إدارة الشأن الديني وتنظيمه: ما هو من عند الله وما ليس من عند الله


فئة :  مقالات

إدارة الشأن الديني وتنظيمه: ما هو من عند الله وما ليس من عند الله

لدينا خيار في إدارة الشأن الديني وتنظيمه على نحو لا يناقض الدين أو مبادئ الدولة الحديثة ولا يشجع على التطرف، المسألة ليست صراعًا بين الدين وأعدائه كما تصر مصالح اقتصادية واجتماعية أنشأت مصالحها ومكاسبها على أساس واقع هو ليس دينًا، .. هذا الخلط بين الدين والمؤسسات والمصالح يدفع بالجدل نحو الصراع والخلط بين ما هو من عند الله وما ليس من عند الله، ولكن يمكن تجنب ذلك بلا خسائر ولا تناقض مع الدين.

وحتى نحرر المسألة فإنّ الحال ليس جدلاً دينيًّا أو جدلاً بين الدين وضد الدين، ولكن كيف تنظم الدولة الشأن الديني، .. هذه مسألة سياسية وإدارية، فوزارات الأوقاف والمقدسات والشؤون الإسلامية وسائر المؤسسات الدينية الرسمية هي مؤسسات حكومية أنشئت وطورت مع قيام الدولة الحديثة، .. ومؤكد بالطبع أنّ المسلمين كانوا قبل إنشاء المؤسسة الدينية الرسمية مسلمين وقادرين على تنظيم شأنهم الديني وإدارته، بدليل هذا الإنتاج الفكري الديني الكبير جدًّا والذي تراكم على مدى العصور وأنشأ مؤسسات دينية مجتمعية كفؤة.

بدأت فكرة المؤسسة الدينية الرسمية "الأوقاف" لأجل إدارة الأملاك الوقفية وتنظيمها وتوثيقها واستثمارها وحمايتها من الضياع واستيلاء الآخرين عليها، ثم أضيف إليها لاحقًا إدارة الوعظ والإرشاد، والسؤال ببساطة ووضوح هل يجب على الدولة أو هل تستطيع أن تفرض محتوًى دينيًّا على الناس؟ تستطيع السلطة بكفاءة مؤسسية تشبه ما تقوم به دائرة الأراضي والمساحة أو وزارة المالية أو البلديات أن تدير تنظيم الأملاك والعقارات الوقفية، وتستطيع أن تنظم عمليات الحج في النقل والتسجيل والعمل اللوجستي كما تفعل وزارة السياحة أو وزارة النقل أو الشركات السياحية، .. ولا بأس في ذلك على أي حال سواء كان تابعًا لوزارة متخصصة مثل الأوقاف أو لوزارة المالية أو غيرها من المؤسسات الحكومية، ولكن المحتوى الديني وعلى مدى التاريخ والجغرافيا كان عمليات مجتمعية متنوعة ومتعددة مستمدة من ثقة الناس وأسلوبهم في تلقي الدين وفهمه، ولا يمكن حمل الناس على فهم أو منعهم من فهم معين للدين، .. هذه مسألة فردية وقلبية خالصة لا سلطان لأحد عليها، ولا مجال للسلطة في ذلك سوى أن تترك المذاهب العلمية والفقهية تعمل، ويكون دورها في ذلك هو تطبيق القانون ومنع الاعتداء عليه أو الإساءة إلى الحقوق العامة والفردية، كما تفعل على الدوام في مسائل الإعلام والثقافة والعلاقات الفردية والمجتمعية وتنظيم الحقوق والواجبات، وليس مطلوبًا من وزارة الأوقاف ولا تستطيع أن تلزم الناس أو تفرض عليهم أو تتدخل في فهمهم للدين.

وفي مجال التعليم الديني والدراسات والعلوم الدينية هناك أربعة اتجاهات يمكن العمل عليها:

1-  المعرفة أو الثقافة الدينية المفترض أن يتلقاها طالب العلم في المرحلة الثانوية والجامعية.. ويجب إيقاف التعليم الديني في المرحلة الأساسية.. يترك ذلك للأسر والمجتمعات.. ويفضل بل يجب أن تمتنع الأسر والمجتمعات عن ذلك إلا بقدر يسير محدود. وتترك للطفل عندما يكبر أن يقرر ويحدد موقفه وانتماءه الديني.

2-  التعليم المهني في المجال الديني، إعداد المعلمين والمشرفين والأئمة والدعاة.. ويفترض أن تتولى ذلك مؤسسات مجتمعية مستقلة بالتنسيق مع السلطات التعليمية والرسمية بعامة.

3-  الفقه والأحكام الدينية ليست باعتبارها أنظمة ولكن باعتبارها مصدرًا للتشريع والتطبيقات، وهذا يفترض أن يكون دور كليات القانون والسلطة القضائية والتشريعية وديوان التشريع، ويساهم علماء الدين وأساتذته في ذلك باعتبارهم أهل خبرة وعلم أو للتدريس في أقسام علمية متخصصة تزود المحامين والقضاة والعاملين في مجال القانون وتطبيقه بالمعرفة العلمية.

4-  العلوم الدينية بما هي علوم إنسانية في مجالات الاجتماع والثقافة والأنثروبولوجيا والتاريخ واللاهوت، وهذا المجال الأخير هو المساحة الكبرى المفترض أن تتولاها الكليات الجامعية.

والمجال الثالث في العمل الديني الرسمي يتصل بالقضاء والمحاكم وبخاصة تطبيق قانون الأحوال الشخصية، وقد أسندت دول عربية عدة تطبيق هذا القانون إلى محاكم خاصة منفصلة عن السلطة القضائية تسمى "المحاكم الشرعية" ويرأسها عادة شخصية دينية، يسمى في الأردن "قاضي القضاة" وهو في الأردن منصب يغلب عليه الطابع السياسي الديني أكثر مما هو مهني قضائي، فالذين تولوا هذا المنصب في الأردن في الفترة الأخيرة لم يكونوا يعملون في القضاء من قبل.

إذا كان قانون الأحوال الشخصية واحداً من القوانين الصادرة عن السلطة التشريعية، وصار قانوناً للدولة، فلماذا يسند تطبيقه إلى محاكم خاصة مستقلة/ مختلفة عن المحاكم القضائية الأخرى؟ إنّ ذلك يعني في واقع الحال أنّ المسلمين في الدول العربية والإسلامية هم مجموعة خاصة، أو فئة من المواطنين يطبق عليهم قانون خاص بالأحوال الشخصية الخاصة بهم والمختلفة عن قانون مدني عام معتمد للدولة. وفي هذه الحالة؛ فإنّه يسمح للمسلمين بتطبيق بعض القوانين والطقوس والإجراءات المختلفة عن القانون، ولكنها لا تتناقض معه جوهرياً. أما وأنّ المسلمين يشكلون أغلبية كبرى في معظم الدول العربية والإسلامية، وأنّ قانون الأحوال الشخصية هو القانون الوحيد، فهو أيضاً القانون العام، فإنّ الاستثناء يجب أن يكون لغير المسلمين ليشكلوا محاكم ومؤسسات خاصة للتطبيقات المختلفة عن القانون العام، ولكن في هذه الحالة فإنّ قانون الأحوال الشخصية يجب أن يكون ملائماً لجميع المواطنين من غير قهر أو إكراه، بحيث يكونون قادرين على تطبيقه، وإن كان يسمح ببعض الاختلافات لفئات من المواطنين، وهي اختلافات تقتضي التوسع في السماح، وتقليص/ إلغاء الممنوعات. ويقتضي ذلك بالضرورة إلغاء أي تمييز في القوانين والوثائق أو الإشارة إلى دين المواطن في الوثائق الرسمية والشخصية، ما يعني بالضرورة أنّ دين المواطن لا يؤثر أبدًا في حقوقه وواجباته، وفي تطبيق القوانين والحقوق والواجبات، ولا يعني أبداً أي حرمان أو تمييز إيجابي أو سلبي، وحتى يكون القانون ملائمًا لجميع المواطنين يجب السماح بأن يرث غير المسلم قريبه المسلم، فهذا الحرمان مستمد من فهم للدين ليس هو الدين. والواقع أنّه في ماعدا ذلك، فإنّ غير المسلمين في الأردن وربما في البلاد العربية والإسلامية الأخرى يفضلون القانون الإسلامي ويرونه عادلاً وواقعياً، حتى مع وجود اختلافات فإنّها يمكن احتمالها، وسوف يتيح ذلك أيضًا للمسيحيين المتضررين من قوانين الزواج والطلاق اللجوء إلى القانون العام لمن يرغب منهم في ذلك لأنّ الكنيسة أكثر تشددًا في الطلاق من قوانين الأحوال الشخصية المستمدة من الشريعة الإسلامية.

أن يكون قانون الأحوال الشخصية قانونًا عامًا أقرته السلطة التشريعية يعني بالضرورة أنّه لا حاجة إلى محاكم شرعية خاصة أو مختلفة، فالمحاكم العادية المدنية يفترض أن يناط بها تطبيق هذا القانون مثل غيره من القوانين؛ ما يعني أيضا دمج المحاكم "الشرعية" في المحاكم العادية والسلطة القضائية.

وقد يبدو غريبًا القول أو مفاجئًا ولكن في المحصلة فإنّ "إسلامية الدولة" المنصوص عليها في الدستور في معظم الدول العربية والإسلامية تقتضي بالضرورة "العلمانية"، فأن يكون ثمة قانون مدني عام للأحوال الشخصية، يصلح لجميع المواطنين، على أن يسمح في الوقت نفسه باللجوء إلى محاكم ومؤسسات دينية خاصة بأتباعها، شرط ألا تتناقض مع القانون العام ولا مع المواطنة والحريات، يعني ذلك العلمانية، ويعني أنّه لا يمكن تطبيق القوانين المستمدة من الشريعة الإسلامية إلا في ظل العلمانية.

وأما الحالة القائمة في أغلب الدول العربية والإسلامية فهي ليست إسلامية وليست علمانية، والواقع أنّها تطبق الجانب الأكثر قسوة منهما (الدين والعلمانية) وتتناقض معهما في الوقت نفسه من غير سبب منطقي يدعو إلى ذلك.

ثمة إصرار حكومي عربي وإسلامي على "تأميم الدين" بمعنى أن يظل الشأن الديني جزءًا من السلطة السياسية وكأنه مسألة سيادية مثل الدفاع والأمن، وتتحمل لأجل ذلك تكاليف مالية كبيرة في الوقت الذي تصرّ على رفع الضرائب وإهمال الخدمات العامة والأساسية، مثل الصحة والتعليم والرعاية الاجتماعية والنقل؛ وأن تسند إلى السوق كل خدمة يمكن أن تكون استثمارًا مربحًا، ولكنها تُصر في المقابل على تأميم التعليم الديني والمساجد، وأن تؤدي دورًا دينيًّا قروسطيًّا لم يأمر به الله. فلماذا تتطوع الحكومات العربية والإسلامية بإنفاق المليارات (يقدرها الكاتب بمائة مليار دولار سنويًّا) في الوقت الذي تتخلى عن الكهرباء والماء والمدارس والعيادات وتزويد السلع الأساسية؟

حسناً، إذا كانت الحكومات العربية والإسلامية مؤمنة بتخفيض الإنفاق وعدم قيام الدولة بما يمكن أن تؤديه الأسواق والمجتمعات، فلماذا لا تترك للمجتمعات تدبير الشأن الديني وتنظيمه، وتريح نفسها وتريحنا، وتوفر على الخزينة؟ وأراهن أنّها بذلك سوف تجفف موارد التطرف والإرهاب والكراهية؛ فالمؤسسات الرسمية تشارك في إنشاء التطرف، وليس فقط الجماعات المتطرفة، وهذه في الحقيقة تحصد نتائج العمل الديني الرسمي وثماره في المدارس والمناهج والمساجد، وسائر الإدارات الدينية الرسمية.

ومن المحير أنّ جماعات دينية ترى الدول العربية والإسلامية لا تحكم بما أنزل الله تعارض في الوقت نفسه تخلي الدولة عن دورها الديني، على الرغم من أنّها حسب مبادئها وأفكارها لا ترى جدوى ولا معنى لكل الدور الديني الذي تقوم به الدولة، ليس لأنّها تدعو إلى تخلي الدولة عن دورها الديني ولكن لأنّها تراها دولة كافرة أو جاهلية أو في أحسن وصف من وجهة نظرها لا تحكم بما أنزل الله.

يفترض أنّ هذا الجدل لا يعني جماعات الإسلام السياسي والمعارضة الجذرية مع الدول والأنظمة السياسية، ولكنه جدل يعني فئات من المواطنين المتدينين أو غير المتدينين الذين يعتقدون أنّ الدول والأنظمة السياسية القائمة في عالم العرب والإسلام هي دول ومجتمعات إسلامية، ويغلب على هؤلاء تأييد الدور الديني للدولة في التعليم والمساجد والمحاكم وإدارة المحتوى الديني والوعظ والإرشاد والإفتاء، وربما يطالب بعضهم بتطوير هذا الأداء وتحسينه. والصحيح أنّ التطوير الفعال هو التخلي نهائيًّا عن أداء دور ديني مباشر للدولة، وأن يترك ذلك للمجتمع. وهذا بالطبع لا يعني وقف ولاية الدولة والقضاء على العمل الديني ومراقبته، ولكنه شأن مجتمعي تنظمه الدولة من خلال علاقتها بمؤسسات المجتمع، مثل العلاقة بين الوزارات والجمعيات الثقافية والاجتماعية.

ويجب أن تدمج جميع المسائل والتطبيقات القانونية بالمجلس القضائي والمحاكم الموكول إليها تطبيق القانون، إذ لا معنى لوجود محاكم استثنائية، فالمحاكم وقضاتها قادرون على تنفيذ القانون ولا يحتاج تطبيقه إلى رجال دين. وإذا كان القضاة غير قادرين، فإنّه يجب تأهيلهم كما أهلوا لفهم القوانين الأخرى وتطبيقها. ويجب أيضًا ألا يعترض على ذلك دعاة الدور الديني للدولة، فطالما أنّ الدولة مكلفة بتطبيق الشريعة الإسلامية، فلا معنى، بل ولا يجوز أن يكون ذلك من خلال محاكم خاصة، وإنمّا من خلال جميع مؤسسات الدولة.

هذا الجدل ليس دينيًّا، ولكنه جدل عام وسياسي، يشبه الجدل حول دور وزارة التموين؛ هل نحتاج إليها أم ندمجها في وزارة التجارة أم نستغني عنها؟ ولا يتصل انتقاد التعليم الديني أو تأييده في المدارس والجامعات، أو دور وزارة الأوقاف والـ"محاكم الشرعية"، بفهم ديني أو موقف من الدين أو العلمانية أو السلفية أو الديمقراطية... وإنّما هو جدل وطني وعام، لا يقع أبدًا في دائرة الحلال والحرام والمكروه؛ أو الكفر والإيمان...

ليس هناك تكليف ديني أمر به الله أن تتولى الدولة التعليم الديني؛ فأن يكون في المناهج التعليمية مساق للثقافة والعلوم الدينية أو لا يكون، أو أن يكون محتواه تعليميًّا أو تطبيقيًّا، أو لأي مرحلة يكون أو لا يكون، هي مسائل تنظيمية سياسية (وسلطوية أيضًا). وأن تكون كليات الشريعة جزءًا من الجامعات، أو مؤسسات اجتماعية أو خاصة مستقلة، أو أن لا توجد، وأن يكون محتواها علمًا وفلسفةً أو تأهيلاً مهنيًّا لأئمة ودعاة، أو مذهبيًّا أو بلا مذاهب... هي كلها وغيرها من المسائل شأن عام وسياسي، مثل الجدل حول التعليم بعامة أو دور المؤسسات والوزارات، ولم يأمر الله المسلمين أن يكون لديهم وزارة للأوقاف والشؤون والمقدسات الإسلامية. وإن وجدت هذه الوزارة، فليس أمرًا من الله أن تتولى شؤون الدعوة والإمامة والوعظ والإرشاد والمساجد، وأن تنفق عليها. وليس أمرًا دينيًّا أو إلهيًّا أن تكون "المحاكم الشرعية" مستقلة بنفسها وليست جزءًا من المحاكم العامة "النظامية"؛ على العكس، فإنّ فصل المحاكم الشرعية عن النظامية يتناقض مع مقولات تطبيق الشريعة الإسلامية في كل مجالات الحياة، والأصل وفق هذه المقولات (تطبيق الشريعة الإسلامية) أن يكون قاضي المحاكم الشرعية كما قاضي المحاكم الأخرى كلهم يطبقون الشريعة، والأصل في بلد إسلامي وفق الدعاوى نفسها أن يكون قاضي الأحوال الشخصية جزءًا من المنظومة القضائية في البلد.

لا بأس في الدفاع عن دور ديني للدولة أو أن يكون للسلطة مؤسسات دينية رسمية، ولكن تحويل هذا الجدل إلى صراع مزعوم بين الإسلام وما ليس إسلامًا، هو اعتقاد أو توهم بأنّ المصالح والمواقف هي الدين؛ وهذا أسوأ ما يظنه مشتغلون بالشأن الديني والعام.

يجب أن يميز دعاة الدور الديني للدولة بين الديني والإنساني حتى لا تشملهم الآية القرآنية "ويقولون هو من عند الله وما هو من عند الله" فجميع ما ورد في هذه المقالة من مسائل يندرج في الجدل العام الذي لا يطاله الأمر والنهي الدينيّان، .. هي مسائل لم ترد في قرآن ولا حديث، وقد ظهرت هذه المكتبة الدينية والمؤسسات الهائلة على مدى التاريخ والجغرافيا من غير أن يكون للمسلمين وزارات للأوقاف ولا مناهج لـ"التربية الإسلامية" ولا كليات شريعة تنفق عليها السلطات. كل هذه المؤسسات أنشأتها الدولة الحديثة في سياسات تنظيمية وسلطوية لم يأمر بها الله ولا رسوله ولا صحابته، ولا وردت في مذهب. وكل تراث المسلمين الديني والفقهي والعلمي، لم يكن تابعًا لسلطة سياسية.

وبالطبع فإنّ أسئلة أخرى كثيرة تنشأ عن العلاقة بين الدين والدولة والعلاقة بين المجتمع والدين والتنظيم المجتمعي للشأن الديني بديلاً للمؤسسة الدينية الرسمية، .. ولعلي في مقالة قادمة أبسطها للعرض والنقاش.