ابن رشد والملل المخالفة


فئة :  مقالات

ابن رشد والملل المخالفة

ليس القصد من هذا القول عن "ابن رشد والملل المخالفة" تكرار الكلام فيما يعرف عادة من مواقف فيلسوف قرطبة ومراكش إزاء علوم الأوائل، ولا سيما لدى الإغريق، حيث اشتهر الرجل بالدعوة إلى الأخذ بتلك العلوم دون مراعاة ما عليه أصحابها من عقائد، إذ لا يقدح في صحة علومهم تلك إيمان أو عدم إيمان العالم أو العلماء الذين توصلوا إليها، بل ينبغي على العكس من ذلك شكرهم حيث أصابوا والعمل به، وعذرهم فيما أخطؤوا فيه مع تصويبه إكمالاً للعلم والمعرفة.

ليس القصد في هذه المقالة أيضاً الدعوة إلى إذكار ولا إلى استظهار[1] ما يتداوله النظار وغير النظار، من أصداء حفاوة استقبال ابن رشد وتلقي آثاره في الأوساط العبرية واللاتينية، حيث كان له العديد من المريدين والأتباع، وعياً منهم بقيمته العلمية والفلسفية والحضارية، مما لم يدركه بعض مشاركيه في السياق الثقافي والحضاري العام إلا بعد ذلك بأزمان طويلة. نعم، سوف يكون لابن رشد، بين اليهود والنصارى، خصوم ينكرون عليه بعضاً من أقاويله، أو حتى جملة تلك الأقاويل، إلا أنّ الغالب على أكثرهم استحسانها ومجاراته فيها والترويج لها مما لم يحظ به في موطنه، اللهم إلا فيما ندر من الناس والأزمان والأمكنة.

إننا نروم على خلاف هذا المقصد وذاك، من جهة أولى، تضييق دائرة الملل المخالفة لئلا تتناول منها غير ملتي النصارى واليهود دون سواهم ممن حاورهم ابن رشد وترددت أصداء مذاهبهم وأنظارهم في تواليفه، إغريقاً كانوا أو صابئة أو كلدانيين، كما أننا نروم من جهة ثانية، توجيه عنايتنا، على القصد الأول هاهنا، إلى صيغ استقبال ابن رشد لأهل الملل المخالفة من نصارى ويهود لا العكس.

على أننا، إذ نرسم حدود موضوعنا في هذه المقالة، بهذه الصورة، فلا بد أن نضيف إلى ما تقدم من تحذيرات استثناءات أخرى نؤكد من خلالها أولاً أننا لسنا نروم أيضاً تبيين معالم الموقف الرشدي من أهل الذمة، بحسب أشكال معاملتهم في بلاد الإسلام، كما أننا لا نميل في هذا القول إلى جهة نظر علم الفقه المقارن، حيث يسترسل أبو الوليد، في بداية المجتهد بوجه خاص، في عقد المقارنات الممكنة بين الأحكام والتشريعات في الملل الثلاث، وأيضاً فنحن لا نتغيا، ثالثاً، البحث فيما هو أشمل من ذلك وأوسع مما نلفيه في علم الأديان المقارن بوجه عام.

إنّ مقاربتنا إنما تريد في هذا المقام أن تكون فلسفية، الأمر الذي ظلّ غير متداول في الدراسات الرشدية، بحسب ما انتهى إليه نظرنا في الموضوع، وذلك عبر الفحص في عدة إشكالات تترجمها التساؤلات التالية:

كيف تحضر آراء النصارى واليهود في المتن الرشدي الفلسفي بوجه خاص؟ ما أهم تلك الآراء التي لفتت اهتمام ابن رشد وحظيت بعنايته؟ لماذا تلك الآراء دون سواها؟ ما الصيغة أو الصيغ التي تعامل بها ابن رشد مع تلك الآراء؟ وما الخلاصات الكبرى والأساسية التي يمكن استنباطها من ذلك كله؟

يعرض ابن رشد لمناظرة أهل الملل المخالفة في أكثر من موضع من تواليفه الفلسفية، ولاسيما منها الكشف عن مناهج الأدلة وتهافت التهافت وشرح السماء والعالم وتفسير ما بعد الطبيعة. لذلك سوف نتابع نظرنا في الموضوع بمراعاة هذا الترتيب، لأنه الترتيب ذاته الذي وردت عليه هذه النصوص الأربعة ضمن لائحة كتابات ابن رشد[2]، وذلك ليتسنى لنا الوقوف على موضع من المواضع المتوخاة، فضلاً عن أنّ ذلك لا يسمح لنا أيضاً بالاطلاع على تطور بل إشكالية مواقف ابن رشد في هذه المسألة.

يثير الفيلسوف القرطبي المراكشي المناظرة مع النصارى في موضع واحد من كتاب الكشف يتصل بإشكال علاقة الذات بالصفات في الإله، وذلك في معرض مناقشة مذاهب متكلمي الإسلام في الموضوع، حيث يجمع بين قول الأشاعرة وقول النصارى على أنه أمر واحد إذ أنّ الأشاعرة، وهم يقولون إنّ الصفات زائدة، في الله، على الذات، يلزمهم أحد أمرين هما:

"أنّ الذات لا بدّ أن يقولوا إنها قائمة بذاتها والصفات قائمة بها، أو أن يقولوا إنّ كل واحد منها قائم بنفسه، فالآلهة كثيرة، وهذا قول النصارى الذين زعموا أنّ الأقانيم ثلاثة؛ أقانيم الوجود والحياة والعلم. وقد قال تعالى، في هذا، لقد كفر الذين قالوا إنّ الله ثالث ثلاثة".[3]

يهتبل ابن رشد هذه المناسبة ليؤكد موقفه الرافض لمذهب التثليث بالحكم عليه أنه زلل، حيث يقول: "ومن هذا الوضع زلّ النصارى، وذلك أنهم اعتقدوا كثرة الأوصاف واعتقدوا أنها جواهر لا قائمة بغيرها بل قائمة بنفسها كالذات، واعتقدوا أنّ الصفات التي بهذه الصفة هما صفتان، العلم والحياة. قالوا فالإله واحد من جهة، ثلاثة من جهة، يريدون أنه ثلاثة من جهة أنه موجود وحي وعالم، وهو واحد من جهة أنّ مجموعها شيء واحد"[4].

سوف يتراجع ابن رشد في مصنفاته اللاحقة عن هذا الموقف العنيف من النصارى، حيث لن يصنفهم بالكفر والزلل، مثلما هي الحال في الكشف، ولعله إنما اضطر إلى هذا المسلك العنيف لمكان نوع من الطابع "الجمهوري" الغالب على كتاب الكشف، دون التواليف الأخرى، كما سنقف على ذلك فيما بعد.

يفحص فيلسوف المغرب والأندلس بعضاً من آراء النصارى واليهود في موضعين من كتاب تهافت التهافت، يرد الأول، في مناظرة النصارى، ضمن المسألة السادسة من مسائل الكتاب، بينما يرد الثاني في سياق المسألة الأخيرة الخاصة بحشر الأجساد، إذ يعرض لمواقف أهل الشرائع السابقة على الإسلام، فضلاً عن الشريعة الإسلامية نفسها بخصوص بعض القضايا المتفق عليها بين جميع أهل الملل.

يختص الموضع الأول من التهافت بإثارة موقف النصارى من علاقة الذات بالصفات في الإله. وذلك في معرض مقولة الغزالي في إلزاماته للفلاسفة حيث يصدر حجة الإسلام عن موقف أشعري، أو ذي أسس وسمات أشعرية قائمة على موقف أشعري، يستفاد منه الانحياز للقول إنّ الصفات زائدة على الذات، وهو، في تقديم ابن رشد، ما لا يوافق عليه الفلاسفة، حيث يذهب على العكس من ذلك إلى أنّ المذهب الفلسفي هو نفسه مذهب النصارى القائلين بالتثليث، دون أن يعني ذلك قولهم بالكثرة، بل إنّ الله، أو الأول، لديهم واحد من جهة الوجود بالفعل متكثر بالحد والوجود بالقوة لأنّ الصفات لا تحدث، بحسب تأويلهم، شرخاً في الذات، وإنما تحفظ لها وحدتها ما دامت هي عين الذات، أو هي هي، بمقتضى عبارة المعتزلة. نقرأ في هذا المعنى ما يلي:

"إنّ الفلاسفة ليس يريدون أنّ هذه الصفات هي النفس زائدة على الذات، بل يرون أنها صفات ذاتية. ومن شأن الصفات الذاتية ألا يتكثر بها الموضوع الحامل لها بالفعل، بل إنما يتكثر بالجهة التي يتكثر المحدود بأجزاء الحدود، وذلك أنها هي كثرة ذهنية عندهم لا كثرة بالفعل خارج النفس...وهذا هو مذهب النصارى في الأقانيم الثلاثة، وليس يرون أنها صفات زائدة على الذات، وإنما هي عندهم متكثرة بالحد، وهي كثيرة بالقول لا بالفعل. ولذلك يقولون إنه ثلاثة واحد، أي واحد بالفعل ثلاثة بالقوة"[5].

سوف يورد ابن رشد هذا الموقف ذاته ثانية، في المسألة نفسها، لكن بصدد الرد على الغزالي فيما يذهب إليه من القول بانكسار موقف الفلاسفة، حيث يدفع أبو الوليد هذه التهمة بالقول بتلازم عدم وجود علة قابلة للأول مع عدم وجود علة فاعلة، حيث يقول أبو الوليد مناهضاً حجة الاسلام:

"وهذا العناد لازم بحسب دليلهم، ولو سلمت الأشعرية للفلاسفة أنّ ما ليس له علة فاعلية ليس له علة قابلية لما انكسر بذلك قولهم، لأنّ الذات التي وضعوا إنما هي قابلة للصفات لا للأول، إذ يضعون أنّ الصفات زائدة على الذات وليس يضعونها صفات ذاتية كما يضع ذلك النصارى".[6]

واضح أنّ أبا الوليد ينظر إلى من يسميهم النصارى، هاهنا، من منطلق يتداخل فيه الفلسفي بالكلامي، حيث يدرجهم ضمن فئة الفلاسفة التي توافق المعتزلة ضداً على الأشاعرة. وهذا ما نعتبره قراءة فلسفية كلامية لا قراءة دينية أو إيديولوجية.

سوف يبقى ابن رشد وفيّاً لهذه القراءة نفسها في المسألة الثانية الخاصة بحشر الأجساد[7] ومنها الاتفاق على وجود أخروي بعد الموت مع الاختلاف في كيفية ذلك الوجود[8] ومنها الاتفاق على وجود الله وصفاته وأفعاله مع الاختلاف في القول في ذاته وأفعاله بالأقل والأكثر[9] ومنها الاتفاق في الأفعال الموصلة إلى السعادة[10] وفي الآخرة مع الاختلاف في تقدير هذه الأفعال[11]، ومنها الميز بين طريق الحكماء وطريق الجمهور في التعليم والسعادة، ومنها قيام الشرائع كلها على العقل والوحي وحده.[12]

معنى ذلك أنّ ابن رشد، وهو يتحدث عن أصحاب الملل المخالفة ولاسيما منها ملة النصارى وملة اليهود، إنما يدرجها ضمن السياق العام لتاريخ الأفكار، دون أن يتجاهلها أو يغفل عنها، ولا أن يقدم إحداها على أنها أفضل من الأخرى، ولا أن يذم هذه لصالح تلك. يرد كلام ابن رشد في شرح السماء والعالم عن ملتي اليهود والنصارى في سياق حديثه عن المواقف الأربعة في كون العالم وفساده، أو لا كونه ولا فساده، حيث يقول:

"والآراء التي تكون في العالم هي أربعة، إما أن يعتقد أنه غير كائن ولا فاسد، وهو مذهب أرسطو (و) أول من قال به فلاسفة اليونانيين، وبه أتت الشريعة الصابئة القديمة، وهو الذي تدل عليه رموز الكلدانيين. وإما أن يعتقد فيه أنه كائن فاسد، وهو مذهب أنكساغورش من الفلاسفة، وبه أتت الشرائع الثلاث المعروفة في وقتنا هذا، وهي شريعة الإسلام وشريعة الكتابيين اليهود والنصارى. والرأي الثالث رأي أفلاطون، وهو أن يكن كائناً غير فاسد. والرابع أن يكون غير "كائن" ولكنه يفسد. وهذا الشيء لم يقل به أحد فيما بلغنا في هذا الزمان، والقول به غير مقنع. ألا ترى أنّ القدماء القائلين بكونه قد كانوا اتفقوا على أنه كان من شيء إذ كان مجمعاً عليه عند العقلاء إنه لا يكون كون من لا شيء لأنّ العدم لا يتغير والكائن متغير ضرورة. ولكن قال بهذا القول، على خروجه على الطبع، المتكلمون من أهل ملتنا".[13]

يدرج ابن رشد أصحاب ملتي اليهود والنصارى ضمن السياق الفلسفي العام للقول بكون العالم وفساده، أو عدم كونه أو عدم فساده، إلى جانب أرسطو وأفلاطون وانكساغورش الذي يطابق بين مذهبه وبين الشرائع الثلاث، الإسلام والنصرانية واليهودية، في القول إنّ العالم كائن فاسد، على خلاف أرسطو الذي يقول إنّ العالم غير كائن ولا فاسد، مع العلم أنّ القائلين بكون العالم فهم يجعلونه من شيء لا من لا شيء، الأمر الذي يقبله العقلاء، أمّا ما لا يقبله العقلاء فهو القول إنّ العالم غير كائن لكنه فاسد، وهو ما يذهب إليه متكلمو الإسلام، فيبعدهم ذلك لا عن أرسطو وأفلاطون، فحسب، بل عن الشرائع الثلاث.

سوف يميز ابن رشد في القول إنّ العالم كائن فاسد بين مذهبين: أحدهما يرى أنّ العالم يكون ويفسد مراراً عديدة إلى ما لا نهاية له، وهو رأي انبادقليس، والثاني يرى أنّ العالم يكون ويفسد مرة واحدة لا يعود بعدها البتة، وهو رأي أصحاب الشرائع.

ولعل أكبر حجة يقدمها ابن رشد، ضداً على هذا المذهب، أنّ العالم لا بدّ ألا يفسد بإطلاق، لأنه إذا كان ممكناً أن يكون ممّا أمكنه أن يكون منه أول مرة، فلا بدّ أن يكون ممكناً أن يكون منه مرة أخرى، بل غير ما مرة، وإلا ما كان له أن يكون منه البتة ولا مرة واحدة، الأمر الذي يؤول به إلى أن يكون منه مراراً كثيرة لا نهاية لها، على ما يذهب إليه انبادقليس وأصحابه، وإن كان رأي انبادقليس أيضاً يلزمه شناعات، منها أن يكون العالم أزلياً في الجوهر وبالشخص كائناً فاسداً في صوره وحالاته، ومن ثم، أزلياً بالنوع حتى يمكن فيه التشكل مراراً ولا يكون فاسداً أبداً.

معنى ذلك أنّ قراءة مواقف أصحاب الملل المخالفة لا يمكن أن تتم، لدى ابن رشد، إلا ضمن تاريخ الفلسفة، وهو ما يبعده كل البعد عن سواها من القراءات.

يعرض ابن رشد لمحاورة أصحاب الملل المخالفة، ولا سيما منهم اليهود والنصارى، في ثلاثة مواضع من مقالة اللام من كتاب "تفسير ما بعد الطبيعة". يسري الموضع الأول على كل أصحاب هاتين الملتين، ويصح الثاني على النصارى فقط، بينما يختص الثالث بالإحالة على اليهود دون غيرهم.

ما موضوع كل واحد من هذه المواضع؟ ما الكيفية التي يحاور بها كل واحد منها أهل الملل المخالفة في موضع موضع ومن ثم فيها ككل؟ وما الخلاصات التي يمكن استنباطها من مجموع هذه المواضع؟

يتعلق الموضع الأول بمسألة الفاعل والكون، حيث يرسم ابن رشد في ذلك ثلاثة مذاهب، أحدها مذهب أهل الاختراع والإبداع الذي يتفق فيه النصارى مع متكلمي ملة الإسلام حيث نقرأ:

"وأمّا مذهب أهل الاختراع والإبداع فهم الذين يقولون إنّ الفاعل هو الذي يبدع الموجود بجملته ويخترعه اختراعاً، وإنّه ليس من شرط فعله وجود مادة فيها يفعل بل هو المخترع للكل. وهذا الرأي المشهور عند المتكلمين من أهل ملتنا ومن أهل ملة النصارى، حتى لقد كان يحيى النحوي النصراني يعتقد أنه ليس هاهنا إمكان إلا في الفاعل فقط على ما حكاه عنه أبو نصر في الموجودات المتغيرة".

إذا كان ابن رشد يخص بالنظر، في هذه المناسبة، النصارى فإنه يدمج في الموضع نفسه، لكن في نهاية المقام منه، اليهود إذ يصدق عليهم أيضاً ما يصدق على النصارى وعلماء الكلام من ملة الإسلام، وهو أنهم يذهبون إلى القول بالاختراع وبحدوث شيء من لا شيء، إذ يقول:

"... فتوهم اختراع الصور هو الذي صيّر من صيّر إلى القول بالصور، وإلى القول بواهب الصور. وإفراط هذا التوهم هو الذي صيّر المتكلمين من أهل الملل الثلاث الموجودة اليوم إلى القول إنّه يمكن أن يحدث شيء من لا شيء، وذلك أنه إن جاز الاختراع على الصور جاز الاختراع على الكل..."[14]

يلاحظ أنّ ابن رشد، وهو يحاور أصحاب الملل المخالفة في مسألة الفاعل والكون، يصنفهم ضمن القائلين بالاختراع والإبداع فيقربهم بذلك من علماء الكلام المسلمين دون أن يقدح فيهم أو فيما يقولون به وإن كان بالجملة ينتقده ولا يقبل به.

يتصل الموضع الثاني الذي يحاور فيه أبو الوليد أصحاب الملل المخالفة في تفسير ما بعد الطبيعة بمسألة علاقة الذات بالصفات في المبدأ الأول، أو الله، حيث يثير قضية التثليث لدى النصارى، وهي المسألة التي كانت أيضاً موضع نظر في التهافت، حيث يؤكد ابن رشد، في تفسيره، على قرابة النصارى مع الأشعرية لا على خلافهم معهم، كما ذهب إلى ذلك في التهافت، حيث يقول:

"وإذا كان العاقل حياً إذ فعله هو الحياة فالشيء الذي هو عاقل بعقله ذاته لا بعقل غيره، كالحال في العقل منا، فذلك الشيء الحي الذي له الحياة التي هي في غاية الفضيلة. ولذلك كانت الحياة والعلم أخص أوصاف الإله. فهذا الإله حي عالم، ومن هنا غلطت النصارى فقالت بالتثليث في الجوهر وليس ينجيهم من هذا أن يقولوا إنّه ثلاثة "و" الإله واحد، لأنه إذا تعدد الجوهر كان المجتمع واحداً، بمعنى واحد زائد على المجتمع. قلت وهذا بعينه يلزم الأشعرية من أهل ملتنا، لأنهم جعلوا هذه الأوصاف زائدة على الذات، فيلزمهم أن تكون واحداً بمعنى واحد زائد على الذات والأوصاف. وكلا المذهبين يلزمهما التركيب. وكل مركب محدث إلا أن يدّعوا أنه يوجد هاهنا أشياء تتركب بذاتها، ولو كانت هاهنا أشياء تتركب بذاتها لكانت أشياء تخرج من القوة إلى الفعل بذاتها، وتتحرك بذاتها من غير محرك".[15]

هنالك، إذاً، مطابقة بين النصارى والأشاعرة، كما أنّ هناك نقداً واضحاً للمذهبين، إلا أنه نقد فلسفي لا يتجاوز حدود المخالفة في الرأي دون انحطاط إلى غير ذلك من مستويات المخالفة والرفض. ذلك ما يؤكد عليه ابن رشد في مقام لاحق يكمل هذه المناظرة، إذ يقول:

"وفرق كثير بين الأشياء التي هي متغايرة في الذهن وفي الوجود وبين التي هي متغايرة في الذهن لا في الوجود، أي أنّ العقل منا لا يفهمها حتى يأخذها على ما يأخذ عليه المتغايرة في الوجود وبين الأشياء التي هي متغايرة لا في الذهن ولا في الوجود، فالتثليث الذي يفهم منه في الإله ثلاثاً إنما هو تغاير في الذهن لا في الوجود، وهو شيء يأخذه الذهن على جهة الشبه بالأشياء المركبة من جهة، المتحدة من جهة، لا كما تزعم النصارى أنها معانــ]ـي[ متغايرة ترجع إلى واحدة".[16]

لا يوافق ابن رشد على ما يذهب إليه النصارى، إذ يقول إنّ التثليث لا يؤدي إلى القول بالكثرة في الإله، لأنّ ذلك إنما مفاده الكثرة في المعاني لا في الذات، أي في الصفات دون الوجود الواحد، فالأمر كما لو كنت تنظر إلى الشيء الواحد من جهات متعددة، حيث لا يستوجب ذلك كثرة في الوجود بالرغم من أنه كثرة في المعاني والصفات وجهات النظر. إنّ الأمر، في تقدير أبي الوليد، في العقل لا في موضوع العقل، فالعقل ينظر إلى الكثرة هاهنا من حيث إنها كثرة أو مغايرة في العقل الذي يعتبر علاقة الذات بالصفات، في هذا المقام، كما لو كانت مركبة متحدة معاً، أي شبيهة بالمركب من جهة وبغير المركب، أي البسيط والواحد، من جهة ثانية.

معنى ذلك أنّ ابن رشد يواصل حواره الفلسفي مع النصارى أصحاب التثليث، ولم ينزلق إلى مستوى آخر غير فلسفي، قد تقوده إليه مخالفته لهم، وإن كان يصلهم هاهنا، أي في كتاب تفسير ما بعد الطبيعة، بالأشاعرة لا بالمعتزلة، كما سلف الأمر بالتهافت، وكأنه عندما ينظر إلى الأمر بوجه عام فهم يقتربون من أصحاب الأصول الخمسة لكنهم مع التأويل وفحص النظر يقتربون من الأشاعرة.

إذا كان القول في الفاعل والكون، وهو الخاص بالموضع الأول، يهم الملتين النصرانية واليهودية معاً، وإذا كان القول في علاقة الذات بالصفات، وهو الخاص بالموضع الثاني، يهم النصارى فحسب، فإنّ القول، في الموضع الثالث والأخير، بحسب غرضنا في هذا المقال، إنما يخص اليهود، حيث يرد ذلك وابن رشد يعلم على رسم أهمية الميتافيزيقا أو الفلسفة الأولى، إذ يقول إنه:

".. بحصول هذا العلم للإنسان يوجد الإنسان على أتم وجوده، وأنه أفضل أفعاله، لأنه الفعل الذي يشارك في أفضل الموجودات. وما يقال عن أفلاطون في لغزه، إنّ الباري تولى الملائكة بيده، ثم وكلهم بخلق الحيوانات المائتة، وبقي هو مستريحاً لا فعل له، فلغز لا يصح إنزاله على الحق، ويشبه أن يكون ظن هذا المعنى بالباري هو علة السبت المفروض في شريعة بني إسرائيل".[17]

يظهر ابن رشد، هاهنا، بمظهر الأركيولوجي، أو الجنيالوجي، الذي يفحص في طبقات الوعي وتشكل أصول الفكر. ذلك أنّ سعادة الإنسان، بالحصول على الفلسفة الأولى أو بممارستها، لا يضاهيها إلا كونه أشبه بالإله وهو أفضل الموجودات. وإذا كان أفلاطون يعتبر أنّ الإله قد استراح بعد أن خلق الملائكة الذين لهم الخلود، والذين كلفهم بصنع الكائنات الخاضعة للكون والفساد، فإنّ ذلك، في تقدير ابن رشد، مجرد لغز لا حقيقة. لذلك لا يجب أخذه على ظاهره.

يستدعي ابن رشد، في السياق نفسه كما هو ملاحظ، ما يذهب إليه بنو إسرائيل في شريعتهم، حيث يؤمنون باستراحة الإله بعد خلق الملائكة، لذلك فرضت شريعتهم الطقوس المعروفة لديهم بالسبت.

بالرغم مما يشي به الموقف الرشدي من خلاف مع شريعة بني إسرائيل، وذلك من خلال نقده الصريح لمفهوم مذهب أفلاطون، إذ يصفه بأنه مجرد لغز لا يصح إنزاله على الحق، وبالرغم مما لا يمكن لابن رشد أن يقبله مما يوحي به هذا الموقف من تجسيد من خلال القول إنّ الله تولى خلق الملائكة بيده، إلا أنه مع ذلك لا يوجه إليهم نقداً صريحاً، كما لا ينزلق في مخالفتهم إلى ما لا يليق برجل الفكر، وإنما يكتفي بقراءة موقفهم قراءة فلسفية يقربهم بموجبها من أفلاطون، فيصدق عليهم من النقد ما يصدق عليه أو على فهم من الأفهام الممارسة عليه.

وبالجملة فقد حاولنا في هذه المقالة أن نفي بالمقصد الأساس الذي رسمناه لها، بحسب ما أوضحنا ذلك بالاستهلال، وهو طبيعة القراءة الفلسفية التي مارسها أبو الوليد بن رشد على بعض مواقف أصحاب الملل المخالفة، ولا سيما منهم النصارى واليهود.

بيد أنه لا بدّ من التذكير بالملاحظة التي وقفنا عليها ونحن نقارن بين موقف أبي الوليد في الكشف، من جهة، وبين موقفه في كل من التهافت وشرح السماء والعالم وتفسير ما بعد الطبيعة، من جهة ثانية، حيث لاحظنا أنّ الرجل سيتراجع في هذه الكتب الثلاثة عن المسلك العنيف الذي عبّر عنه في الكتاب الأول، الأمر الذي قد يبرر بالشروط العامة التي أقدم فيها ابن رشد على وضع هذا الكتاب، مع العلم أنه سيحافظ في مقابل ذلك على القراءة الفلسفية-الكلامية التي دشنها منذ الكشف.

على أنّ هناك سبلاً أخرى للنظر في موقف ابن رشد من آراء ومذاهب أهل هاتين الملتين استبعدناها من القول المحدود بالزمان والمكان والمرام.

وقد أقصينا من هذا القول أيضاً أمراً آخر نأمل أن نعود إليه في وقت آخر، إن ساعد العمر والزمان، وهو مقابلة القراءة الرشدية بما عداها من قراءات بعض مفكري الإسلام أمثال الشهرستاني وابن حزم والغزالي وغيرهم، فضلاً عن مقابلتهم بقراءات نظرائهم من أهل الديانات الأخرى، وخاصة لدى "موسى بن ميمون" و"ابن كمونة" من اليهود.


مسرد المراجع والاحالات:

ـ جمال الدين العلوي، المتن الرشدي، دار توبقال، البيضاء، المغرب، ط1، 1986

ـ ابن رشد، الكشف، نشرة الجابري، مركز دراسات الوحدة العربية، ط1، 1998

ـ ابن رشد، تهافت التهافت، تحقيق موريس بويج، دار المشرق، بيروت، ط2

ـ ابن رشد، شرح السماء والعالم، مخطوط تونس، ورقة 116


[1] جمال الدين العلوي، المتن الرشدي، دار توبقال، البيضاء، المغرب، ط1، 1986، ص ص 100-101، 106-110

[2] ابن رشد، الكشف، نشرة الجابري، مركز دراسات الوحدة العربية، ط1، 1998، ص 134

[3] ابن رشد، م .م .س، ص 135

[4] ابن رشد، تهافت التهافت، تحقيق موريس بويج، دار المشرق، بيروت، ط2، 1987، ص ص 300-301

[5] ابن رشد، م، م، ص، س.

[6] ابن رشد، م، م، س، ص 582

[7] ابن رشد م، م، ص، س.

[8] ابن رشد م، م، ص، س.

[9] ابن رشد م، م، ص، س.

[10] ابن رشد م، م، ص، س.

[11] ابن رشد م، م، ص 584

[12] ابن رشد، شرح السماء والعالم، مخطوط تونس، ورقة 116

[13] ابن رشد، م. م. س، ص 1503

[14] ابن رشد، م. م. س، ص 1620

[15] ابن رشد، م. م. س، ص 1620

[16] ابن رشد، م. م. س، ص 1623

[17] الغزالي، تهافت الفلاسفة، تحقيق سليمان دنيا، دار المعارف، القاهرة، 1972، ص 83