إثنولوجي بالمغرب: استبصارات في بحث ميداني


فئة :  قراءات في كتب

إثنولوجي بالمغرب:  استبصارات في بحث ميداني

إثنولوجي بالمغرب: استبصارات في بحث ميداني

عثمان لكعشمي

 «إن بومة مينيرفا لا تُباشر التحليق إلا عندما يرخي الليل سدوله».

هيجل

«أعتقد أن الإثنولوجيا ستخطو خطوة كبيرة، خاصة إذا ما تمكن الإثنولوجيون من معرفة أنفسهم بأنفسهم معرفة دقيقة ضمن علاقتهم بمُخبريهم».

بورديو

مدقق/ تقديم كتاب/ الفلسفة والعلوم/ السبت 22-01-2022

الوسوم:

يُقدم لنا كتاب بول رابيناو الموسوم ب: "إثنولوجي بالمغرب: استبصارات في بحث ميداني"[1]، يقدم نفسه بمثابة استبصارات إثنولوجية في بحث ميداني إثنوغرافي بقرية سيدي لحسن اليُوسي، أجراه ما بين 1968- 1969، وهو عبارة عن أطروحة جامعية، تحت إشراف كليفورد كيرتز Clifford Geertz. لم يُنشر بالإنجليزية إلا سنة 1977. أما ترجمته الفرنسية، فلم تصدر إلا سنة 1988، وهي من تقديم بيير بورديو Pierre Bourdieu.

يقع المؤلف المعني في ثمانية فصول أساسية، فضلاً عن استهلال بورديو ومقدمة الكاتب، ويُمكن تقديمها كالتالي:

1- بقايا استعمار مُندثر

Vestiges d’un colonialisme expirant

2- منتوجات مشروطة

Produits conditionnés

3- علي: غريب من الداخل

Ali: un étranger de l’intérieur

4- دُخول (إلى الميدان)

Entrer

5- مَعلومة مُعتبرة

Une information respectable

6- اختراق

Transgression

7- تملك وعي

Prendre conscience

8- الصداقة

L’amitié

 

يُحاول رابيناو من خلال الفصول آنفة الذكر، العمل على موْضَعة ذاته العارفة ضمن وضعيات بحثه الإثنوغرافي في الميدان: انطلاقاً من شيكاغو بالولايات المتحدة الأمريكية التي اضطر إلى تركها بُعيْد يوميْن من اغتيال الرئيس الأمريكي كينيدي وما صاحب ذلك من اضطرابات سياسية واجتماعية، مُروراً بباريس التي حط فيها الرحال خلال يونيو 1968، لكنه وبسبب الاضطرابات التي كانت تعيشها فرنسا، إبان ثورة يونيو 1968، لم يتجاوز فيها أكثر من يوميْن اثنيْن، إذ توجه، بعد حلق شعره، إلى مطار باريس- أورلي Aéroport de Paris-Orly مباشرة، وصولاً إلى المغرب: صفرو، ومنها إلى قرية سيدي لحسن اليوسي، فرجوعه إلى بلده.

إن تغييره للوجهة من شيكاغو إلى المغرب لم يكن جزافياً، بقدر ما كان نوعاً من الخلاص على حد تعبيره هو نفسه؛ ذلك الخلاص الذي كان يرمي من ورائه في نهاية المطاف إلى أنْ يصير إثنولوجياً Ethnologue: «لقد ذهبتُ إلى المغرب كي أُصبح إثنولوجياً»[2].

ما موضوع هذا البحث الذي يُحاول هذا العمل التفكر فيه؟ يتساءل القارئ والحالة هذه. طبعاً، لم يُعلِن الباحث هنا موضوع بحثه منذ البداية، فهو لم يُعلن عنه إلا عند دخوله للميدان[3]، ألا وهو: كتابة تاريخ قرية سيدي لحسن اليوسي، بالوقوف عند بنيتها الاجتماعية والسياسية، فضلاً عن جينيالوجيا عائلاتها، خاصة الشريفة منها، التي تنتسب لسيدي لحسن اليوسي، بغض النظر عن طبيعتها الإيكولوجية، وكذا العمل على دراسة النظام السقوي والمِلْكية العقارية في علاقتهما بالمكانة الاجتماعية لأصحابها في القرية والدوار، بُغية رصد التحولات الثقافية والدينية والاجتماعية.

ماذا عن المنهج المُعتمد والأسس الإبيستيمولوجية التي انطلق منها الباحث؟ على عكس الموضوع، فإنه أعلن عن منهجه منذ البداية، فهو يعتمد على المنهج الفينومينولوجي بالمعنى الذي أعطاه له بول ريكور Paul Ricœur، وما يقوم عليه من أسس إبيستيمولوجية هيرمينيوطيقية؛ أيْ تأويلية. من هذا المنطلق، اعتمد على ممارسة منهجية إثنوغرافية تقوم على الوصف الكثيف المبني على الملاحظة المُشارِكة l’observation participante في علاقة متوترة وقلقة مع المُخبرين les informateurs.

لذلك، يسجل انخراطه بشكل صريح ضمن الأنثروبولوجيا التأويلية، خاصة كما صاغها وقعد لها كل من كيرتز وجلبرت رايل Gilbert Ryle قبله. هذا وبغض النظر عن تأثره بعمَليْن أساسييْن: أما لأول، فهو كتاب "بنية الثورات العلمية" (1962) لتوماس كون Thomas Kuhn، وأما الثاني، فيتمثل في كتاب "مدارات حزينة" (1955) لكلود ليفي ستروس Claude Lévi- Strauss. بناء على ذلك، يُعلن بشكل صريح أنه لا يؤمن بالتخصصات الضيقة.

اعتبر رابيناو هذا البحث الميداني بمثابة فرصة للتحرر من أسوار الجامعة وجدران المكتبة؛ ذلك أن العمل الميداني هو من صميم أي عمل يراد له أنْ يكون أنثروبولوجياً. إلى درجة أبعد فيها مفكراً بمكانة مرسيا إلياد Mircea Eliade، من الحقل الأنثروبولوجي، وإنْ كان مرجعاً مهماً في الدراسات المقارنة للأديان؛ فإنه لم يتمرس قط على البحث الميداني وظل سجيناً في العمل المكتبي الضيق. لكن دون أنْ يذهب بنا ذلك إلى الاعتقاد بأن الأمر يتعلق بإمبريقية ساذجة، لا تولي أية أهمية للنظر والتفكر. فهذا العمل الذي يقع بين أيدينا ليس أكثر من تفكر. تفكر، من شأنه أنْ يمكن الباحث من العودة إلى ذاته ومَوْضَعتها ضمن علاقته بالميدان عموماً وبالمخبرين خصوصاً. كيف ذلك؟ لقد مارس إثنوغرافيا من الدرجة الثانية: أيْ الإثنولوجيا؛ يرصد لنا وضعية إثنوغرافية معينة واجهها خلال بحثه، ثم يتفكر فيها، فيستشف منها استنتاج محدد يعبر عن فكرة إثنولوجية عامة، قد تؤول إلى موقف أنثروبولوجي مخصوص. هذه هي إستراتيجيته في ذلك. يتعلق الأمر إذن، بتفكر وضعياتي une réflexion situationnelle[4].

انطلق من مدينة صفرو، حيث كان له أول احتكاك بسياقات الميدان؛ ففيها استقر أول مرة، في فندق L’Oliveraie، الذي كان من بقايا الاستعمار الفرنسي المُندثر. ظل يمثل عنده إحالة إثنوغرافية لوصف المدينة وهوامشها. تعود مِلكية هذا الفندق إلى الفرنسي موريس ريتشارد Maurice Richard، وهو من الجيل الثاني من المعمرين الفرنسيين بالمغرب. كان أول مُخبر يحتك به الباحث، خاصة وأن هذا الأخير متمكن من الثقافة واللغة الفرنسيتيْن. مما أسعفه على التواصل معه بشكل سلسل، الأمر الذي جعله يستسهل مهمته البحثية، في البداية. لكنه سرعان ما اكتشف، محدودية معلومات ريتشارد ومعرفته الضيقة بمدينة صفرو ونواحيها، مما جعله يستعيض عنه بمخبر آخر تعرف عليه في المدينة عينها. يتعلق الأمر بإبراهيم: معلمه الأول لمبادئ اللغة العربية. وإنْ كان قد أخفق في تعليمه للعربية، رغم المحاولات العديدة، فإنه كان يمده بمعلومات مهمة عن المدينة. فإبراهيم هذا، كان شخصاً متعدد الوظائف: بالإضافة إلى كونه تاجراً ميسور الحال، فإنه كان يعمل مترجماً محلفاً أو رسمياً، كما كان ينتمي إلى حركة إسلامية ويسهر على تدبير شؤون مسجد، فضلاً عن شراكته مع صاحب الفندق في مشروع تدبير سينما محلية، الذي باء بالفشل. على الرغم من ذلك، فإنه كان رجلاً مخادعاً ومخاتلاً.

يكفي أنْ نذكر على سبيل المثال خدعته التالية: لمجرد أنْ اقترح أصدقاء رابيناو الأمريكيين عليه زيارة مراكش، رحب إبراهيم بالفكرة، ووجد فيها فرصة سانحة لزيارة أقاربه هناك. كل شيء كان جيداً في البداية، لكنه صدمهم في صباح اليوم الموالي، ليس بكونه لا أقارب له بالمدينة فحسب، بل لتحسره على نسيان جلب ما يكفي من المال لسداد واجب كراء غرفته. لكن سرعان ما اكتشف بول، بعد لحظة خاطفة من التفكر، أن الأمر يتعلق بمناورة مغربية، فصارحه بأنه لا يملك ما يكفي من المال ليؤدي عنه مصاريف سفره، فاستسلم وأخرج محفظته. كانت هذه الوضعية التفاعلية، هي أول صدمة للإثنولوجي مع الآخر. بفضلها، اكتشف أن الاحتكاك التفاعلي مع الآخر، يشكل تمريناً جيداً عن الانطباعات الأولى التي يكونها الواحد منا عن الآخر: خاصة عندما يتعلق الأمر بالعلاقة بين الباحث الأجنبي والمبحوث المحلي.

تعرف لاحقاً على شخصيْن اثنيْن، جعل منهما مُخبريْن أساسييْن، على الأقل في هذه المرحلة، مرحلة الاستعداد للدخول إلى الميدان، وهما صديقيْن وشريكيْن: علي والسوسي، مع التركيز على أهمية الأول على الثاني. كان الأول مخبراً محنكاً؛ لأنه لم يكن يكتفي بسرد المعلومات فحسب، بل كان يعمل على تأويلها أيضاً. كان الثاني يملك محلاً تجارياً بالمدينة العتيقة لصفرو، الملاح، يقع في موقع استراتيجي يعد بمثابة ملتقى طرق. كان علياً ذاك "شْرِيفاً"، الشْرِيفْ علي سيدي لحسن ليوسي، من سلالة الولي الصالح المعني؛ بالإضافة إلى كونه كان معالجاً تقليدياً، صاحب بركة، وكذا مريداً للطريقة العيساوية، فإنه كان شريكاً موثوقاً للسوسي في تدبير شبكة بغاء. مما جعل منه شخصاً مفارقاً.

لقد لعب إخفاق الإثنوغرافي في تعلم اللغة العربية دوراً مهماً في اختيار قرية سيدي لحسن اليوسي كميدان للبحث والدراسة، باعتبارها قرية ذات لسان عربي، بدل مناطق أخرى متاخمة لصفرو، لكنه لم يكن العامل الوحيد الذي تحكم في هذا الاختيار، وإلا جاء الاختيار على مدينة لبهاليل، أو بالأحرى على قرية سيدي يوسف التي تنتمي هي الأخرى لنفس المنطقة التي تحتضن القرية المعنية: عْزَابَة. تتكون قرية سيدي لحسن اليوسي من ثلاثة دواوير أساسية، يعد الدوار الذي يحتضن ضريح سيدي لحسن أهمها. يعود ذلك لشروط عدة، فهي تمثل مركزاً دينياً، إذ تضم ما يناهز أربعة صلحاء، كما تتميز بتعدد اجتماعي مهم، وكذا تتمتع بموقع إيكولوجي معقد. بغض النظر عن تنظيم موسم الولي المعني، مرتيْن في السنة، خلال الخريف والربيع. كل هذه الشروط وغيرها، ساهمت في اختيار هذه القرية كموضوع للدراسة[5]. فصفرو، لم تكن بالنسبة له أكثر من ميدان استكشافي. شروط وغيرها، عجلت دخول الإثنولوجي إلى الميدان والانغماس في مَنْطِقِياته الداخلية: مسرح البحث الإثنولوجي. ربما لن يجد هناك أي مدخل أفضل من مدخل التضحية والذبيحة، لذا كلف علي بمهمة تقديم خروف كهبة للولي. لا سيما وأن مجمل الساكنة تنحدر من نسل هذا الولي الصالح.

بعد حصوله على الترخيص من السلطات المعنية، تمكن رابيناو أخيراً من الانغماس في الميدان، خاصة أنه صادف صعوبات جمة من طرف الساكنة، نظراً لارتباطه بعلي. فعلي هذا، هو الابن العاق للعائلة والدوار، لقد هاجر مبكراً إلى صفرو على حساب هجر قريته، مع العلم أنه، وعلى عكس والده الذي كان يُعادي عيساوة، فإنه كان مريداً لهم. وإنْ كان علياً مخبراً متمرساً، فإنه غذا يمثل عائقاً لولوج القرية والتغلغل في الدوار. مع ذلك، فإن الإثنولوجي لم يتخل عنه بشكل نهائي، لكنه وضعه جانباً، ولو بشكل مؤقت، متى استدعت الضرورة البحثية وجوده.

أخيراً، تمكن هذا الأمريكي النيويوركي الأصل والنشأة، والذي أصبح يعيش في كوخ صغير بالدوار كان مخصصاً لتخزين الحبوب، من عقد لقاء مع مجموعة من أهل الدوار والقرية، وصرح لهم بموضوع بحثه وبالغاية من تواجده[6].

لقد حان وقت العمل الميداني. ها هو رابيناو، إضافة إلى علي، يجند مخبرين آخرين من القرية، لعلهم يمكنونه من فتح الباب أمامه وولوج القرية عن كثب: الرقيب (الشَارْجَانْ)، المُكْري، المكي ورشيد، وهم ينتمون إلى الفخذات الثلاث التي تتكون منها غالبية الساكنة. ويبقى رشيد بحيويته، هو من تعاون معه على الميدان، ساعده على وضع خريطة للقرية وتحديد مجالها الترابي؛ فدراسة النظاميْن السقوي والعقاري...إلخ. لكن رشيد هو الآخر، أصبح يمثل له عائقاً، نظراً لكونه ابن غريب مُعَاد للولي الصالح وأحفاده؛ لأنهم ينظرون إليه، رغم ثرائه، نظرة تحقيرية، أي كابن من أبناء العبيد: "وْلاَدْ لْعْبِيدْ"، وهو الأمر الذي وضع رابيناو بين خياريْن: إما أنْ يختار أهل القرية، أو رشيد الفتى الطائش "ولد العبد".

غير أن هجرة هذا الأخير، لأسباب مجهولة، من القرية، وفرت عليه عناء الاختيار بينهما، ليتعرف لاحقاً على عبد الملك بن لحسن: المُخبر المُختار، وهو المُخبر الرئيس، الذي عزز معه ما باشره من عمل برفقة رشيد وغيره، كما أكمل معه ما بقي منه. مالك، كما يحلو لرابيناو تسميته، هو رجل في العقد الثالث من العمر، تحمل مسؤولية عائلته مبكراً، بعد وفاة والده. إنه العقل المدبر لعائلته. درس في الْمْسِيدْ (الكُتاب)، لينتهي به المطاف إمام مسجد في إحدى الدواوير المجاورة، لكن الدخل الهزيل لمهنة الإمامة (فقيه الشرط) تلك، لم تكن لتستجيب لتطلعاته وطموحاته، لهذا قرر العودة إلى البيت، وعندما سمع بخبر وجود إثنولوجي في القرية، قصده ليعرض عليه خدمته كمخبر، فوافق هذا الإثنولوجي؛ ذلك أن مخبراً كمالك، كان يمثل بالنسبة إليه سداً منيعاً تجاه الأهالي، أو لنقل طوق نجاة اجتماعي، فهو يحظى باحترام ووقار من طرفهم، نظراً للمكانة الرمزية لفقيه الشرط.

اشتغل رابيناو بمعية مَالِك على القرابة ورسم شجرة الأنساب، بالإضافة إلى مسح جغرافي للمجال وحصر الأصول الجينيالوجية للعائلات. كما عمل برفقته على مداخيل الأسر والملكية العقارية في تعالقها بالمكانة الاجتماعية للأفراد. هنا تكمن المفاجأة. لقد لمس هنا الإثنولوجي، تردد مالك، عندما تعلق الأمر بالتوقف عند دخل أسرته ومِلْكيتها العقارية، ولا سيما أنه ورث أرضاً مهمة من أبيه، ليكتشف أنه كان ميسور الحال وليس كما كان يزعم: مْسْكِينْ. سبب هذا الأمر إحراجاً كبيراً لمالك.. ولو كان هذا الأخير قد استسلم في نهاية المطاف لطلب الباحث الملحاح.

بعد كل هذا العمل الميداني الشاق والصدمات الميدانية المتوالية وأمام عبثية المخبرين المستمرة، وكذا بفعل صعوبة التكيف مع نمط العيش القروي، وجد رابيناو نفسه أمام ركام من المواد الإثنوغرافية والمعطيات الميدانية المبعثرة، فشعر بنوع من السأم والكسل... إلى درجة بدد فيها الكثير من الوقت.. بدون جدوى، باستثناء تقدمه في تعلم اللغة العربية بحكم محادثاته اليومية مع الناس، في انتظار المخبرين الذي قد يأتون أو لا يأتون، في هذا الموعد أو ذاك. هل استوفى أطروحته التي جاء من أجلها إلى المغرب أم لا؟ لم يتبق أمامه إلا إعادة تنظيم وتصنيف المادة الإثنوغرافية التي استشفها واستقاها من القرية بمشاركة مخبريه. هنا بالضبط استوعب المعنى الحقيقي لقول ليفي ستروس: إذا كانت الإثنولوجيا مغامرة بطبعها، فإنه، هو نفسه، بيراقراطي المغامرة. قبل كل ذلك، عليه أنْ يتوقف عند الفعل السياسي المحلي المضاد للفرنسيين؛ أي المقاومة، من خلال الكشف عن موقف القرويين من الاستعمار الفرنسي، حتى يتسنى له كتابة تاريخ القرية، ولا سيما أن هذا الموقف ستكون له تداعيات مهمة على مستوى منطق الولاءات في حاضر القرية ومستقبلها. لقد لعب علي دوراً كبيراً، في إخراجه من حالة العطالة هذه، وتمكينه من اختراق تمثلات الناس ومواقفهم، التي يطبعها نوعاً من التكتم، حول هذه المرحلة من تاريخهم: كما هو شأن نفي محمد الخامس على سبيل المثال لا الحصر؛ بين مؤيد للفرنسيين ومعارض لهم، بين موقف مالك الرسمي وموقف علي. بفضل علي، تمكن الإثنولوجي فعلاً من اختراق المعسكريْن معاً، من خلال تأجيج الصراع بين الموقفيْن.

من المفارقات الغريبة التي سيكتشفها لا حقاً، بخصوص سيدي لحسن اليوسي، هي أن حفدته لا يعرفون عنه شيئاً، فهم بالكاد يعرفون عنه بعض كراماته. هذه ملاحظة مهمة جداً، تتعلق بالكيفية التي يتشكل بها المقدس والطقوسي عندنا، في مجتمع كالمجتمع المغربي.

على هامش كل ذلك، تمكن بول من نسج علاقة صداقة مع إدريس بن محمد، كانت تقوم على الثقة والاحترام؛ كانت تشكل هذه العلاقة بالنسبة للباحث متنفساً من إكراهات الميدان وثقله، فعندما يأتي صديقه هذا إلى القرية، في العطلة الصيفية، يقضي معه ساعات طوال. انفلات بن محمد من قبضة مهنة المخبر، مكن بول من نسج روابط إنسانية أكثر منها مهنية كما هو شأن علاقته مع باقي المخبرين. كانت مجمل حواراتهما ونقاشاتها تدور حول إيجاد المشترك الإنساني وموقف كل منهما من حضارة وثقافة ودين الآخر. لكن سرعان ما انفضت هذه العلاقة، عندما لعب رابيناو على الوتر الحساس لبن محمد، خاصة عندما سأله: «هل نحن سواسية، أم أنكم أنتم المسلمين أعلى درجة؟»، فثار عليه بن محمد: «كلا، فنحن المسلمون بعيوبنا وآثامنا نظل أعلى مرتبة من غيرنا؛ لأن تلك هي إرادة الله». فعلم الإثنولوجي، حينها، أن الوقت قد حان لترك المغرب.

أولسنا في نهاية المطاف أمام استبصارات إثنولوجي أكثر من بحث ميداني؟ بلى. فما موقع الميدان، من كل ما قدمناه ضمن الاستبصارات الإثنولوجية التي قدمها رابيناو؟ إن الأنثروبولوجيا في نهاية التحليل هي علم الميدان، أولم يُبعد هذا الإثنولوجي مرسيا إليايد من الحقل الأنثروبولوجي؛ لأنه لم يكن رجل ميدان؟ فهي ليست علماً تأويلياً إلا لكونها تأويلاً مضاعفاً للميدان في حد ذاته، الذي تتوسطه والحالة هذه علاقة الإثنولوجي بمخبريه. فما الميدان؟ انطلاقاً من الاستبصارات الإثنولوجية لصاحب إثنولوجي في المغرب.

الميدان: ما هو؟ هل هو مجرد معطى أم بناء؟ وهل هو مجرد موضوع أم ذوات؟ وما طبيعة العلاقة التي تربط الإثنولوجي بالميدان بعامة وبمخبريه بخاصة؟ وهل هي علاقة ميكانيكية أم أنها علاقة تذاوتية في العمق؟ إن الميدان في هذا المقام، ليس مجرد معطى جاهز وسهل يقدم نفسه للإثنولوجي ويحتضنه بكل سذاجة، فهو ليس مجرد موضوع متخشب، وإنما هو في المقام الأول صيرورة بنائية تذاوتية بين الإثنولوجي ومخبريه. إنه مجال لنسج شبكات من المعاني والدلالات، فهو حقل لنسج علاقات صداقة وجلب عداوات.

غير أنه لا ينبغي هنا التعامل مع المُخبر كمجرد مصدر للمعلومات، فأنْ تُخبر- في الأصل الإيتيمولوجي اللاتيني للعبارة- معناه أنْ تُشكل صورة معينة، أي أنْ تؤول. بهذا المعنى، فالمخبرون يتجاوزون فعل الإخبار إلى ممارسة التأويل. لذلك لا يجب الاعتماد الكلي على إفاداتهم لأنها تلتبس بتأويلاتهم ورؤيتهم المخصوصة للعالَم. هذا وبغض النظر عن رهاناتهم الخاصة، خاصة عندما يكون دافعهم الأساسي من الإخبار هو مادي محض. فرابيناو، لم يكن بالنسبة لكثير من المخبرين أكثر من "جيب مثقوب"، أو سائق طاكسي (مُولْ طَاكْسِي)[7] في أقل تقدير. ذلك ما يتطلبه كل تحليل يُراد له أنْ يكون أنثروبولوجياً. إذا كان الأمر كذلك، فلمَ اعتمد في بحثه الميداني على المخبرين أساساً؟ وهل كان من الممكن أنْ يستوفي أطروحته من دون مخبرين؟ ولا سيما أنه كان يُعاني من عائق تعلم اللغة العربية، أكانت فصحى أو دارجة.

هذه الملاحظة تدفعنا إلى التساؤل التالي: هل من الضروري بمكان أنْ تمر علاقة الإثنولوجي بالميدان عبر المخبر أو يتوسطها؟ لنترك هذا السؤال مفتوحاً.

الميدان: إنه علاقة متوترة وقلقة، بين الإثنولوجي ومخبريه، تتخللها صدامات متوالية تدفع الإثنولوجي إلى إعادة تعريف وضعياته الإثنوغرافية باستمرار؛ ذلك أن التجربة الميدانية تتضمن في العمق شكلاً معيناً من العنف الرمزي. هذا عن الباحث الغريب، فماذا عن الباحث المغربي؟ فإذا كان الباحث الغريب يجيء بمسافة موضوعية، أكانت واعية أو لا واعية، تتعلق بسياقه الحضاري والثقافي والاجتماعي، هي مسافة بعد بالضرورة، ولهذا يعمل جاهداً على تقليص تلك المسافة حتى يتسنى له التغلغل في ميدان بحثه، فإن الباحث المحلي ينبغي أنْ يعيش ميدان دراسته على نحو براني، خاصة عندما تكون له أُلْفة أو حميمية معينة مع الميدان، لذلك فمسافته في نهاية التحليل هي مسافة قرب أكثر منها مسافة بعد. أليس كذلك؟ إذا نحن استعرنا عبارة عزيزة على الخطيبي، سنقول: إن الباحث المغربي ينبغي عليه أنْ يكون "غريباً محترفاً"، أنْ يعيش مجتمعه على نحو غريب. لكن ما المسافة المنهجية الضرورية التي يُمكن أنْ يضعها الباحث مع ميدان مغاير لسياقه الثقافي والاجتماعي، وإنْ كان داخل مجتمع واحد متعدد كالمجتمع المغربي، كأن يجيء من سياق يتحدث بلسان عربي إلى آخر يتحدث بلسان أمازيغي على سبيل المثال لا الحصر؟ ربما عليه أنْ يضع مسافة بينية: بين الجواني والبراني، بين القريب والبعيد.

بعد هذه القراءة المكثفة.. لا نملك في نهاية التحليل إلا أنْ نعطي صاحب الكتاب الكلمة:

1- »Le travail de terrain est un processus dialectique entre la réflexion et l’appréhension immédiate, deux constructions de l’esprit qui relèvent de la culture. Nos catégories scientifiques nous aident à repérer, décrire et développer des champs d’enquête. Mais on ne peut pas poser des questions et procéder des redéfinitions vingt- quatre heures par jour. Il est difficile de considérer le monde constamment d’un point de vue scientifique. Or, sur le terrain, on n’a guère de position de repli. L’univers du quotidien se transforme plus rapidement et plus dramatiquement que chez soi. Il y a accélération dialectique entre la perception des expériences nouvelles et leur normalisation« [8].

2- »Lorsqu’un ethnologue pénètre dans une culture, il enseigne aux gens à objectiver leur univers à son intention. Certes, toutes culture comporte un certain degré d’objectivation et d’activité réflexive. Mais cette traduction délibérée et consciente en termes d’extériorité est rare. L’ethnologue suscite un dédoublement de la conscience- de- soi. C’est pourquoi l’analyse anthropologique doit prendre en compte deux faits: nous sommes nous- mêmes- c’est le premier fait- situé historiquement par les questions que nous posons et la manière dans nous tentons de comprendre le monde et de le vivre; et- c’est le deuxième fait- ce que nous obtenons de nos informateurs, ce sont des interprétations médiatisées tant par l’histoire que par la culture. Il s’ensuit que les matériaux que nous recueillons sont doublement médiatisés: d’abord par notre propre présence, puis par le travail de constitution d’une image- de- soi que nous exigeons de nos informateurs[9] «.

3- »Dans les premiers temps de l’enquête, l’ethnologue opère selon sa propre version de «conscience naïve». La réalité « là-bas» paraît si concrète, si facile à recueillir. Mon exaltation, lors des premiers mois au village, était liée à cette certitude. Il n’y avait pas grand-chose qui exigeât un travail d’interprétation. Les faits semblaient parler d’eux-même dès lors qu’on les avait consignés. Prendre le monde extérieur tel qu’il vous apparaît est un premier pas essentiel; c’est satisfaisant, on s’en contente volontiers, mais c’est insuffisant[10] «.

4- »Le problème était de relier mes conceptions abstraites avec les réalités immédiates de la vie quotidienne au village. Cela ne pouvait se faire qu’en reconstituant telle ou telle médiation particulière qui, sinon, demeurerait à l’état de truisme stérile[11] «.

5- »A ceux qui soutiendront que leur propre expérience de terrain n’a pas comporté une forme quelconque de violence symbolique, je réponds simplement que je ne les crois pas. Car cette violence est inhérente à la structure même de la situation. Non point que tout ethnologue en soit conscient, car les sensibilités différent. Sans doute cette violence varie- t- elle considérablement de forme et d’intensité, mais ce ne sont là que des variations sur un thème commun[12] «.

6- »toute culture est interprétation. Les «faits» de l’anthropologie, les matériaux que l’ethnologue est allé chercher sur le terrain, sont déjà en eux- mêmes des interprétations. Elles sont déjà, c’est données de base, culturellement médiatisé par les gens dont nous sommes venues, on notre qualité d’ethnologue, étudier la culture. Les faits sont faits- le mot vient de latin factum, «fait», «fabriqué»- et les faits que nous interprétons sont faits et refaits. C’est pourquoi ils ne se laissent pas recueillir comme des échantillons de pierre que l’on ramasse et range dans des cartons, et que l’on expédie au laboratoire pour analyse[13] «.

7- »la culture dans toutes ses manifestations est surdéterminé. Elle ne se présente pas de manière neutre ou univoque. Chaque fait culturel se prêt à plusieurs interprétations, tant par l’ethnologue que par ses sujets. L’anthropologie n’a guère tenu compte des révolutions scientifiques qui on établit ces paramètres au tournant du siècle[14] «.

8- »L’anthropologie est une science de l’interprétation. Son objet d’étude, l’humanité appréhendée sous les traits de l’Autre, se situe au même niveau épistémologique qu’elle-même. L’ethnologue et ses informateurs vivent tous deux dans un univers culturellement médiatisé, pris tous deux dans des «réseaux de signification» qu’ils on eux-mêmes tissés[15] «.

9- »Le travail de terrain est donc un processus de construction intersubjective des modes liminaux de communication. Intersubjective signifie littéralement qu’il y a pluralité de sujets; mais, situés ni tout à fait ici, ni tout à fait là, les sujets en cause ne partagent pas une série de présupposé communs, d’expériences ou de traditions communes. Leur constitution en tant qu’objet est un processus public. Ce livre traite, pour l’essentiel, de ces objets que nous avons construits ensemble, mes amis marocains et mois- même, au cours du temps, en vue de communiquer. Que la communication ait souvent été laborieuse, biaisée, est mon propos central; mais qu’elle n’ait pas été totalement opaque a fourni un autre thème, d’importance égale. C’est la dialectique entre ces pôles, toujours répétés, jamais absolument la même, qui constitue le travail de terrain[16] «.

 

هوامش

[1] لقد اعتمدنا في هذه القراءة، على النسخة الفرنسية من الكتاب، وهي كالتالي:

- Paul Rabinow, Un ethnologue au Maroc: réflexions sur une enquête de terrain, traduit de l’anglais par Tina Jolas, France: Hachette, 1988.

[2] المرجع عينه، ص 15

[3] تجدر الإشارة هنا إلى أن الإثنولوجي لم يعلن عن موضوع بحثه موضع التفكر إلى في الفصل الرابع من الكتاب: المرجع عينه، ص 85.

[4] هذه العبارة من صياغة صاحب المقال، فرابيناو لم يستعملها قط.

[5] تجدر الإشارة في هذا المقام، إلى أن اختيار الباحث لميدان دراسته كان اختياراً مسبقاً، أيْ قبل مجيئه إلى المغرب، وذلك باعترافه هو نفسه. لكن، إذا كان الأمر كذلك فلم قدم اختياره لموضوعه بناء على شروط وضعياتية استكشافية؟

[6] على الرغم من تصريحه بسبب مجيئه إلى القرية لأهلها، فإن تقديمه لنفسه لهم بكونه "طَالْبْ"- راجع الصفحة نفسها من المرجع السابق نفسه- خلق نوعاً من الغموض والريبة لدى مجملهم: فكيف يكون نصرانياً و"طَالْبْ" في الآن نفسه؟

[7] كان للباحث سيارة، مما جعله بالنسبة لساكنة القرية سائق طاكسي، يقصدونه، وفي أي وقت، كلما كانوا في حاجة إلى التنقل، أكانت مبرراتهم صادقة أو كاذبة. لهذا شكلت السيارة بالنسبة له لعنة ما بعدها لعنة. نتيجة لذلك، حاول التخلص منها مراراً، لينتهي بها المطاف في مدينة صفرو.

[8] سبق ذكره، ص 46

[9] نفسه، ص 108

[10] نفسه، ص 110

[11] نفسه، ص112

[12] نفسه، ص 117.

[13] نفسه، ص 135

[14] نفسه.

[15] نفسه، ص 136

[16] نفسه، ص 139


مقالات ذات صلة

المزيد