أزمة المهاجر المسلم بين حقّ المواطنة وتهمة الإرهاب


فئة :  مقالات

أزمة المهاجر المسلم بين حقّ المواطنة وتهمة الإرهاب

1- هل المسلمون مهاجرون مختلفون عن غيرهم؟

تضمّ الدول الغربيّة التي هاجر إليها المسلمون حديثا جاليات تختلف انتماءاتها العقديّة؛ إلاّ أنّها لا تقوم في نظمها السياسيّة على تقسيمات دينيّة، وإنّما على أساس مفهوم المواطنة، وهي تعني "تمتّع الشخص بحقوق وواجبات، وممارستها في بقعة جغرافيّة معيّنة، لها حدود...وفي دولة المواطنة جميع المواطنين متساوون في الحقوق والواجبات، لا تمييز بينهم بسبب الاختلاف في الدين أو النّوع أو اللون أو العرق أو الموقع الاجتماعيّ."[1] فكيف يمكن للإرهاب أن يهدّد مفهوم المواطنة؟ وما الذي جعل المهاجرين المسلمين جماعة تختلف عن سائر الجاليات الأخرى يَنظر إليها المنتمون إلى نفس الوطن، باعتبارها جماعة إرهابيّة محتملة تهدّد سلم المجتمع وأمنه؟

قد يكون تزايد أعداد المهاجرين في أوروبا[2] سببا وجيها لشعور كثير من الأوروبيّين من النخبة والسياسيين وسائر المواطنين بالخطر الذي يهدّد مفهوم المواطنة الذي أرسوه في ظلّ تمسّك كثير من المهاجرين بعقائدهم وتصوّراتهم الدينيّة في دول أقامت نظمها السياسيّة والفكريّة على أساس علمانيّ يحترم حقّ الناس في الاعتقاد ولكن يحُول بين الدّين والسياسة. ولكن ما الذي يمكن أن يفسّر وجود تلك الاتّهامات في دول تضمّ أقليّات من المهاجرين المسلمين؟

ففي كندا مثلا، تلقى هذه الأقليّة من الاهتمام الإعلاميّ قسطا كبيرا. فترسم لها صورة كثيرا ما ترتبط بالوضع السياسيّ في الشرق الأوسط، حيث النّزاع على الأرض والمقاومة العنيفة للاحتلال الإسرائيليّ. وتقترن تلك الصّورة أيضا، بالحركات الأصوليّة المتشدّدة التي كثيرا ما تنتهج العنف سبيلا للتعبير عن رفضها واحتجاجها. فضلا عن وضع المرأة الذي يوسم فيه الشرقيّ غالبا باضطهادها وسلبها حقوقها المدنيّة.[3]

يظهر المسلم في الأيّام العاديّة مواطنا أوروبيّا لا يختلف عن غيره من المواطنين، له ما لهم وعليه ما عليهم. ولكن توتّر الأوضاع السياسيّة والأمنيّة في الشرق الأوسط أو في العالم الإسلاميّ كثيرا ما يحوّل بحكم الحماسة المواطن الأوروبيّ المسلم إلى عنصر يختلف عن غيره من المواطنين احتجاجا ومطالبة بحقّ الفلسطينيين أو العراقيين أو حقّ اللاجئين السوريين. فتلك الأحداث التي تندلع بين حين وآخر كثيرا ما تمثّل نقطة فارقة في سلوك المهاجر تميّزه عن غيره من المواطنين. إلاّ أنّ أكثر ما يحوّل المسلمين إلى طائفة متّهمة بالإرهاب قيام أفراد منها، وإن كانوا قلّة بأعمال تهدّد سلم المجتمعين الأوروبي أو الأمريكيّ وأمنهما.

وقد طفت إلى السطح بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر ظاهرة جديدة حوّلت المهاجر المسلم من مواطن تضمن له جنسيّة التي هاجر إليها حقوقه وتفرض عليه ما تفرضه على سائر المواطنين من واجبات، إلى فرد مختلف عن سائر المواطنين ينظر إليه الآخرون، وكأنّه يمثّل مصدر خطر على أمنهم بل على حياتهم. وقد ساهمت الرموز الدينيّة، مثل الطقوس والملابس الطائفيّة وإطلاق اللّحى في تحويل المهاجر إلى إرهابيّ بالقوّة.

ومثلما كانت تلك الأحداث مبرّرا لشنّ حروب على دول عدّت حاضنة للإرهاب والإرهابيين وقتل كثير من الأبرياء الذين وزروا وزر غيرهم وعوقبوا على جرائم ارتكبها أشخاص من وطنهم؛ فقد أضحت أيضا سببا في تحويل كثير من المهاجرين إلى ضحايا التعصّب والعنصريّة، إذ أضحوا في أعين المنتمين إلى نفس الوطن من غير المسلمين إرهابيين بالقوّة. فنشأت في المتخيّل الأوروبيّ صورة سوداويّة للعربيّ المسلم بلحيته الطويلة ولباس نسائه الطويل وغطاء الرأس الذي يقيم تقسيما وفق منطق الانتماء العقديّ بدل تحقيق تماثل نسبيّ بين المواطنين. فالزي الذي اختاره بعض المهاجرين تعبيرا عن انتمائهم واتباعهم ما اعتبروه سنّه وفق تأويلهم أو تأويل من أقنعوهم بذلك مثّل سببا في شعور الآخرين من غير المسلمين بالخوف من خطر كامن في اللاشعور الجمعي ولّدته الأحداث التاريخيّة وزاده الاستشراق رسوخا ثمّ سلّطت عليه وسائل الإعلام أضواءها فصيّرته قضيّة العصر. إذ ارتبطت التفجيرات ومشاهد قطع الرؤوس والسيارات المفخّخات بأصحاب اللّحى والنساء المنقبات. وأضحى من البديهي أن تقترن صورة المهاجر الذي يرتدي ملابس يعتبرها معبّرة عن انتمائه العقديّ بالإرهاب. فتبعث الرعب في قلوب من يشتركون معه في صفة المواطنة ويختلفون معه في الاعتقاد والزيّ. وهنا أثارت القضيّة جدلا بين من اعتبروا حقّ اللباس أمرا مشروعا تكفله القوانين الداعمة للحريّة وحقوق الإنسان، وبين من عدّ ذلك تهديدا لمفهوم المواطنة من خلال إحداث فصل بين أبناء الوطن الواحد. وقد تولّدت عن الرأي الأوّل موجة من الاحتجاجات المطالبة بحقّ المسلم والمسلمة في اللباس المسمّى "شرعيّا"؛ بينما تولّد عن الرأي الثاني مثلا قانون حظر غطاء الوجه في الأماكن العامّة.[4] ولكنّ الثابت من الرأيين أنّ المتخيّل الأوروبيّ قد صاغ للمسلم صورة الإرهابيّ المحتمل. وتزداد تلك الصورة قتامة كلّما دعّمتها الأزياء الطائفيّة.

2- العنصريّة والإرهاب: متخيّل الكراهيّة وآفاق المواطنة

يقول أحد المهاجرين إنّه "من المثبط أن تكون عربيّا مسلما تعيش في الولايات المتحدة الأمريكيّة هذه الأيّام. حينما تذهب إلى الشرق الأوسط ينظر إليك على أنّك دافع ضرائب أمريكيّ تعمل من خلال نفوذك على تدمير منازل الناس. وحينما تعود إلى الولايات المتّحدة يرتاب فيك بوصفك إرهابيّا محتملا، وخاطفا للطائرات."[5]

يختزل قول هذا المهاجر حقيقة الصدام الذي يصنعه متخيّل المواطن العربي المسلم في الشرق الأوسط. فهو يرى في الغرب عامّة وأمريكا خاصّة شيطان الكون الرجيم. أمّا متخيّل المواطن الغربيّ، فهو يؤكّد تلك الحقيقة. إذ شاهد المواطن الغربيّ مباشرة الطائرات المختطفة، وهي تصطدم ببرج مانهاتن في نيويورك. ووقف وجلا أمام هول ما يمكن أن تصل إليه أيدي الإرهابيين. ومن الطبيعيّ أن يسري حكم الجزء الإرهابيّ على المسلمين جميعا، وأن تتوسّع دائرة الاتّهام لتشمل المعتقدين في الدين الإسلاميّ جميعهم.

تلك الطبقة الأولى من المؤثرات الواقعيّة التي أسهمت في صناعة هذا المتخيّل، ولكن لا ريب في وجود طبقات أخرى، إذا حفرنا عميقا في الذاكرة وقلبنا فصول الصراعات المختلفة بين الشرق والغرب؛ إلاّ أن تلك الطبقات المرتبطة بإرث تاريخيّ ما يزال حيّا في الذاكرة الجماعيّة لا يمكن أن يخفي تراكمات أخرى صنعها الإعلام الذي أسهم بشكل كبير في تحويل صورة المهاجر إلى مغترب، وهو يمتلك حقّ الموطنة والمساواة مع الآخرين. فقد تصدّرت أخبار الإرهاب كل النشرات، وتعدّدت البرامج التي تزيد من الخوف الذي بدأ يسكن كثيرا من القلوب. وأسهمت الوسائل المتنوعة التي يختارها الإرهابيون في جعله في بشاعة الموت الذي يفجأ الإنسان، وينغّص عليه عيشه وفرحته. فالإرهاب يلاحق البشر في البر والبحر والسماء. في العمل أو في أوقات الفراغ. والإرهابيون يخرجون من حيث لا يُتوقّع خروجهم كالغول في الحكايات العجيبة. آثارهم الموت بكل الوسائل: التفخيخ والتفجير والطعن والدهس بالسيارات والوسائل مرشّحة للتطوّر... ولذلك، فقد كان من الطبيعيّ أن تتزايد ظاهرة العنصريّة التي يمكن أن تكون عونا للإرهاب بدل أن تكون كما يتوهمها أصحابها آليّة للفصل بين المتعصّبين لعرقهم ومن تمارس عليهم العنصريّة. ومن الطبيعيّ أن تختلف درجات تأثير العنصريّة في فئات المجتمع. ولعلّها تكون أكبر بين المواطنين في حياتهم اليوميّة. ولكنّها حين تصير مؤثّرة في الأكاديميين، فذلك مؤشّر على تحوّل الظاهرة من طور الظواهر العرضيّة إلى طور المأسسة والتقنين. وهي تمثّل تهديدا للانسجام الذي كان حاصلا في تصوّر المواطن الأمريكي من أصول عربيّة بين انتمائه وتراثه.[6] وتحوّلا من طور الشعور بالانتماء إلى الوطن الواحد إلى طور الانفصال النفسيّ عنه من خلال تفكّك العلاقات الاجتماعيّة مع سائر الأعراق وخاصّة منها العرق الأبيض الذي يروّج لصورة أمريكا البيضاء. وتتحوّل تلك العنصريّة إلى الساحة السياسيّة لتصير مجسّدة في صعود اليمين في فرنسا وبلوغ "ترامب" البيت الأبيض. ولا يخفى أنّ في تصريحاته بعض المواقف العنصريّة التي تصير أخطر حين تصدر عن سياسيّ له كثير من الأنصار والمقتنعين بآرائه.[7]

لم تكن العنصريّة مجرّد آراء قنّنها الأكاديميون، وروّج لها السياسيون وزادها الإعلام دعامة لتنتشر، بل إنها تحوّلت إلى سلوك صار انتشاره أوسع في المجتمعات الغربيّة. فقد أصدرت اللجنة الفيدرالية لمناهضة العنصرية تقريرها. وأبلغت عن تسع وثلاثين ومائتي حالة تمييز عنصري في عام 2015. وكانت في معظمها مظاهرات عدائية ضد السّود والمسلمين.[8] وبعد كلّ اعتداء إرهابيّ تتصاعد أعمال العنف ضدّ المهاجرين. فبعد حادثة "شارلي إيبدو" (Charlie Hebdo) في فرنسا مثلا تعرّضت كثير من النساء المحجبات للإهانات والاعتداءات. وصار بعض الفرنسيين يخلطون بين المواطنين الفرنسيين من أصول إسلاميّة والإرهابيين.[9]

إنّ المفارقة الكبرى التي طرحتها العولمة، هي كونها وفّرت أسباب التواصل بين أرجاء القرية الكونيّة توفيرها أسباب الفرقة والشقاق داخل الوطن الواحد. ومن المؤكّد أنّ الحلول تكون دوما من الداء الذي صار يهدّد وحدة الوطن الواحد. فقد أضحى المهاجر ممزقا بين انتمائه المدنيّ الذي يجعل منه منتميا إلى مجتمع له ما للآخرين من حقوق بغضّ النظر عن أصولهم وعليه ما عليهم من واجبات، وانتمائه العقديّ الذي وفّر له أسباب التواصل مع متخيّل تراثيّ وشيوخ رسموا صورا جديدة للإسلام والمسلمين فيها كثير من العدائيّة للغرب. وقد وثق بعض الشباب من الجيل الثاني والثالث من المهاجرين بخطاب الدعاة. فنفّذوا ما أمروا به وحوّلوا شكّ البعض في إرهابهم إلى يقين وعداء زادا من درجات التعصّب والعنصريّة.

ولذلك، فالسكوت عن إشكاليّة التعامل العنصري الذي يمارسه البيض على غيرهم من الأجناس بشتّى الأشكال الأكاديميّة والسياسيّة والاجتماعيّة يمكن أن يحوّل الخوف من الإرهاب إلى حقيقة. وكلّما تصاعدت درجات التعصّب العرقيّ زادت مبرّرات الانتماء إلى الجماعات الإرهابيّة انتقاما من سوء المعاملة. فمن السهل أن تترجِم كلمة الكفر احتقار شرطيّ فرنسيّ لمواطن عربيّ، أو أن تتحوّل نظرة الاستعلاء إلى قنابل موقوتة يترجمها المتكلّمون بلسان السماء إلى عدوان على الإسلام والمسلمين. وليس أيسر بعدئذ للمنتقم من أن ينتقم بالسلاح إن ملكت يمينه أو بالدهس والطعن إن وجد إلى ذلك سبيلا. فالحفاظ على قيم المواطنة وحقوق الإنسان هما وحدهما القادرين على فكّ الاشتباك بين موطن أبيض يتصوّر نفسه الإنسان الأرقى ومواطن من نفس البلد تصوّر نفسه من خير أمّة أخرجت للناس.


[1] سامح فوزي، المواطنة، ط1، مصر، مركز القاهرة لدراسات حقوق الإنسان، 2007، ص 7

[2] يبلغ عدد المسلمين في أوروبا 46 مليون مسلم. يقطن أكثر من 20 مليون منهم دول الاتحاد الأوروبي. وقد تزايدت أعداد المسلمين في أوروبا بعد قرار المستشارة الأمريكيّة "أنجيلا ميركل" منح اللجوء لكثير من المهاجرين من بؤر التوترّ في الشرق الأوسط. وبحسب الإحصائيات الرسميّة يبلغ عدد المسلمين في ألمانيا 6 مليون مسلم. وفي فرنسا 5 مليون مسلم وفي المملكة المتّحدة 3 مليون مسلم. انظر:

https://civilwarineurope.com/2016/04/11/au-moins-46-millions-de-musulmans-en-europe/

[3] انظر مثلا:

LA REPRÉSENTATION DES ARABES ET DES MUSULMANS DANS LA GRANDE PRESSE ÉCRITE AU QUÉBEC. Rapport de recherche Présenté à Patrimoine canadien Sous la direction de RACHAD ANTONIUS Coordinatrice et chercheure: ALYKHANHTHI LYNHIAVU avec la participation de Richard Dion, Marc Antonius, Aziz Djaout et Benoît Gagné.

http://www.ieim.uqam.ca/IMG/pdf/Arabes_Musulmans_Presse_ecrite_2.pdf

[4] Projet de loi interdisant la dissimulation du visage dans l'espace public

انظر مثلا:

http://www.assemblee-nationale.fr/13/projets/pl2520-ei.asp

[5] هذا القول للناشط العراقي الأمريكي رائد جرّار. انظر: ستيفن شيهي، الإسلاموفوبيا، الحملة الإيديولوجيّة ضدّ المسلمين، (ترجمة فاطمة نصر)، ط1، القاهرة، سطور الجديدة، 2012، ص 213

[6] انظر مثلا: ستيفن سلايطة، العنصريّة المعادية للعرب في الولايات المتّحدة الأمريكيّة منشؤها وما تعانيه اليوم، (ترجمة فاضل جتكر)، ط1، السعوديّة، مكتبة العبيكان، 2007، ص 113- 154.

[7] وفي حوار مع محطة "سي إن إن" في آذار/مارس 2016، قال مرشح الرئاسة ترامب: "أعتقد أن الإسلام يكرهنا". وأتبع هذا التصريح لاحقا بقوله: "لدينا مشاكل مع المسلمين ولدينا مشاكل مع المسلمين الذين يدخلون بلادنا". وبعد دخوله للبيت الأبيض خرج ترامب بقراره المثير للجدل حول منع رعايا ستة من الدول ذات الأغلبية المسلمة من دخول الولايات المتحدة.انظر:

www.dw.com/ar/ترامب-والعنصرية-ـ-مواقف.../a-40134122

[8] https://www.letemps.ch/suisse/2016/06/07/racisme-envers-musulmans-augmente

[9] http://www.slate.fr/story/110347/attentats-islamophobie-france./