أثر المعتزلة في الفكر الإسلامي الحديث: عمارة أنموذجاً


فئة :  قراءات في كتب

أثر المعتزلة في الفكر الإسلامي الحديث: عمارة أنموذجاً

عنوان الكتاب: أثر المعتزلة في الفكر الإسلامي الحديث: محمد عمارة أنموذجاً

اسم المؤلف: عمار بنحمودة

صدر عن: مؤسسة (مؤمنون بلا حدود)، والمركز الثقافي العربي

تاريخ الصدور: 2014م

"أثر المعتزلة في الفكر الإسلامي الحديث: محمد عمارة أنموذجاً"، هو أحدث أعمال الباحث التونسي عمار بنحمودة، صدر للمكتبات العربية عن مؤسسة "مؤمنون بلا حدود للدراسات والأبحاث" (الرباط)، والمركز الثقافي العربي (بيروت ـ الدار البيضاء). (توزع العمل على 270 صفحة من الحجم الكبير، الطبعة الأولى 2014م).

جاء الكتاب موزعاً على ثلاثة أبواب، متفرعة بدورها على ثلاثة فصول. الباب الأول تحت عنوان "تاريخ المعتزلة"، ويتضمن الفصول التالية: مقدمات تاريخية [من خلال التوقف عند تحولات فرقة المعتزلة من زمن القوة والازدهار إلى زمن الضعف]، إسهام الهنود المسلمين في إحياء تراث المعتزلة [من خلال التوقف عند أعمال سيد أحمد خان]، إسهام المستشرقين في جهود إحياء المعتزلة، والاستشراق هنا في شقيه الكلاسيكي والمعاصر.

أثر الاستشراق وفكر النهضة في مواقف محمد عمارة، هو عنوان الباب الثاني، وتضمن الفصول التالية: أثر التيار الاستشراقي [مع التوقف عند الأثر الإيجابي والأثر السلبي]، أثر رواد الإصلاح والتجديد، حيث توقف المؤلف عند أثر الأفغاني ومحمد عبده في تلقي محمد عمارة للاعتزال، وأخيراً، قراءة هرمينوطيقية لأثر الأفغاني وعبده في تلقي عمارة لفكر المعتزلة.

وأخيراً، جاء عنوان الباب الثالث كالتالي: أثر المعتزلة في فكر محمد عبده، وتضمن الفصول التالية: الآثار الدينية [بين الأثر الكلامي والأثر الأصولي]، الأثر القيمي [وتضمن لائحة من المحاور المفصلية في الكتاب، وهي: العقلانية الإسلامية إحياء لعقل المعتزلة؛ أثر المعتزلة في صياغة مفهوم الحرية عند عمارة؛ العدل: بين مفاهيم التراث والمعاصرة؛ الوسطية: بين الحقيقة والوهم؛ وأخيراً، الثورة وتبيئة المفهوم]، قراءات في خطاب المعتزلة الجدد، محمد عمارة أنموذجاً، وتوزعت على القراءة الهرمنطقية والقراءة النفسية والقراءة الأنتروبولوجية.

نقرأ في مقدمة العمل أنّ الفكر الاعتزالي فكر تراثي قديم نشأ في إطار علم الكلام، وكان هاجسه الدفاع عن عقائد الملة تجاه من كانوا يهددون كيانه في الداخل والخارج. ومن الواقع السياسي الذي عاشته الدولة الإسلامية زمن حكم الأمويين نشأت قضايا المعتزلة، فخرج من بين موقف الخوارج "المتشدد" وموقف المرجئة "المتساهل" موقف وسط يقول بالمنزلة بين المنزلتين، ونشأ فكر المعتزلة متورطاً في شواغل عصره حد النخاع، فتَفَاعَلَ معها. وبتفاعلها مع الواقع تطورت مقولات المعتزلة وتفرعت، فتنوعت وعبَّرت عن اختلافات محمودة في قضايا دينية متشعبة، كان لها أثرها في الخاصة والعامة على حد سواء. ولم يكن الواقع وحده محركاً لهذا الفكر، بل كان الجدل المذهبي محركاً آخر أسهم في تأكيد الاختلاف بين الفرق الإسلامية التي تطمح في مشروعها "الثيولوجي" إلى أن تستأثر وحدها بالجنة، وفي مشروعها الفكري والسياسي إلى أن تهيمن وتحكم.

محمد عمارة وتلقي الفكر الاعتزالي

وواضح من خلال أبواب وفصول الكتاب أنّ العمل يشتغل على تفاعل المفكر المصري محمد عمارة مع الفكر الاعتزالي، ومَهَّدَ لهذا الاشتغال عبر طرح لائحة من الأسئلة، نذكر منها الأسئلة التالية:

كيف تلقى محمد عمارة الفكر الاعتزالي بتنوعه؟ هل خضع للانتقاء؟ وإن كان الأمر كذلك فأيّ معيار اتخذه عمارة في هذا الانتقاء؟ ماذا أخذ وماذا ترك؟ ولماذا نفر الرجل من الفرق الأخرى، فاختار منها فرقة واستهجن الباقي، والحال أنّ حقيقة الإسلام لا تفهم إلا في إطار تنوع المذاهب واختلاف المسلمين مللاً ونحلاً؟

كيف يمكن لجدل قام في أزمنة مضت، واتصل بقضايا العصر الذي نشأت فيه، أن يتحول إلى عصر لا ثبات فيه تنقلب فيه العقلانية على ذاتها كلّ يوم نقداً وتجديداً وفي إطار نظام عالمي تباينت فيه الفوارق السياسية والاقتصادية بين الشمال والجنوب؟ وكيف لـ"نَظَّام الأمس" أن ينافس فكر ديكارت؟ أو لفكر نشأ ليعالج قضايا عصره أن يكون في ذهن صاحبه أقدر على علاج معضلات عصر جديد؟ وكيف لعقل المعتزلة أن يصمد أمام الأنساق الفلسفية التي تأسست عليها العقلانية الغربية؟

قد تبدو هذه الأسئلة غريبة من الوجهة العلمية، لأنّ مقارنة فكر قديم بآخر حديث لا يستقيم، لاختلاف السياقات التاريخية التي نشأ فيها كلّ فكر، فلكلّ واحد منها معقوليته التي تخضعه، ولكن، يضيف المؤلف، ما دام هذا الفكر يدعي لنفسه القدرة على أن ينافس غيره من الأنساق الفكرية، فإنّ المقارنة تصبح ممكنة بين الفكر الاعتزالي كما تلقاه محمد عمارة، ومن غيره من المقاربات التي تحاول النظر في المسائل نفسها، واستدعت إحياء فكر المعتزلة، دون إغفال أنّ ساحة الصراع بين المُقلدين والمُجددين في هذا الباب هي علاقة صراع حول طبيعة التراث الذي يجب أن يحتكم إليه الخصمان: هل هو ذلك التراث النقلي الذي يتجسّد في الكتاب والسنّة وما جاء من الآراء الرسمية للفقهاء الذين سماهم أركون "الأورثوذكسية السنيّة"؟ أم هو التراث الذي يعتبره محمد عمارة عقلانياً لا بدّ من إحيائه وإعادة تمثله كي يكون مشروعاً محلي الصنع يواجه بضائع العقلانية الغربية، الغريبة عن حضارتنا؟

يندرج هذا العمل في إطار نقد الخطاب الديني [الإنساني/ البشري، وليس المقدّس] الذي يُقدم نفسه، باعتباره مشروعاً معاصراً للنهضة الإسلامية، ينافس "بسلفيته العقلية" المزعومة تيار "السلفية النصوصية" وتيار "التغريب العلماني" الذي يحاول القطع مع كلّ التصورات التراثية. إنّه خطاب ديني يدّعي لنفسه الوسطية بين تيار الغلو السلفي وتيار الغلو العلماني، وهو ما سيدعو الكاتب إلى إيضاح مفهوم "الوسطية" كما تمثله محمد عمارة، محاولاً أيضاً النظر في مدى علمية هذا المفهوم وفق منطق الأنساق الفلسفية الحديثة التي نقدت الخطاب الديني. (اعتمد المؤلف مثلاً، في هذه الجزئية، على الآراء القيمة التي قدمها المفكر التونسي أبو يعرب المرزوقي في نقاشه لمفهوم الوسطية عند محمد عمارة).

نقد مفهوم الوسطية

في زمن الفِتن التي اختلطت فيها شعارات الدين والسياسة والمذاهب والطوائف، تعرضت مجموعة من المفاهيم للتشويش واللغط، من فرط توظيفها عن حسن أو سوء نية في صراعات ومشاريع واستراتيجيات.

لعل مفهوم "الوسطية" في مقدمة هذه المفاهيم التي نحسبُ أنها تعرضت للاختطاف من قِبل العديد من الجماعات والتيارات الدينية، مع أنّ مُجرد رفع شعار "الوسطية" يثير الالتباس أكثر ممّا يقدم أجوبة تطمئن العامة [المجتمع] والخاصة [الدولة] بخصوص التأسيس لأجواء الثقة مع الفصيل الديني الذي يزعم أنه وسطي، وبيان ذلك أنّ المُجتمعات المُسْلمة مجتمعات وسطية أساساً، ولكنها لا ترفع شعار الوسطية ما دمت تمارسها على أرض الواقع منذ قرون، دون مزايدات أو توظيفات، بخلاف التيارات والجماعات التي ترفع هذا الشعار، بما يُفيد أنها كانت متشددة، ولكن قامت بـ"مراجعات"، وبالتالي أصبحت تؤمن بوسطية التديّن، على غرار تديّن المجالات التداولية التي تقيم فيها؛ أو أنها تشكك في وسطية هذه المجالات التداولية، وتؤمن بنموذج مُغاير لهذه الوسطية، وهو ما تروج له في الشعارات التي ترفعها، من قبيل "الوسطية" و"التدرج" و"الاعتدال".

بالعودة إلى كتاب عمار بنحمودة، فقد اشتغل بالتحديد عند مقتضى مفهوم الوسطية لدى محمد عمارة، حيث يُعرفها هذا الأخير سلباً بالمقابلة مع العامة ومع أرسطو، وإيجاباً بحلّ كل معضلات الوجود والقيم أو بتجاوز الثنائيات التي عدد الكثير منها، وهذا يتعارض مع النص القرآني الذي يعتبر أنّ تلك الأسرار من علم الغيب وليس من حل لها. وهو ما يدعو المؤلف لكي يطرح أولاً مسألة التمييز بين الوسطية الإسلامية والوسطية الأرسطية، حيث اعتبر عمارة أنّ الوسطية الإسلامية تحلّ كل الثنائيات، لولا أنّ هذا حل مستحيل في المستوى النظري، لأنّ ادعاء وجود حلّ نظري معناه موت الفكر، وبلوغ نقطة نهائية لا يحتاج الإنسان بعدها إلى التفكير، وهو سبب رئيس لتأخر الفكر الإسلامي وتراجع الإبداع فيه.

ليس هذا وحسب، يُضيف المؤلف، فالاختلاف قائم حتى في تحديد مبدأ الوسطية، فمحمد عمارة يرى أنّ الفكر الاعتزالي نموذج للوسطية الإسلامية، من خلال مبدأ المنزلة بين المنزلتين، إلا أنّ فريقاً آخر يرى أنّ الشافعي مثال هذه الوسطية، ولكن الأخطر من تحديد موقع الوسط أن تتحول الوسطية إلى مبرر لإقصاء المختلف بدعوى التطرف أو التساهل.

ولأنّ عمارة اكتفى في مقاربته لمفهوم الوسطية بالمراجع الإسلامية للمفهوم، يُواجهه المؤلف بلائحة من الأسئلة الوجيهة: هل يمكن الحديث عن الوسطية في التعامل مع فكر الآخر المختلف؟ فأين الوسطية حقاً بين دعاة التمسك بالتراث، والمدافعين عن المعاصرة؟ وكيف نتصور وسطية بين الاشتراكية والرأسمالية؟

وواضح أننا إزاء مفاهيم ديناميكية متطورة تنقد نفسها باستمرار، ولا يمكن أن تمثل نقاطاً ثابتة يسهل تحديد الوسط فيها.

إسقاط سلاح الفلسفة

خلُصَ الباحث في خاتمة الكتاب إلى أنه منذ المحاولات الأولى لاستعادة تراث المعتزلة وتأويله، لم يستطع المفكرون المسلمون، وتحديداً الأفغاني ومحمد عبده، استعادة التراث لذاته، وإنما وظفت قراءتهم للتراث من أجل البحث في قضايا الواقع. وقد كانوا واقعين تحت تأثير التيارات الفكرية التي سادت عصرهم، والأنساق الفلسفية التي كانت فاعلة ومن كتاباتهم، وقد قضى الواقع بأن يوجه نظرهم نحو مشاكله، وهي الاستعمار والاستقلال والحرية والاستبداد والعدل والثورة.

بالعودة إلى تعامل المفكر المصري محمد عمارة مع الفكر الاعتزالي، اعتبر الباحث عمار بنحمودة أنّ قراءة عمارة تجاهلت الواقع في بحثها عن حلول لمشاكل النهضة والهويّة، وراحت تتعسف عليه، لتحول إلى قوالب تصب فيها أفكارها، فأصبحت ترى في التاريخ اليوناني امتداداً لما صار عليه الغرب من عقلانية، ووحدت ثوابت قراءتها لثقافة الآخر، حتى صار الآخر المستهجن كفراً أو استعماراً، لتشرع الإعراض عنه، بينما أخضعت التراث إلى قراءة إقصائية راحت تنقد تراثه السنّي، وتستبعده من النموذج الذي تريد صياغته، كذلك الشأن مع الفرق الأخرى كالخوارج والشيعة والمتصوفة، وصارت الحقيقة كامنة في الرؤية الاعتزالية التي أزاحت بفضل قراءتها الإقصائية كلّ المنافسين من تيار "السلفية النصوصية" أو "العقلانية الغربية الملحدة"، وهو ما أوقع هذه القراءة في هاوية "الإيديولوجيا" التي أعادتنا إلى ساحة الصراع التاريخي بين "النقل" و"العقل"؛ أي بين المعتزلة وأهل الحديث.

ويكمن عيب هذا الخطاب أيضاً، حسب المؤلف، في تجاهله مكتسبات الواقع من العلوم الصحيحة والإنسانية والفلسفات المعاصرة والحديثة، فهو وعي يكتفي بالمقاربة الدينية، وكأنّ العقل ما يزال في مرحلة الطفولة الفكرية، كما انساق هذا الفكر من حيث لا يدري وراء التيار الاستشراقي الذي يفصل بين الهويات، ويعتبر الغرب عقلانياً، بينما الشرق ينزع إلى الخيال، فقاد ذلك إلى نتيجتين رئيستين:

1 ـ النتيجة الأولى: السقوط في الفهم الذي أراده الاستشراق، فصارت الهويّة ذات مفهوم منغلق، مُستَمدٍّ من مقولات "العقلانية الإسلامية"، ولا يعترف بالمقابل بالعقلانية الغربية الملحدة؛

2 ـ النتيجة الثانية: هيمنة النزعة الدفاعية، فقد صار الخطاب يسعى إلى تلميع صورة الذات، ويحاول الحمل على الإقناع أنها تمتلك في إطار تلك الهويّة مقوِّمات تضاهي الغرب في تقدمه، فكانت عقلانية المسلم مقابل عقلانيتهم، وحريتنا مقابل حريتهم، والشورى مقابلة لديمقراطيتهم، فوقع هذا الفكر في فخ التقليد بدل الإبداع والابتكار وولّى وجهه شطر المتخيّل في الوقت الذي أشاح بوجهه عن الواقع.

يأخذ المؤلف على محمد عمارة [باعتباره أحد رموز خطاب "العقلانية الإسلاميّة"] إسقاط سلاح الفلسفة، حيث كشف محمد عمارة من خلال مؤلفاته أنّ العقلانية صارت تقتطع من التراث ما يلائم رؤيته الإيديولوجية، وتقصي سائر التصورات التي لا يمكنه تمثلها بحكم تكوينه المعرفي المُرتكز على النصوص التراثية.

نقول هذا أخذاً بعين الاعتبار أنّ الخطاب الديني اليوم لم يعد منفرداً في ساحات المعرفة، بل صار من الأكيد الوعي بانتصارات العلم وفتوحات الفلسفة والعلوم الإنسانية، لأنّ تجاهلها سيحكم على المقاربة الفكرية بالقصور والانعزال في كهف الماضي، خاصة أننا نعيش واقع الاختصاص، ويتمّ اليوم رسم حدود معرفية صارمة تضمن للعقل الإنساني مزيداً من التعمق في المجال الذي يقاربه، تحقيقاً للنجاعة وبعداً عن التعميم والضبابية في الرؤية.

هذه "زبدة" أحدث أعمال الباحث التونسي عمار بنحمودة، والمُخصّصة لنقد أعمال المفكر الإصلاحي المصري محمد عمارة، الذي كان إلى وقت قريب يرأس تحرير المجلة الرسمية التي تصدرها مؤسسة الأزهر الشريف، وهذه "زبدة" لا تُغني طبعاً، عن قراءة العمل ونقده، من باب تغذية الملكة النقدية للفكر العربي المعاصر.