أوهام الهوية جان فرنسوا بايار، ترجمة حليم طوسون
فئة : قراءات في كتب
أوهام الهوية
جان فرنسوا بايار، ترجمة حليم طوسون
مؤلف الكتاب جان فرنسوا بايار وهو باحث فرنسي متخصِّص في العلوم السياسية وعلم اجتماع الدولة التاريخي المقارن، له العديد من المؤلَّفات حول التاريخ السياسي وعلم اجتماع الدولة، من أبرزها: «أوهام الهُوِية»، و«سياسة مَلْء البطون: سوسيولوجيا الدولة الأفريقية»، و«الموضوعات العالمية: نقد سياسي للعولمة».
فكرة الكتاب وسياقها
موضوع الهوية من بين الموضوعات التي نالت حظا كبيرا من النقاش والجدال، وفق سياقات تاريخية متعددة، وفق مختلف التحولات السياسية والاجتماعية والثقافية للمجتمع، ووفق طبيعة التداخلات التي تحدث بين مختلف الهويات نفسها، الذي ينتج عنه تشكلات مخضرة لهويات مشتركة، والحقيقة أن موضوع الهوية في بعده الديني أو القومي أو العرقي، قد صاحب مختلف الحضارات عبر التاريخ، فمثلا عندما نتحدث عن الحضارة الفرعونية، فإننا نلامس مقومات تخص تلك الحضارة وتميزها عن غيرها، فمختلف تلك الخصوصيات الاجتماعية والدينية والثقافية تميز الفئات والجماعات والشعوب التي تنضوي تحت سقف تلك الحضارة، في مقابل مقومات وخصوصيات حضارة وثقافة أخرى، تتزامن مع الحضارة الفرعونية، وهو الأمر عندما نتحدث عن الحضارة العربية قبل الإسلام، فالعرب لهم ما يميز هويتهم عن غيرها من الحضارة والثقافات التي تزامنت مع زمنهم ما قبل القرن السابع الميلادي، وبحضور الإسلام وانخراط العرب فيه، شكلت الفكرة الدينية مجالا واسعا انضوت فيه تحت مظلته الكثير من الهويات والثقافات والأعراق، وشكلت عبر الزمن الهوية الحضارية الإسلامية، وهي هوية مركبة من مختلف الأجناس من عرب وفرس وأكراد وأمازيغ وأتراك... وقد لعبت اللغة العربية صلة الوصل بين مختلف الأجناس والثقافات بصفتها لغة العلم ولغة الدين معا.
المجال الأوروبي لقد كانت المسيحية لزمن طويل معبرا عن هوية المجال الجغرافي الأربي، وباسم الحفاظ على مقومات الهوية الدينية المسيحية دخلت أوروبا في صراع ضد حركة الإصلاح الديني التي عرفتها المسيحية مع مارتن لوثر (1483م- 1546م) مؤسس الحركة البروتستانتية، وفي الوقت ذاته ضد العلم فلسفة الأنوار ما بين القرن السابع عشر والتاسع عشر؛ فمختلف الصراعات الاجتماعية والثقافية التي كانت المؤسسة المسيحية طرفا مهمًّا فيها، ساهمت بشكل كبير في القرن التاسع عشر في انبعاث الهويات القومية الأوروبية القائمة على الخصائص المشتركة للشعب وهي الثقافة واللغة والإثنية والدين والأهداف السياسية، فالقومية تطلب من الناس تحديد مصالح مجموعتهم القومية ودعمهم لإنشاء دولة – دولة قومية – لدعم تلك المصالح، وقد بدأت القومية الأوروبية كفكر سياسي بارز جاءت من الثورة الفرنسية عام 1789م. فالقومية جعلت موضوع الهوية موضوع يدور في دائرة مصالح الشعب الذي توحده الثقافة واللغة والأعراف قبل أن يوحده الدين.
فمختلف هذه التحولات التي ظهرت بشكل جلي في السياق الأربي وتأثيراتها على سؤال الهوية، امتدت بفعل احتلال الدول الأوروبية للعالم الإسلامي في النصف الأول من القرن العشرين؛ إذ ظهرت في العالم الإسلامي الانتماءات ذات النزعة القومية ومن بعد انتماءات ذات النزعة اللبرالية أو الاشتراكية، وإلى جانب مختلف هذه النزعات ظهرت إيدلوجية الإسلام السياسي، وهي أيديولوجية تختزل الهوية في ما هو عقدي بمعزل عن ما هو حضاري، في الوقت الذي يختزلها القوميين فيما هو لغوي وعروبي، ويختزلها اليسار في ما هو يخدم الثورة...بينما موضوع الهوية في العالم الاسلامي أكبر من كل ذلك.
الهُوِية كما يراها المؤلف "فرنسوا بايار" هي بناءٌ ثقافي وسياسي تاريخي بالأساس. ومن ثَم، فمصطلحاتٌ مِثل السكان الأصليين والهُوِية الأصلية هي تعبيرات خادعة وغير موفَّقة؛ فلا توجد هُوِية نقية خالصة، بل توجد استراتيجيات للهُوِية. فعنما نظرت القوميات الأوروبية للهوية من زاوية منغلقة على الهوية الخالصة، والحفاظ على مصالح الشعب، دون مراعاة مصالح القوميات والشعوب الأخرى، رغم ما كلف ذلك من ثمن، فهذا التفكير المنغلق في موضوع الهوية كان من بين الأسباب التي ورطت أوروبا في حرب عالميتين الأولى والثانية، كان للشعور القومي فيها دور كبير، وتم استبدال الحروب الدينية تحت مسمى الحفاظ على الهوية الدينية، بحروب قومية تحت مسمى المصالح العليا للدولة والشعب، وقد تمكنت أوروبا بعد الحرب العالمية الثانية، إلى تشكيل هوية أوروبية بديلة يحضر فيها، مراعات المصالح الاقتصادية الأربية، ممثلة في السوق الأربية المشتركة، وتم تصدير مختلف الحروب إلى خارج أوروبا.
هذا الكتاب يناقش مسألة الهُوِية التي كثُر الحديث عنها في ظل العولمة وما أُشيع حول صدام الحضارات؛ وذلك من خلال دراسةِ ظاهرة الانغلاق الثقافي، وتجلِّياتها في المجال الأيديولوجي والسياسي والأكاديمي. كما يتطرَّق الكتاب إلى قضية نشأة الدولة، والتمييز بين بنائها بوصفها تأسيسًا واعيًا لجهاز الرقابة السياسية وبين قيامها بوصفها تطورًا تاريخيًّا واعيًا، فيُبرِز الكتاب حضورَها الطاغي في تشكيل الهُوِية وسنِّ الترتيبات ووضع الرقابة لها، مثيرًا إشكالية جديدة عن العلاقة بين العمل السياسي والعمل الثقافي.
أهم موضوعات الكتاب
واقع الثورة المعلوماتية وعالم الانترنت، الذي تحول معه العالم إلى نقطة واحدة، فبنقرة واحدة يمكن للإنسان أن يكون افتراضيا في آسيا، بالرغم من أنه واقيا يقطن في القارة الأمريكية أو الأفريقية، ويمكن للإنسان أن يشتغل في مختلف الشركات العالمية عن بعد... هذا الواقع الجديد الذي صاحبته العولمة معها، جعل مفهوم الهوية والثقافة مفهوما سائلا، بمعنى لم تعد للمفهوم حدود تمكن الهوية من الحفاظ على ذاتها كما هي، والحقيقة أن واقع العالم والعولمة لها دور وفق ما يرى المؤلف في تتسلط على العالم الحديث وسواس تلاشي التمايزات. فهو يخشى توحيد الأشكال، ويشعر بالتالي «بقلق عام متعلق بالهوية» وفق هذا السياق العام جاءت موضوعات الكتاب: التبادلات بين التقاليد: العولمة والانغلاق الثقافي. الثقافة: أهي كلمة يتعين إلقاؤها في البحر؟ المدينة المتخيَّلة. تجسيد الخيال السياسي
الكونية والخصوصية
موضوع الهوية يأخذنا إلى موضوع الكونية والخصوصية، الذات والآخر، ما هو أصيل وما هو دخيل...وبالتالي، فالهوية بالإمكان أن تتصف بالانفتاح على الآخر، وتأخذ بشكل واعي بمختلف تحولات اللحظة التاريخية، وبالإمكان أن تكون هوية منغلقة عن ذاتها، لا تقبل بأي شكل من أشكال الوافد الجديد، ولا تراعي مختلف تطورات ومتطلبات اللحظة التاريخية، وبالإمكان أن تكون هوية تصنع الحياة، ببسط قيم التسامح والتعرف مع مختلف الهويات الأخرى، وبالإمكان أن تكون هوية قاتلة، تستعدي الآخر، وتكرهه وتقتنص الفرصة للتخلص منه...وفق هذا المنظور تطرح إشكال الهوية عبر العالم في الشرق والغرب، فالحديث عن الهوية في حد ذاته حديث عن نمط في التفكير والثقافة.
والحقيقة أن العلاقة الجدلية بين الاتجاه نحو الكونية وتأكيد الخصوصيات "تكمن وراء أغلب الظواهر التي تحتل مركز الصدارة في مختلف وسائل الإعلام، ومنها: التوسع في اقتصاد السوق، ورواج الفكر الديمقراطي خارج نطاق العالم الغربي، والتوسع في المبادلات التجارية وانتشار الإعلام بشكل لم يُسبق له مثيل في كافة أنحاء العالم، وجموح موجات الهجرة، وانبعاث العنصرية المعلنة من جديد في أوروبا، وعمليات «التطهير العرقي» المصاحبة للعديد من النزاعات، وكفاح الشياباس في المكسيك من أجل الاعتراف بخصائص هويتهم الهندية، وهذيان فلاديمير جيرينوفسكي في روسيا، ورواج الدعوة إلى «استقامة الحكم» والاعتراف بتعدد الثقافات في الولايات المتحدة، واشتداد نفوذ القوميين الهندوس... وتتطلب تباينات تلك الظواهر العقلانية والاستفهامية في الوقت نفسه أن نتفهم بقدرٍ أكبر دوافعَ العولمة ونقيضها المتمثل في الاحتماء بالهوية."[1]
لكن هذا الاحتماء بالهوية وبما هو محلي، على حساب ما هو كوني، كان عقلانيا في مناطق معية وكان معيقا للكونية في مناطق أخرى، في هذا السياق يطرح السؤال "هل تكون الكونفوشيوسية الحافزَ الذي يحقِّق النجاح الاقتصادي الذي توصَّلت إليه اليابان والبُلدان الصناعية الجديدة في شرق آسيا؟ وألَا يفرض الغرب على بقية أنحاء العالم تعريفَه الخاص لحقوق الإنسان والديمقراطية؟ وهل تتمشى الثقافة الأفريقية مع تعدد الأحزاب؟ وهل يشكل الإسلام عقَبة لا يمكن التغلب عليها في سبيل انضمام المغاربة والأتراك إلى أوروبا الغربية؟ إنها على حد سواء ضروبٌ من عدم التيقن، أو بالأحرى ضروب من التأكد الراسخة التي نصطدم بها باستمرار."[2]
[1] أوهام الهوية، جان فرنسوا بايار، ترجمة حليم طوسون (هذه الترجمة صدرت 1998)، وهذه الترجمة صدرت عن مؤسسة هنداوي عام 2024م، ص.10
[2] نفسه، ص.10