إبراهيم البليهي مشرحا بنية التخلف العربي


فئة :  مقالات

إبراهيم البليهي مشرحا بنية التخلف العربي

إبراهيم البليهي مفكر سعودي من طينة خاصة، كبريت أحمر قل أن تجود به صحراء قاحلة، مفكر شذ عن المألوف وتحرر من شرنقة النسق، نجح فيما يفشل فيه الناس عادة، حتى المثقفين منهم ممن أغرتهم فتن السلطة والحظوة والاعتراف، قاوم التيار وانسل مبكرا عن كوكبة القطيع، جمع الحسنين: مهارة الإدارة وفن التسيير من جهة، وملكة النقد والتنظير من جهة أخرى، مهموم بقضايا أمته، نقد أحوال العرب نقدا قاسيا، لا يحابي ولا يداهن، لكنه نقدُ أبٍ محبٍّ يرجو لأبنائه كل خير، ويرجو أن يعانقوا أنوار العلم والعقلانية والتحضر.

تتمحور جل كتاباته حول إشكالية التخلف، أسبابه، تجلياته، ووصفات علاجه.

يرى البليهي، أن مشكلة العربي كامنة في انغلاقه ووثوقيته، واستعلائه الكاذب؛ فنحن العرب، رغم ضعفنا المخزي، وهواننا المكشوف، مازلنا نتوهم أننا مركز العالم، وأن الحقائق في جانبنا واضحة، وأن العالم لا يريد أن يعرف الحقيقة الجلية، وسر هذا الانتفاش الكاذب مصدره التربية الأم؛ ذلك أن البرمجة التي يخضع لها الطفل، والمعرفة التلقائية التي يتلقاها من المؤسسات ما قبل المدرسية، تجعله يتشرب جرعات كبيرة من بادئ الرأي المناقض لمقتضى العقل والواقع، لكن الأخطر من ذلك أنه يمتص أوهام الامتياز والاصطفائية. كما نرى قدرة النسق على تزيين هذا الأسر الثقافي، في حين أن الأفراد لا يدركون ذلك، بل يعتقدون على العكس منه، أن رؤوسهم تستضيء دوما بالحقائق، بل ويزدادون عجبا من الآخر؛ فكيف إذن لا يشاطروهم نفس القناعات، على وضوحها ونصاعتها.

ومن هنا، جهلنا المركب واحتفاؤنا بالتخلف، بحسبانه اختلافا وتميزا، فإذا كانت نرجسية الشعوب التي حققت فتوحات حضارية كبرى مفهوما إلى حد ما، فإن نرجسية المجتمع المتخلف مثيرة للشفقة حقا، فلكم هو مريع أن يرى المجتمع المتخلف في نفسه البقعة الوحيدة المضيئة في الأرض، وأن المجتمعات الأخرى، حتى أشدها ازدهارا، تعيش في ظلام حالك، وأنها تختزن حقدا متأججا، وتتمنى أن تطمس هذا الضوء الاستثنائي؛ وبهذا الاغتباط الغامر، بما هو قائم، يستحيل على المجتمع المتخلف أن يتزحزح عن مواقعه. لقد استحالت هذه النرجسية إلىنظيمة فكرية محافظة ونكوصية، تمارس أيديولوجية تبريرية في أسوء حللها.

تتأسس الأطروحة المركزية لإبراهيم البليهي على قانون، مفاده أن العقل البشري يحتله الأسبق إليه، وحيث إنما سبق إلى عقل الإنسان العربي يدخل عموما في نطاق ما يسميه بالثقافة الكارهة للحياة، ( ثقافة ملئت احتقارا للعلم والعقل والتنظيم والجدية، وكرها للآخر)، فإننا لا نستغرب انتشاء هذه الثقافة بالقوة والفوضى، وتسويغها للاستبداد، واستحسانها للقهر والغلبة.

فمنذ الطفولة، ونحن نشحن أطفالنا بكره الآخرين، والدعاء عليهم، وتقبيحهم، والتنفير منهم، والتأكيد على خطرهم؛ فهذا الاندفاع إلى الموت - يقصد العمليات الانتحارية- هو نتيجة طبيعية لمثل هذه التنشئة القاطعة الكئيبة، التي لا تتوقع من الآخرين إلا الشر والكيد والمؤامرات، وتستخف بحياة المخالفين، وترى أن لا حق لهم في الحياة.

يراهن البليهي، على أن التخلف لو كان عبارة عن فراغ لكان حله، وملؤه سهل المنال، ولكنه لسوء الحظليس فراغا مفتوحا لاستقبال عوامل التغيير، وإنما هو ممتلئ بعوامل الرفض والانتفاش والمقاومة.

هنا نذكر أن للمقاومة عاملين: الاستبداد السياسي، والانغلاق الثقافي، وكل عامل منهما يشد أزر الآخر، ويقوي عضده؛ فالاستبداد السياسي بتكريسه لنظام الحاكم بأمره، وبغض النظر عن إخلاص هذا الحاكم وعفافه ونبالة أهدافه، فإن الاستبداد يفسد هذا الإخلاص، وسرعان ما تنقلب أهدافه النبيلة شرًّا مستطيرًا عليه، وعلى أمته.

إن آفة الاستبداد الكبرى، أنه يدفع الثقافة إلى المزيد من الانغلاق، لأن الوعي الناضج لا يقبل الاستبداد. لكن البليهي في تقاطع مع مالك بن نبي، أن الاستبداد لا ينجح في فرض سلطانه إلا إذا وجد له قابلية واحتضانا؛ ومن ثم، فهو يدافع على أن البيئة الجاذبة لهذا النمط في الحكم، ليست وليدة اللحظة، ذلك أن المنظومة القيمية للمجتمع العربي، ومنذ العصر الجاهلي، تأسست على الصراع والرغبة في استئصال الآخر، القريب قبل البعيد؛ فالبيئة الصحراوية القاحلة، قد جعلت الدنيا في الحس العربي لا تتسع إلا لفئة واحدة، فيها هذا التمركز حول الذات: "إذا مت فلا نزل القطر"؛ فالبيئة الصحراوية وما فيها لا يكفي الجميع، وما تأخذه فئة لا يمكن تعويضه بالجهد والإنتاج، مما جعل الصراع ينحصر حول هذا الموجود النادر والضئيل.

وعلى الرغم من أن عالم الأشياء عند العرب، قد عرف تحسنا ملحوظا، فإن عالم الأفكار، كبنية عميقة، ما زال عصيا على التطويع والتغيير؛ فهناك تحديث مادي، لكنه مسنود بثقافة تقليدية بدوية، وآلاف المدن شيدت دون أن تصاحب عملية التشييد هذه ثقافة حداثية متمدنة؛ فإذا كانت المدن في المجتمعات المتحضرة هي منبت الحضارة، ومحضن النزعة الفردية، وهي البيئة التي تنشأ فيها الطبقة الوسطى، وهي التربة الخصبة لنمو المعرفة، وتلاقح الأفكار، وتطور التقنيات، فإنه بمفاعيل النزعة العشائرية، تتحول مدننا إلى بيئات خصبة لنمو الكراهيات بين المدن، وفق قانون الفعل ورد الفعل. إن هذه العشائرية الجديدة تكشِف عن خواء أخلاقي بئيس، وعن اهتمامات سطحية ساذجة، وعن تظاهر زائف بالولاء، وعن ادعاء ممجوج بالحماس لمصلحة المدينة.

وإذا كان دور المنظومة التعليمية هو إعادة تأسيس المعارف وفق مقتضيات البرهان، فإن النظام التعليمي العربي أثبت فشله الكبير في إنجاز هذا التحدي؛ فهو في أحسن الأحوال جزيرة معزولة عن السياق العام، وغالبا ما لعب دورًا معكوسًا، فأصبح في خدمة ما هو سائد، يبرره ويرعاه، وآية ذلك أن نظامنا التعليمي اتخذ السرد والتلقين والقصف المعلوماتي سنة ومنهاجًا، فيتلقى المتعلم في أفضل الأحوالأفكارًا، دون أن يتملك منهجًا في التفكير. والنتيجة أنه، وخارج النطاق الضيق للتخصص، يبقى محكوما بالخريطة الذهنية والوجدانية، السابقة للتعليم؛ وإذا كانت هذه الخريطة الذهنية والوجدانية مغلقة، فإنها لا تسمح بالحذف، ولا بالإضافة، ولا بالمراجعة، ولا بالتصحيح، فتبقى المعارف الجديدة خارج البنية الراسخة، وتكون المعلومات بمثابة قشور خارجية أو طلاء مؤقت، وغير مؤثر خارج مجال التخصص. وإذا قيد لهذا الطلاء أن يتجاوز حواجز الجهل المركب، فلضرورات الدعاية، وتمجيد الذات، وخلع الأصالة على إنجازات الغرب، بادعاء السبق والأبوة، أن مفارقة العقل العربي، حسب البليهي، تكمن في انتقائيته وازدواجيته؛ فهو من جهة يدعي التجذر العلمي، وسَبق السلف، ويفتخر بإنجازاتهم، لكنه يتناسى أننا قد حاربناهم ونكلنا بهم؛ فمنهم من كفر، ومنهم من نفي، ومنهم من أحرقت كتبه بأمر من السلطان، وبتحريض ومباركة من أصحاب العمائم، على إيقاع فرح هستيري للعوام والأغمار.

في الماضي، أذقناهم الحنظل. واليوم ندعي الوصال بهم، إنما اقترفه المجتمع الإسلامي في حق ابن رشد، والفارابي، وابن سينا، والتوحيدي، والرازي... فضيحة تستحق من الخلف الاعتذار، لا الافتخار. لقد عاشوا أغرابا بينًا، دفعوا ضريبة شذوذهم على النسق الثقافي السائد. وحدهم الأوروبيون قدروا بضاعتهم حق قدرها، لأنهم تملكوا قابلية التجديد؛ فالنهضة، حسب البليهي، لا تطير إلا بجناحين، جناح الريادة، وجناح الاستجابة. لكن الأغرب من كلما سبق، أننا نفتخر بعلوم الماضي، في الوقت الذي نحارب فيه علوم الحاضر، وندعي أننا كنا سببا حاسما فيما عليه الغرب اليوم، دون أن يدفعنا ذلك إلى الخروج من شرنقة الإخضاع والتقليد، والتقوقع على الذات، وعبادة الأموات.

كان الأولى بنا، أن نتعلم من هذا الغرب حتى نتقن اللعب معه بمهارة، عوض أن يستنزف بعضناجهده في القيام بأعمال بدائية للقضاء عليه، فلا تكون النتيجة إلا وبالا على ديننا ودنيانا.

إذا كان مرجع تخلف المجتمع العربي إلى ثلاث معضلات، وهي الانغلاق الثقافي، والاستبداد السياسي، والخواء الأخلاقي، فإن صيدلية البليهي لا ترى سوى الحل الليبرالي علاجا لهذا المأزق. وتجنبا لأي لبس، يسارع البليهي إلى انتقاد عملية التشويه والتحوير والاختزال التي طالت هذا المفهوم، حيث جرى تقزيمه وحصره على الحرية الاقتصادية، بينما يلح البليهي على أولوية الليبرالية السياسية، والقائمة على:

- تكريس النزعة الفردية في مواجهة أغلال القبيلة، وقيود الطوائف والمذاهب؛ فالعربي ذائب، بشكل ضمني أو صريح، في جماعته المغلقة، غير قادر على التعبير عن إرادته بل عن إرادتها، الشيء الذي يفسر عجزه عن التفكير المستقل، بعيدًا عن الخطاطة الذهنية والوجدانية لهذه الأخيرة.

- تقعيد وتقنين التعددية الفكرية والسياسية في الفضاء العمومي كاختيار مجتمعي لا رجعة فيه، وجعل النقاش الحر والعقلاني دعامة لتجاوز نزعات العنف، والتكفير، والتخوين.

- النظام الديمقراطي كآلية للتداول على السلطة، وعلى الرغم من النواقص والعيوب التي أبان عنها هذا النظام؛ فقد ثبت بعد تجارب مريرة، أنه أهون الشرّين، وأخف الضررين.

- أولوية الاستثمار الثقافي في العنصر البشري؛ فالإنسان العربي تطبع بفعل البرمجة الثقافية للطفولة على الكلالة والفوضى، والرداءة والتقليد، فكم من بلد عربي غني بثروات أرضه، فقير بفاعلية شعبه.

إن الدرس الياباني يضعنا أمام مفارقة معكوسة؛ فاليابان فقيرة بأرضها، لكنها غنية بفاعلية شعبها، وبدقة أدائه، وغزارة إنتاجه، وشدة انضباطه، ومواطنته الحقة، وعمق إخلاصه..." وهو ما ينقصنا.

ملحوظة:

هذه المقالة، هي صيغة تركيبية لأهم طروحات الأستاذ البليهي، خصوصا الواردة منها في مؤلفاته التالية:

- بنية التخلف، منشورات كتاب الرياض العدد 16 أبريل 1995م.

- حصون التخلف، منشورات الجمل، الطبعة الأولى 2010 م.