تقديم كتاب "في الموروث الديني الإسلامي: قراءة سوسيولوجية تاريخية"؛ لعبد اللطيف الهرماسي


فئة :  قراءات في كتب

تقديم كتاب "في الموروث الديني الإسلامي: قراءة سوسيولوجية تاريخية"؛ لعبد اللطيف الهرماسي

هذا الكتاب حبّة من عقد مشروع متكامل لا يزال في طور الإنشاء، يهتمّ بالمرجعيات والنخب، والمؤسسات الدينية، والسياسية الدينية، على حدّ عبارة كاتبه عبد اللطيف الهرماسي؛ وهو أستاذ علم اجتماع في الجامعة التونسية، يعلن عن مشروعه في مقدّمة كتابه، محاولا رصد مبررّاته ضمن سياقات تاريخية وأسئلة حضارية واجهت الباحثين، فولّوا وجوههم شطر التراث باحثين فيه عن إجابات تتعلق بإشكالية النهضة، وسبل التعامل مع الحداثة. ولكن ما يبرّر هذا المسار لا يعود في نظره إلى طبيعة الموضوع المدروس، وإنما طريقة التعامل معه باعتماد مكتسبات علم الاجتماع التاريخي.

وقد استغرق الفصل الأول من الكتاب ليطرح منهجه، ويستعين في تلك المقاربة بأسانيد نظرية من علم الاجتماع التاريخي، وفق قراءة نقدية تؤمن بحدود كلّ منهج هاجسه الموضوعية في دراسة ظواهر إنسانية تتصل بالتراث الإسلامي.

ولقد كان الفصل الثاني وليد هذا الهاجس، سعى فيه الكاتب إلى عرض للجهد العلمي في مقاربة الظاهرة الدينية، وما شابها من نزعة التحامل العدواني. ولذلك فهو يقترح منهج الإيمان المنهجي بديلا عن الإلحاد المنهجي الذي قضت به الفلسفات المادية.

فكأن الهرماسي يفكر في المتلقي العربي الإسلامي قدر تفكيره في موضوعه، باحثا عن صلح بين العلم والدين، لا يسعى فيه المبحث الأول إلى إلغاء الثاني، ولا تخييب آفاق انتظار المؤمنين بالنسق الديني. ولهذا، فقد اتجه بنقده إلى المناهج التي قارب بها موضوعه، حتى لا يتحول من سطوة الإيمان بالحقيقة الدينية الواحدة إلى سلطة الإيمان المطمئن بمكتسبات العلم وآراء رواده. فلا إمامة في العلم، وكل النظريات، على عظم شأن علمائها، قابلة للنقد والتعديل ما دام الموضوع المدروس إنسانيا غير ثابت، تتحول حقائقه من ثقافة إلى أخرى، وتتأثر مساراته بالواقع التاريخي.

وتبدأ رحلة الحفر في التراث من خلال رصد إشكالية العلاقة بين الإنسان والمقدس، وفق قراءة نقدية تحاول النظر في المحاولات الفكرية التي قاربته، كمثل دوركهايم وماكس فيبر وبيير بورديو، دون أن تحجب تلك الأسماء الكبيرة في علم الاجتماع الفوارق الجوهرية بين العينات التي اعتمدها أصحابها في مقارباتهم، والبيئة العربية الإسلامية التي تصورت المقدس وفق منظور أصحابها.

يلقيك الهرماسي في يم النظريات الاجتماعية، حتى يأخذك إلى ساحل الثقافة العربية الإسلامية، بحثا عن تقاطع الديني والسياسي.

ويقف الكاتب عند عتبات الثنائية المركزية، التي أثرت في كل تناول علمي للدين، ما بين المقدّس والدنيوي، وهي رحلة بحث عن القوانين المتحكّمة في هذا الزوج؛ فالمقدّس الإسلامي إنشاء لمشروع المركزة ونزوع نحو الانتشار، ومفهوم المقدّس في الإسلام مرتبط بالحرام، ويتدخل فيها النص من أجل " إخضاع الدنيا والتصرفات المتعلقة بها لتوجيهات الدين وأوامره، وإرساء علاقة هرمية يخضع فيها الدنيوي، ومن ضمنه السياسي، إلى متطلّبات الدين".[1]

وتبدو طرافة الكتاب في قدرة صاحبه على استدعاء النظريات المختلفة التي قاربت المقدّس، دون الوقوف أمامها وقفة المطمئن لنتائج أصحابها، وقد أنتجوها وفق مقاربتهم لعينات مختلفة؛ فجرأته النقدية هي سر تميز عمله، وعمق نظره.

وتبدو أهمّ الرهانات المعرفية في المحور الثالث من الكتاب بحثا عن الحقيقة الدينية في التراث الإسلامي وعلاقتها بالسلطة، فتلتقي رهانات الهيمنة والاحتكار، بحثا عن الشرعية الدينية في سوق الاختلاف المذهبي، ويحدد الهرماسي نقطة الانطلاق وبؤرة الصراع التأويلي في أحداث الفتنة الكبرى، باعتبارها ذروة أولى للوضعية التأويلية، قامت بدور جوهري في مسار العقلنة، وتشكيل العقائد والجماعات في إطار عملية مزدوجة من التعالي والإنزال. ولئن قضت هذه الفرق بالتنوع، إلاّ أنّها كانت محكومة بجدلية الإقصاء والإدماج، تداخلت فيها الجوانب العقائدية والإيديولوجية، فتولّد التكفير في خط الصدع بين المذاهب، مؤذنا بالعنف الحقيقي والرمزي وانغلاق الهويات.

وقد حاول الهرماسي تطبيق المنهج التاريخي، فرصد أهمّ التطوّرات التي شهدتها الفرق، ولكن هاجسه الإشكالي ظلّ حاضرا، باحثا عن الاستمرارية والتكيّف، راصدا مواطن التوتّر والتسامح بين الفرق الإسلامية المتناحرة على لقب الفرقة الناجية وشرعية السلطة.

وفي الفصل الرابع، بحث عن علاقة الدين بالقانون، سعيا إلى تركيز تلك الشرعيّة على أرضية قانونية، يفضي إلى تتبّع المنظومة الفقهية، ومسار تفاعلها مع الواقع ثباتا وتحولا مع حركة المجتمع، نحو تحصيل رأس مال رمزي، ويضرب مثلا أصول الشافعي أنموذجا لإستراتيجية الفقيه الذي قضى بتضامن المذاهب الأربعة، وبلورة العقيدة السنية.

يطالعنا المقدّس من خلال تتبع مساراته، كالنار في الهشيم تتوسع دائرته لتغلغل في النسيج الاجتماعي آلية ضبط وعامل دمج وسلطة تبرير، شاملا مرنا يتأثر بالتحولات الاجتماعية وظروف الحياة. و في إطار هذه الحركية الاجتماعية، يلتقي المساران الديني والسياسي، فتتولد من التقاء التيارين جدلية احتكار وانتشار قانونٍ للحكم. ولقد حكم مسار التحليل هاجس المقارنة بين المسيحية والإسلام، فرضته طبيعة النتائج العلمية التي أقرها أصحاب المناهج المعتمدة في الكتاب، فارجع البصر ترى اختلاف المسار الفقهي عند المسلمين عن الكهنوت المسيحي، ثم ارجع البصر كرّتين ترى أثر الدين في السياسة والمجتمع، احتكارا للحقيقة، وإقامة للأسيجة الأرثوذوكسية والبنى البيروقراطية.

وينكشف، من خلال تفكيك العلاقة بين المسارين الديني والسياسي، تضامن أهل الدين وأهل الدولة وتنافسهم، فتتداخل الحقول المعرفية والسلطوية، وتظل الحلقة الأصعب في رصد هذه العلاقة هي الخروج من دائرة النخبة، نحو علاقة السلطتين المعرفية والسياسية بالمجتمع، تفاعلا قضى بجدل بين الشرع والعرف، وإنتاجا لعلمنة جزئية لم يستطع فيها الدين فرض سلطته على المجتمع فرضا مطلقا، وإنما احتاج إلى تعديل مساره وفق مقتضيات الواقع وحكم العادة.

وفي خاتمة الكتاب، تُستخلص نتائج البحث في نهاية رحلة حاول فيها تقصي "سيرورة التشكّل الديني، ودوره في إدارة وتوجيه المجتمع المسلم في المجال السني"[2]؛ فالشريعة، حسب رأيه، لم تطبق بالكامل من خلال تتبع المسار التاريخي لعلاقتها بالواقع، ولم يعرف المسلمون فصلا دقيقا بين الدين والدولة، ولم يكن انتشار المقدس في المجتمع حائلا دون "وجود نزعة علمنة جزئية من باب الأمر الواقع وحكم الضرورة ومتطلّبات الحياة".[3]

وإنّك لواجد في الكتاب فضلا مزدوجا؛ فهو في الوقت الذي يخرجك من اطمئنانك إلى أشكال التديّن، وسطحية تصوّرها إلى فهم عميق، يقوم على الحفر في جذورها وفهم بنيتها، ويعطيك أسلحة منهجيّة تمكنك من التعامل مع ظاهرة التدين في التراث الإسلامي، تعاملا عقلانيا واعيا لا يغالي في بيان جوانبها المادية، وإنما يؤسس لإنسانية الفعل الإنساني صرحا تتفاعل فيها النظرية مع الواقع، ولا تطمئن فيها القلوب إلى الحقيقة الواحدة، ولكنه يورطك في رحلة جهاد معرفي نحو مشروع يعيد تصوّر المفاهيم السائدة، وفق رؤية علمية لا ترضى بالسائد؛ فهو يخرجك من كهف لا ترى فيه سوى ضلال الحقيقة، إلى مواجهة البنى الاجتماعية، تفاعلا بين استراتيجيات السائس، وأحكام النخبة، وفروض البيئة عرفا وعادة.

لعلك واجد بعض الحقائق تتقاطع مع مدرسة نقدية، آمنت أنّ التراث يحتاج إلى إعادة القراءة والفهم والتفكيك، من أهم أعلامها محمد أركون ومحمد عابد الجابري وعبد المجيد الشرفي، ولكنك تخرج بقراءة جديدة لصاحب الكتاب تغريك بجرأتها، لا في التعامل مع التراث الإسلامي الذي كثرت أقفال الحقيقة فيه، وسيجته أسوار من القداسة، وإنّما في التعامل مع نظريات حديثة للعلم صارت بدورها مقدّسا جديدا في نظر بعض الباحثين، يطبقونها تطبيقا آليا على التراث، رغم اختلاف العينات المدروسة وسياقات إنتاجها. ففي الكتاب دواء لداء المركزية والوثوق، سهام النقد موجهة إلى التراث قدر ما وجهت إلى النظريات المعاصرة في علم الاجتماع، والموضوعية هي المقصد الرئيس من وراء النزعة النقدية.

"في الموروث الديني الإسلامي" كتاب يصل بين النظرية والتطبيق، دون أن يشعرك بوجود فصل بين المستويين، يتداخلان تداخلا واعيا، يراوح فيهما الكاتب بين استدعاء النظريات الغربية الحديثة، بحثا عن أدوات منهجية تنزّل المقدس من عليائه، سعيا إلى مقاربته وتفكك بناه الظاهرة والخفية؛ وبين الحفر في التراث الإسلامي، رصدا لتجليات المقدس، وتتبعا لسلسلة تطوره التاريخي. وتلتقي في الكتاب أبعاد معرفية، ونظريات اجتماعية وسياسية، دون أن يقف صاحبها عند آراء النخب وحدود الساسة، عملا بالإرث التاريخي؛ فالحفر رصد للبنى الاجتماعية الدقيقة، وتفاعل بين النظرية والواقع مدًّا وجزرًا، وقد ترهقك المفاهيم، وتشعرك التفاصيل التاريخية والفقهية بالملل، ولكن وراء كل تلك التفاصيل دقة العالم بحثا عن كل الخيوط الخفية. فأنت واجد في أطرافها قوانين تأسس بها التراث الإسلامي، متمسكا بوحدانية الحقيقة ومحتكرا للشرعية الدينية، وملقيا بشباكه في عمق النص، صيدًا لتأويل أنقى وإيمان أتقى، فينتج نظريات فقهية تتفاعل بمرونة مع العرف السائد وسلطة النظام الاجتماعي، دون أن تمس بشرعيتها الدينية التي تخوض من أجلها حروبا حقيقية ورمزية؛ فهاجسها الأكبر أن يظلّ المركز السنّي شامخا شموخ الجبال، في أرض كثيرة البراكين، وفق آليات تتفاعل فيها مع سائر الفرق، جدلا بين الإقصاء والإدماج.


[1]- عبد اللطيف الهرماسي، في الموروث الديني الإسلامي قراءة سوسيولوجية تاريخية، ط1، لبنان، التنوير للطباعة والنشر والتوزيع، 2012، ص99

[2]- المصدر نفسه، ص285

[3]- المصدر نفسه، ص286