مصطفى محسن... هذا زمنكم يا علماء الاجتماع العرب، فانتفضوا


فئة :  قراءات في كتب

مصطفى محسن... هذا زمنكم يا علماء الاجتماع العرب، فانتفضوا

"هذه فرصتكم أيها السوسيولوجيون الأفذاذ في مجتمعنا، وهذا زمن قوميتكم الفكرية المنتظرة، لنبذ الصمت، وكل مقومات التخلف والتطرف، والرداءة الثقافية والقيمية والسياسية السائدة في سياقنا العربي، ولاستعادة مبادرتكم المأمولة المفتقدة"...

إنها صرخة جاءت بشكل ملطف، من خلال نداء أطلقه عالم الاجتماع المغربي مصطفى محسن، في كتابه حديث الإصدار الذي يحمل عنوان: "بيان في الثورة، هوامش سوسيولوجية على متن الربيع العربي" (صدر الكتاب عن منشورات ضفاف، بيروت، دار الأمان، الرباط، منشورات الاختلاف، الجزائر، ط 1، 2012، وجاء في 207 صفحة من الحجم المتوسط).

بَدَهي أن كتاب "بيان في الثورة" يندرج في خانة لائحة عريضة من الأعمال التي تطرقت بالتقييم والنقد لحدث الساعة في المنطقة العربية؛ أي ما اصطلح عليه إعلاميا بأحداث "الربيع العربي"، مع فارق أن مقاربة المؤلف تنهل من تخصصه الرئيس: علم الاجتماع دون سواه، ما دام الفكر السوسيولوجي، وبحكم طابعه النقدي، لن يمكننا فقط من معرفة دقيقة ومعمقة بما يجري، وإنما قد يسعفنا أيضا في توجيه وترشيد تعاملنا مع هذه التحولات النوعية الفريدة.

وقد افتتح العمل بتصدير عام، يحمل عنوان: "الحلم العربي بين خريف الاستبداد وربيع الثورة"، ومُوزعا على ثمانية فصول، جاءت عناوينها كالتالي:

-"في البدء كان النداء: هذا زمنكم أيها السوسيولوجيون، فانتفضوا".

-"عن الثورة: تساؤلات مفتوحة حول أهم الدلالات والأبعاد".

-"في عوامل المد الثور العربي: جدل المحددات الذاتية والموضوعية".

-"الفاعلون الثوريون الجدد: حول ثقافة الشباب في عالم متحول".

-"هواجس ما بعد الثورة: بعض تحديات وآفاق تدبير المطالب والبدائل".

-"ربيع الثورة العربي: عبر ودروس للحاضر والمستقبل".

-"الانتفاضة العربية الكبرى والمستقبل: عن المشروع النهضوي العربي والمد الثوري: أية علاقة منشودة ممكنة؟".

-وأخيرا "نحو سوسيولوجيا نقدية لربيع الثورة العربي: ملاحظات للتأمل والتساؤل والحوار".

كما تضمن العمل بعض الملاحق المرتبطة بالحدث، من خلال نشر مقالات وقراءات غربية، والتي تناولت مفهوم/ موضوع "الثورة"، نذكر منها: حنا أرندت، أندريه ديكوفلي، آلات تورن، غاستون بوتول، آلان وودز، كيفن واتكينز، مدير التقرير العالمي لرصد التعليم للجميع الصادر عن مؤسسة "اليونسكو" (2011)، ومُحرر مقالة: "أزمة التعليم في العالم العربي سبب من أسباب الثورة"، والذي لاحظ أن التعليم يتعين أن يكون جزءًا من حل أزمة بطالة الشباب، لكنه اليوم جزء من المشكلة، مُرجحا الأمر، بشكل نسبي طبعا، إلى النوعية المتردية للتعليم المقدم. هكذا ترسم الدراسات الاستقصائية الدولية بشأن التحصيل التعليمي صورة قاتمة عن الدول العربية."

يُلاحظ قارئ الكتاب، بإقرار المؤلف، أن تعامل مصطفى محسن مع مفهوم "الثروة" تم بالكثير من المرونة والعمومية في استعمال المصطلح، حيث إنه وسم ما يجري في الوطن العربي، من احتجاجات أو انتفاضات، بأنه ثورة، ولكن بالمعنى اللغوي والاجتماعي العام الذي يحيل إليه المفهوم، وليس بالمعنى المتداول المعتاد، الذي يرتبط جهازه النظري ومفاهيمه المرجعية بـ "عصر ثورات القرن الفائت: إنها فعل إنساني أصيل، وحدث نوعي فريد من الإبداع والاختراق واستباق الزمن، واجتثاث لجمودية الواقع وروتينية الكلمات والأشياء، وجموح إلى محاولة الإمساك بتلابيب عودة الروح لوعي جديد وزمن جديد، ولكتابة تاريخ بشري جديد لـ "الما بعد" على أنقاض وخرائب ذلك "الما قبل" الذي قامت الثورة من أجل الإجهاز عليه وإلغاء وجوده، إن بشكل جزئي أو كلي تام.

في سياق التمهيد لنداء "السوسيولوجي"، يُذكرنا المؤلف بأن أوضاع علم الاجتماع في بلداننا العربية وحتى بعض الغربية معا، يُستخلص منها أن هذا العلم لا يواكب إلا بشكل باهت وخجول، وغير مُمنهج ولا مُخطط، مختلف أنماط الطلب الاجتماعي المتجدد والمتغير للتعليم والتكوين، في ميادين علم الاجتماع وفروعه التخصصية المتطورة. وذلك تبعا لتحولات الاقتصاد وأزمات أسواق المال، واختلالات سوق الشغل، ومشكلات إدماج الطاقات الشبابية المؤهلة... وما يتواجش مع كل ذلك، مما أصبح يعرفه مجتمعنا من تحولات مذهلة ومتسارعة في أنساق القيم الثقافية، وفي كافة المؤسسات والمجالات والعلاقات الاجتماعية والتبادلات المادية والرمزية المعقدة، وبما لكل هذه المتغيرات من أبعاد وارتباطات ودلالات محلية وإقليمية وكونية عديدة متشابكة.

مقدمة تأملية تخول للمؤلف المجاهرة بندائه الصريح، والتأكيد على أن الغاية الكبرى من هذه المساهمة/ البيان/الدعوة، هي كما نوهنا سابقا، محاولة لرسم خارطة طريق فكرية واجتماعية، منفتحة على غيرها من الرؤى والمقاربات وزوايا النظر، يمكن الاستئناس بها لمعرفة وفهم أبعاد ومضامين وآليات اشتغال مكونات هذا الربيع الثوري العربي المحتدم الآن؛ ولا سيما في الظرفية التاريخية المعولمة، والتي يفرض علينا النقد المتعدد الآنف، الذي نعتمده كخلفية نظرية ومنهجية موجهة لمقارباتنا السوسيولوجية والفكرية العامة، التعامل مع معطياتها ومتغيراتها بالكثير من الانفتاح والتحاور، وتدعيم قيم التسامح والتبادل والتعايش والتعاون، والاعتماد المتبادل، وتقبل شتى أشكال التعدد والاختلاف والتنوع البشري الخلاف.

كما اعتبر المؤلف أن أحداث الساعة تُجسّدُ فرصة لنبذ الصمت، وكل قومات الرداءة الثقافية والقيمية والسياسية السائدة في المنطقة العربية، لولا أن تفعيل بعض مقتضيات هذا النداء ـ لمن ألقى السمع، وهو شهيد ـ يتطلب من المعنيين أن يتحلوا بالعدد النظرية والمنهجية المتقادمة، التي غدت أشبه ما يكون بعتاد الأسلحة الفاسدة، المخزنة في ترسانات الجيوش العربية. كما أسعى إلى أن نتحصن جميعا، في هذه الانتفاضة العلمية الموازية لانتفاضات الشارع العربي، بالقواعد الأصيلة والمتجددة للممارسة العلمية، وتعزيز ذلك بما دعاه رايت ميلز بـ"خيال سوسيولوجي" بمعناه العلمي؛ أي امتلاك الباحث لكل المقومات والقدرات التي تمكنه من اجتراح المبدع الخلاف لأسلحة وأفكار التحليل والنقد، والحدس والتوقع، والتأويل والاستباق، وفتح الممكن من الآفاق الرحبة، للتأمل والنظر والعمل، وتوسيع دوائر وآليات وفضاءات الإدراك والتصور، وإصدار الأحكام، واتخاذ المواقف والقرارات.

ويضيف محسن، أن المواكبة الفكرية لما يجري الآن في الساحات العربية من احتجاجات، ومن مد ثوري، وحراك اجتماعي وسياسي، ما تزال متواصلة الفعل، تتطلب تجنب المنظورات الإسقاطية للأفكار، والمفاهيم والنظريات والنماذج الثورية المختلفة على هذا الواقع الثوري العربي المستجد، وذلك حتى ولو كان بينه وبينها من خصائص التشابه أو التقارب ما يعتبره البعض مبررا مقبولا لذلك، نظرا لبعض القواسم الفكرية والسياسية والحضارية، الملاحظة فعلا، بين الثورات الإنسانية عبر التاريخ؛ ومن هنا، أهمية الملاحق التي جاءت في خاتمة الكتاب، مع قراءة حنا أرندت وأندريه ديكوفلي وغيرهم كثير، لفعل الثورة عبر التاريخ.

وفي هذا الصدد، نقرأ لأرندت على الخصوص، في معرض توقفها عند المسببات الدينية والمادية للثورة، أن "الزعم القائل بأن الثورات الحديثة كلها مسيحية الأصل ـ حجة هذا الزعم هي الطبيعة الثورية للطائفة المسيحية الأولى، التي أكدت على مساواة الأرواح أمام الله، وعلى ازدرائها للسلطات الدنيوية، وعلى الوعد بمملكة السماء ـ أفكار وآمال يفترض أنها تسربت إلى الثورات الحديثة، وإن على شاكلة علمانية من خلال حركة الإصلاح. إن العلمانية وفصل الدين عن السياسة، وتصاعد دنيا المدينة ذات المنزلة الرفيعة، هي بالتأكيد عوامل جوهرية في ظاهرة الثورة. وهذا قد يوضح أن ما نسميه الثورة هو بالضبط، تلك المرحلة الانتقالية التي تؤدي إلى ميلاد مملكة علمانية جديدة".

فيما يشبه توجه نصائح عملية لشباب الثورة أو شباب الشارع التائه منذ اندلاع هذه الأحداث، والمشتت على صراعات وحسابات وتدخلات، من الداخل والخارج، يطالب مصطفى محسن هذه الحركات الاحتجاجية بأن تجتهد في الانتقال بنفسها من وضعية الحشود ـ والتي تلعب فيها عوامل المحاكاة والتحمس والتماهي والاندفاع دورا مهما في الجذب والتحشيد، وخلق حالة جماعية فريدة من الإحساس والتأثر ـ إلى وضعية أكثر تنظيما لعناصر شتاتها ومكوناتها المتباينة؛ أي إلى ائتلاف أو ائتلافات أو هيئة أو هيئات مدنية، كما أصبحنا نشاهد ذلك بالفعل، مضيفا في هذا السياق أن تدبير مطالب الحراك الثوري يمر عبر الانخراط في حوار وطني شمولي، يسهم فيه كل الفقراء السياسيين والاجتماعيين المعنيين، بمن فيهم بكل إلحاح شباب الثورة.

وبما أن اللحظة الحضارية الكونية الراهنة التي تندلع فيها أطوار هذا الربيع العربي الهادر، والتي تتسم بنهاية تلك النماذج والمرجعيات الكبرى، الموجهة للفكر وللنظم الاجتماعية السياسية، تتطلب الانخراط في ما يشبه التفكير الجماعي في نموذج بديل تكاملي، مُركب توافقي، يمتح من كل الأطر المرجعية الآنفة، هو الذي سوف يمسي أكثر استقطابا للنظر والاهتمام، وذلك في إطار شراكة وطنية بين كل أطياف ومؤسسات ومكونات وفرقاء الحقل السياسي والثقافي والاجتماعي العام، وفي كل سياق مجتمعي خاص ومحدد في الزمان والمكان.

وواضح أن هذه الدعوى تستلزم ضرورة عمل النخب الثقافية والسياسية، وقوى ومؤسسات المجتمع المدني في بلداننا، على إعادة تعريف ذاتها وتجديد وتحديد مهامها ووظائفها السوسيوتاريخية.

من بين أهم الخلاصات التي يمكن أن تستفاد من تفاعلات هذا الحراك الثوري العربي، يضيف مصطفى محسن، هي أنه قد عرَّى بالكامل عجْزَ الأنظمة السياسية العربية، وكشف عن بلوغها مستويات من الاهتراء أو التفكك، وضياع البوصلة الموجهة في التفكير والعمل، لذا فقد بدت مفتقدة لأية قدرة على مواجهة عقلانية وهادئة لما داهمها من انتفاضات سلمية عفوية مفاجئة؛ ليس هذا وحسب، فمعطيات الساحة اليوم أكدت للجميع أن إسقاط رأس النظام نتيجة أي حراك ثوري، لا يعني أبدا إسقاط النظام المتنفذ، بما هو نسق معقد من المكونات والعلاقات والقيم والتوجهات والمؤسسات والبنيات والممارسات، بما يتطلب القيام بمراجعة نقدية للمفاهيم والتوجهات والبراديغمات، والمرجعيات الفكرية والسياسية والحضارية لمشروع النهوض الحضاري العربي.

ونظرا لهذه الاعتبارات كلها، فإن على عالم الاجتماع [تخصص المؤلف]، بل وحتى على غيره من الباحثين في ميادين العلوم الاجتماعية عامة، التحلي بوعي إبستمولوجي واجتماعي بالدور المزعج لعلم الاجتماع والمعرفة السوسيولوجية، وبأنه في ممارسة مهامه يظل مهددا باستمرار بالحرفية الضيقة أو الهامشية العلمية، أو متهما بالإيديولوجية بما هي، في بعدها الانتفاضي، وعي زائف أو موصومٌ بالاختبارية القصيرة الرؤى أو بالوقوع في منزلق الخضوع لهيمنة مفاهيم وأفكار ومعتقدات ومنظومات قيمية لما هو فوق اجتماعي؛ أي أنتج في سياق خارج العلاقات الاجتماعية الواقعية الملموسة القابلة للمقاربة والفهم، لولا أن هذا المنحى النقدي في الدراسة والبحث ينبغي أن يبتعد ضرورة عن تبني أية نزعة سوسيولوجية تخصصية، ضيقة، مغالية، اختزالية، مستبعدة لما عداها من الرؤى وزوايا المقاربة، وإنما يجب أن يقوم هذا المنحى على منظور نقدي منفتح متعدد الأبعاد.