إشكالية الشباب العربي وتجديد الخطاب الديني لمحاربة التطرف


فئة :  مقالات

إشكالية الشباب العربي وتجديد الخطاب الديني لمحاربة التطرف

إشكالية الشباب العربي وتجديد الخطاب الديني لمحاربة التطرف(1)

توطئة:

لقد عرفت البشريّة عامّة والأمّة العربيّة الإسلاميّة خاصّة في هذا الزمان المتأخر، تحوّلات عميقة وجذريّة في الحضارة والفكر والسّلوك، ممّا طرح عديد الإشكالات التي لم تعهدها حضارتنا العربية الإسلامية من قبل، ذلك أنّ المسلم قد أصبح، باعتبار هذه المتغيرات الجديدة، يعيش صدمة من نوع خاصّ، صدمة ثقة، مأتاها من المفارقة التي أصبح يعيشها المسلم - بحكم الانفتاح الكبير على العالم والحضارات الأخرى – تضعه أمام مسلّمتين ذهنيّتين حقيقيّتين؛ الأولى أنّ الإسلام هو دين الحقّ، وأنّ كلّ من خالفه فهو على باطل، والثّانية، ما يراه على أرض الواقع من تقدم فكريّ وحضاريّ وتكنولوجيّ كبير لدى هذا الآخر، الذي هو على باطل طبعًا. فاقتضى ذلك تفسيرا معقولا واحدا من تفسيرين اثنين أساسيّين؛ هما:

- إمّا أنّ ذلك بسبب تفريط المسلمين في مبادئ دينهم وأخلاق أسلافهم وأسباب تفوّقهم وتميّزهم الحضاريّ والفكريّ الذي عرفته الأمّة الإسلاميّة منذ عهود طويلة متقادمة.

- وإمّا أنّه بسبب ضعفٍ في خصائص الدّين نفسه، وعجزه - كنظام دولة ومجتمع - عن مواكبة المتغيّرات الحضاريّة ومسايرة تطوّر العصر.

فظهرت لذلك في المجتمعات العربيّة والإسلاميّة توجّهات فكريّة وسياسيّة وحضاريّة متنوّعة تتكتّل ضمن شِقّيْن كبيرين أساسيّين؛ كلّ منهما يعكس ردّة فعل واحدة عن هذه الصّدمة، تتماشى مع أحد التفسيرين المذكورين آنفا، فظهر:

- شقّ تحرّريّ حداثيّ تغريبيّ له ميولات إلحاديّة يتبنّى القول الثّاني، وهو القول بأنّ الدّين إنّما هو سبب أساسيّ في الجمود الفكريّ والحضاريّ الذي عرفه العالم العربيّ، ومعرقل مهمّ من معرقلات التقدّم والتطوّر.

- وشقّ آخر تأصيليّ إسلاميّ سلفيّ، يتبنّى القول الثّاني، ويرى أنّ أهمّ أسباب التّراجع الفكريّ والحضاريّ، إنّما هو بسبب التفريط في مبادئ الدّين الإسلامي والرّغبة في محاكاة الغرب المتطوّر، وكذلك الغفلة عن أنّ التطوّر المطلوب لا يمكن أن يتحقّق إلاّ بالتمسّك، وبمزيد التمسّك بالدّين، والحفاظ على الأصالة، والتشبّث بالهويّة، والتمثّل بالسّلف الصّالح.

ثمّ إنّ ذلك الشقّ التحرّري الإلحاديّ كان له رواج كبير في القرن الفارط (القرن العشرين)، ثمّ بدأ يتراجع إشعاعه لصالح الشقّ الثّاني، وهو الشقّ التأصيليّ السّلفيّ، خاصّة في نهاية القرن الفارط وبداية هذا القرن (القرن الواحد والعشرين)، ولعلّ السّبب في ذلك فشل التجربة الاشتراكيّة عالميّا وعربيّا. لماذا؟ لأنّ هذه التجربة لم تستطع أن تقدّم حلولا حقيقيّة لمشكلات المجتمع العربي الرّاهن، ولم تتمكّن من أن تغيّر من واقع الفقر والجهل والتخلّف لدى الإنسان العربيّ. فكان الخيار التأصيليّ هو الخيار البديل الأنسب، أو على الأقلّ في عيون الغالب الأعمّ من النّاس، وإن لم يلغ هذا الخيارُ الخيارَ الأسبَقَ، وإنّما هَيْمَنَ عليْهِ وأخَذَ منه المبادَرَةَ فحسب. فظهرت حركاتٌ دعويّة إسلاميّة، وتنظيمات سياسيّة إسلاميّة، ورُؤى فكريّة إسلاميّة، وأنشطة جمعياتيّة إسلاميّة، وشخصيّات قطريّة وعالميّة إسلاميّة، كلّ ذلك في سياق السّعي إلى توجّه بديل عن التوجّه التحرّري التغريبي الفاشل. ولكنّ ذلك لم يقدّم حلولاً سريعة، لذلك فإننا نرى ردّة فعلٍ واسعةٍ ومنتشرةٍ، خاصّة لدى الشّباب، وهي أنّه كلّما تأخّر الفرَجُ المنتَظَرُ إلاّ واعتبَرَ الشابُّ المسْلِمُ أنّ ذلك بسبب التّساهل في تطبيق الشّريعة، والضّعف في تمثّل ضوابط الدّين على أرض الواقع، فيُلْزِمُ نفسَهُ مزيدًا من التشدّد في تطبيق الشّرع، ومزيدا من التضييق على نفسه وعلى غيره لتحقيق الموعود، والعودة بالواقع إلى ما كان عليه المسلمون في صدر الإسلام، فأصبح بذلك كلِّهِ سلفيًّا في فكره، سلفيًّا في توجّهه، سلفيًّا في أخلاقه، سلفيًّا في ممارساته، سلفيًّا في اختياراته كلّها، ثمّ شيئا فشيئا، بسبب مغالاته في ذلك، ومبالغته في تبنّي هذا الموقف ورفض غيره من المواقف، صار متطرّفًا دينيًّا، يقوم فكرُهُ كلُّهُ على مسلّمَةٍ واحدةٍ وهي قوله، أو قول لسان حال أفعاله: أنا على حقّ وكلّ من خالفني فهو على باطل، فإمّا أن يتراجع من يخالفني عن باطله ويدخل معي دائرة الحق، أو يصبح لي عدوّا، وعندها يصبح لي الحقّ في مواجهته وإلغائه. ولم ينتبه هذا المتطرّف دينيّا في أثناء حماسته هذه أنّه من شدّة تمسّكه بالدّين قد مَرَقَ منْهُ كما تَمْرُقُ السّهمُ من الرميّة، كما ورد في الحديث النبوي الشريف[2]، لماذا؟ لأنّه خالَفَ روحَ الدّين الإسلاميّ الّتي تقوم على معاني التّسامح والاعتدال والوسطيّة وقبول الآخر مهما كان مختلِفًا، والأدلّة على ذلك كثيرةٌ بارزةٌ ومعروفَةٌ.

هكذا برزت هذه الفئةُ المتطرّفةُ دينيًّا في المجتمعات العربيّة الإسلاميّة، وإن كان هذا كلّه قد لا ينفي نظريّة المؤامرةِ التي يتبنّاها بعضُ المفكّرين، والتي تَعْتَبِرُ أنّ هذا الفكرَ، إنّما هو إحدى صنائع الغرب الاستعماريّ المتآمر على الإسلام والمسلمين؛ أي لا ينفي معقوليّة جانبٍ منها على الأقلّ، وإن كنتُ شخصِيًّا أرى أنّها مُرِيحَةٌ جدًّا إلى حدٍّ لا يمكِنُ معه أن تكون حقيقيّة.

فكان على هذه الفئة أن تجد لها مستقَرًّا في المجتمع الذي ظهرت فيه، من أجل – أولاً - حماية وجودها والمحافظة على استمراريّتها – وثانيًا - إنجاح مشروعها وتحقيق أهدافها. فكانت المواجهةُ مع الآخَرِ مواجَهَةً قائمةً على فكرةِ إلغَاءِ هذا الآخر والتخلُّصِ منهُ على جميع المستوياتِ: فكرًا، وعقيدةً، ومجتمعًا، وسياسةً، وحتى وجودًا حسيًّا جسديًّا إذا استدعى الأمر. ومن أجل ذلك، بحثوا لأنفسهم عن مبرّراتٍ شرعيّةٍ وفكريّةٍ وأخلاقيّةٍ وحضاريّةٍ متنوِّعَةٍ لتمريرِ مشروعِهِمْ والتّسويقِ لأفكارِهمْ وتبريرِ إلغاءِ كل من خالفهم (من ليس معي فهو ضدّي).

ولعلّهم قد نجحوا في ذلك إلى حدّ كبير. ولكن، تظلّ المغالطةُ مغالطةً، ولا يعدو هذا المشروع كلّه أن يكون مجرَّدَ ردّةِ فعلٍ حضاريّةٍ عَارِضَةٍ لا يُمكِنُ لها أن تدومَ.

ولكن، حذارِ كلَّ الحذَرِ من أن يذهب بِنَا الظنُّ والاعتقاد أنّ هذه الظاهرة سوف تزول وتتلاشى بشكل عفويّ آليّ دون أيِّ جهودٍ أو تضحياتٍ، أبدًا، فهي أَشْبَهُ ما تكونُ بالخلايا السّرطانيّة في الجسد الحيّ، فهي حينما لا تستطيع أن تصبحَ جزءًا منه فإنّها ستحاوِلُ قتلَهُ لتمُوتَ معَهُ. فلا بُدَّ من علاجٍ حقيقيٍّ ودقيقٍ وشامِلٍ ومدروسٍ لإنقاذِ جسدِ الأمَّةِ منْ هذا الدّاء العُضَالِ، ولا بدّ من تكاثفِ الجهودِ وتعاون جميع الجهات الغيورة على الدّينِ والأمّةِ والمجتمع من أجل مواجهة هذا العدوِّ ومكافحة هذه الظّاهرةِ والقضاءِ على هذه العلّة التي عشّشت في كيان الأمّة العربيّة الإسلاميّةِ اليومَ، ألا وهي سرطان التطرّفِ الدّينيِّ والإرهابِ.

ضمن هذا السّياق، ترد هذه الدّراسةُ المتواضعةُ كمساهمَةٍ بسيطةٍ في فضح حقيقة التطرُّفِ الدّينيِّ، وتسليطِ الضَّوْءِ على إشكاليّةِ الشّباب العربيِّ المسلمِ اليوم في علاقته بهذه الظّاهرة.

فما هي طبيعة علاقة الشّاب العربيّ المسلم اليوم بواقع التطرّف الدّيني والإرهاب؟

وما هي أسباب انتشار هذه الظاهرة ورواج هذا الفكر الإقصائيّ الذي يدعمها، خاصّة عند هذه الفئة العمريّة؟

وما هي آفاق هذه الأزمة في واقع المجتمعات العربية الإسلامية، والحلول التي يمكنها أن تتصدّى لهذه الظّاهرة والحدّ منها؟

وهل يمكن اعتبار أنّ تجديد الخطاب الدّينيّ، من أجل الاقتراب أكثر فأكثر من شخصيّة الشّاب العربيّ وعقله، هو الحلّ الأمثل لمكافحة ظاهرة التطرّف الدّيني العنيف؟ وإن كان ذلك صحيحا، فكيف نحقّقه؟

من أجل الإجابة عن هذه التساؤلات، لابدّ من تناول المسألة ضمن ثلاثة مباحث كبرى:

- المبحث الأول يناقش طبيعة العلاقة بين الشّاب العربيّ وظاهرة التطرّف الدّينيّ: الأسباب والمظاهر والآفاق؛

- المبحث الثاني يتناول قضية تجديد الخطاب الدّينيّ بين الدّواعي والمقاصد؛

- والمبحث الثالث يطرح أمثلة عن مداخل لتجديد الخطاب الدّينيّ في العالم العربيّ الإسلاميّ.

المبحث الأول:

الشّباب العربيّ وظاهرة التطرّف الدّينيّ والإرهاب: الأسباب والمظاهر والآفاق

المطلب الأول: الأسباب (خيبة الأمل)

ممّا لا يختلف فيه اثنان، أنّ ظاهرة التطرّف الدّيني أصبحت تمثّل أزمة حقيقيّة وواقعيّة في العالم عامّةً وفي المجتمع العربيّ خاصّةً. وممّا لا يخفى على أحد أنّ أكثر الفئات تأثّرا بهذه الظّاهرة وهذا الفكر هي فئة الشّباب، وهذا ممّا يثير استفهامات كثيرة، منها:

لماذا فئة الشّباب بالذّات؟ ما هي طبيعة هذا الخطاب؟ ما الذي يجعل الشّاب سريع التأثّر بهذا الفكر؟

تعدّ فئة الشباب الفئة الأكثر استهدافا من طرف هذا الفكر، لسببين اثنين:

أوّلاً، لأنّ أصحاب هذا الفكر يعتقدون أنّهم يعيدون التجربة المحمّديّة على صاحبها أفضل الصّلاة وأزكى التسليم، فكما انتصر النبيُّ صلى الله عليه وسلم بالشّباب، فهم أيضا يمكنهم أن ينتصروا بالشباب.

وثانيًا، لأنّ الشّابَّ أكثر حماسةً من غيرِهِ، وأكثرَ ثوْرِيَّةً ورغبةً في التغييرِ، وأقَلَّ خِبْرَةً وحكمةً واتّزانًا، فهو لذلك كلّه أطوع وأنسب ليكون الجوادَ الرّابِحَ في سباقِ المباغتةِ والاكْتِسَاحِ.

من أجل ذلك طوّعُوا خطابهم وشكّلوه، ليلامس ميولات الشّاب وفُهُومه وأذواقه واهتماماته وشخصيته وواقعه، ثمّ مارسوا معه أسلوب القصف المتواصل، باستعمال أهم مخترعات العصر الحديث: شبكات التواصل الاجتماعيّ. وخاصّة منها (الفايس بوك). فقد استطاعت قيادات هذا التيّار أن تستفيد تمام الاستفادة من هذه الثورة الإعلامية التي مكّنت هذه الجماعات من نشر أفكارهم عبر "الإنترنت"، وعبر الفضائيّات، بتشكيلِ خطَابٍ مباشِرٍ بسيطٍ وواضِحٍ يستفيد من أخطاءِ النّظام السّياسيّ القائم بفضح مظاهِرِ الظّلم الاجتماعِيِّ والتمييز الإقصائي، ويقدّم نفسه في صورة المتديّن المنقذ القادر على تغيير الواقع بالتصدّي للفساد وردّ المظالم والحقوق على أهلها. فوجدَ آذانًا مُصْغِيَةً وهوًى موافِقًا، فتمكَّنَ مِنْهُ. ولكنّه في الحقيقة ما هو إلاّ خطاب استقطابيّ مخادع، يظهر الشّفقة على الأمّة والدّين، ويُبْطِنُ مطامِحَ مشبوهَةً يسْعَى فيها للسّيطرة على نظامِ الحكْمِ من أجل تشكِيلِ واقِعٍ اجتماعيٍّ وسياسيٍّ وثقافيٍّ بديلٍ، ثُمَّ إنَّ الشّابَّ بِحُكْمِ جُمْلَة من الخصائِصِ التي تميّزه كان هدَفًا مناسِبًا لهذه الفِئَةِ، فالشّابُّ عمومًا يتميّزُ بأشْيَاءَ مِنْهَا:

ظاهرة التطرّف الدّيني أصبحت تمثّل أزمة حقيقيّة وواقعيّة في العالم عامّةً وفي المجتمع العربيّ خاصّةً

- شدّة الحماسِ، فبمجرد أن يقتنع بفكرة ويتبنّاها، فإنّه يصبحُ مدافعًا عنها دفاعًا مستميتًا كأن ليس هناك غيرها، وهو نوع من الوثوقيّة السّاذجة التي تكشف عن قلّة خبرة في الحياة، وكلّما كان الصّراع أشدّ صار دفاعه عن هذا المبدإ أو الفكرة أو العقيدة أقوى، حتى أنّه مستعدّ للتّصعيد والتّطويرِ في أساليبِ دفاعِهِ عمّا يتبناه بكلّ الأشكال الممكنة التي تصل أحيانا للمواجهة الدموية أو للتّضحية بالنَّفْسِ من أجل ذلكَ، خاصّةً إذا وَجَدَ دعْمًا ومساندَةً تؤجِّجُ حماسَتَهُ وتوهِمُهُ أنَّهُ على الحقِّ، وأن كلَّ من خالَفَهُ فهو على باطلٍ ويريد به وبمشروعِهِ الشرَّ، وأمّا رسالته فتتمثّل في تحقيق أحد أمرين: إمّا أن يستميل المخالف، فيلتحق به ويدخل في دائرته ويتبنى فكرته، أو أن يُلْغِيَهُ ويتجاوزه ويتخلّصَ مِنْهُ إذا لزم الأمرُ، لا سيَّمَا إنْ مثّلَ مُعرقِلاً أو مانِعًا من تحقيق هدفه الأسْمَى، وهو إنقاذُ الأمّةِ ممّا هي فيه، وتأسيس مجتمع إسلاميّ على شاكلة المجتمع النّبويّ على صاحبه أبلغ الصّلوات وأجلّ التسليم.

- السذاجة، وهي خاصيّة تتماشى كثيرا مع خاصيّة الوثوقيّة؛ فالشّاب عمومًا سريع الاقتناع والتّصديق، فهو غِرٌّ، سرِيعٌ ما تنطلي عليه الحِيَلُ، لأسبابٍ أهمُّهَا أنّه بعيدٌ عن العقلانيّة، فهو انفعاليٌّ عاطفيٌّ، ليس له القدرَةُ على التّحليلِ العميقِ والنّظر الاستشرافِيِّ البعيد، بل كثيرا ما يتبنى موقفا أو مبدأ لمجرّد وَهْمٍ افتراضيّ جميل يرى فيه بديلاً مناسبًا عن الواقع الرّاهن.

- الجرأة، فهو قادر على تجاوز كلّ العراقيل والصّعوبات والتّضحية بأيّ شيءٍ أو أيّا كان من أجل تحقيق فكرته ومبتغاه، ومستعدّ للدّفاع عن هذه الفكرة أمام أيّ شخص بأيّ شكل، وليس مستعدّا لتغيير قناعته بسهولة لشدّة وثوقيّته وثقته بصلاحِ هذه الفكرةِ التي يتبنّاهَا.

- سرعة التأثّر، فهو بحكم غلبة العاطفة عليه وطبيعته الانفعاليّة، فإنّه يتأثّر بأيّ خطاب يستطيع أن يلامس اهتماماته، وأن يملأ نقصه ويقدّم له حلولا حقيقيّة ممكنة، ولو كانت افتراضية، لأزماته النفسيّة والعاطفيّة. فبمجرّد أن تقدّم له إمكانية أو وضعيّة ما، فإنّه يرى نفسه فيها، ويتّخذ انطلاقًا مِمَّا تَشَكَّلَ فِي ذِهْنِهِ وتَصَوَّرَ لديْهِ موْقِفًا انفعاليًّا مشحُونًا عاطفيّا، في أحيان كثيرة غيرَ مَحْسُوبٍ ولا مُتَّزِنٍ، تغْلُبُ عليْهِ السّطحيةُ والسّذاجة.

- الخيالية؛ أي أنّه بعيد عن الواقع المادّي، قريبٌ من المشهد الذهنيّ الطُّوبَاوِيِّ الافتراضيّ الذي يتشكّل لديه من خلال ترسّبات نفسيّة (كالإحساس بالدّونيّة أو الإهمال أو الظّلم أو الضّعف أو غير ذلك)، وعاطفيّة (كالغضب أو الطّموح أو الأسف أو الحسرة أو الغيرة أو غير ذلك)، وذهنيّة (كالقناعات أو الأوهام أو الافتراضات أو البدائل أو غير ذلك). فمن يقترب من هذا المتصوّر الذهنيّ لديه، وينسجم معه يقبله بسهولة ويتبنّاه ويدافع عنه، ومن بَدَا له بعيدًا عن ذلك لا يتماهى أو ينسجم معه، فهو يرفضه ويتصدّى له ويواجهه.

- الإصرار: فليس من السّهل عليه أن يتنازل عن موقفه أو رأيه أو قناعته، بل إنّه يرى في ذلك ضعفا وانهزاما وفشلا لا يقبل به أبدا، فتراه أحيانا يدافع عن موقف غير مقتنع به لمجرد أنّه قد تبنّاه في مرحلة من المراحل، فلا يقبل أن يتراجع عنْهُ، لأنّ التّراجُعَ يرمزُ عنده إلى الضّعف والخيبة اللّتين لا يريدهما لنفسه، لأنّهما تفسدان جمال الصّورة الذهنيّة التي يراها لنفسه، أو يسعى أن يكون عليهَا.

هذه المميّزات كلّها جعلت من الشّاب المَحْمَل الأفضَلَ والأنسبَ لتمرير هذا المشروع، فتمّ الاشتغال عليه، وعلى الخطاب الذي ينسجم مع خصائصه، ويستطيع أن يؤثر عليه ويستقطبه لجانبهم.

المطلب الثّاني: المَظَاهِر: سرعة انتشار الفكر المتطرّف [مراحل الانخراط والتبنّي: الخيبة / النّقمة / التخلّي / التبنّي / الجهاد]

إنّ هذا المشروع، مشروع الفكر المتطرّف والسّعي للتمكين له في الواقع المعيش، كان هدفا استراتيجيا مهمّا من ضمن أهداف هذه الفئة، وقد عملت على تطبيقه وتكريسه في الواقع السّنين الطّوال، ومن أجل ذلك طوّرت في خطابها وشكّلته بما يضمن حسن استجابة النّاس لهذا المشروع، وخاصّة فئة الشّباب منهم، فكانت النتائج مرضيّة، بل أكثر من مرضية، بالنّسبة إليهم. وأهمّ علامة دالّة على هذا النّجاح هي سرعة انتشار هذا الفكر بين الشّباب خاصّة في أغلب الأقطار العربية الإسلاميّة، إن لم نقل في كلّها، وهو ما يثير تساؤلات كثيرة، ويدعونا إلى محاولة توصيف عمليّة تبنّي هذا الفكر بإبراز أهمّ المراحل التي يمرّ بها الشّاب سيرًا نحو الانخراط والانتماء، والتي يمكن تحديدها بخمس مراحل، وهي: الصّدمة وخيبة الأمل، ثمّ النّقمة على الواقع، ثمّ مرحلة التخلّي عن المسلّمات، ثمّ تبنّي الفكر الجديد، ثمّ مرحلة الاستقطاب والجهاد.

1. الصدمة وخيبة الأمل: إنّ أولى هذه المراحل هي الخيبة؛ أي إحساس الشاب بالصّدمة وخيبة الأمل حين يتبيّن مدى التباعد بين الواقع والمأمول، بين الموجود والمنشود، بين ما هو كائن وما يجب أن يكون، بين الاحتياج الحاصل والقدرة على سدّ هذا الاحتياج، على جميع المستويات، سواء الفكرية، أو الاجتماعية، أو المادية، أو الأخلاقية، أو السياسية، أو غير ذلك. فمثلا حين يبدأ الشاب في النضوج، فإنّه يبدأ في تشكيل رؤية عمّا يريده من واقعه، وغالبا ما تكون هذه الرؤية مثاليّة طوباويّة، فهو يريد العيش في مجتمع متطوّر وثريّ حتى يحقّق الرفاهيّة، ويكون ذا قيمة ومكانة مرموقة، ويعيش في عزّة ومنعة، وفي ظلّ واقع أخلاقيّ طاهر وشريف، وغير ذلك ممّا يريده الشاب لنفسه. ثمّ يبدأ في إقامة المقارنة بين ما يريده وما هو واقع فعلاً، فيلاحظ مدى التباعد بين طرفي هذه المعادلة، فيبحث عن أسباب عدم تحقّق هذه المأمولات خاصّة، وهي مطالب مشتركة بين أغلب النّاس في منطقة جغرافيّة واحدة خاصّة منهم الشّباب، فيكتشف حسب رأيه وفهمه أنّ ذلك بسبب غياب الإرادة السياسيّة للنّظام القائم، ثمّ يبحث في سبب غياب هذه الإرادة، فيجد أنّ مردّ ذلك إلى فساد القائمين على هذا النّظام وعدم كفاءتهم وقلّة الحرص على تغيير الواقع إلى ما هو أفضل، فيبدأ نوع من النقمة يشتكل لديه على هذا الواقع، وعلى كلّ من لم يسع إلى تغييره أو إصلاحه. وهذا يشمل الجانب الماديّ الماليّ بسبب الفقر والاحتياج والخصاصة مقارنة بأمم أخرى أو دول أخرى أو مناطق أخرى أو حتى جهات أخرى، وهو يشمل أيضا الجانب السياسيّ، لماذا ليست أنظمتنا الحاكمة أو أحزابنا السياسية أو منظماتنا أو غير ذلك، ليست بالكفاءة والنزاهة والوطنيّة المطلوبة مقارنة بغيرنا؟ وهو يشمل أيضا الجانب الأخلاقيّ الدّينيّ، لماذا لسنا كما كان الصحابة في أخلاقهم وتديّنهم وبطولاتهم وإنجازاتهم وأمجادهم وغير ذلك؟ ويشمل جوانب كثيرة، تراه في جميعها يعاني نوعا من الإحساس بالدّونيّة والنّقص وخيبة الأمل واليأس من القدرة على تغيير هذا الواقع المرفوض. وتدريجيًّا، يبدأ في التحوّل نفسيّا وعاطفيّا إلى نوع من الإحساس بالنقمة والحقد والحنق والتبرّم بهذا الواقع الذي يعيشه، لكنّه لا يرضى به ولا ينسجم معه.[3]

2. النقمة: هنا يتحوّل هذا الإحساس إلى موقف رافض لهذا الواقع، ويقويه اتّفاق أغلب الشباب على نفس الشيء، الإحساس بالخديعة والمهانة والعجز، مع اختلافات جزئية بسيطة لا اعتبار لها، فيخلق عند الشاب إحساس بالنقمة والغضب العارم على الواقع والتبرم منه ورفضه جملة وتفصيلا، حتى يصل به الأمر أحيانا إلى النقمة على والديه، لماذا أنجبتموني مع علمكم برداءة هذا الواقع؟ لماذا لم توفروا لي ما وفره غيركم لأولادهم؟ لماذا لم تتحولوا عن هذه البلاد إلى بلاد أخرى يهنأ فيها العيش؟ لماذا ولماذا ولماذا؟ أسئلة إنكارية كثيرة، لا يبحث من خلالها عن إجابة، ولكنّه يعبّر بها عن رفضه العميق لهذا الواقع ونقمته عليه. فتبدأ تتشكل لديه قناعة بعدم جدارة هذا الواقع وعدم قدرته على توفير مستلزمات العيش الكريم وفشله في رفع التحديات وتحقيق الأفضل، فيصبح مقتنعا بأن هذا الواقع، سواء الفكري أو الأخلاقي أو الاجتماعي أو السياسي أو غيره، لا فائدة منه ولا بدّ من التخلي عنه والتسليم بحتمية تغييره والتحوّل عنه. فيتحوّل بذلك من مجرد الانفعال النفسي والإحساس بالغضب والنقمة إلى قناعة عقلية مفادها أن هذا الواقع يجب التخلّي عنه.

3. التخلّي: في هذه المرحلة يصبح هاجس الشاب أن يظهر لا مبالاته بالواقع المتردّي واستهزائه بكل من يدافع عن هذا الواقع، فتتنوع ردود أفعال الشّباب السلوكيّة حيال هذا الواقع للتعبير عن رفضه والتخلي عنه، مثال ذلك السخرية، فتكثر الأغاني والمسرحيات والرسوم وغيرها من كلّ أشكال التعبيرات التي تكرّس السخرية والاستهزاء للتعبير عن موقفهم من الواقع، مثال ذلك أيضا العنف، سواء الجسدي أو اللفظي، العفوي أو المنظم، الواعي أو غير الواعي، السّلوكي أو الفكري، أو غير ذلك. ونلاحظ ذلك كثيرا في ممارسات الشباب عن وعي أو عن عدم وعي منهم. مثال ذلك أيضا السلبيّة، كالعزلة والتقوقع والانكفاء على الذات والاكتئاب النفسي واليأس والتسليم وعدم الرغبة في المشاركة في الحياة بكل أشكالها، وغيرها من ردود الأفعال في هذا الباب كثير يستحق دراسة معمقة نفسيّة واجتماعية مستقلّة ليس هذا مجالها.

ولكن هذه المرحلة لا تدوم طويلا، فسرعان ما يبدأ الشاب في البحث عن بديل فكري واجتماعي يعوّض هذا الواقع الذي تخلّى عنه، ويكون ذلك بشكلين مختلفين: الشكل الأول يحاول من خلاله الشاب مغادرة هذا الواقع والهروب منه للبحث عن بديل خارجي، ويكون ذلك مثلا عن طريق الهجرة الشرعية أو غير الشرعية نحو أي مكان أو جهة، أو محضنة يقع اختيارها على حسب القناعات والتوجّهات والاختيارات الواعية أو اللاواعية لديه. وأمّا الشكل الثاني، فهو ليس بالمغادرة للبحث عن بديل، وإنّما هو بالسّعي إلى تأسيس بديل يقوم على أنقاض هذا الواقع المتخلّى عنه، وذلك من خلال تبنّي أفكار معيّنة يعتقد أنها تستطيع أن تحقّق المطلوب، في شتّى المجالات.

4. التبنّي: وهو اتخاذ القرار باعتماد فكرة أو أفكار أو نظرية أو توجّه أو غيره كمسلّمة واعتبارها مبدأ يؤمن به ويدافع عنه. وهنا يبدو أن المتطرف دينيّا تبنّى مبدأ السلفيّة؛ أي أنّه يرى أنّ صلاح الحال لا يتحقّق إلاّ بالعودة إلى ما كان عليه السّلف الصّالح، واعتمد ذلك عاملا مرجعيا يصدر منه ويعود إليه[4] بغض النظر عن كل المتغيّرات والمستحدثات الحضاريّة التي تتطلّب فكرا جديدا، أو تموقعا حضاريا مختلفا، أو هيكلا اجتماعيا مغايرا، أو غير ذلك ممّا يختلف عمّا كان عليه الأوّلون. وهذا المبدأ، وإن كان قابلا للنّقاش، ويؤخذ منه ويردّ ككلّ نظرية أو فكر، فإنّ أصحابه اعتبروا أنّ هذا التوجّه هو اختيار ربّاني مقدّس، لا يمكن الشكّ فيه أو مخالفته أو حتى طرحه على طاولة الجدل الفكري، ممّا خلق لديهم نوعا من الدوغمائية والوثوقية القائمة على وهم امتلاك الحقيقة، فأنتج ذلك تطرّفا فكريّا وسلوكيّا في التمسّك بهذا المبدإ وتطبيقه، وهو ما أنتج نوعا من الصّدام مع الآخر الذي لا يوافقهم في آرائهم، لماذا؟ لأنّهم يعتبرون أنّ من خالفهم، إنّما خالف الدّين والشّرع والله، وهو أمر لا يمكن قبوله أو السّكوت عنه، عندهم طبعا، كلّ ذلك يستند إلى مسلّمة أنّهم على حقّ، وأنّ كلّ من خالفهم، فهو على باطل. من هنا بدأوا يصنّفون النّاس وفق هذا المعيار إلى صنفين فقط:

- إن كنت توافقني ومعي فيما أراه، فأنت على حق وسليم العقيدة وصحيح المذهب وصادق النيّة وعلى السّنة والمحجّة البيضاء، وأجرك ثابت، وجزاؤك الجنّة ورضا الرّحمان.

- وأمّا إن كنت تخالفني أو تعارضني، فأنت على باطل، وكلّ من يدعمك أو يوافقك أو حتى يتعايش معك أو يتغاضى عنك، لأنّ الرّسول صلى الله عليه وسلّم يقول: من رأى منكم منكرا فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان[5]، وليس هنالك من منكر أشدّ من فساد العقيدة والتحوّل عن وجهة الدّين. كأنّ ما هم عليه هو صحيح الدّين، وهو الذي يأمر به الله تبارك وتعالى ويدعو إليه الشّرع، ولكنّ الأمر ليس كذلك، وإنّما هو وهم يتوهّمونه، ويسعون إلى تكريسه ونشره والدّفاع عنه.

5. الجهاد: وهي المرحلة الأخيرة من مراحل تطوّر هذا الفكر وهذا السّلوك، وليس المقصود بالجهاد المواجهة العسكرية فحسب، وإن كانت منه، بل المقصود به قبل ذلك مختلف عمليّات التسويق والاستقطاب، من باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر الواجب شرعًا، فهم يرون أن التّسويق لأفكارهم والسّعي لنشرها هو من باب هذا الواجب الشرعيّ الذي يؤدّونه، فينقذون به الأمّة والنّاس من الضّلال والفساد الذي غلب على حياتهم في هذا الزمان المتأخّر. وإن كان هذا النّوع يعتبر عندهم محاولة أولى قد تتلوها، كما يرى الجهاديّون منهم، عمليات عسكرية مسلحة ينقذون بها الأمّة، مما أصبحت عليه بقوة السلاح، لأنّ الشعوب أصبحت يغلب عليها الجهل، فهي لا تعرف مصلحتها وصلاح أمرها. لذلك وجب إرغامها عليه إرغاما، حتّى وإن كانت كارهة، لأنّهم الطّائفة المنصورة والقوّامين على الحقّ، وهي مرحلة التحوّل من الدعوة إلى الجهاد.[6]

ومتى استكمل الشابّ جميع هذه المراحل، فقد أصبح عنصرا فاعلا وفعّالا في هذا الفكر وفي هذا التنظيم، يُعتمد عليه في تحقيق الأهداف وتطوير المشروع.

المطلب الثالث: الآفاق

وأمّا إن تحدّثنا عن آفاق هذا التوجّه الفكري المتشدّد، وهو ما يسمّى بالتطرّف الدّيني، فإنّه لابدّ لنا أن نذكر أهمّ وجهة يسير نحوها هذا الفكر ألا وهي التنظيم، والمقصود بها التنظيمات الإرهابيّة؛ فالمتطرّف دينيّا له غاية أساسيّة واحدة هي تغيير الواقع والدّفع نحو التأسيس لمجتمع إسلاميّ على شاكلة المجتمع النبويّ، ولا يمكن تحقيق ذلك إلاّ بآليّتين متكاملتين: الأولى هي نشر هذا الفكر (الاستقطاب)، والثانية هي تطبيقه على أرض الواقع ولو بالقوّة (الجهاد). [مع العلم أنّ العمليّتين لا تتعاقبان كما ترى بعض النظريات الإسلامية الأخرى، بل هما متوازيتان تتحققان في وقت واحد، حسب الاختصاص والقدرات لدى المتطرّفين]. ولا يتحقق ذلك إلاّ بالتّنظيم، فنجد أنّ من أهمّ مظاهر نضج هذا الفكر واكتماله هو تحوّله من مجرّد أفكار ونظريّات وأخلاقيّات وسلوكيّات وما شابه ذلك، إلى منظّمات وتنظيمات، لها اختصاصات ومهام وأهداف ودراسات وعناصر وهياكل وغير ذلك، في إطار التنظيم العامّ وهو المشروع نفسه، سواء كانت هذه المنظمات دعوية استقطابيّة تسعى إلى نشر هذا الفكر والترويج له، وهي بمثابة الخلايا النائمة، أو كانت تنظيمات جهاديّة عسكرية أو غير عسكريّة تسعى إلى استبدال نظم الحكم الوضعيّة القائمة بنظم أخرى يرون أنّها شرعيّة تستمد شرعيّتها من النّصوص الدّينية والتطبيقات الإسلامية المعروفة كالخلافة والإمارة ونظام الشورى وغيره استنادا إلى مفهوم الحاكميّة عندهم[7].

وتعتبر هذه المرحلة هي أعلى مراحل تطوّر هذا الفكر، إذ يبدأ عند الشّاب مجرّد ميل إلى التأصيل والحفاظ على الهويّة والتمسّك بالدّين، ليصبح في مراحله الأخيرة مشاركة فعّالة في تحقيق المشروع، ويصبح هو نفسه عنصرا مهمّا من عناصر هذه التنظيمات الإرهابيّة المعروفة، يدافع عن هذا الفكر، ويقدّم نفسه ضحيّة لتحقيق هذا المشروع من خلال عمليّات استشهادية، حسب تعبيرهم، يفجّر فيها المتطرّف دينيّا نفسه لغاية إرهاب الخصوم والنيل من الأعداء أعداء الدّين، وتحقيق الشهادة، وهي البطاقة التي تخوّل له دخول الجنّة، حسب رأيهم، كلّ ذلك في سياق تحقيق المشروع الدّيني الربّاني، مثلما فعل الرّسول - صلى الله عليه وسلّم - عند تأسيس الدولة الإسلاميّة ونشر الدعوة بالسّيف واللّسان، آملا أن ينال مرضاة الله ليدخل الجنّة، حيث ينال ما حرم منه في هذه الدّنيا الزائلة الفانية[8].

فكيف يمكن التعامل مع الشّاب الذي بدأ ينساق مع هذا التوجّه أيّا كانت المرحلة التي وصل إليها؟ وما هي الأدوات المناسبة للتأثير عليه، حتى يتراجع عن هذا الاختيار أو على الأقل ألّا يتمادى فيه بالانتساب إليه؟ وهل يمكن أن نحقّق ما يقي بقيّة الشّباب من التأثّر بهذا الفكر في سياق الحدّ من سرعة انتشاره وتغلغله في المجتمعات العربيّة الإسلاميّة؟

المبحث الثاني:

تجديد الخطاب الديني: المفهوم، الدوافع، والأهداف

المطلب الأول: مفهوم التجديد

1) الدلالة اللغوية:

إنّ مفهوم التجديد، لغة، هو من جَدَّ الشيءُ يجدُّ، جدَّةً؛ أي حدث بعد أن لم يكن، وجدَّد الشيء، صيّره جديدا، واستجدَّ الشيء صار جديدا، والجديد نقيض البالي المبتذل بالاستعمال، والجديد: ما لا عهد لك به. وأجدّ في الامر، اجتهد[9].

وقد ورد هذا المعنى في القرآن الكريم ليس بلفظ التجديد ولكن بلفظ جديد، قال تعالى: "وقالوا أئذا كنّا عظاما ورفاتا أئنّا لمبعوثون خلقا جديدا"[10]

وهو يفيد بعث الشيء وإحياؤه بعد أن درس وبليَ.

والجديد ضدّ القديم؛ أي ما لم يأت عليه البلى، ولا صار خَلِقًا، والتجديد هو جعل الشيء جديدا أي أن يصبح القديم جديدا؛ ويعني ذلك أحد أمور ثلاثة، وهي:

- الإحياء: وهو إحياء شيء كاد يفنى ويبلى وينتهي، ففي بعض الأحيان يُهجَرُ الشيء حتى يشرف على الفناء، فتجديده هو إحياؤه وإعادته إلى الواقع كما كان جديدا ناصعا.

- الإضافة: أي أنّ الشيء أحيانا بحكم تقادم الزّمن يصبح مفارقا للواقع غير متناسب معه، فتجديده هو أن نضيف له ما يصبح به قادرا على مسايرة هذا الواقع منسجمًا معه.

- التعويض: وهو أن نعوّض الشّيء بما يحلّ محلّه، وينهض بدوره ممّا يكون شبيها له وأكثر منه قدرة على تحقيق أهدافه والنهوض بدوره.

2) الدلالة الاصطلاحية:

وأمّا التجديد في دلالته الاصطلاحية، في سياق الحديث عن تجديد الخطاب الدّيني، فإنّه يحمل معنى الإحياء والإضافة معًا، وفي نفس الوقت، فهو، من ناحية أولى: إحياء للخطاب الدّيني كما ظهر في أوّل عهده، حيث كان ينهض بدور الوعظ والإرشاد، فيعتني بالإجابة عن أسئلة الوجود ودور الإنسان في الحياة والحكمة من الخلق، وكيف يحقق الإنسان المطلوب منه وما الغاية من وجوده وغير ذلك من الأسئلة التي تحقّق الفهم وتستحث المسلم على تمثل مبادئ وأخلاق الإسلام. وهو أيضا، من ناحية ثانية: إضافة، ذلك أنّ من يريد تجديد الخطاب الدّيني، لابدّ له أن يستحضر الواقع الرّاهن بجميع خصائصه ومتطلّباته واستحقاقاته الفكرية والاجتماعية والحضارية، ثمّ يسعى إلى تشكيل خطاب أصيل مستحدث؛ أي لا يقطع مع الخطاب الدّيني القديم ولكن، وفي نفس الوقت، يتضمن معطيات وخصائص جديدة تضمن تجاوب الشّاب اليوم معه وتفهّمه له وتأثّره به.

المطلب الثاني: دوافع التجديد

1) أهمية الخطاب الدّيني في معالجة ظاهرة التطرّف والإرهاب

إذا كانت ظاهرة التطرّف الدّيني هي، بالضّرورة، ظاهرة متعلّقة بالدّين فهْمًا وتطبيقًا، فإنّ للخطاب الدّيني أهميّة عظمى في تشكيل هذا الفهم وهذه الممارسة الدينيّة، وله أيضا قدرة كبيرة على تحوير وتصحيح ما يمكن أن يطرأ عليهما من تشويه أو تبديل قد ينحرف بالدّين عن مساره ودلالاته ومعانيه ودوره. لذلك، فإنّ العناية بتجديد الخطاب الدّيني مثلت حتميّة وضرورة لا محيد عنها في هذه المرحلة من الزّمن، وهو ما بدأ يبرز على سطح الواقع الفكريّ والحضاريّ في هذه السّنوات الأخيرة، فكثرت الكتابات في هذا المجال، وتنوعت الدراسات التي تدعو إلى هذا الخيار الفكريّ والحضاريّ، وبدأت المساعي حثيثة للبحث عن بديل عن الخطاب التقليدي، أو على الأقل مقاربة تحقق توافقا وانسجامًا بين البعد التأصيليّ لهذا الخطاب وبين المتطلبات الحديثة للواقع، هذا الذي شكّلته متغيّرات كثيرة ومستجدّات متنوعة ابتعدت به كثيرا عمّا كان موجودًا في الماضي.

من يريد تجديد الخطاب الدّيني، لابدّ له أن يستحضر الواقع الرّاهن بجميع خصائصه ومتطلّباته واستحقاقاته الفكرية والاجتماعية والحضارية

2) فشل الخطاب الدّيني التقليدي في التأثير على الشّاب العربي المسلم اليوم

لذلك، فإنّه من أهمّ الدوافع التي دعتنا إلى التفكير الجدّي في تجديد الخطاب الدّيني اليوم هو ما لاحظناه من إفلاس الخطاب الدّيني التقليدي، ذلك الخطاب الذي يستمدّ وجوده من استقراء ساذج للمدوّنة الفقهية التقليديّة، فالمدوّنة الفقهية القديمة، وإن كانت ممتازة في ذاتها متميّزة في قدرتها الكبيرة على تشكيل واقع المسلم وتقديم الحلول المناسبة لأغلب إشكالاته، فإنّها، بشكلها القديم على ما هو عليه، لا تستطيع معالجة مستجدات الواقع الحديث الرّاهن، فهي تعتبر كمن يعالج نزلة البرد بدواء الجذام؛ فقد فشل هذا الخطاب الديني القديم في الوصول إلى واقع الشاب النفسي والذهني والذّوقي والاجتماعي اليوم. وأصبح الشاب بذلك، تحت نير قصف أيديولوجي استقطابي كثيف من جانب واحد، غاب فيه من يقدّم لهذا الشاب صورة حقيقية وصادقة عن الإسلام، بمبادئه المعتدلة والوسطيّة السّمحة، وبأخلاقه الإنسانية الكريمة، وبأفكاره الحضارية المتطوّرة، التي تعبّر عن روح الدّين الإسلامي الحنيف، وتعكس قدرته الكبيرة على التعايش السلمي مع الآخر وقبول المختلف. لذلك كلّه، فإنّ محاولة تجديد هذا الخطاب بتنقيته من شوائب السطحيّة والسذاجة الفكرية ومفارقة الواقع، وبإغنائه بخصائص القدرة على معالجة مشكلات الزمن الراهن، إنّما هو الحلّ الأنسب والعلاج الأوفق لمكافحة الإرهاب والتصدّي لظاهرة التطرف الدّيني.

3) سرعة تأثّر الشّاب بالخطاب الدّيني المتطرّف (استغلال الحاجة والنقص لبيع الأوهام)

هذا فيما يتعلّق بالخطاب الدّيني نفسه، وأمّا فيما يتعلّق بالشّاب، فإنّه يبدو ضحيّة جناية يشترك فيها ثلاثة أطراف:

- فهو ضحيّة واقع فكريّ وحضاريّ مضطرب من ناحية أولى؛

- وهو ضحيّة خطاب دينيّ معتدل متردّد وفاشل من ناحية ثانية؛

- وهو ضحيّة خطاب دينيّ متطرّف قويّ ومؤثّر من ناحية ثالثة.

فما هي مواطن القوّة في الخطاب الدّيني المتطرّف؟ ولماذا يبدو الشّاب اليوم سريع التأثّر بهذا الفكر وهذا الخطاب؟

لقد اشتغل أصحاب هذا الفكر على خصائص الشاب واهتماماته واحتياجاته النفسية والذهنية والواقعية، ودرسوها، فوجدوا ميلا كبيرا لدى الشاب العربي المسلم ونزوعا واضحا للتأصيل واعتبار النموذج الإسلامي القديم مثالا يُحتذى لما حقّقه قديما من تميّز وبروز حضاري واجتماعي كبير، ورأوا أنّ الأمل في الجزاء الأخروي هو الدّافع الأهمّ للعمل على تغيير الواقع الفاسد، فسعوا إلى تقديم مشروعهم بشكل يستجيب لهاتين الخصيصتين، بماذا؟ بالتسويق لجملة من المسلّمات الموهومة الخادعة، منها:

- أنّهم هم الوحيدون الذين يملكون الحقيقة المطلقة الثابتة، وأنّ كلّ من خالفهم، فهو على باطل، ويجب ردّه عن باطله وإنقاذه منه.

- أنّهم هم الوحيدون الذين يطبّقون الدّين ويحيون السنّة، وأمّا الآخرون، فهم مبتدعة يسيئون للإسلام بقصد أو عن غير قصد، ومع ذلك فإنّ عدم القصد لا يشفع لنا، نحن الذين نخالفهم، ورسالتهم هم هي تطهير الأرض من مظاهر الشّرك والبدعة.

- أنّ الآخر الذي يحاربهم، إنّما يحارب الإسلام ويسعى إلى تقويض أركان الدّين من أساسه.

- أنّ الجزاء الذي ينتظر كل من أيّدهم في هذا المشروع هو الجنّة، وأن جزاء كل من عارضهم أو خالفهم هو النار.

- أنّ فهمهم للنصوص الدّينية هو الفهم الوحيد الصحيح والصّادق، وأمّا المفاهيم الكثيرة الأخرى، فهي تحريف للدّين وتشويه للإسلام وتزييف للحقيقة.

ثمّ تفرعت عن هذه المسلّمات مواقف كثيرة وآراء متنوّعة تؤصّل لهذا الفهم، وتبحث له عن مؤيدات داعمة من القرآن والسنّة وأقوال العلماء وسيَرِ السّلف الصالح وأخبار التّاريخ وشواهد العصر، حتى يكون تأثيرها النفسي والعقلي والعاطفي شديدا وعميقا لدى الشّاب. ولعلّهم قد نجحوا في ذلك أيّما نجاح، لأنّ هذه الأوهام تقدّم إجابات وتستجيب لرغبات وتعلّل النفس بالأوهام الجميلة الباطلة.[11]

المطلب الثالث: أهداف تجديد الخطاب الديني

إنّ الدور الأساس الذي يهدف إليه تجديد الخطاب الديني هو مواجهة هذه الظاهرة وهذا الفكر التكفيري المتشدّد، لأنّه لا مندوحة عن ذلك، فإنّنا إن لم ننهض نحن بذلك، فلن ينهض به أحد، فيصبح التخاذل والتكاسل عن القيام بهذا الواجب، وإن كان مضنيا مجهدا، استسلاما أمام هذا العدوّ الذي يأتينا في ثوب الصّديق، وهذا القاتل الذي يأتينا في هيئة المنقذ، وهذا الذئب الذي يأتينا في صورة الحمل.

ومن هنا تشكلت جهات كثيرة للتصدّي لهذا الدّخيل، وسعت إلى تحديد أهدافها، فاختزلت في ثلاثة أهداف كبرى، هي:

- فضح حقيقة هذا الفكر.

- تغيير القناعات لدى الشّاب المتطرّف وردّه عن تطرّفه.

- وقاية بقية الشباب ومنعهم من الوقوع في هوّة التطرف والإرهاب.

فكان الاشتغال على ذلك، ولكن بدأت تترسّخ قناعة كبرى لدى هذه الجهات المشتغلة على هذا الأمر مفادها أنّه لا يمكن تحقيق هذه الأهداف المرسومة إلاّ بمدّ جسور الحوار والتواصل مع هؤلاء، ويكون ذلك ضمن مجموعة من القنوات المعروفة كالمنابر الجمعيّة، والدروس المسجديّة، والمحاضرات، والنّدوات، والكتب، والمقالات، والدراسات، وشبكات التواصل الاجتماعي، وغيرها. ولكن ذلك، لا يمكن أن يحقّق أهدافه ويصل إلى التأثير المأمول إلاّ بتجديد الخطاب الدّيني نفسه، خاصّة أمام واقع فشل الخطاب الدّيني التقليدي للتصدّي لهذا الفكر وهذه الظاهرة.

فما هي المداخل الممكنة لتجديد هذا الخطاب الديني؟

المبحث الثالث:

مداخل لتجديد الخطاب الديني

المطلب الأول: مراجعة مفهومية للتصور السائد عن الدّين اليوم بين الحقيقة والزيف

إنّ أهمّ ما يمكن التركيز عليه اليوم للتأثير الإيجابي على الشّاب المسلم في ظل مواجهة ظاهرة التطرّف هو نظرته للدّين الإسلامي نفسه، فإنّ النظرة السّائدة عن الإسلام اليوم، وهي نظرة خاطئة مجانبة للحقيقة والصّواب، تراه رؤية سلبيّة تعارض ما هو عليه حقيقة:

-     فالإسلام، حسب السّائد العامّي، هو كيان منغلق، نهائيّ، لا يمكن تغييره أو تحويره أو التصرّف فيه لا بالزيادة ولا بالنقصان، فإمّا أن يقبل به كاملا كما هو، أو لا، فالدّين كلّ لا يتجزّأ، حسب رأيهم. ولعلّ أحدهم يقابلك بالآية القرآنية التي يقول فيها سبحانه وتعالى: "أفتؤمنون ببعض الكتاب وتكفرون ببعض، فما جزاء من يفعل ذلك منكم إلاّ خزي في الحياة الدنيا، ويوم القيامة يردّون إلى أشدّ العذاب، وما الله بغافل عمّا تعملون"[12]، نقول له: إنّ ذلك يتعلّق بالكتاب وهو القرآن، دستور المسلمين، فهو كلّ متكامل لا يمكن الأخذ ببعضه وإنكار البعض الآخر. وأمّا ما نحن بصدد الحديث عنه فهو الدّين، وكثير من أحكامه ظنّيّة تقبل الاجتهاد والتأويل والاختلاف، وهي مظنّة تضارب القراءات واختلاف الأفهام والعقول. فالقول بأنّه كيان منغلق ونهائيّ ليس صحيحا، فالدّين وإن كان كلاّ متكاملا، على الأقلّ في أصوله، فهو أيضا، وفي نفس الوقت، باعتباره يقدّم بناء اجتماعيا وفكريّا وأخلاقيا وسلوكيا ودينيّا، دنيويّا وأخرويّا، متماسكًا ولا يمكن تجزئته، هو كيان حيّ نامٍ ومتطوّر، له روح أساسها الاعتدال والسّماحة والانفتاح على الآخر وقبول الاختلاف، وله خصائص تجعله متطوّرا ومسايرا للواقع، كالاجتهاد، والمقاصد الشرعية، وفقه الواقع، وغير ذلك، ممّا يعني أنّ الدّين الإسلاميّ له من الليونة والمرونة والانفتاح ما يحقّق له القدرة على أن يطبّق في كل زمان ومكان، فالإسلام بمفهومه العميق لا يقدّم واقعا حضاريّا، وإنّما يقدّم منهجًا ورؤية وآليّة بها يمكن صناعة الواقع الحضاري، وفق المتطلبات الحضارية التي يقتضيها الواقع وتقتضيها المرحلة.

- كما أنّ هذه الرؤية السائدة تعتبر أنّ النموذج النبويّ هو النموذج الأمثل لتطبيق الإسلام، دون تأكيد أنّ المقصود بالنموذج النبويّ هو البعد القيميّ والأخلاقيّ والسّلوكي الاجتماعي، وليس الواقع الحضاري التمدّني ضمن مرحلة تاريخية معيّنة، ممّا يجعل التصوّر عن المنشود الحضاري عند المسلم يحمل خصائص واقع ضارب في الماضي مفارق بجميع خصائصه للموجود الحاضر، في حين أنّ المطلوب هو أن نشابه النبيّ - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه في أخلاقهم وسلوكهم وقيمهم ومواقفهم، وليس أن نشابههم في نمط عيشهم وتفاصيل حياتهم ومتطلّبات واقعهم المعيش. فليس من التقوى في شيء أن نركب الجمل ونترك السيّارة، أو أن نكتب على الجلود بدل الكتابة على الورق، أو أن نحارب بالسّيف عوض استعمال الرشّاش. ولكن التّقوى والسنّة والتديّن هو في حفظ العهد وأداء الأمانة واحترام الآخر، وطلب العلم وبرّ الوالدين والإحسان للجار وغير ذلك، ممّا أسّسه الإسلام في المجتمعات الإسلاميّة. لكنّهم بدأوا يميلون عن ذلك إلى قشور شكليّة من الدّين لا علاقة لها بحقيقته، ليصبح بذلك مجرد مظاهر ساذجة من مثل: إطالة اللّحية، أو حفّ الشّوارب، أو لبس الطويل، أو تعدّد الزوجات، أو وضع النّقاب، أو غير ذلك - وإن كان كلّ ذلك من الدّين - ولكنّ الإسلام أعمق وأوسع وأهمّ وأنفع من مجرّد ذلك. فالإسلام حلّ وليس مشكلا. هذا ما يجب أن يعيه الشّاب المسلم اليوم، وهذا ما يجب أن يعيه المسلم عامّة، وهذا ما يجب أن نتمثّله في واقعنا ونتعلّمه في مدارسنا وندوّنه في كتبنا، الإسلام حلّ وليس مشكلا، كما يحاول أن يوهمنا كثير من النّاس. ولكنّه حلّ يجب فهمه جيّدا، والنفاذ إلى روحه وحقيقته حتّى نستطيع أن نطبّقه.

المطلب الثاني: البحث في عقلية الشّاب واهتماماته بما يمكننا من آليات التأثير الإيجابي عليه

ثمّ إنّ هذه المراجعة المفهوميّة لنظرة الشّاب المسلم للإسلام غير كافية لرتق الفتق وإصلاح الوضع، وإنّما هي في حاجة أيضا للبحث في عقلية الشابّ واهتماماته، عمّا يمكّننا من إنتاج خطاب دينيّ قادر على التأثير فيه التأثير الإيجابيّ المطلوب. فالشّاب المسلم عاطفيّ انفعاليّ، ولكنّه أيضا عقلانيّ منطقيّ، وهو قادر على تقييم الخطاب الموجّه إليه تقييما عميقا ودقيقا، حيث يتّخذ قرارًا في تبنّيه أو رفضه، لذلك يجب أن يكون الخطاب الموجّه إليه هو أيضا على جانب كبير من العمق والمصداقيّة، حتى يمكن أن يجد لديه أذنا صاغية، مثال ذلك: إذا كان الشّاب اليوم ميّالا إلى الخطاب القصير والمباشر، فلا بدّ أن يكون خطابنا الدّينيّ واضحا ومباشرا ودقيقا وسريعا ومؤثّرًا. إذا كان الشّاب اليوم يميل إلى الأغاني والأنغام، فلا بدّ لخطابنا الدّيني أن يكون شاعريّا مبدعا يلامس العواطف والعقول في وقت واحد. إذا كان الشّاب اليوم كثير الاهتمام بشبكات التواصل الاجتماعي، فلا بدّ لخطابنا الدّيني ألاّ يقتصر على المنابر والدروس المسجديّة وبعض البرامج التلفزيّة أيّام الجمعة والأعياد الدينيّة، وإنّما يجب أن يلج العوالم الرقميّة ويقدّم للشّاب ما هو في حاجة إليه من الأجوبة عن تساؤلاته المختلفة والمتنوّعة. باختصار، لا بدّ أن نذهب إلى الشّاب حيث هو، وليس أن نظلّ في انتظار أن يأتينا، لأنّه لن يأتي، فهواه تحرّريّ إلحاديّ، أو تأصيليّ سلفيّ، وأمّا أن يكون معتدلا، فليس له من الحكمة ما يكفي لذلك، فهو شابّ.

المطلب الثالث: خصائص الانفتاح والتجديد في الإسلام ومسايرته للعصر والمجتمع (البعد المقاصدي في الإسلام)

كما أنّه من واجب المفكّر الحضاري اليوم، ومن واجب المشتغل على هذه المسألة مسألة التصدّي لهذا الفكر المتشدّد والمتطرّف دينيّا، أن يسعى إلى إبراز خصائص الإسلام، وإظهار معاني الانفتاح والاعتدال والسّماحة فيه، والتركيز على قدرة الإسلام على مسايرة الواقع الحضاري بكل متغيّراته وتعقيداته، وأنّ الإسلام لا يعتبر مشكلا، وإنّما هو حلّ لمشاكل الواقع بشرط فهمه وتمثل روحه ومبادئه العميقة. فالابتعاد عن الإسلام ومعاداته لا يقلّص من انتشار ظاهرة التطرّف الدّيني والإرهاب، وإنّما الذي يقلّص منها هو مزيد الاقتراب من الإسلام وتمثّله في الواقع، ولكن بصورة وفهم وتطبيق يلامس حقيقته وروحه. خاصّة أنّ الإسلام قد جعل لنفسه عددا كبيرا من الآليات التي يستطيع بها أن يضمن مسايرة التطوّر الحضاري واعتبار المتغيرات العديدة التي تظهر خلال الصّيرورة الزمنيّة التاريخية، منها خاصّة باب الاجتهاد في الفقه الإسلامي الذي يدعو إلى استنباط أحكام جديدة وفتاوى تترافق مع ظهور مسائل جديدة في الواقع والمجتمع، ومنه فقه الواقع، وفقه الاختلاف، وفقه المعاصرة، وغيرها، ثمّ إنّ من أهمّ الأدلّة التي يعتمدها المجتهد في ذلك علم المقاصد الشرعيّة، هذا العلم الذي يبرز أنّ الدين كلّه لم يأت إلاّ لتحقيق سعادة الإنسان في الدّارين، لذلك جعل الأصوليّون حقّ العبد مقدّم على حقّ الله، وجعلوا المقاصد الشرعية كلّها تقوم على الكلّيّات الخمس، وهي: حفظ الدّين، وحفظ النفس، وحفظ العقل، وحفظ النسل، وحفظ المال. فبدا واضحا أنّ الاعتبار الأهمّ في الإسلام هو لمتطلبات واحتياجات الإنسان في الدّنيا والدّين، ولأنّ الله تبارك وتعالى أعرف بمصلحة العبد جعل له هذا الدّين شريعة تحقّق له هذه السّعادة في الدّنيا ويجازى عنها ثواب الآخرة.

ولربّما من أبرز التجارب التي عرفتها الحضارة العربية الإسلامية، وأكثرها قدرة على التصدّي لظاهرة التطرّف ووقاية المجتمع عامّة والشباب خاصّة من مخاطر التشدّد الدّيني، هي التجربة الصّوفيّة. هذه التجربة التي تقوم على رؤية جدّ مخصوصة تجمع بين عمق الفهم لمبادئ الإسلام، ذلك أنّ أذواق أصحابها تعوم في مقام الإحسان أعلى مقامات الدّين، وبين قبول الاختلاف والانفتاح على الآخر؛ ذلك أنّهم يرون أنّ كلّ الأمّة على خير، لقوله تعالى: "كنتم خير أمّة أخرجت للناس، تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله"[13]، فالخيريّة أصل في كلّ الأمّة، رغم اختلافهم وتباين أفكارهم وتوجّهاتهم، وحتّى غير المسلم فهو معتنى به لمقام الإنسانيّة، وحتّى الحيوان فهو معتنى به لمقام المخلوقيّة، وغير ذلك من الدوائر التي تجمعهم مع غيرهم، فلا يسعَوْن إلى الفرقة والتباين والاختلاف، ولا يقبلون بها. فنلاحظ على مستوى الواقع شدّة معاداة هذا الفكر المتطرّف للصّوفية وسعيهم لتبديعهم والإنكار عليهم وتشويه صورتهم لدى النّاس وكثرة التحامل عليهم بالأقوال والأفعال، لماذا؟ لأنّ المتصوّفة هم أكثر الفئات قدرة على إبطال دعواهم وردّ حججهم، لأنّهم لا يرون الإسلام مجموعة من الأعمال والأقوال والممارسات والهيئات، وإنّما يرونه روحا وفهوما وأذواقا وتسامحا ومحبّة وتآلفا وتسليما وإيثارا وإحسانا وبرّا واجتماعا وتوحيدا وتطهيرا وتزكية وترقيات وصفاء وصلاحا، وغير ذلك ممّا يناقض مبادئ هذا الفكر القائم على الدّعاوى الباطلة أنّهم فقط من يملك الحقيقة، وأنهم الوحيدون الذين يفهمون حقيقة الإسلام والقادرون على تطبيق الشّرع وإنقاذ الأمّة ممّا هي فيه.

وعليه، فلو تأمّلنا جيّدا في حقيقة الفكر الصّوفي والرؤية التي يحتكم إليها، بعيدا عن الممارسات الرّعناء التي لا تمتّ لهذا الفكر بصلة من قريب ولا من بعيد، لاستطعنا أن نرى نموذجا راقيًا ومنهجًا واضحًا قادرًا على تقديم عدد كبير من الحلول الحقيقيّة والعمليّة للتصدّي لهذه الظاهرة السّرطانية والدّاء العضال ظاهرة التطرّف الدّيني والإرهاب، ولكنّا تمكنّا أن نقِيَ أبناءنا من خطر التأثر بهذا الفكر الإقصائي الدّخيل علينا، والذي يقدّم لنا السمّ في الدّسم، كما يقال.

في الختام، فإنّنا نشدّ على أيدي الجميع من أجل المساهمة في ردّ هذا الدّخيل الأجنبي علينا، وهذا الفكر التكفيري الغاصب الذي يسعى إلى البروز بتحقيق التفرقة وزرع بذور الشك في مسلماتنا الدينيّة والأخلاقية، ويحاول جاهدا أن يطمس هويّتنا وخصوصيّتنا، ليقدّم لنا جملة من الأفكار، ما أتى الله بها من سلطان، أفكار تقوم على التشدّد والتطرّف والدّوغمائيّة، وتنكر الواقع الموضوعي، لتفرض علينا واقعًا مسْقَطًا لا يمكن أن يتلاءم مع مجتمعاتنا، وتقدّم لنا فهومًا عن الإسلام تراعي الشكل دون المضمون وتميل للظاهر المعزول عن سياقه النصّي على حساب المعنى والدلالة المفهوميّة العميقة والتأويل. هذا توجه ننكره ونرفضه ونتصدّى له.

 

المراجع:

1. كتاب: السلفية الجهادية في تونس الواقع والمآلات، مجموعة دراسات تمّ نشرها من طرف المعهد التونسي للدراسات الاستراتيجية بتاريخ 2014، مراجعة وتحرير د. محمد الحاج سالم

2. الثابت والمتحول في مسيرة التيار السلفي الجهادي في تونس. تأليف د. طارق الكحلاوي

3. دراسة من أجل مقاربة نفسية اجتماعية للظاهرة السلفية في تونس. تأليف الدكتور محمد الحاج سالم.

4. دراسة ميدانية للظاهرة السلفية في حي شعبي، معتز الفطناسي

5. كتاب تجديد الخطاب الديني في ضوء الواقع المعاصر. تأليف محمد منير حجاب. القاهرة. دار الفجر للنشر والتوزيع 2004

6. أقنعة الإرهاب: البحث عن علمانية جديدة. الدكتور غالي شكري. صدر عام 1990

7. ظاهرة التطرف: الأسباب والعلاج. المحامي منتصر الزيات. من موقع الكاتب نفسه: http://www.alzayat.com

8. ويكيبيديا. الموسوعة الحرة

مقالات:

- التهميش مدخلا لتفكيك ظاهرة الإرهاب. الدكتور سامي براهم

- التطرف الديني ومظاهره الفكرية والسلوكية. محمد ياسر الخواجة. نشرت المقالة ضمن منشورات مؤسسة: مؤمنون بلا حدود للدراسات والأبحاث. قسم الدين وقضايا المجتمع الراهنة. بتاريخ 18 فبراير (شباط) 2015

- التطرف الديني لبعض الشباب. بحث مقتطف من رسالة ماجستير للباحث: كمال بن مختار بن إسماعيل محمد. نشر بالمنتدى العربي. بتاريخ 20 مارس(آذار) 2014


 

[1] نشر هذا المقال في مجلة ذوات الصادرة عن مؤسسة مؤمنون بلا حدود، عدد 51

[2] صحيح البخاري ج3/ص 1321: {عن سويد بن غفلة قال: قال عليّ رضي الله عنه: إذا حدّثتكم عن رسول الله صلى الله عليه وسلّم فلأن أخرّ من السّماء أحبّ إليّ من أن أكذب عليه، وإذا حدّثتكم فيما بيني وبينكم، فإنّ الحرب خدعة. سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلّم يقول: أُتِي في آخر الزمان قوم حدثاء الأسنان سفهاء الأحلام يقولون من خير قول البريّة يمرقون من الإسلام كما يمرق السهم من الرميّة، لا يُجاوِزُ إيمانُهُم حناجرهم، فأينما لقيتموهم فاقتلوهم فإنّ في قتلهم أجرا لمن قتلهم يوم القيامة}.

[3] التطرف الديني ومظاهره الفكرية والسلوكية. محمد ياسر الخواجة. (نشرت المقالة ضمن منشورات مؤسسة: مؤمنون بلا حدود للدراسات والأبحاث، قسم الدين وقضايا المجتمع الراهنة. بتاريخ 18 فبراير 2015) ص ص 19/20

[4] [تتوافق المعاينة الميدانيّة المباشرة للظّاهرة المدروسة مع ما أقرّته مباحث علم اجتماع الظّاهرة الدينيّة من تصنيف للمؤثّرات والمعطيات التي تساهم في تشكّل الظّواهر الدّينيّة وذلك من خلال قاعدة منهجيّة صاغها عالم الاجتماع الدّيني روبارت ميرتون في بحوثه عن "البنية الاجتماعية بين الانتظام والانحراف (Robert Merton structure sociale anomie et déviance)، حيث يقسّم العوامل المحدّدة في الظّاهرة السوسيولوجيّة إلى قسمين: قسم الانتماء المتعلّق بالانتماء الطبقي والجهوي والعائلي ... وقسم المرجعيّة المتعلّق بالخلفيات الثقافيّة والمعرفيّة، ويعتبر أنّ القسم الثاني محدّد في تشكّل الظّاهرة الدّينيّة سوسيولوجيّا، لذلك نميّز بين العوامل الاجتماعيّة والنفسيّة والاقتصاديّة من جهة، وبين العامل المرجعي (Référentiel) المتعلّق بكلّ ما هو مضمون فكري معرفي عقائدي من جهة أخرى، وفي كلا المستويين هناك استراتيجيات للاستقطاب والجذب الآسر ما قبل الالتحاق بالدّولة]

مقتطف من دراسة قام بها الدكتور سامي براهم بعنوان: التهميش مدخلا لتفكيك ظاهرة الإرهاب ص 8

[5] صحيح مسلم: كتاب الإيمان. حديث رقم 73: (حديث مرفوع) حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة، حدّثنا وكيع، عن سفيان. ح وحدثنا محمد بن المثنى، حدّثنا محمد بن جعفر، حدّثنا شعبة – كلاهما – عن قيس بن مسلم، عن طارق بن شهاب، وهذا حديث أبي بكر، قال: أوّل من بدأ بالخطبة يوم العيد قبل الصّلاة، مروان، فقام إليه رجل، فقال: الصّلاة قبل الخطبة، فقال: قد تُرِك ما هنالك، فقال أبو سعيد: أمّا هذا فقد قضى ما عليه، سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول: "من رأى منكم منكرا فليغيّره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان".

[6] نفس المرجع. بحث: من أجل مقاربة نفسية اجتماعية للظاهرة السلفية في تونس. د. محمد الحاج سالم صص 138/139

[7] نفس المرجع. بحث: من أجل مقاربة نفسية اجتماعية للظاهرة السلفية في تونس. محمد الحاج سالم 139/140

[8] نفس المرجع. بحث: السلفية الجهادية في تونس بعد الثورة وفشل تجربة الانتظام. سامي براهم

[9] ابن منظور، جمال الدين محمد بن مكرم، لسان العرب، بيروت، دار صادر، د.ت، ج3/111-112، مجمع اللغة العربية، المعجم الوسيط، د.م، دار عمران، ط3، 1985م، ج1/114

[10] سورة الإسراء الآية 49

[11] دراسة بعنوان: التهميش مدخلا لتفكيك ظاهرة الإرهاب. الدكتور سامي براهم

[12] سورة البقرة الآية 85

[13] سورة آل عمران الآية 110