الإسلام السياسي: صوت الجنوب لــ فرانسوا بورجا


فئة :  قراءات في كتب

الإسلام السياسي: صوت الجنوب لــ فرانسوا بورجا

الإسلام السياسي: صوت الجنوب لــ فرانسوا بورجا([1])


في أواخر سنة (2001م)، صدر، في طبعة ثانية، عن دار العالم الثالث للنشر والتوزيع، بالتعاون مع المركز الفرنسي للثقافة، كتاب (الإسلام السياسي: صوت الجنوب) للمفكر الفرنسي فرانسوا بورجا، وقد قام بترجمة هذا الكتاب الدكتورة لورين زكرى، في حين قدّم له نصر حامد أبو زيد. وفرانسوا بورجا من مواليد إحدى مناطق جبال الألب (1948م). درس القانون في جامعة كرونوفل، ثمّ عمل أستاذاً للقانون في جامعة قسنطينة في الجزائر، في الفترة الممتدّة بين (1973 و1980م)، ثم عاد، بعد ذلك، إلى فرنسا، وعيّن باحثاً في الهيئة القومية للبحث العلمي، وبعدها انتقل إلى مصر، وأقام فيها خمس سنوات في الفترة الممتدّة بين عامي (1989 و1994م)، حيث عمل باحثاً في المركز الفرنسي للعلوم الاجتماعية.

صدر لفرانسوا بورجا عدّة كتب من أبرزها: الإسلام السياسي في زمن القاعدة، وجهاً لوجه مع الإسلاميين، إلى غير ذلك من المؤلفات الأخرى، التي تُرجمت إلى لغات عديدة منها اللغة العربية.

وهذا الكتاب يقع في (432) صفحة من الحجم الكبير، قسّمه صاحبه إلى ستّة فصول طويلة يندرج، تحت كلّ واحد منها، أكثر من عشرة محاور، بالإضافة إلى مقدّمة وخاتمة، كان هدف فرانسوا بورجا من وراء تأليفها، كما يظهر من المقدّمة، الرغبة في تقديم مساهمة من أجل «تصحيح الخطأ الكبير، الذي وقعت فيه الرؤية الغربيّة، التي ظلّت، طوال الثمانينيات، عاجزةً عن فهم تبلور الإسلام السياسي؛ فالغرب كان يكرّر الموقف نفسه، الذي اتخذه في الخمسينيات أمام صعود القوميّات، وبذلك ظلّ تفسيره قاصراً عن فهم الإسلام السياسي؛ إذ لم يرَ في بوادر الاحتجاج الإسلامي سوى مظاهر صحوة الموت لتقاليد بالية تحتضر، ولكنّ الأمر كان يتعلّق بشيء مختلف تماماً؛ ذلك أنّ هذه اللّحى، وهذه الحجب، لا تخفي وراءها كائنات غريبة هابطة إلينا من المرّيخ؛ بل إنّنا لا نستطيع أن نلصق بهؤلاء الأشخاص صفة التعصّب، أو التطرّف، فليسوا سوى خلفاء للقوميّين، إنّهم اللّاعبون الجدد في حلبة السياسة، وسنضطر، يوماً، إلى الاعتراف بذلك»[2].

في الفصل الأول (التشدّد الإسلامي والأصوليّة والإسلام السياسي: حول صعوبة التسمية)، أكّد الكاتب أنّ هذه المصطلحات ظلّت تتردّد، لفترة طويلة، سواء في كتب المتخصّصين أم في الكتابات الصحفيّة، لتصف الاضطرابات، التي تضاعفت في البلدان الإسلامية في الآونة الأخيرة، وأكّد أنّ هذه الصعوبة في التسمية والمفهوم ترجع إلى الصعوبة الواضحة، التي نواجهها عندما نحاول فهم هذه الظاهرة سواء فيما يتعلّق بخصوصيّتها أم بتنوّعها.

كما ألمح الكاتب، في بداية هذا الفصل، إلى تعدّد أشكال الخطاب السياسي في الأوطان الإسلامية، التي ترتبط، دائماً، بالتقاليد أكثر من ارتباطها بغيرها؛ بل يمكن القول إنّ كلّ هذه الأنواع من الخطاب التقليدي ليس لها علاقة مباشرة بالإسلام؛ بل إنّ علاقتها بالإسلام السياسي أضعف، ومن ثَمَّ من الممكن التمييز؛ بل الفصل، غالباً، بين أوجه السلوك التقليدية وبين الإسلام السياسي. وإذا كان تيّار الإسلام السياسي قد قام بحشد بعض فئات المجتمع التقليدي، فإنّ ذلك لا يقلّل من أهميّة عمليّة التمييز الجوهريّة، فالتقليديّون، عكس الإسلام السياسي، لا يؤسّسون مشروعاً سياسيّاً حسب قول الكاتب؛ لأنّهم يميلون ببساطة إلى كلّ ما هو محافظ، فالعلاقة الخاصّة القائمة بين التقليديّين والدين تنبع من أنّ السلوكيّات التقليديّة تراهن، بطبيعتها، على الأخلاق؛ أي على حجاب المرأة، وتربية البنات، والبر بالوالدين، واحترام المراتب الاجتماعية.

وبانتقال الكاتب إلى الحديث عن الأصوليّة، وعلاقتها بالإسلام السياسي، أشار إلى أنّ جميع المنتمين إلى تيّار الإسلام السياسي يمكن اعتبارهم أصوليّين؛ أي أنّهم جميعاً من أنصار العودة إلى الآيات القرآنية، وإلى السنّة النبويّة، لكي يستمدّوا منها الإطار المرجعي الأخلاقي، والاجتماعي، والسياسي للنهضة الإسلاميّة، ولكنّ هذا لا يمنع من أنّ هذين الاتجاهين يختلفان فيما يتعلّق بأساليب العمل؛ فبينما يتّخذ المذهب الأصولي، في بعض الأحيان، موقف الارتياب من المعاصرة، يتقبّل تيّار الإسلام السياسي صراحة المعاصرة ومظاهرها التكنولوجيّة، كما أنّ هذا الأمر يصبح أكثر وضوحاً فيما يتعلّق بالدولة والسياسة؛ فإذا كان الفكر الأصولي يتجاهل مثل هذه الأدوات، فإنّها، في صميم ما يهتمّ به التيار الإسلامي، الذي يرى أنّ الاستيلاء على السلطة من أعلى هو المرحلة الضروريّة لإقامة «يوتوبيا» يشاركهم فيها، إلى حدّ كبير، المذهب الأصولي.

وفي هذا الفصل، دائماً، أشار فرانسوا بورجا إلى وجود مراقبين خارجيين لا يزالون، حتّى الآن، يخلطون بين العروبة، أو القومية العربية والإسلام السياسي، في حين أنّه حدث للقومية العربية في الأوطان الإسلامية تطوّر لم يفهمه هؤلاء المراقبون؛ فقد مرّت من مرحلة التمسّك بها، دون قيد أو شرط، من جانب جمال عبد الناصر، ومعمّر القذافي، إلى رفضها الصريح من جانب تيّار الإسلام السياسي، لتعلن بذلك القطيعة بين هذين التيارين. ودون سابق إنذار، عاد بنا الكاتب إلى الجذور الأولى للإسلام السياسي في العصر الحديث، معتبراً الشرارة الأولى له كانت في مصر، عندما بدأ أنصار العودة إلى الإسلام الرسمي التقليدي مغامرتهم في خوض مجال النشاط السياسي، الذي ظلّ مهجوراً لفترة طويلة، مطالبين بحلّ مشكلات العصر أخلاقيّاً ودينيّاً؛ أي عندما وفّر كلّ من حسن البنا، وسيّد قطب، للمشروع الإصلاحي «الوقود التنظيمي»، و«الطموح السياسي»، الذي كان ينقصه، وعندما جعلا من الاستيلاء على السلطة هدفاً على رأس أهدافهم، رافعين شعار «نحن إخوة في الإسلام، نحن الإخوان المسلمون».

وعن علاقة الإسلام السياسي بمصطلحي التشدّد والتطرّف، ذكر الكاتب أنّه، مع مرور الوقت، تزايد استخدام هذين المصطلحين في الحقل الديني، للإشارة إلى أولئك الأصوليين، الذين تتميّز قراءتهم للأصول المقدّسة بأكبر قدر من التصلّب، والجمود، والحرفيّة، ومن ثَمَّ يتميّز موقفهم بأكبر قدر من التحفّظ تجاه محاولات التجديد في مجال التأويل، الذي يمثّله الاجتهاد الإسلامي. وبحيادٍ بيّنٍ، أكّد فرانسوا بورجا أنّ ما يطلق عليه اسم «العنف الديني» أصبح غطاء، في معظم الأحيان، للعنف الذي تمارسه الأنظمة الحاكمة، التي تفضّل أن تقدّم خصومها، الذين يتحدّونها في صورة سلبيّة، وذلك لتتجنّب مواجهة نتائج الانتخابات. وعندما تغلق هذه الأنظمة، بهذه الطريقة، أبواب الوصول إلى الساحة السياسيّة الشرعيّة أمام تيّار الإسلام السياسي، فهي تدفعه إلى ممارسة العنف لكي تبرّر لجوءها إلى القمع لحماية كيانها.

في الفصل الثاني (من الإسلام إلى الإسلام السياسي)، حاول الكاتب الكشف عن أسباب ميلاد ظاهرة الإسلام السياسي ونموّها داخل المجتمعات العربية، ولاسيما دول شمال أفريقيا، وقت انتقالها من مرحلة التقليديّة إلى مرحلة الخضوع للاستعمار والالتقاء بالغرب، ثمّ نضال هذه المجتمعات ضدّ الوجود الاستعماريّ، بكلّ ما يمثّله من قيم ورموز في مرحلة لاحقة، ثمّ ميلاد الدولة القوميّة، وفشل المشروع القومي، ثمّ ميلاد الإسلام السياسي مشروعاً بديلاً بعد ذلك، والذي أصبح تعبيراً عن ردّة فعل تجاه السيطرة الثقافية، والسياسية، والاقتصادية الغربيّة، فأنصار الإسلام السياسي يرون أنّ حركات الاستقلال لم تحقّق وعودها في هذه المجالات، ومن ثَمَّ أصبح من الضروري وضع برامج سياسية واقتصادية «إسلامية» للقضاء على هذه الهيمنة الغربيّة.

ويرى الكاتب، في هذا الفصل، أيضاً، أنّ سبب الإقبال الكبير على الجماعات الإسلاميّة، وتيّارات الإسلام السياسيّ، إنّما مردّه إلى تقديم الإسلام السياسي «معالجة» للاضطرابات الفردية؛ فهو، بالفعل، «يعيد الاعتبار إلى أولئك الأشخاص، الذين يعانون من أزمات تتعلّق بالهويّة، وإذا كان يُعدَّ بمثابة ملاذ، بالنسبة إلى من فقدوا الإحساس بسيطرتهم على زوجاتهم وأطفالهم... فمن المؤكّد أنّه يمنح، إلى حدّ كبير، هذا الأمان الذي تقدّمه لنا العقائد الشمولية؛ لأنّ الشخص، الذي يعاني من أزمة، يكون في حاجة كبيرة إليها، كي يعيد تشكيل شرعيّته»[3]. بالإضافة إلى ذلك يقدّم الإسلام السياسي إجابة لكلّ مَن هم في موضع معارضة من جانب عائلاتهم وزملائهم في العمل، كما أنّه يقدّم حلاً لكلّ من يشعرون بالإذلال تجاه ثراء البورجوازية ومواقفها المستفزّة. تلك، إذاً، هي أسباب حشد التيارات الإسلاميّة لمناصريها.

وفي ختام هذا الفصل، لم يفت فرانسوا بورجا أن يشير إلى أنّ الإسلام «التاريخي» المدوّن في النصوص المقدّسة ليس وحده المولّد لظاهرة الإسلام السياسي، كما يحلو لزعماء الاتجاهات الإسلامية أن يقولوا؛ بل الظاهرة متولّدة عن واقع مركّب ومعقّد، ليخلص، في الأخير، إلى أنّ ظاهرة الإسلام السياسي هي التي تصنع الإسلام الراهن على مقاسها، وليس العكس. كما يرى الكاتب أنّ استخدام الإسلام السياسي لشيفرة ومصطلحات الإسلام إنّما هي عمليّة تتمّ على مستوى اللغة فحسب، وذلك لمواجهة شيفرة أخرى غربيّة استعماريّة أساساً، وهي شيفرة قامت الأنظمة الحاكمة بإعادة إنتاجها في خطابها القومي العلماني، فإذا كان الصراع يدور على مستوى الشفرة، أو المصطلحات المستعملة لمناهضة الاستعمار الغربي من جهة، ولمناهضة القوميّة العلمانيّة التابعة له، من جهة أخرى، فالإسلام، في هذه الحالة، يصبح مجرّد هويّة يتسلّح بها الإسلام السياسي.

في الفصل الثالث (من الخطبة إلى الانتخابات)، تطرّق الكاتب إلى الآليات الخاصّة، التي اعتمد عليها الإسلام السياسي، بغرض الوصول إلى الأهداف، التي سطّرها من قبل، خارجاً من قوقعة المسجد، واعتماده على الخطبة إلى الانتخابات والمشاركة في الحياة السياسية، فقبل الخروج إلى الحياة السياسية العامة، كان المسجد هو الذي يمثّل الإطار الأوّل، الذي يتمّ فيه تكوين الخطاب الإسلامي، وأوّل وعاء يستقبله، كان يقوم بدور المخبأ، الذي يحمي التيّارات الإسلاميّة، عندما كانت تعمل على صياغة الخطوات الأولى في طريق النضال، وشيئاً فشيئاً، بدأت الحكومات تدرك خطورة السماح بهذه الحريّة في عقد الاجتماعات، وبحريّة التعبير في إطارها، لذلك عملت (الحكومات) على مراقبة مؤسّساتها، ومراقبة الجمعيّات بوجه خاصّ، ولذلك أصبح المسجد أحد الميادين، التي تمّت فيها المواجهة بين الإسلام السياسي والسلطة، وعليه أصبح مناضلو التيارات الإسلامية يقيسون قدرتهم على المناورة تجاه النظام الحاكم بعدد المساجد، التي يتمّ بناؤها، أو حتّى بمجرد تخصيص مساحة معيّنة للعبادة في أماكن العمل، ما دفع بالحكّام إلى سنّ ترسانة من القوانين أصبحوا، بموجبها، يراقبون الأئمة، وخطبهم، وسائر القائمين على الشأن الديني بشكل عام. هذه الرقابة على المساجد وروّادها اتخذت، في بعض الأحوال، أشكالاً أكثر تشدّداً؛ فقد تمّ تدمير بعضها، وسجن المسؤولين عنها، أو تمّ استبعادهم؛ بل وصل الأمر، في معظم دول شمال أفريقيا، إلى الحدّ التامّ من ارتياد المساجد في غير مواعيد الصلاة، وقد تسبّب مجرد الذهاب إلى مسجد معيّن في استجواب عدّة أشخاص قد يكون من بينهم أعضاء مناضلون في تيّار الإسلام السياسي.

وبعد التضييق على المساجد، انتقل التيار الإسلامي إلى الجامعات العربيّة باعتبارها مكاناً خصباً لزرع أفكاره والدفاع عنها، ولاسيما عندما وصل إليها الطلاب البسطاء أبناء الفقراء والفلاحين الأكثر قابلية لأفكار الإسلام السياسي، بعدما كان يرتاد هذا الفضاء أبناء البرجوازية الثقافية المدلّلين، أو أبناء البرجوازية المتفرنسة المتشبّعين بأفكار الحداثة والتقدّميّة.

وبعد عملية تعبئة الطلاب عن طريق تولّي أمورهم، والاهتمام بمصالحهم، انتقل التيّار الإسلامي إلى مجال العمل الاجتماعي والتربوي، مستفيداً من أوجه القصور الموجودة في سياسة الدولة، وبفضل العلاج الطبي المجانيّ، وتوزيع الأدوات المدرسية، وبفضل الإرشادات القانونيّة والإدارية، والإشراف على الشباب عن طريق الأطر في مجال الكشافة، وبفضل تولي مسؤوليّة الحفلات المدنية والدينية، استطاع الطلبة الخروج إلى ما وراء أسوار الجامعة، وكسب تعاطف -إن لم يكن انضمام- الشرائح الشعبية، التي كانت أقلّ حظّاً في محاولات التعبئة الأولى.

بعد الحديث عن التعبئة الجماهيرية، والمشاركة السياسية للتيارات الإسلامية، انتقل بنا فرانسوا بورجا إلى قضيّة المرأة وعلاقتها بالإسلام السياسي، مؤكّدا أنّ هذا الأخير لا يعادي المرأة، في إشارة منه إلى الإعلام الغربي، الذي يتّهم الإسلام بمعاداة المرأة، ونحن، هنا، كما ذكر نصر حامد أبو زيد، لا نعترض على توجّه المؤلّف، فالكتاب موجّه، أساساً، إلى القارئ الفرنسي، لكنّنا نريد أن نحدّد أيّ امرأة تلك التي لا يعاديها الإسلام السياسي، إنّها، دون تردّد، المرأة المنخرطة في نشاطه، والمندرجة بزيّها، وهيئتها، ومفاهيمها، في إيديولوجيّته. وماذا عن المرأة المتبرجة السافرة المتحرّرة من إيديولوجيّته؟ وماذا عن حدود الدور المحدّد للمرأة في خطاب الإسلام السياسي؟ إنّه لا يتعدّى الإنجاب، ورعاية الرجل، والقيام ببعض الوظائف دون بعضها الآخر[4].

في الفصل الرابع (غنّوشي وعباس مدني والآخرون: منطق الاختلاف)، ذكر الكاتب أنّ ظاهرة الإسلام السياسي قامت على أرضيّة مشتركة ألا وهي ردّ الفعل تجاه الاجتياح الاستعماري لدول شمال أفريقيا، لكنّ هذا الأمر لا يمنع من اختلاف المواقف بشكل ملموس من دولة إلى أخرى؛ هذا الاختلاف يرجع، قبل كلّ شيء، إلى تنوّع الظروف التاريخيّة، التي تمّ فيها اللقاء مع الغرب، حيث اختلفت هذه الظروف وفقاً للخصائص الكامنة داخل هذه المجتمعات، كما أنّ تاريخ ما قبل الاستعمار كان قد رسم في منطقة شمال أفريقيا اختلافات شبه قوميّة، أضف إلى ذلك أنّه ترتّب على مدّة الوجود الأجنبي وشكله تزايد هذه الاختلافات الأولى، وبذلك أصبحت حركات الإسلام السياسي تابعة لخطّ سير تكوين الدول في فترة ما بعد الاستعمار.

وبعد استعراض فرانسوا بورجا لعمليّات التحديث، التي عرفتها دول شمال أفريقيا، ضاربةً عرض الحائط بمقترحات «الإسلاميين»، رأى أنّ الحاكمين من تونس إلى المغرب، مرورا بالجزائر، قد أخطأوا في تحديد طبيعة هذه المعارضة النابعة من المساجد، عندما كانت تمثّل، بالتحديد، ردّة فعل تجاه الإفراط في التحديث، حيث عدُّوا ذلك مجرّد سحابة صيف مصيرها الزوال أمام موجات الحداثة الصاعدة؛ بل عملوا، في كثير من الأحيان، على إيجاد حلفاء محتملين من بين أنصار الإسلام السياسي، الذين ينشطون في مهاجمة الماركسية، وذلك بغرض إضعاف تلك الحركات الناشئة من الداخل، ومع مرور الوقت، وسماع حكام الدول المغاربية بأصداء الثورة الإيرانيّة الهائلة لسنة (1979م)، ازداد استسلامهم لإغراء القمع، ولكن عندما أدركوا حدود هذا القمع، عملوا، في الغالب، على اللجوء إلى سياسة تتذبذب بين الوعود وتلفيق القضايا، وبين التسامح والمطاردة.

في الفصل الخامس (تونس: نموذجاً لدول شمال أفريقيا)، أكّد الكاتب أنّ التيّار الإسلامي التونسي من الممكن التعرّف عليه بسرعة، بالمقارنة مع باقي دول أفريقيا الأخرى، وذلك راجع، بالأساس، إلى الشفافيّة التي تمتّع بها، وإن كانت نسبيّة، كما يرجع ذلك إلى أقدميّة هذا التيار بالنسبة إلى نظرائه في شمال أفريقيا، فأقدميّته تماثل أقدميّة التيّارات الإسلاميّة المصريّة. ونظراًإلى هذه الأقدمية، يرى دارسو التيار التونسي أنّه حالة نموذجيّة؛ لأنّه تجاوز العديد من المراحل، التي ما زالت التيارات الأخرى تجهلها إلى حدّ ما؛ بل إنّه بدأ حركته بداية غير مسبوقة عن طريق الطفرة، وقد أسهمت شخصية راشد الغنوشي في إضفاء طابع مرجعي تأسيسيّ على التجربة التونسيّة، على الرغم من أنّ ظهور نظيره الجزائري قد اختلس جزءاً من الأضواء المسلطة عليه.

ومع صدور مجلة المعرفة، سنة (1972م) ذات الطابع الإسلامي، بالإضافة إلى تحليل الموضوعات الدينية، التي كان راشد الغنوشي يتناولها في المحاضرات الدينية التي كان يلقيها، ازدادت سرعة التبلور المذهبي، وبدأ الإسلاميّون التونسيّون ينسلخون عن المجال الروحي الصرف ليستقرّوا، شيئاً فشيئاً، في المجال السياسي، مروراً بالمجال الثقافي، ثمّ المجال الاجتماعيّ، متأثّرين بالإخوان المسلمين، الذين قام السادات بإطلاق سراحهم، ليعطي الفرصة لراشد الغنوشي للقاء والاتصال بهم في سورية. وفي أواخر (1977م)، قام نظام الحكم في تونس بشنّ حملة صحفيّة ضد الإسلام السياسي، ولكنّ أحداث كانون الثاني/يناير (1978م)، أزالت آثار هذه الحملة، وبذلك أعطت هذه الأحداث للمجموعة الإسلامية فرصة نشر أوّل بيان ذي طابع سياسي حقيقي في مجلّة المعرفة. وهذا البيان وجّه إدانته إلى اليسار الماركسي الجامعي أكثر ممّا وجّهها إلى نظام الحكم.

وبعد أن سرد الكاتب تاريخ الحركة الإسلامية في تونس، وصراعها الدائم مع بورقيبة، وما ترتّب عليه من عنف واعتقالات، انتقل فرانسوا بورجا إلى الحديث عن مرحلة زين العابدين بن علي، الذي سعى، في بداية مشواره، إلى وضع حدّ لموجة القمع، التي كانت تُمارس في ظلّ عهد بورقيبة، وإعادة تشكيل فعلي للمناخ السياسي، ولكنّ القيام بمثل هذه العمليات كان يستدعي تجاوز مجموعة من العقبات؛ إذ لا ينبغي تهدئة الاضطراب النابع من تيار الإسلام السياسي بالإفراط في إرضاء حركة الاتجاه الإسلامي سياسيّاً؛ لأنّ مثل هذه الضمانات كانت كفيلة بتدعيم؛ بل بإثارة؛ تحفّظ المعارضة العلمانيّة، التي كان نظام الحكم يريد زيادة فرصة وصولها إلى الساحة السياسيّة لكي يحصل، بعد فترة معينة، على تأييدها له ضدّ تيّار الإسلام السياسي.

وعلى الرغم من الهدنة، التي تمّ توقيعها بين نظام الحكم والإسلاميين التونسيين في بداية الأمر، (والتي لم تدم طويلاً)، فقد عادت أجواء العنف لتخيّم من جديد على الأجواء؛ ففي (8 حزيران/يونيو 1989م)، رفض طلب حزب النهضة الاعتراف به رسمياً، وكانت الحجّة، التي لجأ إليها النظام، في رفضه هذا، أنّ زعماء الحزب ما زالوا تحت طائلة الأحكام، التي أصدرتها ضدّهم محكمة أمن الدولة في (1987م). وهكذا اختلفت، مرّة أخرى، السلطة مع الإسلام السياسي، وتعرّضت النواة الأمّ لهذه الحركة لقمع بلا حدود، «حيث استأنف خليفة بورقيبة سلوكه باعتباره جنرالاً، وبدأ أثر تكوينه يظهر، فهو رجل متمرّس على فنون المخابرات والقمع للحفاظ على الأمن»[5]؛ حيث تمت متابعة زعماء حزب النهضة يوم (24 أيار/مايو من سنة 1991م)، الذين كان من بينهم راشد الغنوشي، والمكنى، وكركر، وشمّام. وفي (15) حزيران/يونيو، تمّ توجيه تحريض إلى حكّام الأقاليم من أجل مواجهة تمرّد الإسلام السياسي.

في الفصل السادس والأخير من هذا الكتاب (الجزائر، ليبيا، المغرب)، قام الكاتب بتتبّع التيّارات الإسلاميّة في هذه البلدان، وكيف كانت نشأتها وتطوّرها، مؤكّداً أنّ التيّار الإسلامي الجزائري كان أقلّ التيارات اكتمالاً وأقلّها تنظيماً؛ فقد ظلّ، حتى أحداث (1988م)، من بين تيارات شمال أفريقيا، التي لا نعلم عنها الكثير، لكن بانتخابات (1991م)، اتضح لنا المكان الذي تحتلّه تيّارات الإسلام السياسي في هذا البلد، هذه الانتخابات استطاعت وحدها إثبات خطأ الأطروحة، التي ترى أنّ تيّار الإسلام السياسي لا يمثل إلا مجموعة صغيرة من المتطرّفين، وأنّ أعضاءها قد يغريهم، دائماً، الوصول إلى السلطة بالقوّة؛ لأنّهم يخشون أن تؤدي نتائج الانتخابات إلى تهميشهم.

أمّا في المغرب، فقد استطاع الحسن الثاني أن يسدّ الباب أمام التيّار الإسلامي في بداية الأمر، وذلك بسجن صاحب رسالة (الإسلام أو الطوفان)، بعد أن ذكّر الملك بالالتزامات، التي يمليها عليه الإسلام، كما استطاع (أي الملك) أن يعمّق وجود الخطاب الديني في الدولة، وبهذين الإجراءين استطاع النظام الحاكم أن يقلّل من المساحات المتاحة أمام الأصوليّة المعارضة. لكن مع نهاية الثمانينيات، بدأت تظهر على الساحة السياسية مجموعة من التغيرات كان أبرزها السماح بتأسيس ترسانة من الجمعيات الدينية، أهمها جمعية الشبيبة الإسلامية، التي أسسها عبد الكريم مطيع، والجماعة التي أسسها عبد السلام ياسين، الذي أصبح بمثابة النواة الصلبة في المعارضة الإسلامية.

أمّا في ليبيا، فقد تأجلت نشأة تيار الإسلام السياسي لمدة طويلة، وذلك راجع، أساساً، إلى عملية «القضاء على الاستعمار الثقافي»، التي قام بها العقيد القذافي، عن طريق تنفيذ سياسة التعريب، وإضافة بعض العقوبات، التي ينص عليها القرآن، إلى القانون، وبهذه الممارسة، استطاعت «أصولية الدولة» أن تحتل كلّ الأرضية، التي من المحتمل أن تحتلها «أصولية المعارضة»، وبعد تمكّن القذافي من مقاليد الحكم، أصبح أكثر تدخلاً في المجال الديني؛ حيث كان يرمي إلى إعادة قراءة الفقه والتخلّي عن السنّة مصدراً للتشريع، وإلى التخلي عن بعض الأحكام الدينية، التي تتعارض مباشرة مع فلسفته السياسية، وهذه الإجراءات كلّها أعطت الفرصة للتيار الإسلامي من أجل الانتفاض والظهور من جديد، وهو الأمر الذي فتح الباب على القمع والمطاردات لمناضلي الإسلام السياسي بهذا البلد.

وفي ختام هذا الفصل، أكّد فرانسوا بورجا أنّ اختفاء معمّر القذافي، الذي يمثل التجربة الجماهيرية، قد يكون ضرورياً لكي يتمّ تغيير فعليّ في الموقف السياسي الداخلي، تغيير يمهّد السبيل لبداية انتقال ديمقراطي يسمح ببروز التيار الإسلامي كفاعل في الحياة السياسية.

لقد استطاع فرانسوا بورجا أن يشرّح ظاهرة الإسلام السياسي، في منطقة شمال أفريقيا، ولاسيما في الدول المغاربية، متنبّئاً بكون التيارات الإسلامية أولى القوى المرشحة، في مختلف أنحاء العالم العربي، لتحلّ محلّ أنظمة حكم ما بعد الاستقلال، ولعلّ في نبوءته هذه جانب كبير من الصحّة؛ فالربيع العربي، الذي عرفته المنطقة، أفرز لنا خريطة جديدة على مستوى الساحة السياسية، خريطة شهدت احتكار «الإسلاميّين» للسلطة في تونس، ومصر، والمغرب، وإن كان ذلك لزمن يسير.

المصدر:

بورجا، فرانسوا، الإسلام السياسي: صوت الجنوب، ترجمة لورين زكرى، دار العالم الثالث للنشر، بالتعاون مع المركز الفرنسي للثقافة والتعاون العلمي، القاهرة، ط2، 2001م.


1 نشر في إطار مشروع بحثي تحت عنوان "مفهوم تطبيق الشريعة في فكر دعاة الإسلام السياسي مقاربة نقديّة"، تقديم أنس الطريقي، مؤسسة مؤمنون بلا حدود للدراسات والأبحاث.

[2] بورجا، فرانسوا، الإسلام السياسي: صوت الجنوب، ترجمة لورين زكرى، دار العالم الثالث للنشر، القاهرة، ط2، 2001م، ص ص 21-22

[3] المصدر نفسه، ص 95

[4] المصدر نفسه، ص 14

[5] المصدر نفسه، ص 239