الاتصال السمعي البصري بين تحولات السياسة ومقتضيات التعددية


فئة :  مقالات

الاتصال السمعي البصري بين تحولات السياسة ومقتضيات التعددية

يمثل التواصل السمعي البصري اكتشافا تقنيا وثقافيا كبيرا في القرن العشرين، و”قطبا جاذبا” لا يكف عن التجدد من خلال إظهار وتقديم مختلف أشكال حضور الإنسان والمجتمع، وتعبيرات الثقافة.

وبقدر ما يجسد هذا التواصل العلامات المتنوعة للسلطة في تمفصلاتها السياسية والاقتصادية، فإنه يترجم في نفس الآن، هشاشة دائمة بسبب التحديات التكنولوجية، والسياسية والثقافية والبشرية التي تمس، في كثير من الأحيان، الأسس المكونة للاتصال السمعي البصري. ولذلك، فإنه يتحرك داخل مناخات معقدة، لأنه في جوهره متعدد الأبعاد. فقد يظهر أنه قادر على فعل كل شيء، وأحيانا بطرق مبالغ فيها، ولكنه يواجه في كل مرة تحديات متنوعة تعطله عن مواكبة المستجدات، وإبراز ما يعتمل في المجتمع من أسئلة وقضايا.

وأمام الرهانات المتنوعة التي يفرضها الاتصال السمعي البصري على أصحاب القرار، وعلى المتعهدين وحتى على الجمهور، لامناص من استحضار بعض الأسئلة الكبرى التي صاغها “دومنيك فولتون” في كتابه “التفكير في التواصل”: ما هو الشرط الكفيل بإنقاذ البعد الرائع للتواصل، إحدى أجمل الأبعاد التي أبدعها الإنسان الذي من خلاله يتشوف إلى الدخول في علاقة مع الآخر، والتبادل معه، حين نعلم بأن كل شيء في التواصل ينحو، على العكس من ذلك، في اتجاه المصالح؟ كيف يمكن إنقاذ البعد الإنساني للتواصل في الوقت الذي يسيطر فيه البعد الأداتي؟ ما هي العلاقة الموجودة بين مثال التواصل الذي يتخطى العصور والحضارات لدرجة تحول معها التواصل إلى أحد الرموز الأكثر قوة للإنسانية، وللمصالح وللإيديولوجيات.

ليس هناك تواصل في ذاته، أو بث في ذاته، لأن العُدة السمعية البصرية، كيفما كانت طبيعتها وخصوصيتها التقنية والبشرية، مرتبطة بنموذج ثقافي ما. ذلك أن بث رسالة ليس فعل بث بسيط، بل يتعلق الأمر بإرادة إنتاج أثر أو خلق تفاعل معين، كما أنه يمكن أن يكثف روايات ثقافة وقضايا مجتمع.

وإذا كان التواصل السمعي البصري، أتبث، ويثبث يوميا، صدقية فكرة مارشال ماكلوهان حول “القرية الكونية”، من الناحية التقنية، يظهر في نفس الآن، بل ويؤكد بأن هذه القرية غير قادرة على اكتساب بعدها الكوني على المستويات الثقافية والتاريخية. وتبدو حالة المغرب مفارقة على هذا الصعيد، إذ تشخص التباين الكبير ما بين الطابع العالمي للتقنيات، وقدرته على استجلابها وعلى استعمالها النسبي، وما بين صعوبات التواصل الظاهرة للعيان مع جمهوره، وحتى على صعيد تموقعه الإعلامي الإقليمي والدولي، وهي مفارقة تزداد استفحالا في خضم هجرة المغاربة المتنامية للتواصل مع قنوات غير ما تعرضه عليهم قنواتهم.

وسيكون من قبيل تحصيل الحاصل القول إن وسائط الاتصال، والتلفزيون بالخصوص، تمثل فضاءات تكثف داخلها الرهانات الهوياتية لمجتمع ما؛ ذلك أن الآليات السمعية البصرية بصدد خلخلة البنيات الذهنية والمرجعيات الثقافية والحساسيات الجمالية بشكل عميق. يسمح التلفزيون لذاته بكل شيء. يمكنه أن يُظهر، ويكشف. يُقرب كما يمكنه أن يخفي، وأن يحجب، بل ويشوش على التبادل. إنه آلة متعددة الأبعاد ووساطة تحوز أهمية “استراتيجية” في صياغة انتظارات، وأشكال العجز، والحرمان، وإرادة شعب أو جماعة معينة.

يمثل التلفزيون مادة حية، تبتكر ذاتها يوميا. وبفضلها يتمكن المجتمع، بمختلف شرائحه وأنواع جمهوره، من الترفيه عن ذاته، ومن مواجهتها والتأمل فيها، ونقدها. إذا ما كان العرض السمعي البصري يتحرك داخل ثقافة تمتلك ما يلزم من الحرية وممارسة المحاسبة والنقد الذاتي. وتحول التلفزيون إلى مقوم من مقومات الجسم الاجتماعي والحياة الحميمية، بل وإلى أداة جمعية يمكنها خلق المتعة، أو الخوف أو رصد الواقع، أو استنفار المتخيل، أو الاشتغال على الهوية، أو تقديم مختلف تعبيرات التنوع الثقافي، ومكونات التعددية، كما يمكن أن يكون وسيلة لطمس التعددية أو تشويهها.

لذلك، نؤكد القول إنه لا وجود لتواصل سمعي بصري في ذاته أو تحركه نوايا ملائكية بحكم أن مكونات هذا التواصل والسلطة المتحكمة فيه تستند بكيفية ما إلى نموذج ثقافي وإلى أجندة سياسية.

لهذا، تشكل التعددية رهاناً حاسماً في المجتمع الديمقراطي أو يتطلع إلى استنبات قيمه؛ فالتعددية، في العمق، هي أساس النظام الديمقراطي. وتكشف أساليب وأنماط تدبيرها عن درجة الوعي الفكري، السياسي والمؤسسي الذي تحمِله النخب الثقافية والسياسية والإعلامية المسؤولة عن تسيير الشأن العام، أو التي تطمح في تحمل عبئ تسييره.

لكن، هل نملك ما يلزم من المسافة لفهم دلالات ما ينتج من خطابات حول التعددية، وغيرها، وما يترجم على الأرض من ممارسات، ورصد مؤشرات جديرة بمطابقة الشعارات والبشائر لمقتضيات إعادة بناء المجال السياسي على أسس من الفكر الديمقراطي العصري؟

أطرح هذا السؤال بهذه الصيغة الحاملة لبعض الشك، لأن الخروج من التسلطية إلى الديمقراطية يستلزم الخروج من دائرة أو منطق الدعاية في الاتصال السمعي البصري، وهيمنة الرواية الواحدة للأحداث، للمجتمع، والسياسة والثقافة إلى تبني المعالجة التعددية للأخبار والوقائع.

نسمع كثيراً بأن الديمقراطية اختيار سياسي في الحكم، يقوم على أسس أهمها: وضع دستور متوافق عليه؛ إقرار تعددية سياسية فعلية وليست عددية فقط، تنظيم انتخابات تنبثق عنها مؤسسات تمثيلية حقة؛ وتوفير شروط تداول سلمي على السلطة. غير أن هذه المقتضيات الضرورية للتأسيس لمرتكزات الديمقراطية تندرج في إطار الاختيارات الليبرالية الدستورية. ولتعزيز هذه الأسس والانتقال إلى ديمقراطية موَّطدة يتعين إدماج كافة الحقوق الإنسانية، الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والثقافية، وحتى البيئية، بل إن الديمقراطية، أولا وقبل كل شيء، في جوهرها ترجمة لنمط من التفكير ومنظومة قيم وأخلاقيات للمناقشة والمنافسة والتبادل.

لذلك يدافع كثير من الناس، فلسفيا وسياسياً، عن مبدإ التعددية بوصفه شرطا مؤسّساً للديمقراطية. ولكن هل يكفي الدفاع عن هذا المبدأ في المطلق وبالخصوص في المجال السمعي البصري؟

صحيح أن مسألة التعددية تمثل أحد أسس الحق في الإعلام، وبأنه بالإضافة إلى حمولتها المعيارية، تصاحب المسار التطوري لممارسة حرية الاتصال والتواصل، وبأنها تشكل معياراً حاسماً في ممارسة حرية الفكر. لكن كيف يمكن تحديد تيارات تمتلك ما يلزم من المسوغات لنعثها بأنها تمثل اختلافات؟ إلى أي حد يمكن الذهاب في الاعتراف بالاختلافات والقبول بتعددية بدون معالم وبدون حدود؟ أم أن الأمر يستلزم احترام درجة ما من التمثيلية؟

تكتسب هذه الأسئلة مشروعيتها حين نعلم بأن هناك مشاكل عديدة تواجه عملية التصريف المؤسسي والسياسي والإعلامي لمبدإ التعددية. ولا يكفي القول إزاء هذه الصعوبات بأن المهم هو مراعاة مبدأي الإنصاف أو المساواة. والإمكانيات المتجددة أو التي يتعين العمل على خلقها لبناء “ثقافة عمومية” تستند إلى قيم أو معايير لصياغة “مجال عمومي” قادر على إغناء وحماية هذه القيم من خلال المناقشة الجماعية، وأخذ الكلمة، ومواجهة الحجة بالحجة.

بل إن الأمر يزداد تعقدا حين تواجه الممارسة السمعية البصرية تحديا آخر جديدا ومثيرا في الآن نفسه، والمتمثل في الثورة الرقمية الكاسحة، بحكم أنها خلخلت، وما تزل تخلخل يوما بعد يوم، مفهوم "المجال العمومي" بالمعنى الذي اعتاد الناس ربطه بالتعددية والديمقراطية، وهو ما يحير، الآن، رجال القانون والسياسة؛ إذ حتى وإن وفرنا الشروط القانونية، المؤسسية، والسياسية والإعلامية لتدبير التعددية في المجال السمعي البصري، فإن متعهدي هذا المجال وحتى مؤسسات الضبط تجد نفسها حائرة، بدرجات متفاوتة، في طرق التعامل مع هذا التحدي الجديد. صحيح أن جل وسائل الاتصال السمعي البصري فتحت صفحات في المواقع الاجتماعية، بل وحصل في بعض الحالات نوع من التكامل بين المواد التي تبثها بعض المواقع الاجتماعية، وبين برامج تلفزية والعكس كذلك. لكن مع ذلك حصل تحويل “جزئي” لطرائق أخذ الكلمة والتعبير عن تيارات الفكر والرأي.