الخراط : قارئ تأويل التاريخ العربي عند جعيط والعروي وأركون


فئة :  قراءات في كتب

الخراط : قارئ تأويل التاريخ العربي عند جعيط والعروي وأركون

كيف ينظر المفكر العربي المعاصر إلى تاريخه؟ كيف يحقق الموضوعية في تأمل ذاته الماضية؟ كيف يتعامل مع اللحظات الكبرى، وكيف يرى امتداداتها وتمفصلاتها؟ ما هي الأحداث الحاسمة التي يتوقف عندها وما هي القرون المديدة التي يمرّ عليها متلفعا بالصمت؟ كيف يعالج علاقة الديني بالسياسي؟ كيف يوفق بين التأويل ـ وهل التاريخ إلا تأويل ـ وادعاء الموضوعية؟ متى يتجاوز السرد إلى الفهم؟.. أسئلة ضمن غيرها توقف عندها الباحث محمد الخراط في عمل حديث الإصدار، يحمل عنوان "تأويل التاريخ العربي"، صدر عن مؤسسة "مؤمنون بلا حدود للدراسات والأبحاث"، الرباط، و المركز الثقافي العربي، بيروت ـ الدار البيضاء، ط 1، 2013.

جاء الكتاب موزعا على مقدمة وثلاثة أبواب، كانت عناوينها كالتالي: "العلاقة بين التأويل والتاريخ"، "نماذج تطبيقية من تأويل التاريخ العربي في كتابات العروي وجعيط وأركون"، وأخيرا "تقويم ومقارنة"، وهو باب مُخصّص لتقويم عام لفكر الأعلام المغاربة الثلاثة، قبل عقد رؤية مقارنية في مستوى المناهج والمواضيع من جهة، ورؤية مقارنية في مستوى الرهانات والنتائج من جهة ثانية. وضمن كل باب خلاصة جامعة لأهم مضامين الباب، كما تضمن العمل فهرسا لأهم المفاهيم والمصطلحات. (جاء الكتاب موزعا على 416 من الحجم الكبير)

نجد في المقدمة أسباب تحرير العمل ندرة الدراسات المختصة في تحليل الخطاب العربي المعاصر المهتم بتأويل التاريخ، حيث بدا للمؤلف أن هذا الضرب من الأعمال محدود، وأكثر من ذلك جزئي أو قطاعي يعمد أصحابه إلى معالجة أثر واحد أو فكرة واحدة لهذا المفكر أو ذلك، حيث سيغيب في نظر محمد الخراط الموقف النقدي الشامل الذي يسمح بإصدار حكم حول آليات العقل العربي الحديث والمعاصر، ويضيف الخراط أن مجال القراءة التاريخية وتأويل التراث وإعادة قراءة الفكر العربي والإسلامي عرف نقلة نوعية منذ كتابات عبد الله العروي في مجال التاريخ والفكر، وإلياس مرقص في مجال الفلسفة السياسية أساسا. وازدادت تنوعا ببحوث المفكر محمد عابد الجابري والمفكر محمد أركون منذ مطلع الثمانينيات، لا سيما في مستوى دراسة العقل سواء كان العقل العربي مع الجابري أو العقل الإسلامي مع أركون، هذا فضلا عن أعمال رصينة أخرى، وخاصة كتابات محمد الطالبي وعبد الكبير الخطيبي وهشام جعيط وغيرهم كثيرون. ونلاحظ هنا صرف المؤلف النظر عن ذكر أعلام أخرى، كانت أحق بالذكر والإشادة في معرض الحديث عن دراسة مستويات العقل العربي والإسلامي...

لا يدقق المؤلف البتة في المقصود من "المفكرين العرب الحداثيين، (ص16)، لأن هناك حداثات، ولا توجد حداثة واحدة أو حداثة نمطية واحدة، صالحة لكل زمان ومكان..، ولو أنه في مقام آخر من العمل، يعتبر أن مدار الأسماء الثلاثة (جعيط، العروي، وأركون) تنتمي إلى زمرة المفكرين العرب الذين نهلوا من معين الفكر الغربي، وتأثروا بالفلسفات الأوروبية واسترفدوا من منجزات الفكر الحديث عامة، سواء في مستوى العلم أو في مستوى منهج العلم؛ وطبيعي والحال هذه، أن تكون كتاباتهم محيلة على هذه الثورة الفكرية والمعرفية الجديدة، وأن تكون متشربة لنسغ المناهج العلمية، إن ما اتصل منها بالعلوم الإنسانية وإن ما تعلق منه بالعلوم الصحيحة. (ص 128).

لا بد من الإشارة إلى أن المفكرين المغاربة الثلاثة لا يتعاملون مع التاريخ بمنطق فلسفة التاريخ؛ أي بمعنى البحث عن فكرة ناظمة أو قيمة توجّه التاريخ شأن البحث عن مفهوم العبرة عن ابن خلدون، وإنما تدخل تأملاتهم الفلسفية في سياق النظر العلمي الذي يروم دق المفهوم أكثر مما تدخل في سياق فلسفة التاريخ بالمعنى الكلاسيكي للمصطلح، وإذا كان هشام جعيط أكثر تأثرا بفلسفة التاريخ، خاصة في كتابه "الشخصية العربية الإسلامية والمصير"، فإن ذلك لا يجعله، برأي المؤلف، فيلسوف تاريخ، بل هو مفكر في التاريخ.

ارتحل الفصل الأول من الكتاب في فضاء نظري صرف، حيث خَلُصَ الباحث من خلال ترحال مع مفهوم التأويل ومسار الهرمينوطيقا إلى أن التأويلية تميزت بحضورها في مستويات مختلفة، سوف تكون بشكل أو بآخر، حاضرة في أعمال أركون، وجعيط، والعروي، وجاءت كالتالي:

ـ المستوى الديني من خلال قراءة النصوص الدينية، وخاصة الكتب السماوية، وتأويل رموزها اللغوية؛

ـ المستوى الفلسفي، إذ التأويل هو الفن الأرقى في الفلسفة، حيث يحميها من كل إطلاقية، ويجعلها عود إلى تأويل ذاتها لتقرأ الوجود والعقل والشعور؛

ـ وأخيرا، المستوى التاريخي، ويجمع المستويين السابقين، ويضيف إليهما مستوى النشاط لا إنساني الفاعل في التاريخ واقعيا وذهنيا. وبالطبع، من خلال هذه القاعدة النظرية للتأويل، نتبيّن الخلفيات المعرفية التي سكنت فكر كلّ مفكر، وهو يعالج التاريخ ويؤول أحداثه وأفكاره.

كما يخلص الباحث في خاتمة هذا المدخل النظري إلى أن التأويل في التاريخ هو التعامل مع نصّ، باعتباره موضوعا علميا يقرأ عمليا بتوظيف علوم مختلفة كاللسانيات والأنثروبولوجيا.. وبتحليل خطابه أو عناصره تحليلا يعتمد الإحصاء والتوزيع والتصنيف، وهو نصّ قابل للفهم من خلال تجاوز ظاهر رموزه وعلاماته إلى بواطنها، والبحث في المعاني التي اكتسبها عبر التاريخ بتعدد المتلقين وتزايد المعارف، وهذا هو المعيار الذي سيعتمده في تتبعه لتأويل المفكرين المغاربة المعنيين بالتاريخ العربي.

انتهى المؤلف في مضامين الباب الأول من الكتاب (المخصص للقراءة النظرية في موضوع "تأويل التاريخ العربي عند الثلاثي أركون والعروي وجعيط)، إلى أن علم التاريخ الحديث يستوعب علوما شتى ومنهجيات متباينة، تصبّ كلها في مجرى فهم الظاهرة التاريخية، وفهم الإنسان بشكل أقرب إلى الحقيقة والموضوعية، كما خلُص المؤلف إلى أن المفكرين المغاربة الثلاثة يجتمعون في تدبر التاريخ العربي والإسلامي برؤى الفكر الحديث، ويسترفدون بكل ما أتاحته الثقافة الغربية خصوصا، والفكر الإنساني عموما في مجال الحداثة العلمية والفلسفية ـ وإن بدرجات متفاوتة ـ في تأويل التاريخ العربي ومحاولة إضاءة جوانب منه كانت مطمورة أو أُسيء فهمها، مضيفا أن أعمال الثلاثي المعني تطفح في عمومها بروح النقد وقلق التساؤل والإحساس بخطورة المسألة التاريخية، كما تنصرف إلى إشكالات الواقع المغاربي والعربي وقضاياه، شكل نلاحظ فيه تقاطع "أسئلة التاريخ الحضارية السياسية بسؤال التأخر التاريخي، أسئلة النهضة المأمولة بأسئلة الفكر النقدي، نقد العقل ونقد الذات ثم نقد الذاكرة التراثية المتصلبة"، بتعبير كمال عبد اللطيف.

ونقتبس من أهم مضامين الباب الثاني من العمل أن العروي، كما هو معلوم عند متتبعي أعماله، اهتم بالتاريخ العربي، وانتخب المؤلف من أعماله دراسته المعمقة لتاريخ المغربي العربي الكبير، مع الانتصار للمقاربة التاريخانية في التأريخ للمنطقة؛

في حين، اهتم هشام جعيط بالتاريخ المؤسس [أو حقبة "الميتا تاريخ" كما يصفها دوما]؛ أي تاريخ القرون الهجرية الأولى التي تُعتبر رحم التمفصلات الكبرى في التاريخ العربي وملحمة الحضارة العربية الأولى، ولئن بدا هشام جعيط ميالا إلى الفصل بين دراسة النص الديني والتجربة النبوية من جهة، وقراءة الحدث الديني السياسي من جهة أخرى، فإن عمل محمد أركون، نهج منهج فوكو في صد علاقات المعرفة بالسلطة عبر التاريخ.

كما حاول الراحل تتبّع التاريخ العربي الإسلامي وفق تحقيب إيبستمولوجي، تطور من عصر التأسيس إلى عصر التأصيل وتهاوى من عصر الأنسنة إلى عصر التكرار، حيث تداخلت اللغة بالتاريخ والعقل بالخيال والديني بالدنيوي نزوعا إلى تحسّس دقيق لنظام إنتاج مجتمعات الكتاب عامة.

يبقى أمامنا الباب الثالث من الكتاب، حيث خَلُصَ المؤلف إلى أن كتابات المفكرين المغاربة المعاصرين، تبقى إسهامات حقيقية في إضاءة التاريخ والتعرف إلى الذات واستكناه أبعادها الغائرة، وهي كتابات نشأت في ظروف ثقافية واجتماعية وحضارية محددة، سمتها الرئيسة الفارقة هي المأزق، "؛ ففي كل مرة تكون فيها مجتمعاتنا الصارمة في أزمة دائمة النهوض، يداخلها الشك في ذاتها ونراها تتساءل إن كانت على حق في مساءلة الماضي، أم أنها ساءلته حقا"، بتعبير مارك بلوخ هذه المرة، على أن أهم قاسم مشترك بين قراءة أركون وجعيط والعروي في تأويل التاريخ، يبقى التفكير في العوامل المساعدة على إنجاز المهمة الحضارية المتمثلة في تجاوز التأخر واستيعاب الحداثة. وما يميز أعمالهم هو وعيها بصعوبة إنجاز هذه المهمة ويتعقد المجال الذي يضطلعون بمقاربته تأويل تاريخه، ولعله لهذا السبب يتداخل في أعمالهم التنظير بالتطبيق والتأويل بالسرد والمعالجة المفهومية بالنقد المباشر، وتشخيص المجتمع بتفكيك العقل، وتحليل الخطاب بنقد السياسة.

واضح إنن، إزاء ثلاثة مشاريع في تأويل التاريخ، حاول أصحابها إعادة تشكيل "لوحة العلامات" المتصلة بماضينا ثم إعادة قراءتها بتأويل يضع كثيرا من اللحظات والمواقف والصور محل استفهام، وفي سياق تقييم هذه القراءات التأويلية، يرى الخراط أنه ربما لم يسعف الثلاثي المعني التوفيق دائما في إنارة المعتمات من التاريخ العربي، ولكنهم في المقابل، تركوا الباب مفتوحا أمام السؤال، سؤال الماضي وسؤال الحاضر وسؤال المستقبل، إذ لا شيء يكون نهائيا أو منتهيا؛ لأن كل نهائي محسوم، مضيفا أنه بسبب استحالة إدراك الحقيقة التاريخية إدراكا تاما، فقد انصرف المفكر المغاربي إلى طلب المعقولية في التاريخ، لكنه يدرك بعد ذلك أن التاريخ ليس مجال المعقوليات فحسب، إنه فضاء العرض والاستثنائي وفضاء الممكن والمحتمل والنسبي أيضا. وهكذا يزداد إيمان المفكر بالتأويل التاريخي.

وانتهى المؤلف في عمله هذا إلى أن الكتاب المغاربة ـ محل نظره ـ يكونون مؤرخين حين يعمدون إلى السرد وتتبع الوقائع والأحداث والأفكار والمؤسسات في حين زمني محدد، ويكونون مفكرين حين يتجاوزون التاريخ الوقائعي، وينصرفون إلى تغليب تأويل الذهنيات ومقاربة الوعي الجمعي والفردي في الثقافة العربية؛ فيؤول بهم ذلك إلى التأمل والتنظير الفلسفي الذي تجاوز الراهن السياسي إلى المستوى الوجودي، ومن يُنكِر أن قراءة التاريخ وتأويله ـ عند المفكرين المغاربة المعاصرين العروي وجعيط وأركون ـ تُعلمنا أن التعامل مع الموضوع التاريخي ليس تعاملا مع مجموعة من الأحداث المسلية أو المرعبة، إنه قبل كل شيء تحليل لميكانيزمات الحركة في التاريخ، سواء تعلقت بالإنسان في علاقته بذاته أو في علاقته بالآخر أو بصلة الإنسان بسائر عناصر الطبيعة.