank, ``The Autonomy of the Human Agent in the Teaching of Abd al-jabbaar'', 340; D. Gimaret, Théories de l'acte humain, 56 ff.). تبعاً لعبد الجبار، عندما يكون الفاعل معرّضاً لدافع واحد قوي بما يكفي، سيستحيل عليه التصرّف بأيّ طريقة أخرى، وهكذا نكون ملجئين. ولذلك عدّ المعتزلة الإلجاء حالة قصوى، ولا يمثل الفعل البشري بصفة عامة. ويجعله الرازي عاماً متضمناً كل الأفعال البشرية.
[47] - المطالب، 3، 26. الجبر، 22-33.
[48] - المطالب، 3، 26.
[49] - مثلاً: المطالب، 3، 34-5.
[50] - تأثير أبي الحسين وابن الملاحمي في الرازي أشار إليه ابن المرتضى (الطبقات، 119).
[51]- انظر: R. Frank, ``Autonomy of the Human Agent'', 341-3
[52] - ابن الملاحمي، المعتمد، 510-4.
[53] - ابن الملاحمي، المعتمد، 514.
[54] - ابن الملاحمي، المعتمد، 240 وما بعدها.
[55] - الجبر، 12-3، الأربعين، 228
[56] - حسب وايلفريد مادلونج (المعتزلة المتأخرون، 254) من المستبعد أن يغير ابن الملاحمي نظريته الرئيسة جذرياً.
[57] - ابن الملاحمي، المعتمد، 240-1. ويقدم الرازي آراء المؤلفين معاً في النهاية، ملف. 125 أ.
[58] - ابن الملاحمي، المعتمد، 251.
[59] - حول نظرية الفعل لابن الملاحمي، انظر: Late Mu'tazila'', 250-6;، ولاحقاً: .Martin McDermott, ``Abu'l Husayn al-Basriy on God's Volition''
[60] - المطالب، 3، 37-43، 3، 45-53.
[61] - المطالب، 3، 55-60.
[62] - الأربعين، 228.
[63] - المطالب، 3، 42.
[64]- انظر ابن الملاحمي، المعتمد، 510-4، ابن سينا، القضاء والقدر، 55، وانظر: .Madelung, ``Late Mu'tazila'', 251
[65] - المطالب، 3، 42-3، شرح الإشارات، 1، 188-9، شرح عيون الحكمة، 3، 43، الملخص، ملف 186 أ، انظر ابن سينا، الإشارات، 2، 460.
[66] - بهذا المعنى لن تكون الأفعال العبثية ممكنة في نظرية ابن الملاحمي (مع أنه يستعمل اللفظ)، بالنظر إلى تأكيده على استحالة الأفعال غير المحفَّزة (انظر: Madelung, ``Late Mu' tazila'', 253) إلا إذا اعتبر الأفعال العبثية كفعل لا يتلاءم مع الدافع الأولي، بل مع دافع أضعف.
[67] - شرح الإشارات، 1، 188-9، شرح عيون الحكمة، 3، 41-3. انظر ابن سينا، التعليقات، 83، 141، الإشارات، 2، 459.
[68] - المباحث، 1، 535-7، انظر شرح عيون الحكمة، 3، 42-3.
[69] - المطالب، 3، 26-8.
[70] - المطالب، 3، 27، انظر 3، 31-2.
[71] - بقراءة «يسرى» عوض «يمنى».
[72] - الجبر، 26، المطالب، 3، 27-8.
[73] - الجبر، 43.
[74] - المطالب، 3، 28.
[75] - الجبر، 13-4.
[76] - مناقب الإمام الشافعي، 122.
[77] - الجبر، 28-9.
[78] - المطالب، 3، 61-2. انظر الأربعين، 127: «إن الميولات والرغبات تعود إلى ميل وحافز يقع في القلب، إما بخلق الله، أو بسبب سماوي». فاختيار شخص عطشان ما بين كوبي ماء موضوعين أمامه يعود إلى هذه الأسباب السماوية، أو يستند إلى الأسباب الفلكية. يمكن أن يؤدي الشيطان دوراً في الحافزية البشرية بتذكيره الفاعل بالمتع المرتبطة بمعصية ما، من دون وسوسته يكون ناسياً لها. ويمكن لملاك أن يذكره بالمتعة المرتبطة بطاعة ما، وتتوقف كلا الحالتين على الاستعداد النفسي للفاعل تجاه مثل هذه التأثيرات. (المطالب، 7، 329-31).
[79] - الجبر، 35-46.
[80] - تمت مناقشة ذلك في ص. 118-20 وما بعدها.
[81] - الجبر، 43-4.
[82] - الجبر، 101-10، انظر الأربعين 235-7، التفسير، 24، 179.
[83] - الجبر، 105.
[84] - الجبر، 105-7.
[85] - الجبر، 108.
[86] - انظر: المحصل، 136-7، الأربعين، 330-2.
[87]- انظر: .D. Gimaret, Théories de l'acte humain, 48 ff.; Madelung, ``Late Mu' tazila'',246
[88] - الجبر، 26، انظر ص28 أسفله. الملاحظة نفسها أوردها ابن سينا، انظر البدار، «نظرية ابن سينا في الفعل»، 67.
[89] - انظر اللوامع، 360، المطالب، 7، 329، ابن سينا (التعليقات، 52-3) أورد تمييزاً مشابهاً بين الأسباب الطبيعية والأسباب الإرادية، ويضيف بأن الأفعال البشرية لن تكون قصدية في الحقيقة.
[90] - إن عالم الشهادة، بخلاف عالم الغيب، يكتب الرازي، هو كل ما يرتبط بالأجساد والأشياء الجسدية؛ لأن المرء يلاحظ هذه الأشياء بالبصر. (التفسير، 1، 275).
[91]- الجبر، 15-6، الأربعين، 230. انظر: .Gimaret, Théories de l'acte humain, 149-51
[92] - الجبر، 27. انظر الأربعين 230.
[93]- انظر: .Madelung, ``Late Mu' tazila'', 256-7
[94] - الإشارة، ملف 23 ب- 24 أ، النهاية، 125 أ، المحصل، 391، الخمسين، 47-8، الأربعين، 147، المعالم، 54. حول أن المفهوم الأشعري الكلاسيكي للإرادة يتضمن الاختيار، انظر مثلاً: البغدادي، الأصول، 102.
[95] - أصول الدين، ملف 243. انظر الشهرستاني، نهاية الإقدام، 238، وما بعدها.
[96] - حول موقف أبي الحسين، انظر أيضاً ابن الملاحمي، المعتمد، 240-1، 252.
[97] - المطالب، 3، 178، ومن ثمّ فهو لا يصنف القدرة من بين الصفات الإلهية الحسنى. (المطالب، 3، 5).
[98] - ابن تيمية (المجمع، 13، 128ز انظر 6، 245) يكتب: «الرازي يناقش مسألة القدرة في المطالب العالية، ويختار إنكار قدرة الله، ولأنه كان عاجزاً عن دحض حجة الفلاسفة باستعمال مبادئ أصحابه من الجهمية والمعتزلة لاذ بالانحياز إلى جانبهم». وقد خصص ابن تيمية أيضاً عملاً لرفض هذا الموقف المعبر عنه في المطالب. (ابن عبد الهادي، العُقَد، 51).
[99] - الجبر، 12، في حلقة لاحقة من هذا النقاش، ابن تيمية (المنهاج، 1، 111، انظر الدار، 1، 326) يتبنى هذه الحجة، لكنه يوجهها إلى الرازي: كلّما تناقش الرازي وأتباعه مع المعتزلة في مسائل القدر يقولون إن أحد موضوعات قدرة الفاعل يكون غالباً بوجود غالب مهيمن فحسب، وكلّما تناقشوا مع الفلاسفة في قضايا خلق العالم، وحول إثبات الاختيار الإلهي، ورفض علّة ضرورية، وهو مفهومهم للوجود الإلهي، يتبعون طريق المعتزلة والجهمية في قولهم إن أحد موضوعات القدرة لدى الفاعل يمكنها أن تتغلب على الباقي دون وجود غالب مهيمن. لكن ابن تيمية نفسه يرتكز على أدلة شبيهة بأدلة الرازي في انتقاده لموقف المعتزلة والقدرية حول حرية الاختيار عند البشر. (الدار، 1، 329).
[100] - الأربعين، 343-4، المحصل، 471، المعالم، 89-90، الجبر، 46-65.
[101] - انظر مثلاً: الجبر، 341، حيث يتحدث عن مسألة الداعي ومسألة العلم.
[102] - المحصل، 471.
[103] - الجبر، 113-389. الرازي يوضح منهجيته العامة في معالجته للأدلة القرآنية، وهو صريح في كونها أقلّ استنتاجية من الأدلّة العقلية. (الجبر، 113- 118). في دفاعه عن أن القرآن يتضمّن آيات تدعم كلّاً من جبرية الأفعال وحرية الاختيار، يفترض أن الخطاب الإلهي يتضمن كلاً من الحقيقة والمجاز. وعلى المرء أن يحاول رؤية الحقيقة خلف هذا الأخير عن طريق التأويل. (الجبر، 132-3).
[104] - اللوامع، 242، التفسير، 24، 179، المطالب، 3، 60، الجبر، 25: 258، المناقب، 122. انظر: ابن سينا، التحقيقات، 51، 53. الرازي (التفسير، 15، 64) ينقل أيضاً هذا الشكل من الدفاع عن الجبر عن الغزالي (الإحياء، 4، 235).
[105] - الجبر، 43، المباحث، 2، 517، المحصول، 1 / 2، 389. انظر: الغزالي، الإحياء، 4، 6: الكل من الله، وبالفعل الاختيار أيضاً من الله. والإنسان «مضطر في الاختيار الذي له». وقد تركت أقوال الرازي أثراً بالغاً في بعض المؤلفين اللاحقين (مثل الأصفهاني، الكاشف، 4، 35-6، التفتازاني، الشرح، 4، 263).
[106] - الجبر، 41.
[107] - تباعاً: الجبر، 43، المطالب، 2، 217، الخلق، ملف. 46 أ.
[108] - انظر ص. 145 أسفله.
[109] - الاعتقادات، 103-6.
[110] - مثال، يجيب المعتزلة: «إذا كنتم تقصدون بالجبر ضرورة اقتضاء الفعل وقوع الدافعية وعدم وقوع الموانع...فإن ذلك هو موقفنا» (النهاية، ملف. 227 أ).
[111] - المناقب، 127.
[112] - يستعمل الرازي أحياناً «القدرة» بالمعنى المعتزلي للتعبير عن اختيار الفاعل وقدرته.
[113] - التفسير، 2، 52-3.
[114] - الملخص، ملف. 1 أ.
[115]- المحصل، 455، التفسير، 4، 88. انظر: الجويني، النظامية، 30-5، D. .Gimaret, Théories de l'acte humain, 148-9
[116] - الجويني، النظامية، 32.
[117] - الشهرستاني، نهاية الإقدام، 78-89.
[118] - المحصل، 471.
[119] - النهاية، ملف. 91 ب.
[120] - المحصل، 470، الجبر، 260-1.
[121] - التفسير، 4، 87-8. انظر: عبد الجبار، المنجي، 8، 83 وما بعدها.
[122] - التفسير، 5، 208 (في تعليقه على الآية القرآنية 2: 202). انظر: التفسير، 1، 69، 12، 157، 17، 110.
[123] - الجبر، 300-1.
[124] - التفسير، 2، 110.
[125] - الجبر، 11. انظر: ابن سينا، النجاة، 136 وما بعدها.
[126] - مثلاً، الكمالية (عر.). 63، (فار.). 74 حول الدور الكوني للعقل الفاعل، انظر: .Herbert Davidson, Alfarabi, Avicenna, and Averroes, on Intellect, 74 ff.
[127] - الجبر، 11-2.
[128] - المباحث، 2، 507-8.
[129] - بقراءة «موجِد» عوض «موجِّه».
[130] - المطالب، 3، 73.
[131] - عبده، الحاشية، 76.






