إنتاج اليقين وصناعة الإرهاب بالمجتمعات المحافظة


فئة :  مقالات

إنتاج اليقين وصناعة الإرهاب بالمجتمعات المحافظة

إنتاج اليقين وصناعة الإرهاب بالمجتمعات المحافظة

مقدمة:

ليس في هاته المقالة - بالنظر لضيق حجمها وقصر زمن إنجازها - ما يمكن أن يشكل استنتاجا علميا نهائيا، هي مجرد محاولة للتفكير في موضوع نعتقد أنه راهني ومتجدد، فكان لا بد من لفت النظر إليه، وقد ترددت قليلا قبل الكتابة في الموضوع، غير أن واقعة محاولة اغتيال الكاتب والأديب سلمان رشدي وما رافقها من ردود فعل هنا وهناك، كل ذلك عجل بإعادة طرح الأسئلة القديمة/الجديدة حول مغزى الإرهاب وخلفياته الحقيقية، والتي منها: هل يرتبط الإرهاب فعلا بالعوامل السياسية والاجتماعية فقط كما تذهب لذلك كثير من الدراسات؟ أم إن الإرهاب يرتبط مسبقا بعقل يقيني مطلق لا محل فيه للنسبية والافتراض؟

نفترض هنا أن صناعة الإرهاب في مجتمع محافظ، تتقدمها عملية إنتاج ضخمة لقدر هائل من الأحكام القطعية المتصنمة، في هذا الإطار، لقد أمكن تعقب السياق العربي والإسلامي الحالي، باعتباره حقلا خصبا لفهم الآليات المتحكمة في إنتاج العقل اليقيني؛ المحافظ والتقليدي، وكيف تتحول أحيانا هاته الآليات إلى صناعة العنف والإرهاب، سواء في البيئة التي نشأت فيها أو خارجها، مع رصد مظاهر حضورها وإنتاجها في المجتمع والقانون والسياسات العمومية والإعلام والجامعة ... إلخ، وهو الرصد الذي سينتهي إلى بلورة مجموعة من الخلاصات لإعادة تصويب عملية إنتاج اليقين في الاتجاه الذي يجعل الأخير مساهما في تنمية الفكر وتهذيب السلوك الإنساني بعيدا عن ظلمة العنف وشر الإرهاب.

إنتاج اليقين بموجب القانون والسياسة:

في كثير من الأحيان، تنعكس فكرة اليقين في طبيعة "البنى الفوقية" الموجودة في المجتمع؛ فمن خلال هذا التواجد، تتم بلورة آليات قطعية ويقينية تحسم في مجموعة من الاختيارات الكبرى للنظام الاجتماعي، في هذا السياق، يعد مجال القانون والسياسة إحدى تلك الوسائل التي يتم تسخيرها لبناء منظومة عقائدية تؤمن الحد الأدنى من "الطمأنينة العمومية".

إن القانون في بيئة ديمقراطية سليمة، يكون مدخلا مهما لنشر قيم التنوير في المشهد العمومي، فهو إحدى الضمانات الأساسية لشيوع قيم الحوار والتدبير السلمي للخلافات، وبما أن شرعية تلك القوانين، تنطلق من كونها تعبيرا عن الإرادة العامة للمجتمع الذي تخاطبه، ولأن منطق هاته القوانين يجعلها "مؤقتة"، بالنظر لطابعها الوضعي، مادام أنها تخاطب مجتمعا معينا في زمن محدد من جهة أولى، ولحرصها على مراعاة مجموعة من التوازنات والتناقضات الاجتماعية والسياسية من جهة ثانية، من هنا يكون هذا النمط من القوانين هو الصيغة الأكثر قدرة على استيعاب الجميع في عصرنا الراهن.

غير أن القانون نفسه، قد ينزلق أحيانا عن "المعقول" ليعتنق "اللامعقول"، فيقيم بذلك ثورة على فلسفته الأصلية، ويصبح معولا لهدم مختلف القيم الأصيلة المتضمنة في صلبه، في هاته الحالة، تصير القاعدة القانونية عدوة الحرية والمبادئ الإنسانية الكونية، وبدل أن يصبح القانون هنا وسيلة لترشيد المجتمع وتنقية سلوكه وتصفية أفكاره من رواسب التزمت والتطرف "القرسطوي"، يصبح ضمنيا مكرسا للأخيرة، وداعيا بها، وهاديا إليها، نافيا بذلك كل فرصة لاستيعاب الأصوات المعارضة والمخالفة.

إن تسرب أحكام اليقين والحسم إلى القانون، يعني الإعدام الرمزي والمادي للمجتمعات التي يخاطبها، فحينما تجرم القوانين الجنائية مثلا حرية الفكر أو العقيدة أو الجنس أو التجارة بذريعة حفظ "ثوابت الدولة والمجتمع"، فإنها تؤسس بذلك المنع لنموذج متزمت لا يسع الجميع، ويصبح هذا الجميع موزعا بين: مواطن ينافق ويداري القوانين، أو مواطن يتجرأ ويتحدى القوانين، فيلقى جزاءه من المجتمع قبل السلطة، ثم مواطن يتعقب إخوانه ويراقب مدى امتثالهم للقانون اللاعقلاني، فيكون القانون والحالة هاته عائقا أمام تقدم المجتمعات وتطورها.

بالمثل، تعد السياسات العمومية عاملا من عوامل تحقيق العيش المشترك بين جميع أبناء الوطن الواحد، وكذا تفجير الطاقات الاجتماعية المبدعة، غير أن هذا العامل بدوره قد ينزاح عن غاياته وأهدافه المسطرة، فيستحيل إلى أحد بواعث الإرهاب، ويمكن أن نذكر هنا مثالا واضحا، وهو أن كثيرا من السياسات العمومية في البلدان الإسلامية، ظلت ولعدة سنوات، تكرس الفوارق على أساس النوع أو الطبقة أو اللغة أو الدين بذريعة الحفاظ على "الثوابت العامة للدولة"، مما أدى إلى سيادة الاعتقاد بوجود إقصاء بنيوي لدى فئات اجتماعية عريضة، وهو عامل نفسي ومحفز قوي على العنف.

وتبقى أدوار المؤسسات التعليمية والجامعية[1] والأجهزة الدينية الرسمية[2] ووسائل الإعلام العمومية[3] فاعلة في هذا المقام كذلك، وذلك بالنظر لما قد تقوم به أحيانا من دعاية "واعية" ومقصودة ضد قيم التعايش الإنساني.

اليقين باعتباره عقيدة جماعية:

تواجه المجتمعات المتخلفة معضلة كبرى، تتجسد في سيادة "الذات الجماعية" وممارستها لأنواع مختلفة من القهر والجبر على الأفراد، مُغلقة عليهم أي مساحة للتعبير عن أذواقهم الفكرية أو السياسية أو الجنسية أو الفنية، وتاركة أمامهم خيارين اثنين: إما الانصهار أو الاندحار، فأما اختيار الفرد لطريق الحرية والاستقلال، فإن الثمن قد يكون مكلفا وباهضا، وأما أن يسلك المسلك الآخر، فيعني أن تذوب ذاته وأفكاره ورغباته في ما قدرت الجماعة أنه نفع ومصلحة للجميع.

تقوم التنشئة الثقافية في النمط السابق من المجتمعات على تصورات محافظة، هدفها الأساس حماية الجماعة وتقوية جذورها الفكرية، ولأجل ذلك يتم إنتاج مجموعة من اليقينيات حتى يتم تأمين عملية استمرار حضور الجماعة في مختلف مناحي الحياة، ويتعلق الأمر بيقين جماعي يتشكل من نظام إيديولوجي؛ وظيفته تفسير وتبرير مختلف الحوادث والظواهر الأكثر تأثيرا في مسار الجماعة (السياسة، الدين، الاقتصاد...)، كما أن هذا النموذج من اليقين ينتج منظومة معقدة من "اليوتوبيات" بتعبير كارل منهايم، والتي عبرها تتبلور مجموعة من الأشواق والآمال والتوقعات[4] (دنيوية أو أُخروية)، وهي العنصر النفسي المحفز والمعين على تماسك الجماعة وتأثيرها الفاعل.

يبقى هنا العامل النفسي حاسما في فهم النموذج السابق، فانطلاقا مما راكمته الفلسفة من تفسيرات لعوامل انحطاط الحضارات وتدهورها، يمكن الاستئناس بتنظيرات كل من سبينوزا وفرويد ونيتشه، والذين قدموا جميعا نموذجا نفسيا، انطلقوا فيه من الربط بين انهيار أو نجاح المجتمعات والمحددات النفسية الموجهة لسلوكياتها، فكلما سادت الانفعالات الحزينة أو غرائز الانحطاط أو قوى الموت (الكراهية، الثأر، الانتقام، الذنب، العنف، الحرب، الدمار...) إلا واندثرت الحضارة، وكلما غلبت على الأخيرة الانفعالات المبهجة أو غرائز السمو أو قوى الحب (المحبة، الرحمة، الإبداع، تحقيق الذات...) كان الاستمرار والتقدم حليفا لها[5]، إن هاته العوامل الأخيرة هي التي بإمكانها أن تؤسس لمجتمع يعيش فيه الفرد حرا في فكره، وآمنا في سربه، وعنده قوت يومه، ولا يصيبه أذى من قومه !

لن يكون بالإمكان إنجاح أي طفرة حضارية إذا لم يتم الاعتراف بوجود ذات فردية مستقلة، ولن يكون ذلك النجاح ممكنا دون مشاركة الفرد - بصفته تلك - في صناعة الاختيارات والثوابت الكبرى للدولة والمجتمع، وفي جميع الميادين، وعلى أساس المصالح المشتركة، مع إخضاع كل ذلك لقانون التطور والتغير المستمرين، والهدف هو استيعاب مختلف التحولات الممكنة مستقبلا.

اليقين واليقين المضاد..الإرهاب والإرهاب المضاد:

من سيئات إنتاج منظومات فكرية شمولية هي تضخيم الذات واغترارها بامتلاك الحقيقة المطلقة، وهو وهم يسيطر على العقل الشمولي، فيصور له الواقع على غير حقيقته، مما يجعله يرى ذلك الواقع يمشي على رأسه، بينما هو يمشي في الأصل على رجليه، لكن الأخطر من كل ذلك أن يحصل النزاع بين دعاة الحقيقة المطلقة، فتتحول الأخيرة إلى حقائق مطلقة متعددة، وتلك مصيبة أعظم ... !

فحينما يعجر المنطق عن الاشتغال ويعطل العقل عن العمل، فإن النتيجة تكون غالبا أن تنفجر الذات المتضخمة وتتناثر شظاياها إرهابا هنا وهناك[6]، ولعل الجميع عاين ذلك المشهد البئيس في عدة بلدان عربية وإسلامية (سوريا، ليبيا، العراق...)، وكيف أن جماعات دينية متطرفة كانت تتصارع وتتناحر فيما بينها من أجل الانتصار لما تراه كل واحدة منها يقينا جازما لا يقبل التكذيب أو الدحض، والويل كل الويل لمن شكك في صحة وصدقية اعتقاداتها وأفكارها أو ساءل سلوكها... !

ومن يتفحص هذا النوع من اليقين الذي يعد معراجا إلى العنف والتطرف، سيرى بجد أن منطقه فاسد إلى أقصى درجات الفساد، فكثيرا ما تكون الهوة سحيقة بين الأسباب والنتائج، مما يقود إلى تعميمات خطابية لا واقعية[7] في "قضايا زمنية" يمكن أن تسع الجميع، وطبعا؛ فإن هذا النوع من الوعي الزائف غالبا ما يكون مصيره إرهاب جارف.

ولو تخلص هذا التفكير من النزعة الكلية[8]، وخضع لقاعدة تعدد الخيارات[9] لكان تطوره وتكيفه مع عصره ممكنا، ولكن المطلوب هو تجريده من قواعده المنهجية، حتى لا يصير مرجعا مطلقا في استلهام الحقيقة، ومن تمة صناعة الإرهاب والإرهاب المضاد.

إنتاج اليقين الزائف واغتيال حرية التفكير:

تعد ظاهرة استهداف المفكرين قديمة قدم التاريخ، في هذا الإطار، شهد التاريخ العربي والإسلامي –كما هو حال التاريخ الأوروبي- عدة حالات لعلماء طُرِدوا وطوردوا حتى أبعدوا عن الساحة الفكرية بسبب مواقفهم المناوئة "لجمهور الفقهاء" أو المعارضة لتوجهات السلطة السياسية، فابن حيان والفارابي وابن سينا والكندي وابن رشد والرازي وابن الراوندي، كل هؤلاء وغيرهم، اتهموا بالإلحاد والزندقة والكفر، وأحرقت مؤلفاتهم واستبيحت دماؤهم واستحلت أموالهم.

ويبدو أن الزمن يدور فيعيد نفسه من جديد، وها هي وقائع العصر تعيد إنتاج وإحياء الماضي السحيق، فمنذ نهاية القرن 19، عرفت المجتمعات العربية والإسلامية سلسلة غير منقطعة من الردود العنيفة على مفكرين ونخب ارتأت أن تعبر بحرية عن أفكارها بعيدا عن أي وصاية اجتماعية أو سياسية، فهذا طه حسين يصدر كتابه "في الشعر الجاهلي" فيثور فقهاء الأزهر عليه بذريعة الإساءة للقرآن، ثم يكتب علي عبد الرزاق "الإسلام وأصول الحكم"، فينبري فقهاء الأزهر مرة أخرى للرد عليه بقسوة شديدة، نفس السيناريو يتكرر مع نصر حامد أبو زيد (كتاب الإمام الشافعي وتأسيس الأيديولوجية الوسطية) وصادق جلال العظم (كتاب نقد الفكر الديني) وفرج فوده (كتاب الحقيقة الغائبة)، بل وإن هاته الردود العنيفة استهدفت حتى الإبداعات الأدبية لأدباء أمثال نجيب محفوظ (رواية أولاد حارتنا) وسلمان رشدي (رواية آيات شيطانية).

لقد كان من أثار هذه النقاشات العنيفة أن شهدت الساحة الفكرية مجموعة من الأحداث الإرهابية التي راح ضحيتها مفكرون ومثقفون عرب وغير عرب(حسين مروة، المهدي عامل...)، القاسم المشترك بينهم جميعا أنهم أَعملوا قواعد النظر النقدي في قضايا إسلامية، فقهية كانت أو تاريخية، فكان رد خصومهم غير مشرف، فأما من مات من هؤلاء المثقفين، فقد وري جثمانه في الثرى بأسف شديد، وأما من نجى، فقد اختار إما الفرار إلى بلدان آمنة أو التواري عن الأنظار.

غير أن عملية استهداف حرية التفكير، لا تتخذ صورة واحدة، فبالإضافة إلى التصفية الجسدية، وهي الأسلوب التقليدي المألوف، يلجأ خصوم التفكير الحر إلى عدة وسائل أخرى، منها:

-   حرب الشائعات الكاذبة؛ وذلك عبر إصدار سلسلة من الاتهامات الأخلاقية أو الدينية، من أجل الضغط نفسيا على الكاتب ودفعه للتوقف عن الكتابة[10]؛

-   الاستهداف العائلي؛ كما حدث مع الدكتور نصر أبو زيد عندما قام خصومه برفع عريضة إلى القضاء من أجل التفريق بينه وبين زوجته، باعتباره "مرتدا" عن الدين[11]؛

-   التهديد والإكراه: وهو يتخذ إما صورة مادية (التهديد بفقدان منصب أو وظيفة مثلا) أو معنوية؛

-   التكفير؛ وغالبا ما يصدر حكم التكفير من رموز دينية ذات نفوذ وتأثير اجتماعي أو سياسي، حيث يتم إعداد الرأي العام للمرحلة الموالية وهي القتل أو التصفية الجسدية.

ولا يمكن إنكار الوجه السياسي لهاته الحرب الشرسة على المفكرين، نذكر هنا مثالا واحدا فقط- ولعل السياق الحالي يسمح باستحضاره -، يتعلق بالتنافس السياسي الذي حدث بين العربية السعودية والجمهورية الإسلامية الإيرانية بخصوص الرد على رواية سلمان رشدي (آيات شيطانية)، قبل أن تتفرد إيران وحدها بهاته المهمة سنة 1989 من خلال فتوى لمرشد "الثورة" "آية الله الخميني بقتل سلمان رشدي، بل وتخصيص مكافئة مالية مغرية لمن يهدر دمه[12]، كما أن الوجه السياسي للهجمة على المثقفين، يظهر من خلال التباين في ردود الفعل حول مجموعة من الكتابات، فبسبب الظرفية السياسية، قد يتحول كتاب معين إلى قضية كبرى وشاملة كما هو الشأن بالنسبة للحالات المشار إليها سابقا، بينما لا تعدو كتابات أخرى أن تتجاوز النطاق المحلي، وبشكل ضيق ومحدود كما هو حال كتابات عبد الله القصيمي لحظة صدورها[13].

بعد كل هذا، يبقى أن نتساءل مع الراحل فرج فوده: هل مطلوب من صاحب الرأي أن يتمتع بمهارة استخدام المسدس للدفاع عن نفسه، وأن يفسح مساحة من وقته لكي يتدرب على الكاراتيه بديلا عن التفرغ للقراءة أو الكتابة !؟[14]، إننا اليوم -مع هذا الواقع المر- أمام خيارات محدودة، منها: مسايرة المجتمع الشمولي والمغلق، مع ما يترتب عن ذلك من إهدار لفرص اللحاق بالإنسانية في ركب تقدمها وتطورها، أو التأسيس لمجتمع مفتوح يؤمن بالإنسان الفرد ويُطلق قواه النقدية[15].

في ضرورة إخضاع اليقين العمومي للرقابة العلمية:

أضحى العيش بالمبادئ المطلقة ضرب من المحال[16]، في ظل عالم متغير ومتطور بشكل متسارع، وهو ما أصبح يفرض على الجميع قبول مبدأ العيش المشترك كصيغة للتوفيق بين مختلف التناقضات والتوازنات التي تطفو على سطح الأرض. إن هذا يفرض ابتداء مراجعة نقدية لمختلف مصادر معارفنا واعتقاداتنا المنتجة لسلوكياتنا، والتي قد تنحرف أحيانا في اتجاه العنف والتزمت.

في هذا السياق، هناك حاجة ماسة لفرض نوع من الرقابة على ما أسميه ب "اليقين العمومي"، وهو الذي يتشكل – وفق ما سلف - من عدة قناعات وعقائد وتمثلات دينية وسياسية واجتماعية، مشتركة ومستعصية على النقد والنقض، ولا يمكن هنا إلا الإفادة من مختلف التراكمات التي حققتها العلوم الحديثة على مستوى تأسيس نماذج من المعرفة النسبية، والتي تتسم بالقابلية للتطور والتحول باستمرار[17]؛ ذلك أن مصادر الاعتقاد والعمل بالمجتمعات الإسلامية – دولا وشعوبا- تتسم بالاستلهام المباشر من نمط معرفي ديني؛ تقليدي وساكن، سبق للراحل الجابري أن أسهب في بيان خصائصه ووظائفه النظرية والعملية، حيث صنف المعارف الإسلامية إلى ثلاث مجموعات: البيان (الفقه، الكلام، البلاغة...)، العرفان (التصوف، السحر، التنجيم...)، البرهان (المنطق، الرياضيات، الإلهيات، الميتافيزيقا...)[18]، ليتوصل الجابري في نهاية المطاف إلى وجود صراع بين هاته الأنظمة المعرفية وتداخلها، مما أسهم في عدم تطورها[19].

ولكن المطلوب هو تحرير هاته المعرفة التقليدية السائدة من آسر التراث الماضوي[20]، وإعادة تشغيل العقل من خلال استئناف عمله والعدول عن قرار "استقالته"، وهو ما يستلزم هنا "أنسنة" هاته المعرفة وتخليصها من الفكرة الكلاسيكية التي تقول إن "معرفة الإنسان للكون يجب أن تمر عبر اتصاله المباشر بالحقيقة العليا: الله"[21]، فأنسنة وعقلنة هاته المعرفة يعني تجريدها من صفة "القداسة" التي تمنحها حصانة قوية يتذرع بها المتطرفون في تطرفهم، في مقابل ذلك، تحصينها بالروح العلمية وسلاح الخطاب النقدي[22].

فالتيقن من صدق القناعات أو كذبها، ينبغي أن يمر عبر شروط إنتاج المعرفة العلمية الموضوعية، والتي تنطلق من فكرة التعامل مع جميع القضايا الإنسانية بوصفها "مشكلات" مما يقتضي إيجاد "حلول مؤقتة" لها، تلك الحلول التي تخضع لمعيار "القابلية للتكذيب" من أجل تمييز سليمها من سقيمها، فكل قناعة أو فكرة لا تقبل الدحض خرجت من إطار العلم ودخلت مجال اللاعلم[23].

إن تنسيب مجموع قناعاتنا ويقينياتنا هو وحده الكفيل بصناعة وطن يعيش فيه الأفراد جنبا إلى جنب، ويتعايش فيه الجميع على قاعدة "المصالح المشتركة" بدون تمييز على أساس الدين أو الجنس أو اللون أو العرق...

خاتمة:

نعود في الختام، لنطرح السؤال التالي: ما هو المطلوب لاتقاء شر الإرهاب؟

في هذا السياق، هناك خمسة متطلبات لتحقيق انتقال نوعي وشامل في البلدان العربية والإسلامية؛ فهناك أولا ضرورة ملحة لتطهير القوانين والسياسات العمومية من المضامين غير الوضعية وغير العمومية؛ بمعنى أن تصبح قوانينا وسياساتنا اجتماعية خالصة، وثانيا؛ لا بد من الاعتراف الصريح من طرف الدول العربية والإسلامية بالفرد ككيان مستقل ومبدع، ثالثا؛ يجب هدم أحكام اليقين في العلاقات الاجتماعية حتى لا يقع الصدام والصراع العنيف، رابعا؛ ينبغي حماية حربة التفكير والإبداع من عبث المتطرفين والإرهابيين، وأخيرا؛ تبرز الحاجة إلى تعميم الانتصارات المبهرة التي حققها العلم الحديث على واقعنا المعاصر والإفادة منها في صناعة قناعتنا واعتقاداتنا العمومية.

[1] أنظر في هذا السياق: نصر حامد أبو زيد، التفكير في زمن التكفير ضد الجهل والزيف والخرافة، مكتبة مدبولي، الطبعة الثالثة: القاهرة، يوليو 1995، ص: 29، وانظر أيضا:

فرج فوده، الإرهاب، مطابع الهيئة المصرية العامة للكتاب، 1992، ص: 123

[2] تلعب الأجهزة الدينية الرسمية أحيانا دورا خطير ا في إشاعة ثقافة الإرهاب والعنف من خلال سلطة الفتوى التي تعتبر ذات تأثير نفسي على الجماهير.

[3] تعد القنوات الفضائية الدينية الرسمية في بعض الحالات عاملا من عوامل صناعة مجتمع متصلب وغير قادر على استيعاب الاختلاف، وذلك من خلال بعض المواد والبرامج المعادية لثقافة الحوار.

[4] كارل مانهايم، الأيديولوجيا واليوتوبيا مقدمة في سوسيولوجيا المعرفة، ترجمة: محمد رجا عبد الرحمن الديريني، شركة المكتبات الكويتية، الطبعة الأولى: الكويت، أكتوبر 1980، ص: 261

[5] سعيد ناشيد، الطمأنينة الفلسفية، دار التنوير للنشر والتوزيع، بدون الإشارة إلى تاريخ النشر أو مكانه، ص ص: 58-59

[6] فرج فوده، الإرهاب، مرجع سابق، ص: 68

[7] نصر حامد أبو زيد، نقد الخطاب الديني، سيتا للنشر، الطبعة الثانية: جمهورية مصر العربية، 1994، ص: 92

[8] كارل بوبر، بؤس الأيديولوجيا نقد مبدأ الأنماط في التطور التاريخي، ترجمة عبد الحميد صبره، دار الساقي، الطبعة الأولى: بيروت لبنان، 1992، ص: 90

[9] كارل مانهايم، الأيديولوجيا واليوتوبيا مقدمة في سوسيولوجيا المعرفة، مرجع سابق، ص: 155

[10] للمزيد حول هذا الموضوع أنظر:

فرج فوده، الإرهاب، مرجع سابق، ص: 25-36

 

[11] يرجى الرجوع إلى عريضة دعوى التفريق بين أبو زيد وزوجته من خلال:

نصر حامد أبو زيد، التفكير في زمن التكفير ضد الجهل والزيف والخرافة، مرجع سابق، ص: 265-277

[12] صادق جلال العظم، ذهنية التحريم، دار المدى للثقافة والنشر، الطبعة الثانية: بغداد، 2004، ص: 195            

[13] للمزيد حول هذا الموضوع، يرجى الرجوع إلى:

صادق جلال العظم، ذهنية التحريم، مرجع سابق، ص: 233- 238

[14] فرج فوده، الإرهاب، مرجع سابق، ص: 13

[15] للمزيد حول هذا الموضوع، أنظر:

كارل بوبر، المجتمع المفتوح وأعداؤه، ترجمة السيد نفادي، دار التنوير للطباعة والنشر، الطبعة العربية الأولى: لبنان، 1998، ص: 9

[16] كارل مانهايم، الأيديولوجيا واليوتوبيا مقدمة في سوسيولوجيا المعرفة، مرجع سابق، ص: 162

[17] ينطلق توماس كوهين من إيجاد نوع من التقارب بين الثورات السياسية والثورات العلمية، حيث أنه فشل نظرية معينة في الإجابة عن الأسئلة الراهنة يعني عدم صلاحيتها للاستمرار، مما يبدأ مع الشعور داخل "المجتمع العلمي" بضرورة القيام بثورة علمية تبدأ بتأسيس براديغم جديد ينطلق من اسئلة واجوبة جديدة في سبيل حل المشكلات القائمة، وبهاته الطريقة تتطور المعرفة العلمية، أنظر بهذا الخصوص:

توماس كون، بنية الثورات العلمية، ترجمة: حيدر حاج اسماعيل، المنظمة العربية للترجمة، الطبعة الأولى: بيروت، سبتمبر 2007، ص ص: 179-180

[18] محمد عابد الجابري، تكوين العقل العربي، نقد العقل العربي(1)، مركز دراسات الوحدة العربية، الطبعة العاشرة: بيروت، مارس 2009، ص: 328

[19] محمد عابد الجابري، بنية العقل العربي دراسة تحليلية نقدية لنظم المعرفة في الثقافة العربية، نقد العقل العربي(2)، مركز دراسات الوحدة العربية، الطبعة التاسعة: بيروت، أغسطس 2009، ص: 557

[20] محمد عابد الجابري، تكوين العقل العربي، نقد العقل العربي(1)، مرجع سابق، ص: 5

[21] محمد عابد الجابري، تكوين العقل العربي، نقد العقل العربي(1)، مرجع سابق، ص: 159

[22] صادق جلال العظم، نقد الفكر الديني، دار الطليعة للطباعة والنشر، الطبعة الثانية: بيروت، نونبر 1970، ص ص: 22-23

[23] كارل بوبر، منطق الكشف العلمي، ترجمة: ماهر عبد القادر محمد، دار النهضة العربية للطباعة والنشر، بيروت، يناير 1986، ص ص: 26-27