جدل "تعليم البنات" بمغرب الحماية: عندما تمرد الحجوي على فقهاء عصره


فئة :  مقالات

جدل "تعليم البنات" بمغرب الحماية:  عندما تمرد الحجوي على فقهاء عصره

جدل "تعليم البنات" بمغرب الحماية:

عندما تمرد الحجوي على فقهاء عصره

تقديم:

تطالعنا صفحات التاريخ المغربي المعاصر بسير نخب وأعلام مغاربة، برزوا من بين أقرانهم، مثبتين علو كعبهم وقوة همتهم الإصلاحية، ومسهمين في إطلاق مشاريع إصلاحية بمفردات وحمولات معاصرة، تلك المشاريع التي شهدت ولادتها الأولى مباشرة بعد هزيمة "الإيالة الشريفة" خلال معركتي إيسلي (1844) وتيطاوين (1860).

كان السؤال المتحكم في هاجس النخب الفكرية المغربية منذ نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين هو نفسه السؤال الذي طرحته "نخبة المشرق": لماذا تأخرنا وتقدم غيرنا (الأوروبيين)؟، طُرح هذا السؤال في وقت لا يزال المغرب على أهبة الاستعداد لمواجهة أي غزو أوروبي، رغم ضعف قواه العسكرية وهشاشة مؤسساته السياسية والإدارية والاقتصادية؛ وذلك في ظل تزايد أطماع الدول الغربية على المغرب وتخطيطهم لاحتلاله وتقاسم خيراته ومنافعه.

وهو ما حصل فعلا، حيث بعد شدّ وجذب، دخل المغرب في "احتلال مزدوج" انطلاقا من سنة 1912، فعبر ذريعة توفير "الحماية" لمؤسسات الدولة المغربية المنخورة القوى، ستتكلف إسبانيا بتدبير وحكم الجزء الشمالي من البلاد، بينما ستقوم فرنسا بممارسة حمايتها المزعومة على باقي أجزاء المغرب.

إنه واقع جديد ابتليت به البلاد وأصاب العباد في حرياتهم وحقوقهم ومقدراتهم، والأهم في ذلك هو وأد كل طموحاتهم الإصلاحية التي كان من المرتقب أن يتم تنزيلها على أرض الواقع في السنوات القليلة التي سبقت توقيع عقد الحماية بمدينة فاس المغربية سنة 1912، لم يكن أمام هذا الواقع الصادم إلا تدبيره من طرف النخب المغربية ببلورة مشاريع إصلاحية مستعجلة لعلها توقف زحف "الأجنبي" على خصائص الوطن الثقافية والدينية والاقتصادية والسياسية.

وكما هو حال كل الأزمان، عرفت الساحة الثقافية المغربية في لحظة الحماية نقاشا وانقساما حادا بين تيارين اثنين: الأول تقليدي ومحافظ؛ يرى في صدمة الغزو الأجنبي للبلاد نوعا من حروب الكر والفر التي يشهد التاريخ تكرارها، والتي من خلالها تترجح كفة طرف على آخر (المؤمنين والكفار). أما التيار الثاني، فهو عصري ومعاصر استوعب الهزيمة ليس فقط بأبعادها العسكرية، ولكن أيضا من خلال استحضار الأبعاد الفكرية والاقتصادية والحضارية والتقنوية، مما جعلهم "يعظمون" من هول الهزيمة ويرون فيها حدثا غير عادي، داعين إلى الاستفادة من دروسها وعبرها الكبرى، ولا سيما أسباب التقدم الأوروبي التي في مقدمتها تحديث التعليم وعصرنته.

إن محمد بن حسن الحجوي واحد من هؤلاء الدعاة إلى إصلاح التعليم وتعميمه على جميع المواطنين ذكورا وإناثا، ولكن مثل هاته الدعوة إذا كانت ما تزال تلقى معارضة شديدة في زمننا هذا، فكيف بزمن الحجوي الذي كانت فيه الدعوة إلى المفاهيم التحررية والتحديثية جريرة تستوجب العقاب والتهجير؟!

تحاول هاته المقالة استعادة بعض من صور النقاش والتناظر الفكريين الذي دار بين فقهاء المغرب والحجوي حول دعوة الأخير إلى تعليم البنات أسوة بالذكور؛ وذلك من خلال العناصر أدناه.

"الروح العصرية" للحجوي

مما كان لافتا في فكر الحجوي - قياسا على البيئة الثقافية والاجتماعية التي عاصرها الرجل - هو تضمنه لمجموعة من العناصر التقدمية والعقلانية التي تجعل من ذلك الفكر وفق توصيف كثير من الباحثين سابق لعصره.

فعلى الرغم من سلفيته الظاهرة وتشبثه بالقيم الأصيلة للأمة الإسلامية، إلا أنه كثيرا ما وظف بعض ميكانيزمات الحداثة في فهم وتفسير الظواهر والوقائع المحيطة به، وهو ما جعله مثلا ينبذ "الماضوية" ويراها سببا في تخلف الأمة الإسلامية عموما، والأمة المغربية خصوصا. يقول الحجوي في هذا السياق: "... من اتكل على مجد الآباء وظنه مجدا للأبناء، فقد اغتر بالخيال ووقع في الخيال؛ فمجد الآباء مجد لهم نحفظه وندرسه ونحافظ عليه، ونبين في كل فرصة ما عثرنا عليه إنهاضا للنفوس الأبية وتشويقا لها أن تكون مثل السلف الصالح، وليجتهد أولوا البصائر لاحتذاء المجد الغابر. أما مجدنا الحقيقي، فهو ما نحصله من كدنا"(1).

لم يتنكر الحجوي للمرجعية الإسلامية، خصوصا إذا علمنا أن الرجل لم يكن من "عامة الناس" بتعبير رجال الدين، بل كان فقيها متعمقا في أصول الدين وفروعه، ولذلك رأى أن الإصلاح المنشود ينبغي أن يكون وفيا للقيم الإسلامية المعتدلة، مع اعتناق المناهج الأوروبية الناجحة في النظام الإداري والاقتصاد والمساواة في الحقوق وإدارة المال ...إلخ (2). والسبيل لتحقيق ذلك هو الاجتهاد وفق ما تقتضيه متطلبات العصر ومتغيراته الجوهرية(3)، فكما قيل "لا جمود ولا جحود".

يمتلك الحجوي ثقافة حقوقية عميقة قل نظيرها لدى أقرانه من النخب المعاصرة له؛ فقد أدرك منذ وقت مبكر "أسرار" تفوق المجتمعات الأوروبية، والتي حسبه "لم تبن تقدمها على الجهل والظلم والفساد، بل على التربية والتعليم والعدالة والأمن والنظام، مما يدل على مدى حفظها لكرامة الإنسان ورفعها لمنزلته؛ إذ لا يعقل أن تترقى أمة وحقوقها مهضومة وأفرادها مظلومة..."(4)؛ فالحجوي حسب البعض(5) حاول بكلامه هذا مد قنوات من الحوار مع الخطاب الليبرالي من خلال الدعوة إلى التحديث: تحديث الدولة وتحديث المجتمع.

إن هذا التحديث المتحدث عنه من طرف الحجوي، يربطه الأخير بمفهوم جوهري في جل كتاباته وهو "النظام"؛ ففي كتاب مفتوح للسلطان عبد الحفيظ، أكد الحجوي على ضرورة "تزويد البلاد بالمؤسسات العصرية الضرورية والتعجيل بالشروع في إدخال التنظيمات على الجهاز الوزاري والمصالح الإدارية؛ وذلك بتنظيم أقسامها واحترام الحقوق، وضبط الأموال، وتدريب الجيوش، ونشر العلوم والمعارف حتى إذا جاء المستعمر، فإنه يجد البلاد ذات مؤسسات فيضطر إلى الحفاظ عليها"(6).

وحتى لا يستحيل اعتماد مفهوم النظام على مستوى مؤسسات الدولة إلى بيروقراطية جامدة، يدعو الحجوي إلى ضرورة احترام القيم الديمقراطية في تدبير الشأن العام، وهو ما كان صاحبنا يلح عليه فيما يخص تدبير ملف إصلاح التعليم من خلال الأخذ بالأسلوب الديمقراطي في التداول والنقاش العمومي بين مختلف الفاعلين والمتدخلين: علماء، إداريين، سياسيين(7).

إنه في الوقت الذي يظهر فيه الحجوي تسامحه واعتداله وتعدديته مع غيره، فإن خصومه الفكريين لم يكونوا بنفس القدر من سعة الصدر والمواكبة لقيم العصر، وهو ما سيكون موضوع النقطة الموالية.

"الروح الرجعية" للنخبة الفكرية المعاصرة للحجوي

أسهم بروز نخبة فكرية جديدة – على قلّتها – في مغرب الحماية في تهديد أدوات الاحتكار التي كان يوظفها الفقهاء من أجل الهيمنة على الحقل الثقافي والمعرفي، فتسرب الفكر الليبرالي إلى الخطاب المغربي الجديد، جعل النخبة القديمة تستشعر الخطر، مما حدا بها إلى شن حملات فكرية شرسة ضد كل جديد(8).

لم تكن مهمة الحجوي يسيرة، وهو يدعو إلى إصلاح التعليم وتعميمه على سائر المواطنين؛ فالنخبة التي واجهها كانت غارقة في التحجر والتزمت؛ إذ إن كل دعوة إلى التغيير والإصلاح تعاطت معها تلك النخبة، باعتبارها خطرا على "القيم الأخلاقية والروحية، وعلى التاريخ والماضي المجيد"(9)، والحقيقة المرة أن الخطر الذي كانت تشعر به النخب المحافظة، إنما على وجودها واستمرارها في ممارسة ضروب متعددة من الهيمنة على عقول "العوام"، وعلى تدبير الشأن العام.

إنها وظيفة "حراسة الفقه القديم" تلك التي كانت تجسدها النخب التقليدية، ولذلك واجه الحجوي عدة متاعب وعانى الأمرّين في سبيل إقناع التيارات التقليدية المتحجرة والمعادية للتطور التحرري بمشروعه الإصلاحي.

ولكن "السبب في جحود النظام في الإسلام هو أننا تأخرنا كثيرا، ولم نشعر بدرجة تأخرنا ومن تأخرنا قياسنا الماضي على الحاضر والسلف على الخلف"(10)، هكذا شخص الحجوي الداء بعبارات وجيزة ولكنها دقيقة ومعبرة. أما النخب التقليدية، فلم تر في الماضي إلا وظيفته الرجعية؛ وذلك بجعل الواقع بمتغيراته وتحولاته سجينا لعصور بائدة ومنتهية.

ومع ذلك، فإن دعوة الحجوي كان لها صدى كبير لدى بعض النخب الثقافية الأخرى التي رأت أيضا في إدخال بعض "التحسينات العصرية" على التعليم سبيلا للإصلاح، كما أن دعوة الحجوي كذلك كان لها الأثر البالغ على الجيل التالي للنخبة الإصلاحية الذي واكب مرحلتي الحماية واستقلال الدولة المغربية، وذلك من قبيل: علال الفاسي، المختار السوسي، عبد الله كنون... إلخ.

مشروع "تعليم البنات" في زمن الهيمنة الذكورية

كان لا بد من استحضار السياقات الممهدة لطرح الحجوي لمشروعه حول تعليم البنات على طاولة النقاش الفكري. أما الآن، فسيتم عرض أهم الخطوط العريضة للمشروع المذكور، والذي لاقى كثير من المعارضة، وطرح العديد من الجدل.

ما يجب التأكيد عليه هنا، هو أن أصداء حركة تحرير المرأة المشرقية ورياحها وصلت إلى المغرب، فاستقبلتها بعض النخب الفكرية بكثير من الارتياح، جاعلة من كتابات قاسم أمين وهدى الشعراوي وأشعار حافظ إبراهيم وأحمد شوقي أحد أهم الأسلحة الحجاجية في المناظرات والمطارحات الفكرية، كما أن تلك الكتابات تحولت إلى شعارات وعناوين تملأ صفحات المجلات والجرائد.

لقد دافع الحجوي عن تعليم البنات أسوة بالذكور في محاضرتيه الشهيرتين حول تعليم المرأة؛ الأولى تحت عنوان المحاضرة الرباطية في إصلاح تعليم الفتيات بالديار المغربية، نشرها بتونس سنة 1923، وأخرى تحت عنوان تعليم الفتيات لا سفور المرأة سنة 1934. وقد لقي في ذلك معارضة شديدة من طرف التيار المحافظ كما سيتبين فيما بعد.

يستهل الحجوي دعوته إلى أحقية المرأة في الولوج إلى التعليم عبر التأكيد على خلو الأدلة الشرعية المتمثلة في الكتاب والسنة من أيّ منع أو حظر لحق "البنات" في الولوج إلى التعليم، يقول في هذا السياق: "غير خفي أنه لم يرد في نصوص الشرع القرآنية ولا الحديثية الصالحة للحجية منع النساء من العلم، ولا من تعلم القراءة والكتابة؛ أو أي علم هو مباح للرجال، وهذا تمسك بالبراءة الأصلية، وهي حجة عند الأصوليين، ومن ادعى وجود دليل فعليه البيان"(11)، وهو ما يعني أن الأصل عند الحجوي هو أحقية المرأة في الولوج إلى التعليم، وبالتالي مساواتها مع الرجل في هذا الحقّ.

يشكل تعليم البنات حسب تسمية الحجوي أحد عوامل تقدم وارتقاء الأمة، وهنا لم يفته التأكيد على أسبقية الإسلام في مناصرة المرأة: "فتأمل هذه القضية تعلم أن النساء كان لهن جامعة ورابطة دينية تجمعهن على الدفاع عن حقوقهن، وهذا شيء لم يكن للأمم قبل الإسلام، فالإسلام أول دين اعتبر المرأة وأعطاها حقوقها المهضومة، وأحلها محلها الذي تستحقه"(12). من هذا المنظور، فإن تعطيل هذا الحق الإسلامي الأصيل – أي تعليم المرأة – يصنفه الحجوي ضمن ما اسماه بالوأد الأصغر: "ومن يقول بمنع المرأة من التعليم والعلم، فإنه يمنع نصف الأمة من العلم، وهذا عندي من الوأد الأصغر"(13).

لم يَرُق هذا التوجه الجديد للحجوي فقهاء عصره، حيث بنوا معارضتهم له في توجهه على قاعدة سد الذريعة في منع النساء من التعليم، وهي ذريعة يخشى معها إفساد المرأة في دينها نتيجة اقتحامها هذا المجال الذي يعدّ ذكوريا. ولكن الحجوي كان متلطفا في رده على معارضيهن موضحا أغراض مشروعه من دون أن ينفي صحة حجج خصومه من حيث المبدأ، يقول هنا: "هذا، وإني أعلم أن الذين أنكروا علي الحث على تعليم البنات لهم قصد حسن وغيرة تامة حملتهم على ذلك، وقصدهم هو سد الذريعة؛ خوف الوقوع في العار، وفي مفاسد ربما تنشأ عن تعلمهن، لكني أقول لهم: لا مفسدة إذا علمن التعليم الذي أريده، على الكيفية التي أوضحتها، وإنما المفسدة في تعليمهن تعليما إفرنجيا، على أن المفاسد مهما كانت؛ فمفسدة الجهل أعظم، وهي الداء الذي لا دواء له إلا العلم"(14).

والحقيقة تقال هنا كذلك، وهي أن الحجوي في دعوته إلى تعليم البنات كان يتعامل مع الموضوع تعاملاً مزدوجاً، حيث كان يفكر وينظر للموضوع بمنظورين مختلفين ومتضاربين؛ الأول: إصلاحي حداثي على أساس أن تعليم الفتاة يعد عنده من أسباب الرقي والخروج من التأخر، والثاني: من منظور فقهي مالكي اعتمد فيه على سد الذريعة ودرء المفسدة؛ ذلك أن "إطلاق حرية المرأة" ومساواتها بالرجل يؤدي إلى الفساد وسفالة الأخلاق وفداحة التهتك...(15).

تبدو نصوص الحجوي في وقتنا الحاضر تافهة وبديهية، لكنها بمجرد أن توضع في سياقها التاريخي حتى تتبين أهميتها (16)، حيث إن عصر الحجوي اتسم بالتزمت وغلبة أهل التقليد، وكان من الصعب مجادلة العامة قبل الخاصة في موضوع مثل خروج المرأة إلى الفضاء العام، وهي التي كُتب لها وفق التصور الذكوري المتحجر أن تعيش حريما في البيت في أحسن أحوالها، لا تقرأ ولا تكتب ولا تعمل... !

صدمة الحداثة النسوية وصدمة الأصالة الذكورية...!

أدى طرح الحجوي لموضوع تعليم البنات إلى توليد أزمة حقيقية في المشهد الثقافي المغربي؛ فمن جهة أولى، تعاطت النخبة المحافظة مع الموضوع، باعتباره يشكل صدمة لها، وتهديدا لذاتها ووجودها؛ فالأمر يتعلق من منظورها بفكر أجنبي وافد يريد النيل منها، ومن منظومة القيم التقليدية "المحفوظة" و"المحروسة" لقرون عدة، ومن جهة ثانية، فإن الحجوي - ومن معه في توجهه -، عاش صدمة كبيرة من جراء ردود الفعل العنيفة التي واجهها من تيار المحافظين المساند للفكر الذكوري؛ فنحن أمام صدمتين متقابلتين: صدمة الحداثة النسوية في مواجهة صدمة الأصالة الذكورية.

صحيح أن الحجوي كانت له الجرأة في اقتحام موضوع كان يعد من ضمن الممنوعات المحاطة بسياج الدوغمائية والموروث الثقافي المنحدر من عصور الجمود والانحطاط(17)، ولكن أهل التقليد كانوا أكثر تنظيما وقوة من حيث الهيمنة على المشهد، وهو ما جعل الحجوي في موقع أضعف، هذا ما يتبين من خلال محاضرة حول تعليم الفتاة ومشاركتها في الحياة، أقيمت سنة 1923 بالمعهد العلمي بالرباط تحت إشراف "حكومة الحماية"، وبمشاركة عدد من علماء المغرب، من بينهم الفقيه الحجوي. وبمجرد أن بدأ الأخير في تقديم طرحه حول تعليم المرأة، حتى تدخل الفقيه المقري ليوقفه عن الاستمرار في المحاضرة قائلا له: إن الدين الإسلامي لا يساعد على تعليم البنت تعليما يجعلها تشارك الرجل وتزاحمه في الحياة، وملقيا في نفس الوقت سؤالاً على الشيخ أبي شعيب الدكالي: فما قولك أيها الأستاذ في الموضوع؟ أيجوز هذا أم لا يجوز؟ فأجابه الشيخ بالمنع، وأن تعليم الفتاة يبلغ بها هذا الحد، لا تقرّه مبادئ الإسلام"، لتتم الحيلولة بين الحجوي والاستمرار في عرض أفكاره بكل حرية(18).

وعلى كل حال، فإن الحجوي رغم جهوده الجبارة، لم يجد في النهاية بدا من اعتناق موجة الرفض الديني والاخلاقي لتحرر المرأة، فاستدرك على مجهوداته الفكرية بمناصرة تيار الفقهاء الرافض لاقتحام المرأة مجال التعليم، وهو ما يتبين من خلال عنوان المحاضرة التي ألقاها سنة 1934 تحت عنوان "تعليم الفتيات لا سفور المرأة"، مما يعني أن الحجوي اعتنق مرة اخرى النزعة المحافظة، خصوصا وهو ينتقد بشدة في محاضرته تلك كل من الطاهر حداد وقاسم أمين اللذين اتهمهما بالدعوى إلى السفور والانحلال(19).

شكك كثير من الباحثين في طبيعة المراجعات التي قام بها الحجوي لأفكاره التحررية حول تعليم المرأة، خصوصا "عما إذا كان هذا الاستدراك وتوضيح الموقف راجعا إلى التأثر بالضجة التي خلقتها محاضرته الأولى بغضب الفئة المحافظة من رجال المخزن واستياء المتشددين من علماء الدين أم إنه تراجع شخصي مصدره حصول تطور في نظرته إلى الأشياء"(20).

المهم أن حلم الحجوي انتهى في حينه إلى الإخفاق لعدة أسباب منها: إيثار المصالح الشخصية، المقاومة الشديدة لأهل التقليد، غياب الشروط الثقافية والاجتماعية لنجاح المشروع.

على سبيل الختم:

قد يكون زمن ما بعد الحجوي شهد عدة تحولات ثقافية وسياسية فرضت إدماج المرأة في الفضاء العمومي، سواء من خلال ضمان حقها في التعليم أو الحق في الولوج إلى الوظيفة العمومية، أو غير ذلك من الحقوق.

ولكن المستخلص من درس الحجوي، هو أن الإصلاح طالما كان له خصوم وأعداء، وأن دعاة الإصلاح والتغيير كانوا دائما قلة قليلة، مما ينبغي معه التسلح بقوة الهمة والصبر أمام كل الصعاب. وها هو الزمن يدور على نفسه، فلا يزال عصرنا يشهد توظيف نفس الوسائل - التي وظفت ضد الحجوي- في محاربة الإصلاحيين ودعاة التغيير الديمقراطي.

إن جدلية القديم والجديد صالحة هنا لتفسير وفهم أسباب تعثر مجموعة من المشاريع الإصلاحية، حيث إن بروز الجديد غالبا ما يجد أمامه القديم بالمرصاد، فيدخلان معا في معركة طويلة وعسيرة، لكن تلك المعركة تنتهي حتما بانتصار الجديد، ولعل تبني مشروع الحجوي من طرف نخبة الحركة الوطنية، ثم تكريسه فيما بعد في قوانين دولة الاستقلال، يؤكد فرضية الانتصار الحتمي للجديد على القديم.

 

الهوامش:

(1). عبد الإله بلقزيز، الخطاب الإصلاحي في المغرب التكوين والمصادر(1844-1912)، منتدى المعارف- الطبعة الثانية: بيروت لبنان، 2017، ص: 43

(2). حسن أحمد الحجوي، العقل والنقل في الفكر الإصلاحي المغربي (1757-1912)، المركز الثقافي العربي الطبعة الأولى الدار البيضاء المغرب، 2003، ص: 168

(3). محمد بن الحسن الحجوي، الفكر السامي في تاريخ الفقه الإسلامي، الجزء الأول، المكتبة العلمية، المدينة المنورة، 1977، ص: 238

(4). حسن أحمد الحجوي، العقل والنقل في الفكر الإصلاحي المغربي، مرجع سابق، ص: 177

(5). الرأي للدكتور سعيد بنسعيد العلوي، أورده حسن أحمد الحجوي، العقل والنقل في الفكر الإصلاحي المغربي، مرجع سابق، ص: 154

(6). ملحق مذكرة انتحار المغرب الأقصى بيد ثواره، يرجى الرجوع إلى: حسن أحمد الحجوي، العقل والنقل في الفكر الإصلاحي المغربي، مرجع سابق، ص: 56

(7). أنظر بهذا الصدد: عبد الإله بلقزيز، الخطاب الإصلاحي في المغرب، مرجع سابق، ص ص: 122-123

(8). ابراهيم أعراب، سؤال الإصلاح والهوية من السياق السلفي إلى مشروع الحداثة، افريقيا الشرق-المغرب، 2007. ص: 192

(9). نفس المرجع السابق، ص: 215

(10). حسن أحمد الحجوي، العقل والنقل في الفكر الإصلاحي المغربي، مرجع سابق، ص: 171

(11). محمد بن الحسن الحجوي الثعالبي الفاسي، محاضرتان في إصلاح التعليم، تقديم وتحقيق إبراهيم بوحولين، دار الأمان الرباط، الطبعة: يناير 2021، ص: 74

(12). نفس المرجع السابق، ص: 155

(13). نفس المرجع السابق، ص: 89

(14). نفس المرجع السابق، ص: 91

(15). ابراهيم أعراب، سؤال الإصلاح والهوية، المرجع السابق، ص: 114

(16). المرجع السابق، ص: 141

(17). المرجع السابق، ص: 138

(18). هاته الواقعة أوردها: ابراهيم أعراب، سؤال الإصلاح والهوية، المرجع السابق، ص ص: 137-138

(19). المرجع السابق، ص: 141

(20). الرأي لسعيد بنسعيد العلوي، أورده: حسن أحمد الحجوي، العقل والنقل في الفكر الإصلاحي المغربي، مرجع سابق، ص ص: 206-207