برهانية الفلسفة فصول نظرية ونقدية في القول بالفلسفة المطلقة

فئة :  أبحاث محكمة

برهانية الفلسفة فصول نظرية ونقدية في القول بالفلسفة المطلقة

هانية الفلسفة

فصول نظرية ونقدية في القول بالفلسفة المطلقة

ملخص:

عندما نريد عادة تمييز الفلسفة عن باقي الصناعات وأشكال المعرفة الأخرى، فإننا نلجأ إلى الحد الفاصل الذي يعرفها بأنها خطاب استدلالي وعقلي وبرهاني، ينتفي مع الخطاب الجدلي الرجحاني، وراج هذا التعريف بداية مع التقاء الفلسفة بالمنطق في الفكر اليوناني مع أرسطو بالخصوص، ووجد مقاومة من السوفسطائيين، ودرج اعتماده بشكل أكبر مع اتصال الفلسفة بالدين في الفكر المسيحي والإسلامي، وانتفع منه الدين؛ إذ متح من الفلسفة قوتها المنطقية ونهل أساليبها البرهانية، فأصبح بدوره برهانيًّا، لكنه وجد مقاومة من بعض الفلاسفة والمذاهب، كأوغستين في الفلسفة المسيحية، والغزالي في الفلسفة الإسلامية، بينما تكرس بشكل كبير مع ابن رشد، ما أدى إلى بروز آفة التقديس، إضافة إلى أن كون الدين برهانيا أدى إلى آفة التدليس على اعتبار أن برهانيته وظفت لغايات أيديولوجية، وهذا ما سنتبنه في هذا المقال منطلقين من أسئلة بريئة تهدف إلى فحص الآفات الناجمة من الإقرار ببرهانية الفلسفة التي لا تتوقف إلا حينما تبلغ الحقيقة، والتي تتعارض مع رجحانية الفلسفة، حيث تنتفي الحقيقة ويكون هدف الفلسفة هو البحث عن الحقيقة لا تحصيلها.

مقدمة:

ارتبطت الفلسفة أشد الارتباط في بدايتها باللوغوس الذي يرتكز أساسا على الاستدلال والبرهان العقلي المحتكم إلى النظام والتناسق ما أمكن لجعله يقينيا لا يقبل أن تتسرب إليه زمانة الشك والارتياب، ولا أن يتسلل إليه بلاء التخمين والالتباس، فهو يفترض فيها أن يكون جليًّا جلاء لا تعتريه ضبابية ولا يكتنفه تعتيم، حيث يصل من البداهة والتميز والوضوح درجة لا تسمح أبدا بنوازع الشك أن تزعزعه، بل إن الشك في البرهان العقلي القطعي يغدو ضربا من ضروب الجنون والخبل؛ لأنه ينبني على تمشي عقلي نستدل به على صدق حكم أو قضية، لذلك وصف بالبرهان الانتقالي؛ لأنه يجسر الصلة بين قضايا يقينية مترابطة ومنتظمة ومتسقة، ليخلص من خلالها إلى صدق قضية نتيجة، فإذا كانت القضايا التي بوأناها مكانة الانطلاق يقينية، فمن ذا الذي سيدحض شكًّا يقينية القضية التي استخرجناها مما سبق من القضايا؟! اللهم إذا كانت القضايا التي انطلقنا منها ظنية، فإننا حينذاك لا نرجو التيقين بقدر ما نبتغي التخمين؛ لأنه أنسب للظن منه إلى اليقين، ومعلوم أن الفلسفة كانت تنافح ضد أهواء الظن وولوع الرأي والدوغسا؛ لأنها تراهما عائقين يجب استئصالهما أيما استئصال، وإلا سيستبدان بالفكر ويقبران الحقيقة وينسفان بقدرة العقل على الإتيان بالبرهان القطعي والاستدلال اليقيني، بل إن اعتناق الفلسفة لخطاب اللوغوس قد نجم عنه انعتاق من خطاب "الميتوس" مع الإعلان عن قطيعة جذرية معه، على اعتبار أنه لا يستند في قوله على برهان عقلي، ولا على دليل واقعي يزكي بها طروحاته ومضامينه، ولا هو يستهويه النظام والتناسق ليستمرئ به على الأقل نتائجه ومسلماته، فجاز لنا أن ندرج القول الديني والأدبي والشعري ضمن خطاب "الميتوس" ومثال ذلك ثيوغونيا هيزيود وملاحم هوميروس الشعرية وأساطير أورفيوس، ونضيف إليه أيضا جلّ المنظومات التي تعمد إلى استعمال اللغة الطبيعية، لكي تحقق شرعية إقامة الحقيقة والتنصيص عليها لنفسها، فالدين يقيم حقيقته على أساس مفارق، لكن هذه المفارقة لا تساوق ذاتها في إطار الواقع الذي يقتضي التعبير عنه بلغة طبيعية تتلاءم مع مظاهره وظواهره.

والحق أن هروب الفلسفة القديمة من الواقع إلى المثال قد كرس لتصور ساد سواده بين الفلاسفة، هو أن الواقع يعج بمظاهر التشتت والفوضى، ولا ينبغي أن نثق فيه؛ لأنه مصدر لكل الأوهام والتخيلات التي تجثم على عقولنا وتمنعها من الاستنارة والاستبانة، وترهص قدرتها الفائقة على الصعود والتجرد من التعدد المتفشي في الواقع إلى المثال، حيث الوحدة والنظام، وهذا التصور - إذا شئنا أن نقول بشيء من المغالاة في التعبير – قد أغرى الفلاسفة وخلق لديهم نوعا من الهوس والولع بالحقيقة، فدأبوا على البحث عنها بكل ما أوتوا من قوى عقلية وتأملية، فكان بحثهم أشبه ببحث الأنبياء عن الله بصفته مطلقا.

إن طاليس كان أول فيلسوف بالنسبة إلى فرديريك نيتشه؛ لأنه أحدث نقلة نوعية في الفكر البشري من فكر يحتذي حذو الميتوس إلى فكر يقتفي أثر اللوغوس؛ وذلك بعدما أرجع "الكل إلى الواحد"، وهي الفكرة التي رسمت معالم معظم الأنساق الفلسفية التي أعقبت الفلسفة الطبيعية القديمة[1]، حتى تقرر بأن الفلسفة إذا ما سلكت في الإتيان بالدليل العقلي مسلكا، فإنها تنتعش وتزدهر، وإذا ما انصرفت عن البرهان والتدليل، فإنها تنزع نزوع العمياء إلى المهانة والتذليل، فتفقد ألقها التأملي ويخفت نورها العقلي وتتزحزح عن مكانها الأصلي، المكان الذي يجعلها في مأمن عن مأثم قمين بأن يفسد مصداقيتها ويحلحل وثاقها، المكان الذي خص الفلسفة بخاصية الخاصة؛ أي إنها لا يمكنها أن تكون متاحة ومستساغة لدى عامة الناس؛ لأن كونها كذلك يعني إنزالها إلى مرتبة لا تليق بها، مرتبة تدنو بيها إلى أسفل السافلين، حيث تقبع البلاهة والبلادة والغباوة والقيل والقال، وتشييع ما لا يستحق من الأفكار الفاسدة والتصورات الزائغة والآراء الضالة التي لا تنبع من منبع عقلي، بل تتفجر هناك، حيث تستطيب النفوس ما اشتهتها من الآراء وما استلذته من الأفكار، والتي تعدو مستلذة ومستساغة لمجرد أنها بسيطة، والإنسان بطبعه يميل إلى البساطة ويتنكب من التعقيد، فما كان من الفلاسفة منذ اليونان إلا أن يسحبوا بساط الفلسفة من تحت أقدام الغوغاء والدهماء، بذريعة أن العقول لا تتساوى ولا تتشاكل؛ بمعنى أن عقل الفيلسوف إذ هو قادر على استنباط الحقائق بالتأمل المجرد باستخدام عقله يختلف جذريًّا عن عقل الإنسان العادي الذي لا يضني نفسه مشقة البحث عن الحقيقة، ويكتفي فقط بما راج من الآراء، ويتشبع بما يغصّ به المجتمع من القناعات، حتى إذا ما حصل وتقابل يوما ما مع الحقيقة، فإنه ينظر إليها شزرًا واحتقارًا، ودليلنا على ذلك هو نفور السوفسطائيين من النتائج التي كانوا يخلصون إليها إزاء تحاورهم مع سقراط الذي كان يعتمد على منهج استنباطي وبرهاني وتوليدي واستنتاجي، ولأن أفلاطون تتلمذ على يد سقراط، فقد كان من الطبيعي أن ينحاز له ويدافع عنه ضد مناوئيه من السوفسطائيين؛ إذ كنّ لهم البغض والكراهية، واضطغن من توجهاتهم وأفكارهم ومقت شخصياتهم وصفاتهم، وامتعض من زيف أقوالهم وباطل أعمالهم، وقد تبدى ذلك بشكل جليّ في معظم المحاورات التي نصب فيها أفلاطون السوفسطائيين كأعداء للفلسفة؛ لأنهم يعلّمون الناس الخداع والمناورة والتحايل عن طريق تمهيرهم في الحجاج والخطابة بالسير في سبل الإقناع بالإمتاع واللعب على الأوثار الحساسة عند الناس بالخداع الذي يجافي الحقيقة المبلغة بالبرهان والاستدلال، بل وأكثر من ذلك كانوا يعلّمونهم الباطل ويتقاضون أجرًا عليه، وهذا بحد ذاته يعدّ إثما لا يغتفر بالنسبة إلى أفلاطون، فالحقيقة لا تشترى ولا تباع، لكن الوهم يتاجر به ويتبضع على شكل مهارات مخاتلة ووسائل في الخداع.

وإذا صح أن تاريخ الفلسفة لا يعدو أن يكون تاريخاً لحواشي أفلاطون كما يقول الفيلسوف الألماني ألفرد نورث وايتهد، فلا جرم أن التمثل السلبي الذي عاث في سمعة السوفسطائيين سيمتد إلى ما بعد أفلاطون، ولا غرابة في أن السفسطة قد أضحت من اللامفكر فيه على الأقل إلى حدود الفلسفة المعاصرة، وأفضى ذلك إلى إتلاف التراث السوفسطائي وإشاعة التراث الأفلاطوني والأرسطي مع بتر أعضاء الطوبيقا والسوفسطيقا مضافا إليها الريتوريقا والبوطيقا قصدا عن هذا الأخير، والاحتفاء بأعضاء الأنولطيقا (البرهان) وقاطيفورياس (المقولات) وباري أرميناس (التفسير والعبارة) وتحليل القياس، مع أن كل هذه الأعضاء تنتمي إلى كتب المنطق عند أرسطو المشهورة باسم "الأورغانون"، وهي كلها آلات تتناول القواعد العقلية التي لا يستقيم دونها عمل الفكر في كل موضوع باستثناء الآلات التي لا يشترط فيها أن تكون عقلية برهانية، كالجدل والمغالطة والخطابة والشعر أو البلاغة؛ لأنها لا تكترث لقوانين الفكر سواء من جهة التصورات أو من جهة التصديقات، بل تهتم بالدرجة الأساس بفن الكلام وإتقان صنعة الخطابة لتحقيق هدف واحد هو الإقناع، أخذًا بعين الاعتبار بأن الإقناع لا يعني بتاتا التيقين، فإذا حق لنا أن نقول إن البرهان يسعى إلى التيقين ببلوغ اليقين، فلا يحق لنا أن نعتبر الجدل آلة تصب في نفس الهدف؛ ذلك أن اليقين لا يحتمل الشك والرجعة، بيد أن الإقناع يقبل بتقليب الأفكار وتغيير القناعات.

ومردنا هنا هو أن نتساءل تساؤلاً نجترح فسحته من ضيق التعريف الفلسفي، وهو: هل يجذر بالفلسفة أن تحتجز نفسها داخل قوقعة البرهان والاستنتاج والاستدلال؟ أليس من حقها أن تنقض ذاتها بنقض النزعة العقلية والبرهانية المطلقة فيها، لتنقذ نفسها من إفلاس مفاهيمها وأنساقها ونظرياتها نتيجة إهمالها للنزعة الجدلية والحجاجية النسبية؟ ألا تكون الفلسفة قد زاحمت العلم على منصب لا يجذر عليها أن تتلقده؟ ألا تكون الفلسفة متناقضة مع ذاتها؛ إذ هي تبحث عن الحقيقة المطلقة؟ ألا تكون الفلسفة صديقة للإطلاقية والوثوقية مع إلحاحها على حقائق يقينية مبنية على البرهان ومستخلصة به بعدما كانت عدوة لها؟ وألا تكون بذلك قد خانت ذاتها كما يقول كارل ياسبيرز[2] وهي ترتد إلى المعرفة الشكلية والنهائية والمحددة؟ وهل الفلسفة بناء عقلي متناسق يشيد على صروح البرهان المطلق والمغلق، أم إنه خطاب جدلي وظني يلتفت إلى هامش الرجحان المعلق، حيث نكران الحقيقة وحضور النسبية؟

للاطلاع على البحث كاملا المرجو الضغط هنا

[1] فريديريك نيتشه، الفلسفة في العصر المأساوي الإغريقي، تعريب: سهيل القش، المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر والتوزيع، بيروت ط 2، 1983، ص 46

[2] Karl Jaspers, Introduction à la philosophie, trad. Jeanne Harsche, Paris, éditions 10 -18, 2001, p.5