إشكاليَّة اللغة ودورها في بناء رؤية علميَّة للعالم


فئة :  مقالات

إشكاليَّة اللغة ودورها في بناء رؤية علميَّة للعالم

تُعتبر اللغة الوسيلة التي لا غنى عنها في علاقتنا بجميع الكائنات الحيَّة منها والجامدة، ممَّا يجعلها تتخذ طابع الضرورة في حياة وواقع الإنسان، إلى درجة أنَّه لا يمكن أن نتساءل أو نرغب خارج اللغة، أي أنَّها قبل التعريف تمتلك حرمة وجب الأخذ بها حتى لا نسقط في اللغو واللَّا معنى ...، والذي جعل من اللغة إشكالاً فلسفياً ضخماً ممتداً وأزلياً كونها تشكل النسيج العلائقي بين الإنسان والواقع، وبذلك فهي ضرورة لا خيار فيها، خصوصاً عندما يرتبط الأمر بترجمة مكونات العالم إلى لغة، فلا فكر ولا معرفة بدون لغة، ممَّا يجعلها تؤطر هذا الكون إلى أبعد حد، وهذا ما يدلُّ على وجود قواعد وأسس تحتكم إليها، إذا ما خرجنا عنها أو أسأنا توظيفها في تعبيرنا عن الواقع كان كلامنا لا معنى له. فإذا كانت اللغة عند ابن جني "هي ما يعبّر بها كلُّ قوم عن مقاصدهم وأغراضهم"[1]، فإنَّ هذا التعبير قد يشوبه الغموض والإبهام في غالب الأحيان، ولعلَّ هذا ما سعى إلى توضيحه الفيلسوف النمساوي لودفيج فتغنشتاين L.Wittgenstein الذي ربط تحليل اللغة بتحليل مكونات العالم، أي أنَّها في غياب الشيء تكون صاحبة الحاجة، بمعنى تظلُّ ناقصة لا مدلول لها ولا معنى، لذلك ابتكر منهج التحليل المنطقي قصد إزالة كلّ إبهام أو غموض قد يصيب اللغة التي نعبّر بها في الفكر الفلسفي عن إشكالاتنا، سواء تلك التي تتعلق بما هو معطى أو بما هو ممكن. فما دور اللغة في الكيفيَّة التي نتمثل بها العالم؟ وهل التحليل المنطقي كمنهج شرط كافٍ لضمان ناصية المعنى؟

لقد أخذ فتغنشتاين من اللغة موضوعاً للدراسة، ومن التحليل المنطقي منهجاً لها، ليجعل مهمَّة الفلسفة تنحصر في التوضيح المنطقي للأفكار بغية معرفة الحدود التي يجب أن تستخدم فيها لغة الفيلسوف بطريقة ذات معنى، وبالتالي إقصاء ما لا معنى له من سياق الفكر الفلسفي، إذ يمكن القول إنَّه كان يهدف إلى جعل الفلسفة علميَّة، ترتكز على المشاكل القابلة للحل بدل الخوض في استشكالات لا أمل في حلها، ومن ثمَّة ركَّز على المعنى من خلال العلاقة بين اللغة والعالم، وبذلك فتحليل اللغة بهذه الطريقة ارتبط ارتباطاً وثيقاً بتحليل العالم، وبالكيفيَّة التي نتمثل بها الواقع الخارجي، بما أنَّها الصياغة اللفظيَّة أو الجهاز الرمزي الذي نعبّر به عن أفكارنا في ارتباطها بالواقع، إذ عن طريق اللغة يحاول الإنسان تذويب مكوّنات العالم الخارجي في نسق من الأفكار والقضايا التي يتوقف صدقها أو كذبها على مدى مطابقتها للواقع.

إنَّ أيَّة محاولة لإقامة حدٍّ للتعبير عن الأفكار التي لا معنى لها، لن تتأتى إلا انطلاقاً من التمييز بين العبارات ذات المعنى، والعبارات التي لا معنى لها(*)، وهذا ما يشير إليه فتغنشتاين في قوله: "إنَّ معظم القضايا والأسئلة التي كتبت عن أمور فلسفيَّة ليست كاذبة، بل خالية من المعنى، فلسنا نستطيع أن نجيب عن أسئلة من هذا القبيل، وكلُّ ما يسعنا هو أن نقرّر عنها أنَّها خالية من المعنى"[2]، ومفاد ذلك أنَّ سوء فهم منطق اللغة هو الذي أدَّى إلى ظهور العديد من المشاكل الفلسفيَّة، وبالتالي لكي نستخدم اللغة استخداماً صحيحاً علينا التخلص من القضايا الفارغة من المعنى، تلك القضايا التي جرَّدها فتغنشتاين من العلميَّة بدعوى فقدانها للمعنى، إذ هناك تطابق بين العلم والمعنى، وحيث لا علم لا معنى.

إنَّ فتغنشتاين، وهو يخوض غمار البحث في غياهب اللغة، انتقل من ثنائيَّة اسم/ وجود، إلى ثنائيَّة اسم/معنى. فإذا كان أفلاطون من خلال محاورة "كراتيليوس" حاول وضع نظريَّة للبحث في صواب الأسماء والألفاظ وذلك من خلال البحث في مدى ملائمة الاسم لطبيعة المسمَّى، فاعتبر أنَّ الاسم يحاكي طبيعة المُسمَّى من خلال إعطاء الصورة الحقيقيَّة والصحيحة للشيء الذي يسميه، فإنَّ فتغنشتاين كما أسلفنا الذكر قد تجاوز هذه الثنائيَّة إلى البحث في المعنى من خلال علاقة اللغة بالواقع؛ فاعتبر أنَّ معنى الاسم مرتبط بالقضية "إنَّ معنى لفظة ما، هو استعمالها في اللغة"[3]، أي أنَّ الاسم لا معنى له إلا وهو في سياق قضوي، لكن له إحالة بوصفه يشير إلى الشيء الموجود في العالم الخارجي، "ليس لشيء معنى إلا القضيَّة، فلا يكون لاسم معناه إلا وهو في سياق قضيَّة ما"[4]، وكأنَّ الأسماء والألفاظ لها مدلول خارجي، بينما لا معنى لها رغم إحالتها على شيء ما، وهذا ما يدلُّ على وجود فرق بين المعنى والمدلول، فالمُسمَّى يكون مدلول الاسم وليس معناه، أمَّا معنى الأسماء فيتحدَّد من خلال توظيفها في اللغة، أي وفقاً لطريقة استخدامنا للفظ في السياق، فمثلاً في القضية "الأحمر أحمر" حيث تتخذ الكلمة الأولى اسم علم، والكلمة الثانية صفة، فهنا يكون للكلمتين معنيان مختلفان، وهو ما نجده كذلك عند غوتلوب فريجه Gottlob Frege من خلال مثال "نجمة الصباح ونجمة المساء"، إذ كلاهما يشيران إلى كوكب الزهرة، أي لهما الإحالة نفسها لكنَّ المعنى مختلف.

إنَّ ما أشرنا إليه هو ما يسميه فتغنشتاين بالخلط بين الصورة المنطقيَّة الظاهرة للقضايا، وبين صورتها الحقيقيَّة، فغالباً ما يحدث في الحياة اليوميَّة أن نجد الكلمة الواحدة يكون لها مدلولان مختلفان كما هو الأمر في المثال الأول، أو نجد كلمتين لكلٍّ منهما معنى مختلف عن الأخرى ومع ذلك تستخدمان للإشارة إلى مسمَّى واحد، كما هو الشأن في مثال "نجمة الصباح" و"نجمة المساء"، هذا بالإضافة إلى كون أنَّ القضايا التي لا معنى لها أو الفارغة من المعنى، إن صحَّ التعبير، تكون نتاج عدم التفرقة أو التمييز بين التصور الكلّي، وبين تصوراتنا عن الأعلام، وبتعبير أدق من المفترض التمييز بين الحد المفرد والحد العام، إذ منطقياً يفترض في الحد المفرد أن يسمي شيئاً واحداً، مثل قولنا "سقراط حكيم"، أمَّا الحدُّ العام فيسمّي مجموعة من الأشياء التي تشترك في خاصيَّة معينة أو مجموعة من الخصائص مثل قولنا "الإنسان حكيم". أي أنَّ الحد العام تعبير عن كلّ الأفراد التي تشترك في الخصائص نفسها، في حين أنَّ الحد المفرد تعبير يقابل موضوعاً مفرداً ويسمّيه.

هكذا جعل فتغنشتاين المعنى مرتبطاً بطريقة استعمالنا للكلمة في سياق قضوي، على اعتبار أنَّ اللغة هي مجموع القضايا، وأنَّ الفكر هو قضية ذات معنى، بينما اعتبر العالم هو مجموع الوقائع، والواقعة تتكون من وقائع ذريَّة، وأنَّ هذه الأخيرة تتكوَّن من أشياء.

إنَّ الواقعة تتكوَّن من واقعتين ذريتين أو أكثر مثل: "الحاسوب فوق الطاولة، والقلم بجانبه". فهاته القضيَّة تتكون من واقعتين ذرّيتين؛ الأولى هي: الحاسوب فوق الطاولة، والواقعة الذريَّة الثانية هي: القلم بجانبه. فالحاسوب والطاولة لهما ما يشيران إليه في الواقع الخارجي، أي لهما مسمَّى، في حين أنَّ "فوق" و"بجانبه" ليس لهما مسمَّى أو ما يشيران إليه (إحالة)، وبمعنى آخر لا مدلول لهما، لكن رغم ذلك اتخذت كلُّ هاته الألفاظ معنى في طريقة استخدامنا لها، وفي هذا السياق تقول "ياسمينة غضبان": "من شروط المعنى احتواء الخطاب على تماسك داخلي بحيث يجعله قابلاً للفهم، وبالتالي قابلاً للإثبات أو النفي".[5]

هكذا أقام فتغنشتاين نوعاً من التناظر بين بنية اللغة وبنية العالم، من أجل بلورة رؤية علميَّة للعالم، وهو في هذا السياق يقول: "إنَّ ما يمكن قوله على الإطلاق يمكن قوله بوضوح، وأمَّا ما لا نستطيع أن نتحدث عنه، فلا بدَّ أن نصمت عنه".[6] فإذا كان الاهتمام بما يحيط بنا يتمُّ بواسطة اللغة، فإنَّ دراسة اللغة كتعبير عن الواقع بكلّ امتداداته وبكلّ ثرائه، كما ذهب إلى ذلك فتغنشتاين، أبانت عن مدى اللبس والإبهام الذي يكتنف طبيعة التصوُّر الذي كوَّناه عن العالم، لذلك من المفترض إعادة النظر في اللغة بشكل منطقي خالص، فاللغة بتعبير باركلي "هي سبب عدد لا يحصى من الأخطاء والصعوبات في كلّ أقسام المعرفة تقريباً"، إلى الحد الذي يمكن معه القول إنَّ اللغة في غياب المعنى تتخذ شكل عائق أمام كلّ محاولة لبناء رؤية علميَّة للعالم.

 

لائحة المراجع والمصادر

ابن منظور الإفريقي المصري، لسان العرب، المجلد الخامس عشر، دار صادر،بيروت.غضبان ياسمينة، المنطق واللَّا معنى عند فتغنشتاين، مجلة آيس ـ فضاء الحريَّة والعقل/ السداسي الأول 2011.فتغنشتاين لودفيج، تحقيقات فلسفيَّة، ترجمة وتقديم عبد الرزاق بنور، المنظمة العربيَّة للترجمة، بيروت، لبنان، الطبعة الأولى، أبريل 2007. الفقرة رقم 27، ص140.فتغنشتاين لودفيج، رسالة منطقيَّة فلسفيَّة، ترجمة عزمي إسلام، مراجعة وتقديم زكي نجيب محمود، مكتبة الأنجلو-المصريَّة للطبع والنشر 1968.يمنى طريف الخولي، فلسفة العلم في القرن العشرين، الأصول ـ الحصاد - الآفاق المستقبليَّة، الهيئة المصريَّة العامة للكتاب 2009.


[1] ابن منظور الإفريقي المصري، لسان العرب، المجلد الخامس عشر، دار صادر، بيروت، ص 251

* العبارات ذات معنى meaningful وهي إمَّا العبارات التحليليَّة، أي قضايا العلوم الصوريَّة (المنطق والرياضات) وإمَّا القضايا التركيبَّة التجريبيَّة (قضايا العلوم الطبيعيَّة الإخباريَّة)، واصطلاح ذات معنى أفضل من اصطلاح لها معنى، لأنَّ الأول يظهر أنَّ المعنى ليس شيئاً يضاف إلى العبارات، بل صفة تتحد بطبيعة العبارة نفسها. أمَّا العبارات الخالية من المعنى meaningless فهي كلُّ ما يخرج عن النوعين السابقين، وخصوصاً قضايا الميتافيزيقا. (يمنى طريف الخولي، فلسفة العلم في القرن العشرين، الأصول -الحصاد- الآفاق المستقبليَّة، الهيئة المصريَّة العامَّة للكتاب 2009، ص 319).

[2] فتغنشتاين لودفيج، رسالة منطقيَّة فلسفيَّة، ترجمة عزمي إسلام، مراجعة وتقديم زكي نجيب محمود، مكتبة الأنجلو-المصريَّة للطبع والنشر 1968العبارة رقم 003، 4، ص 83.3

[3] فتغنشتاين لودفيج، تحقيقات فلسفيَّة، ترجمة وتقديم عبد الرزاق بنور، المنظمة العربيَّة للترجمة، بيروت، لبنان، الطبعة الأولى، أبريل 2007. الفقرة رقم 27، ص 140

[4] فتغنشتاين لودفيج، رسالة منطقيَّة فلسفيَّة، ترجمة عزمي إسلام، مرجع سابق، العبارة رقم 3، 3. ص 75

[5] غضبان ياسمينة، المنطق واللَّامعنى عند فتغنشتاين، مجلة آيس ـ فضاء الحريَّة والعقل/ السداسي الأول 2011، ص 60

[6] فتغنشتاين لودفيج، رسالة منطقيَّة فلسفيَّة، ترجمة عزمي إسلام، مرجع سابق، ص 59