أمريكا: المجتمع المركب ونزاعاته


فئة :  مقالات

أمريكا: المجتمع المركب ونزاعاته

أمريكا: المجتمع المركب ونزاعاته

تتوزع المرء مشاعر متناقضة حيال الولايات المتحدة الأمريكية، تتداخل في مخيلته صور العنف، والتفاوت، والعدوان، والغطرسة، مع صور الحرية، وثقافة المبادرة والإبداع، والتقدم، والاقتدار الهائل على استقطاب كفاءات العالم وإنتاجاته الرمزية.... إلخ؛ جاذبية أمريكا لا تقل سطوة على المرء من مشاعر النفور، مما سببته لأكثر بقع العالم من مآس ومظالم؛ مشاعر متناقضة، ومستويات إدراكية يتشابك فيها ما تمت مشاهدته من صور أمريكية، وما تمت قراءته من قصص وروايات وكتب، وما حصل الاطلاع عليه من دراسات وتحاليل عن أشكال حضور أمريكا في العالم، وأنماط تدخلها فيه، وطرق فرض هيمنتها عليه.

بعد التحولات السياسية والإستراتيجية التي تلت انهيار الاتحاد السوفياتي، تخيلت الولايات المتحدة الأمريكية أنها أصبحت في موقع القدرة على فرض حقيقتها في العالم. هل هذا الواقع سيخضع لتبدلات ريح آتية، أم أنه سيستمر في المدى المنظور والمتوسط؟ لا أحد يمكن أن يتكهن بذلك مهما كانت قدراته على التنبؤ، كما لم يكن أحد يتوقع سقوط الاتحاد السوفياتي، وانسحابه من التوازن الدولي بتلك السرعة والتفكك الدراماتيكي...

أمريكا هي من يشرع للحرب وللسلم اليوم، في أكثر بقع الأرض أهمية، هناك من يعبر عن بعض المقاومة الخجولة أو الجسورة حسب الدول والمصالح والجهات، وهو ما بدأ يظهر على سطح العلاقات الدولية، مع سياسات فلاديمير بوتين في روسيا في الآونة الأخيرة. وهناك من أذعن لمنطق الأمر الواقع الذي بدأت تتعوده أمريكا في علاقاتها الدولية، وتعاملها مع المؤسسات الأممية.

ومهما كانت القيم التي ترفعها الولايات المتحدة الأمريكية، والمبادئ التي تقول بها، في كل المراحل التي قطعتها طيلة القرن العشرين، وبداية هذه الألفية، فإن المحرك المطلق لمواقفها وتحركاتها يتمثل في المصلحة، ولا شيء آخر غير المصلحة؛ فالعقل البراجماتي تكوَّن لكي يجد كل المسوغات الممكنة والمتخيلة للقول بالمصلحة في كل معانيها وأبعادها؛ هل لأن أمريكا بَنَتْ مصيرها على المستقبل في غضون قرنين من تاريخها الرسمي، جعلها في منأى عن أي ارتباط قدسي بالماضي، كما هو الشأن بالنسبة للأمم التي تملك تاريخية رمزية ثقيلة؟ أم أن تكوينها الاجتماعي والإثني والثقافي، المخترق بكل أشكال الاختلاف، جعل من الانتماء السياسي قاعدة جوهرية لتشكيل الهوية الأمريكية.

من جهة أخرى، قد يكون من قبيل تحصيل القول بأن تاريخ الوجود البشري اقترن، في جوهره ومساره، بالنزاع والصراع والتوتر. تنقص نسبة الصراع ودرجة التوتر أو تتأجج. يأخذ النزاع أبعادًا دراميةً، أو يتم تقليصه في صيغ من التعايش الهشِّ. المهم أن العلاقات بين الأفراد، والفئات، والجماعات، والشعوب، والدول، والكتل، تسكنها النزاعات في كل مستوياتها ومراحل تطورها. وما دام الإنسان لا يكف عن التعبير بكل الوسائل، عن رغبته في السيطرة والتحكم، وترتيب شروط المصلحة والتملك، فإن ذلك يكون حتما على حساب الآخرين؛ الأمر الذي يُولِّد ردود أفعال ومقاومات، وميولاً للدفاع عن الذات والمحافظة على وجودها.

والنزاع تعبير عن علاقة بين جماعتين أو أكثر، تعمل الواحدة منها في اتجاه السيطرة على الحقل الاجتماعي، أو على المواقع الاقتصادية والإستراتيجية لعلاقتهما. ينتج عن ذلك حالات من الصراع، ولحظات من التوتر، تتصاعد وتخفت حسب موازين القوى، ونوعية الثقافة السياسية المؤطرة لنمط العلاقات والتبادل. تسكن النزاعات كل مجالات الحياة لدرجة يغدو فيها، أحيانا، عامل تنشيط للعلاقات العامة. لكن حين يتخذ النزاع طابع العنف، فإن الأمور تختلف جذريًا، ذلك أن العنف يفترض آليات خصوصية لتسييره، ولضبط تجاوزاته، ويستلزم شروطًا معقدة لإنهائه، والتحكم في مصادره. لكن هل يمكن التعلم من النزاع دون اللجوء إلى العنف؟ وما هي الطرق الممكنة للتعامل مع صورة العدو؟ وكيف السبيل لإقصاء مصادر العداوة؟

قد يتفجر النزاع بين فئات متعارضة المصالح، وبلدان، وبين أجناس وإثنيات، وقد يتولد لأسباب دينية أو ثقافية...إلخ؛ ولأن النزاع، كما تمت الإشارة إلى ذلك، ظاهرة يتكرر وقوعها باستمرار، فإن لكل جماعة آليات تفرزها لحل خلافاتها ونزاعاتها. قد يكون الحل عبارة عن تسوية لتخفيف التوتر، أو ترتيب شروط لخلق التوازن في المصالح والمواقع والأدوار، وقد يفضي الحل إلى بناء أطر مؤسسية ومواثيق تضبط النزاعات، تُقننها، وتنتج فاعلين اجتماعيين لتسييرها.

ونظرًا للتركيبة الفسيفسائية للمجتمع الأمريكي، وللتاريخ العسكري والصراعي الذي تميز به منذ أن قام على أنقاض الجماعات الأصلية التي كانت تستوطن الأراضي الأمريكية منذ قرون، وبسبب التعدد الإثني والعرقي والديني والثقافي الهائل الذي يختزنه النسيج الاجتماعي والثقافي الأمريكي، وفي ضوء التعبيرات العدوانية التي تعبر عنها بعض الفئات لإعلان فروقاتها واختلافاتها...إلخ؛ كل ذلك جعل من المجتمع الأمريكي كيانًا مولدًا للنزاعات، ومنتجًا لكل أشكال الصراعات.

ولمحاصرة وتطويق هذه النزاعات والصراعات، والحد من مضاعفاتها، أو على الأقل لتسييرها بطرق لا تضر بالجماعات المختلفة داخل النسيج المجتمعي، تكونت منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، مئات من المعاهد والمراكز والمؤسسات المختصة بالدرجة الأولى، في ما يسمى بــ "حل النزاع".

تختزن التركيبة الاجتماعية للمجتمع الأمريكي بؤرًا للتوتر، وحالة دائمة من الصراع، ومواجهات تتخذ في كل مرة طابعا مختلفًا، ترجع تارة لأسباب إثنية، أو عرقية، أو ثقافية أو دينية، وتعود تارة أخرى لأسباب اجتماعية أو نفسية أو سياسية، وكل شيء مُركّب في المجتمع الأمريكي، من جراء التكوين الفسيفسائي لنسيجه العام؛ إلا أن الأساس المركب يختزن كثيرًا من عناصر التفجر، تعبر عن نفسها في شكل نزاعات دائمة، يعجز النظام القضائي الأمريكي عن حلها، وإن وجد لها حلولا فإن ذلك يستغرق وقتاً طويلاً، يتحول فيها طول الفترة إلى عامل إضافي لتعميق النزاع وتعقيد الحلول. من البديهي أن النزاع يسكن في صلب كل جماعة بشرية وأحرى إذا كان الكيان مُؤسسًا، في جوهره، على التنوع والتعدد الإثني، والثقافي والديني؛ ويغدو النزاع شيئًا طبيعيًا، طالما أن الأمر يهمّ علاقات قد تكون متكافئة أو مختلة التوازن. لكن حين يغدو النزاع عنيفًا، ويتحول إلى صراع تضطر فيه الأطراف المتنازعة إلى تعبئة قوتها على المساومة وأدوارها السياسية، وخزانها الرمزي في المواجهة، فإن القضاء بمؤسساته لا يستطيع دائمًا، مواكبة حجم النزاعات، ولا طبيعتها، ولا النتائج المترتبة عنها.

لهذه الأسباب فرخت في أمريكا مراكز ومؤسسات كثيرة لحل النزاعات، كل أشكال النزاعات، من المدرسة إلى الأسرة، إلى الخلافات الإثنية والاجتماعية، إلى الصراعات المهنية والمؤسسية، إلى النزاعات الوطنية والدولية. أصبحت مراكز حل النزاع تجارة تدر الأرباح، وتتعاقد معها مؤسسات الدولة والخواص، سواء بإنجاز بحوث أو تدريب وسطاء، أو توظيف حكام أو التدخل لحل النزاع.

هكذا نجد هيئات مثل "معهد التعددية الأمريكية"، "مركز تسوية الخلافات" و"جمعية هيئة- المحامين الأمريكي"، إلى جانب مراكز تهتم بالأمن المحلي والقومي والعالمي...مثل "معهد دراسات الأمن العالمي"، و"معهد دراسات السلام العالمي..." الخ، إلى أن نجد مؤسسات ذات طابع سياسي بارز، ينصب انشغالها على السلام العالمي، مثل "المعهد الأمريكي للسلام"، و"معهد دبلوماسية المسارات المتعددة"...إلخ.

بسبب تعددها، تُولد أمريكا نزاعات داخلية، وبسبب سياستها الإمبراطورية، خارجيًا، تخلق نزاعات دولية، ولأن المصلحة هي مبدأها المقدس، والعنف، أحيانًا، وسيلتها من أجل ضمان المصلحة، فإن مؤسسات حل النزاع أصبحت تجارة رابحة، وخدماتها، فضلاً عن دورها الاجتماعي والإنساني، تدر الأموال الطائلة على أصحابها ومنشطيها.

كل أشكال النزاع قابلة للاستثمار؛ من المشاكل داخل المؤسسات التعليمية، إلى الطلاق، والصراعات العائلية؛ من التوترات ذات الطابع الإثني والديني، إلى النزاعات المهنية داخل وحدات الإنتاج؛ من الخلاف حول توزيع مياه نهر إلى طرق استعمال السلاح...إلخ؛ أنواع من النزاعات، وهي كثيرة في المجتمع الأمريكي ومعقدة أحيانًا، لا تقدر المؤسسة القضائية على إيجاد لها، وإن نظرت فيها، فإن مسطرتها وطرق معالجتها تطول، لدرجة تتمخض عن تلك النزاعات نزاعات أخرى قد تعطيها طابعا مأساويا في بعض الأحيان. ولهذا السبب تضطر الأطراف المتنازعة للجوء إلى هيئات حل النزاع، ولا يتردد بعض القضاة على تشجيعهم على ذلك، بل إن هناك محاكم تدعم ماديًا مراكز حل النزاع، للمساهمة في التخفيف من القضايا المطروحة عليها، أو لإيجاد حلول أنجع وأسرع وأرخص من تلك التي تتطلبها المسطرة القضائية.

هذه هي أمريكا، بلد نقائض، ووطن مفارقات؛ والعقل الأمريكي، في الأول والأخير، لا تزعجه الأخلاق؛ فأمام المبادئ والمصلحة، لا يتردد لحظة واحدة في اختيار الأخيرة، حتى ولو كان ذلك على حساب ترسانة من الالتزامات والتعهدات. داخل المجتمع الأمريكي أديان وعقائد وطقوس، ولكل إثنية مرجعياتها وأعرافها، وأشكال التعبير عنها. لكن العقل الأداتي، المنظم والمسير لمؤسسات الدولة، لا يعير أية أهمية للدين والأخلاق والقيم؛ فالدولة منفصلة، دستوريًا، عن العقائد الدينية، وهي تعبر عن الوحدة القومية، وتدافع عن "الطريقة الأمريكية في الحياة"، من خلال حماية المصالح الكبيرة للفئات المالكة لوسائل التمويل والإنتاج. ولا يضيرها في شيء إن حصل ذلك على حساب شعوب أخرى، أو حتى على حساب فئات داخل المجتمع الأمريكي نفسه.