الإسلام في مرايا ما بعـد الحداثة


فئة :  مقالات

الإسلام في مرايا ما بعـد الحداثة

مقدّمة

إذا كانت حركة الاستشراق قد بدأت تقريبًا مع نهاية القرن الثامن عشر، وبلغت ذروتها في منتصف القرن العشرين، ثم خفت بريقها تدريجيًا بعد ذلك؛ فإن تيار الاستشراق لم ينقطع بعد، بل هو في حالة من التدفق الدائم، وإن اختلفت أدواته ومقارباته. ويمكننا بالتأكيد التحقق من هذه الفرضية من خلال الفحص المتعمق لأعمال نتشه ودريدا وفوكو وجان بودريار وجوليا كريستيفا وسلافوي جيجك، وروايات بورجس ورشدي وباموك. في الواقع، تمثل هذه الأسماء مجتمعة نوعًا جديدًا ومترسخًا من الاستشراق. ودون الخوض في الجدل الدائر حول تعريف مصطلح ما بعد الحداثة "المرتبك لدرجة مريبة" أو ترسيم ملامح الاستشراق أو التمركز الأوروبي أو الإمبريالية، لأن هذه الأمور نوقشت من قبل في سياقات مختلفة، يمكننا الاعتماد على تلك الأسماء التي شكلت معالم بارزة في فضاء الفكر الفلسفي في النصف الثاني من القرن العشرين، باستثناء نتشه، لتلمس صورة الإسلام، أو على الأقل الشرق، كما تمثلوها في مؤلفاتهم. يعتمد هؤلاء المفكرون - وهم يعيدون تقييم المنجزات الحداثية، بوصفهم ما بعد حداثيين - "يستحضرون شرقًا إسلاميا/عربيا"، رغم أن هذا الاستحضار، كما سنرى، له طبيعته المراوغة التي تستدعي موقفًا تحليليًا تارة وموقفًا نقديًا تارة أخرى، وهو ما تتكئ عليه هذه المقالة في مجملها كمنهجية تعتمدها في البحث. في الواقع، لا يوجد نسيج متماسك يجعلنا نفترض عناصر مشتركة تجمع بين التمثلات ما بين الحداثية، حيث لا يمكن تصنيف تلك التمثلات إلى فئات واضحة المعالم، أو على اعتبار أنها تصب في اتجاه واحد؛ سواء كان نقداً قاسيًا أو قبولًا غير مشروط، بل يمكننا التعامل مع الأمر وكأنه نوع من المقارنة الثقافية أو محاولة للإجابة عن تساؤل يدور حول طبيعة الحضور الإسلامي لدى بعض من مفكري ما بعد الحداثة؛ باختصار صورة الإسلام لديهم.

***

لا ينتمي نتشه (1844 - 1900) زمنيًا بطبيعة الحال إلى مرحلة ما بعد التحديث، لكن ينظر إليه عادة على أنه المفجر الأول معرفيًا لتيار ما بعد الحداثة، وسنجد موقفه من الأديان الثلاثة عموما، وقد جاء بصورة مركزة ومباشرة في كتابه الذي يحمل عنوانا موحيًا "عدو المسيح". جاء اهتمام نتشه بالإسلام من خلال إشارات محدودة في بعض شذراته، حيث رأى فيه تجسيدًا للقيم "الذكورية"، في ضوء مقارنته بالمسيحية. فنتشه، الذي لا نجد في كتاباته أي ذكر لآية قرآنية، يؤكد بوضوح أن الإسلام يولي أهمية كبيرة للحياة في مقابل المسيحية التي ينظر إليها نتشه على أنها تحمل دعاوى الانسحاب من الحياة وادعاء الورع والزهد. ورغم أنه لا يلقي بالًا لدلالة كلمة "إسلام" (والتي تعني الخضوع)، فإنه ينظر إلى الإسلام بوصفه دينًا إيجابيًا، لكونه عقيدة لا تدعو للانسحاب من الحياة، كما أن قيما كالجهاد ونشر الدين والقصاص فيها ترسيخ لمعانٍ إيجابية، ولعل فلسفة نتشه التي تقوم على فكرة إرادة القوة والإنسان الأعلى كانت هي الدافع وراء اتخاذه لهذا الموقف.

لم تكن معرفة نتشه بالإسلام موسوعية أو عميقة، إذ لا يورد في دفاتره سوى مصدرين لمستشرقين ألمانيين شهيرين هما يوليوس فلهوزن J. WELLHAUSEN مؤلف الدولة العربية وأوغست مولير A. MÜLLER صاحب كتاب الإسلام في الشرق والغرب، لكن بالرغم من ضعف هذا الزاد، فإن نتشه قد صاغ بفضل قوة حدسه أفكاراً وخاطرات لافتة في شأن الإسلام الثقافي، وحتى العقدي. يكتب نتشه في كتابه الدجال "لقد حرمتنا المسيحية من حصاد الثقافة القديمة، وبعد ذلك حرمتنا أيضاً من حصاد الثقافة الإسلامية. إن حضارة إسبانيا العربية، القريبة منا حقًا، المتحدثة إلى حواسنا وذائقتنا أكثر من روما واليونان، قد كانت عرضة لدوس الأقدام- لماذا؟ لأنها حضارة استمدت نورها من غرائز أرستقراطية، غرائز فحولية، ولأنها تقول نعم للحياة، إضافة إلى طرائق الرقة العذبة للحياة العربية... لقد حارب الصليبيون من بعد عالمًا كان من الأحرى بهم أن ينحنوا أمامه في التراب- عالم حضارة إذا قارنا بها حتى قرننا التاسع عشر، فإن هذا الأخير قد يظهر فقيراً ومتخلفاً! لقد كانوا يحلمون بالغنائم، ما في ذلك من شك، فالشرق كان ثرياً!... لننظر إذن إلى الأشياء كما هي! الحروب الصليبية؟ إنها قرصنة من العيار الثقيل، لا غير!"[1]. كثير من الدراسات التي ناقشت موقف نتشه من الأديان عموما، وموقفه من الإسلام على وجه التحديد، تربط بين موقفه هذا وبين فلسفته العامة، خاصة فيما يتعلق بنسق القيم الجديد الذي أراده وفلسفته عن الإنسان الأعلى، وقبل هذا كله مناقشته المستفيضة لديالكتيك السيد والعبد. إن نسق القيم الذي دعا إليه نتشه يتعارض في مجمله مع النسق الذي رسخته المسيحية، واليهودية أيضًا، ويمكننا أن نلمح ذلك بوضوح عندما نتأمل جانبا من الصفات التي حددها نتشه للإنسان الأعلى، لندرك على الفور حجم الهوة الفاصلة بينها وبين القيم الدينية التي دعت إليها المسيحية من منظور نتشه[2]:

- الإنسان الأعلى ليس لديه سوى هدف واحد هو الانتصار والسيادة، بصرف النظر عن الوسائل التي تمكنه من تحقيق ذلك أو حتى الضحايا التي قد تنتج عن هذا.

- الإنسان الأعلى إنسان حر قادر على تحطيم كل القيود، فهو لا يتقيد بالحدود الأخلاقية الموروثة للخير والشر، وإنما يخلق منظومته القيمية بنفسه.

- الإنسان الأعلى عند نتشه هو إنسان متميز متفرد لا يعنيه المجموع في شيء، وبالتالي فهو يغلب الكيف على الكم، ولا يؤمن بفكرة المساواة، إنه إنسان مترفع لا يسير وفق ما يسير عليه العامة بل ينشد السمو الدائم.

- الإنسان الأعلى لا يستهزئ بالجسد ويزدريه، فهو يؤمن أن الجسد، وليس العقل، والشهوة والغريزة أساس الحياة.

- الإنسان الأعلى ليس شفوقا، فالشفقة ضعف ويترتب عليها سمات سلبية عديدة، إن الإنسان الأعلى يظهر الشفقة فقط لكي يفرغ هذا الشعور ولا يكبته لكن لابد أن يمتلك القدرة على التحكم فيه.

- الإنسان الأعلى لا يعيش حياة المسالمة والدعة، بل يعيش حياة الحرب والخطر، حتى إذا لم يكن ثمة خطر فليخلقه هو بنفسه.

يؤكد نيتشه بوضوح أن الإسلام يولي أهمية كبيرة للحياة في مقابل المسيحية التي ينظر إليها على أنها تحمل دعاوى الانسحاب من الحياة وادعاء الورع والزهد

تلك هي الصفات التي رأى نتشه ضرورة توافرها في الإنسان الذي ينشده أو الإنسان النموذجي، وقد رأى أنها على النقيض مما تدعو إليه أخلاق الشفقة والعبودية التي رسختها المسيحية، وتحولت بمرور الوقت إلى نموذج معياري للأخلاق القويمة. كان أحد الأسباب الرئيسة للسخط الذي صبه نتشه على النسق القيمي المسيحي، أنه يقوم في مجمله عل عقيدة الزهد والانسحاب من الحياة، ينفي الدنيا من أجل الآخرة، إنسان المسيحية عينه شاخصة باستمرار صوب السماء، معلقة بها، لا يرى العالم من حوله، وهو يرى نفسه نتاجا للخطيئة، نزل إلى الأرض تلاحقه الخطايا ويتوارثها جيلا بعد جيل، ولا سبيل له للتطهر إلا بالفكاك من هذا العالم والعودة إلى حالته الأولى التي كان عليها، في جنة الخلد. هذه الفكرة التي تحقق مقام العبودية، وفقا للمسيحية، تأتي محملة بنسق قيمي يخدمها ويعضدها، والنتيجة إنسان غير فاعل في الحياة، يرضى بالانسحاق، ويتلذذ به مع مرور الوقت، يدعي العفة رغم عدم قدرته على القيام بما يعارضها.

ربما تكون غضبة نتشه على الأخلاق المسيحية مفهومة الآن، عندما نقرأها في سياق فلسفته العامة، لكن السؤال هل تتوافق القيم التي دعا إليها نتشه مع الأخلاق التي يدعو إليها الإسلام؟ أو بمعنى أدق، ما الذي رآه نتشه في الإسلام ويبدو على توافق مع النسق القيمي الذي تبناه؟ ربما وجدنا الإجابة عن هذا السؤال لدى شاعر باكستان الأشهر محمد إقبال (1877 - 1938) في كتابه تجديد التفكير الديني في الإسلام. كان إقبال يتفق مع نتشه في غضبته تلك على الكهنوت، وكراهيته لأخلاق الخنوع والضعف التي يغرسها الكهنوت في صفوف المجتمع؛ وأكثر شيء وحَّد فيلسوف الشرق بفيلسوف الغرب هو تمردهما الشديد على فكرة "المصير المحتوم للبشرية"؛ ففي حين يصيح الأول في وجه المسلم الذي كبَّلته عقيدة القضاء والقدر المحرفة: "ويلك!! أنت هو القضاء.. أنت هو القدر.. لا يستطيع القضاء ولا القدر أن يركب ظهرك، إلا إذا وجدك منحنيًا"[3]، يعلن الثاني على لسان "زارا" العائد من الجبل في هكذا تكلم زرادشت: "الكون يتجدد كل يوم، والحقائق تعيد إنتاج ذاتها، إنه العود الأبدي.. الشعري والعنكبوت وأفكارك التي تكررها بلا سأم، والإنسان الأعلى نفسه.. حياتك كالساعة الرملية تمتلئ وتغور، ولن تنتهي إلى الأبد.. أنت حبة ستتلألأ إلى الأبد"[4]. والواقع أن ما وحَّد الفيلسوفين الشاعرين هو المعاناة التي تعيشها الإنسانية عموما من مآسي مآلات الأديان، والتي انتهت إلى احتقار الإنسان وإذلاله، في الوقت الذي كان عليها أن تكرمه وترفع شأنه. لقد عانى الشرق كما عانى الغرب من أخلاق الذلة والهوان التي يكرسها الخطاب الديني بدعوى إرضاء الرب.

لذلك التمس إقبال في فيلسوف "الإنسان الأعلى"، معالم ثورة حقيقية جارفة، تجتث في طريقها كل مظاهر الركون والاستسلام؛ فتحرر النفوس من قيود الكهنوت، كي يتمكن الإنسان من السعي في الأرض والمشي في مناكبها إعمارًا وإصلاحًا كما أمره الله. والإله الحق هو من يذود عن أبنائه، لا من يستسلم أمام أعدائه؛ فإذا أصبح هو نفسه عاجزًا عن حماية نفسه، فعلى الأبناء أن يتحملوا مسؤولية أنفسهم، وأن يتناسوا أمر أبيهم الذي صُلب، وأن يتخلَّوا فورًا عن وصايا الأب بالتواضع والسكينة والتسامح؛ فماذا عساها أن تفعل الحملان الصغيرة أمام الذئب الشديد، وهل يُطلب منها أن تكون متسامحة أو مسالمة تجاه عدوها؟!

في مقابل ذلك يؤكد الإسلام، وفقًا لنتشه، على قيمة الحياة والفاعلية في العالم ويتخلص من الإرث الثقيل للخطيئة الذي وصم البشرية منذ وجودها بصفات الخزي والعار. كما أن مفاهيم الإسلام عن القوة وقيمة الجهاد هي بمثابة طاقة خلاقة دافعة للأمام. غير أن كل هذه المعاني لا تفضي بنا في نهاية الأمر إلى القول بأن فلسفة نتشه متوافقة في عمومها مع تعاليم الإسلام، لأن فلسفة نتشه لا تتوافق مع أي دين في واقع الأمر، بل هي قامت في الأساس كنوع من الانقلاب على تاريخ الميتافيزيقا الغربية ومحاولة لتحطيم كل الأطر والقوالب التي تعزل الإنسان عن عالمه وتحيله إلى ما ورائه.

***

إذا انتقلنا إلى النصف الثاني من القرن العشرين والذي يوصف زمنيًا بعصر ما بعد التحديث وتوصف الثقافة المواكبة له بثقافة ما بعد الحداثة، سنجد حضورًا للإسلام في مؤلفات بعض مفكريها كميشيل فوكو، وجاك دريدا، وجان بودريار، وسالافوي جيجك.

لن نجد اهتمامًا كبيرًا لميشيل فوكو بفهم طبيعة الإسلام من النواحي الإبستمولوجية والقيمية أو حتى من النواحي الثقافية والاجتماعية، بل يمكننا القول إن معرفته قد جاءت بصورة أساسية كنوع من المصادفة، وليس من باب الانشغال الفكري والدراسة المتطلعة لفهم الإسلام. بدأ اهتمام فوكو العارض بالإسلام بصورة غير مباشرة في التقارير التي كان يرسلها من إيران، أثناء عمله محررًا صحفيًا لجريدة إيطالية عام 1977. في تلك التقارير، نستطيع أن نعثر على تحولين مثيرين للاهتمام. الأول: يختص بعلاقة المفكر الفرنسي بما اصطلح على تسميته بـ"الكتابة الصحفيَّة الفلسفية". ذلك أن فوكو لم يعد ينظر إلى الكتابة الصحفية الفلسفية بوصفها ملحقًا ثقافيًا فحسب، بل صار ينشد التركيز على الأبعاد الفلسفية للموضوع الصحفي. والثاني يختص بتحوَّل الاهتمام لديه من الانشغال بالتساؤل حول حاضر الغرب إلى الانشغال بالحاضر الذي تعيشه بقعة من العالم "الآخر". على مدار عامين كتب فوكو مجموعتين من المقالات، جاءت الأولى لتسرد وجهة نظر فوكو فيما رآه انتفاضة شعبية رفعت لواء الحكومة الإسلامية، وما استدعاه ذلك من التساؤل عن دور الإسلام في انبعاث هذه الطاقة الروحية السياسية. وقد حاول فوكو الإجابة عن هذا التساؤل في البحث عما قد يرسخه الدين الإسلامي من تقاليد تمثل قوة حقيقية لمواجهة الاستبداد والطغيان. وعبر تحليله لبعض الفقرات المهمة توصل فوكو لمعنى الثورة الإيرانية ودلالتها وارتباطاتها بالدين، ليصل في نهاية تحليله إلى أنها ليست ثورة بالمعنى التحليلي التقليدي للمصطلح. وإنما مساس بجوهر الثورة بوصفها: "نهوض أمة بأكملها ضد أية سلطة تضطهدها". وليس من شكّ في أن فوكو رأى تمظهر مفهوم الكينونة الذي يقترب من هذه الـ "نحن" خلال ثورة الشعب الإيراني ضد الشَّاه. والمفارقة الكامنة هنا أن هذه الـ "نحن" الغربية قد وجدت بينهم "في الشرق/ إيران". وبدا السؤال "ما هو التنوير؟" قد وضع متوازيًا مع سؤال أكبر، برز في سياق ظهور نمط حديث من التمييز الفكري بين الأشياء: إنه سؤال مونتسيكو: كيف يمكن للمرء أن يكون فارسيَّا؟ إنه سؤال يعبِّرُ عن الحيرة التي تصيبُ العقل الحديث حين يتواجه مع آخريَّة راديكاليَّة. وقد استثمر فوكو، بصورة أكيدة، السؤال الأخير، وهو بصدد الإجابة عن السؤال الأول. غير أن تلك الإجابة، لم تثر ما اتسمت به من عرضيَّة استغرابنا. فقد أملاها ما بدا لـ "فوكو" أنَّه إعادة تعريف للذات الحديثة متوقفاً، في ذلك المفصل التاريخي، عند فهم القوة المسيَّرة للانتفاضة الإيرانية ونجاحها الباهر. وعلى خلاف الوضعية الكانطيَّة، فقد بدا من المحال، في لحظة بعينها، أن يعبِّر الفيلسوف عن خطاب سياسي حديث، بالاتكاء على المجتمع "الما بعد ثوري" الذي ينتمي إليه، إذ غدا من غير الممكن العثور على العلامة الحقيقيةَّ؛ أي الحدث ذي القيمة. يقول:

"أية علامة؟ علامة على وجود قضيَّة أبديَّة وعابرة للتاريخ قادت الجموع على طريق التقدّم... أهي الثورة بوصفها مشهداً لا إيماءة، الثورة كبؤرة لحماسة شهودها لا كمبدأ لانتفاضة المشاركين فيها، بصرف النظر عن مدى نجاحها أو إخفاقها غير ذي الصلة بموضوع التقدم، أو على الأقل كإشارة إلى التقدُّم الذي نرنو إليه."[5] ولم يكن بمقدور فوكو عند هذه النقطة أن يرجئ السؤال حول "الدور" الذي لعبه الإسلام في يقظة الروح هذه. وقد شرع إبان الانتفاضة باقتراح الإجابـة التاليـة:

"اخترعت بلاد فارس الدولة منذ فجر التاريخ، ثم استودعت الإسلام مناهجها الخاصة، وعمل إداريُّوها كوادر للخلافة الإسلامية. ومن الإسلام نفسه استخلصت ديناً منح معتنقيه موارد غامضة لمقاومة سلطة الدولة. فهل يتوجب علينا أن نرى عبر نشدان حكومة إسلاميَّة، تصالحاً، أو تناقضاً، أم إننا على أعتاب تحديث ما؟."[6]

إن سؤال فوكو الذي كان مصاغًا جيّدًا لفهم الإسلام، لحظة عمله، في أكثر المراحل السياسيَّة أصالة، لم يكن تمظهرًا لذلك الموقف السياسي الجزئيّ، الذي طبع الاتجاه الغربي العام في رؤيته للإسلام الذي يلغي الذاتية. يقول:

"ربما كمنت روح الثورة حين قال الإيرانيون لأنفسهم وهم ينتفضون: يتوجب علينا أن نغيِّر هذا النظام ونقتلع هذا الرجل (الشاه)... لكن علينا أن نغيِّر ما بأنفسنا في المقام الأول... وينبغي، أيضًا، على طريقتنا في الحياة، وبالنظر إلى العلاقة التي تجمعنا بالآخرين والأشياء والأبديَّة والله... أن نتغير بصورة كاملة. ولن يكون هناك ثورة حقيقيَّة، إذا لم يتحقق هذا التغيُّر الراديكالي في تجربتنا الحياتيَّة. أعتقد أن الإسلام في هذا المستوى تحديداً قد لعب دوراً... فلقد كان الإسلام بالنسبة إليهم الوعد والضمانة باجتراح أمر يغيّرُ، بصورة راديكالية، ذاتيتهم."[7]

في تحليل فوكو، نستطيع أن نتلمس وجود شرق خفي يكمن وراء الغرب الظاهر لديه "إن تصورات فوكو لتلك الطاقة المتدفقة لدى الإيرانيين، وحراكهم الثقافي الذي يعود لآلاف السنين، والسمة الجماعية المتناغمة المطلقة لديهم، هي جميعها تصورات لا تكمن اشتراطاتها الإبستمولوجية فيما رآه فوكو في إيران بالفعل، بل فيما كان قد قرأه لنتشه قبلاً ورآه في تونس من قبل حتى أن تطأ قدمه أرض إيران"[8]. وربما كان السبب الأكثر وجاهة الذي جعل ذهن المفكر الفرنسي مشدودا إلى التحول الكبير في المجتمع الإيراني راصدا الولادة العسيرة لحقبة تاريخية مغايرة لهذه الرقعة الحضارية الضاربة في القدم؛ هو التلاحم الذي فهمه بين الفكر والناس، وبين العقيدة والسلوك، وقدرة الأفراد الرهيبة من خلال الأفكار الثورية على تغيير مجرى التاريخ والتأثير في الأشخاص والعقول وتحريرهم من الأوهام والخوف والدفع بهم إلى المشاركة في صنع المستقبل. ويذكر فوكو المفكر علي شريعتي، باعتباره من الذين هتف الناس باسمه زمن الثورة، ورفعت صوره في الشوارع، وكتب اسمه بالخط العريض في التاريخ. ويسمي فوكو شريعتي الحاضر الغائب، إذ يقول عنه: "عند هذه النقطة نلتقي بشبح يتصيد كل الحياة السياسية والدينية في إيران اليوم، إنه شبح "علي شريعتي". إنه الرجل الذي منحه موته قبل عامين هذا المنصب الرفيع في الإسلام الشيعي، منصب الحاضر الغائب. أثناء فترة تواجده في أوربا للدراسة، كان علي شريعتي على اتصال مع قادة الثورة الجزائرية، ومع حركات مسيحية يسارية عديدة، ومع تيار من الاجتماعيين اللاماركسيين. وقد حضر محاضرات عند جورج جيورفيتش، كما قرأ علي أعمال فرانز فانون، إضافة إلى لويس ماسينيون.[9] والكلمة السحرية التي وقف أمامها فوكو مندهشا هي politique spirituelle، والتي يمكن ترجمتها بالروحانية السياسية. إنه لم يفهم هذه الطاقة الهائلة التي لعبها العامل الديني في مقاومة الاستبداد والتخلف والاستعمار غير المباشر والتبعية للغرب، وكل ذلك كان تحت شعار الروحانية السياسية، فهل كان مجرد استبدال كلمة الروحانية بالواقعية أو المادية كافيا لتنفجر ثورة شعبية عارمة مثلت منعطفا كبيرا لتاريخ المنطقة والعالم؟ ما الذي منع الروحانية السياسية من أن تكون مجرد كلمة مثالية أو مقولة طوباوية؟

***

لم يكن تعاطي الفيلسوف الفرنسي جاك دريدا مع الإسلام بنفس درجة وضوحه لدى فوكو. ونستطيع أن نلحظ اهتمامه فقط في سياق اهتمام أوسع بمفاهيم أخرى كالمركزية الغربية والتعددية والاختلاف. من هنا نجده يناقش، في إطار نقده للمركزية الأوروبية، ضرورة تفكيك الفهم الأوروبي للإسلام. فنحن نعرف جيدًا، كما يقول، أن الفكرين العربي والاغريقي امتزجا، في لحظة تاريخية معينة، بحميمية، ويتمثل أحد أول واجباتنا إزاء ذاكرتنا الثقافية والفلسفية في إيجاد التطعيم (Greffe) وهذا الإخصاب المتبادل، من الوجهة الفلسفية، بين الاغريق والعرب واليهود "أفكر في إسبانيا. أجد أن عائلتي سكنت الجزائر قبل الاستعمار وقدمت على الأرجح من هذه الإسبانيا، التي شهدت الفكر الإغريقي والفكر العربي والفكر اليهودي الذين امتزجوا بحميمية بالغة. وأعتقد أن إحدى مسؤولياتنا نحن كبار المثقفين، اليوم، تتمثل في إيجاد هذه المنابع وهذه اللحظات، حيث إن هذه التيارات، بدلا من مقابلة كل واحدة بالأخرى، مخصبة بالتبادل. من جهة أخرى، لا أقابل الشرق بالغرب، على وجه الخصوص لما يتعلق الأمر بالجزائر. في البداية، الثقافة العربية والاسلامية أو العربية الإسلامية للجزائر والمغرب هي ثقافة غربية. هناك صور عدة للإسلام، وهناك صور عدة للغرب".[10]

كما سبق وذكرنا، لم يكن اهتمام دريدا بمعرفة الإسلام حقيقيًا أو جوهريًا، ورغم أن بعض آرائه فإنَّ وجهة نظره حول الثقافات غير الغربيَّة تتماشى وفلسفة التعدديَّة التي تمنح متسعاً لكلّ الأديان والفلسفات والثقافات والتقاليد دون تمييز أو إقصاء، وهو يستعمل مصطلح التعدُّديَّة كبديل لمصطلح الكونيَّة Universalism التي ترتبط بالدولة القوميَّة والإقليميَّة، في حين أنَّ الكونيَّة (الديمقراطيَّة العالميَّة) تتجاوز المواطنة الضيقة والدولة القوميَّة. يقول حول ذلك: "إذا كان لا بُدَّ من قيام حوار بين ما نسميه الغرب والشرق، بين مختلف الأجواء الثقافيَّة والدينيَّة في عالمنا، إذا كان مثل هذا التبادل الفكري لا التسلطي ممكناً دون العودة إلى العنف، إذن يجب أن يتمَّ ذلك وفق منظور الديمقراطيَّة المستقبليَّة التي لا ترتبط بالدولة القوميَّة أو المواطنة الضيقة أو الإقليميَّة. فذلك إذن هو شرط حريَّة التعبير والتبادل الحر لما نسمّيه الآن حواراً.".[11]

من هذا المنطلق، يميز دريدا بين الديمقراطيَّة المعتادة، التي يسعى فيها كلُّ طرف إلى الفوز بعدد أكثر من الأصوات على أساس المنافسة والنديَّة، وبين الديمقراطيَّة المستقبليَّة التي هي عبارة عن وعد، ولا توجد الآن في أيّ مكان من العالم ديمقراطيَّة تتطابق ومفهوم هذه الديمقراطيَّة. ولعل هذه الديمقراطيَّة بمثابة مطلب مثالي وحلم كبير، لا يمكن تحقيقها على أرض واقع يتَّسم بالصراع والإقصاء والتنابذ، ودريدا يدرك بعمق أنَّ الظروف الراهنة لا تسمح بإرساء ذلك النظام الديمقراطي، الذي لا يصلح إلا لمستقبل قد يأتي وقد لا يأتي! غير أنَّه يمكننا بفضل قيم الحوار والاحترام والاعتراف بالآخر أن نمضي على الطريق المؤدية إلى هذه الديمقراطيَّة المنشودة، "التي تسمو على السيادة القوميَّة أو الإقليميَّة، وتوظّف كلَّ التقنيات الجديدة لتحطيم الحدود الترابيَّة، وتطرح منظوراً لقانون عالمي جديد".[12]

***

كان انشغال الفيلسوف الفرنسي جان بودريار بالإسلام جزءا من تحليله للمشهدية المعاصرة التي تلعب فيها الصورة ووسائل الإعلام دورًا رئيسًا. وقد توقف بودريار على وجه التحديد أمام أحداث الحادي عشر من سبتمبر ولم يتجاوز اهتمامه بالإسلام الكتاب الذي كتبه عن هذا الحدث المحوري في التاريخ الحديث. كتب بودريار كتابه قوة الجحيم Power Inferno (2002) ليحلل فيه طبيعة أحداث الحادي عشر من سبتمبر ورمزيتها. يذهب بودريار إلى أن النظام العالمي الجديد لا يترك مجالا للتمايزات، وكل ما يخرج عن النظام ينبغي مواجهته بالقوة. فالأمر لا يتعلق بصراع الحضارات، كما يروج بعض المحللين، بل بمواجهة أنثربولوجية بين ثقافة عالمية متماثلة وكل ما يحتفظ في أي مجال بشيء من التمايز يحول دون تذويبه في تلك الثقافة. ووفقا لتلك الثقافة العالمية، تغدو كل الأشكال المختلفة للخصوصية بمثابة هرطقات تماما كما هو الحال في الأصولية الدينية المتطرفة. إن رسالة الغرب، وفقا لبودريار، تتمثل في إخضاع الثقافات المتعددة لقانون المعادلة القهري بكافة الوسائل الممكنة. إن مثل هذا النظام يرى في كل شكل عصي عليه إرهابا مفترضا. هكذا حال أفغانستان، فالعالم الحر لا يتحمل بلدا يمنع الحريات الأساسية للإنسان. ولا يتحمل أن يقف بلد ما في مواجهته، مهما كانت خلفيته الدينية التي يستند إليها، فمن غير المسموح الاعتراض على الحداثة في نزعتها الكونية".

" إن أهمية جيجك تتمثل في قيامه بتفكيك الصورة المعاصرة للإسلام في الغرب، انطلاقا من تفكيكه لمفاهيم صارت اليوم مستقرة وراسخة كـالأصولية الإسلامية"

لقد صار الحادي عشر من سبتمبر علامة ثقافية عالمية، وهو اليوم الذي أفاق فيه الناس على صورة طائرتين تخترقان برجي مركز التجارة العالمي في نيويورك، واحدة تلو الأخرى. كانت الصورة وهي تبث تليفزيونيا تحمل كل مقومات الإخراج السينمائي، وتضاهي أدق فنيات السينما، حتى في الإثارة والتشويق. وبما أنها صورة غير عادية وغير تقليدية، فقد توفر لها من وسائل الإشهار والتعميم ما جعلها صورة كونية يشترك كل البشر في تلقيها وتأويلها. لقد كانت صورة ناسخة لكل ما سواها من صور وبلغت قوتها النسخية أن ألغت كل ما سبقها وصارت المصدر التأويلي لكل ما بعدها، وهي بهذا صورة تترجم كل عناصر الهيمنة الثقافية والبصرية، حيث يتقابل طرفان لم يكن من الممكن أن يتقابلا قبل ذلك التاريخ، وفي قلب نيويورك تحدث معركة عالمية بين قوتين إحداهما عظمى ويرمز لها البرجان الفارهان، والأخرى ناشئة لا تملك غير إرادة المواجهة.

كان على الولايات المتحدة الأمريكية بعد انهيار الاتحاد السوفيتي أن تخلق عدوها بنفسها، عدوها الذي من خلاله تستطيع أن تحقق مصالحها وتعيد تشكيل خارطة العالم مرة أخرى. ولأن المصالح الأكبر للولايات المتحدة توجد في الشرق الأوسط، ولأن الدين الغالب في تلك البلاد هو الدين الإسلامي؛ كان من الطبيعي أن تسعى الولايات المتحدة لإحداث هذا التلازم بين الإرهاب والإسلام.

هذا المعنى نجده عند بودريار في تحليله لأحداث الحادي عشر من سبتمبر، فيذهب إلى أن المواجهة كانت سافرة هناك، فكيما يتحقق إخراج صورة كونية للحدث أراد صانعوه أن يكون عالميا وخططوا لإخراجه وإنتاجه، لكي يحققوا أعلى درجة من عالمية الصورة، وهو تخطيط ينافس في دقته أرقى أنواع الإخراج السينمائي في هوليوود. ومن المؤكد أن مفجري البرجين قد وضعوا في تصورهم ما يمكن أن تكون عليه صورة الحدث في التغطيات التلفزيونية. وفي المقابل، فإن المستهدف الأمريكي قد سعى إلى توظيف تلك الصورة توظيفا يضمن له تحقيق أكبر قدر من التأثير عبر تلك الصورة، مما يعني أن الطرفين كانا يمارسان لعبة في الإخراج والمونتاج من أجل إنتاج تأثير خاص تحدثه صورة البرجين، وهما ينفجران ثم ينهاران، ويكون ذلك فاتحة إخبارية عالمية وصورة كونية تلغي كل ما قبلها وتعيد كتابة التاريخ من لحظتها وصاعدا لكي تتغير اللغة ذاتها وتتبدل المصطلحات، وليست الأحداث فقط. فما حدث قد كتب لغة مختلفة وسجل مصطلحا ذا قيمة دلالية خاصة تعود إلى تلك الصورة وتحيل إليها؛ أي إن الصورة صارت هي المرجعية الدلالية للمصطلحات.

في الواقع، كما يرى بودريار، كانت أحداث الحادي عشر من سبتمبر تغيرا عالميا كونيا يحدث للثقافة البشرية، حيث تتولى الصورة رسم المعاني وتغيير المصطلحات. بهذا المعنى، نفهم لماذا دعا بودريار إلى التفكير في أحداث 11 سبتمبر في ما وراء الخير والشر؛ أي في ما وراء النزعة الأخلاقية الكلاسيكية؛ والنظر إليها من جهة النظام الذي أثرت عليه هذه الأحداث، حيث خلخلت قطبية رمزية معينة.

ويعيد بودريار تلك الضربة الرمزية كما يسميها هو، إلى نفس المنظومة التي أنتجتها، وكأنه يريد أن يكرر قول هيجل بأنه من القضية يتولد نقيضها، يقول "هم الذين نفذوا أحداث الحادي عشر من سبتمبر لكننا نحن من أراده، وإذا لم نأخذ في الاعتبار هذه الحقيقة، فإن الحدث يفقد أبعاده الرمزية كلها، ويصبح مجرد حدث عادي يمكن اختزاله في مجرد عمل إرهابي وينتهي الأمر عند هذا الحد. لكننا نعرف أن الأمور ليست بهذه البساطة. وأن ما حدث يتكئ على تواطؤ دفين يجد جذوره في أمكنة متنوعة. إنه صدى لفرض كل ما هو مُطلق ولكل قوة نهائية، وإن مبنيي مركز التجارة العالمي كانا التجسيد لهذه القوة المطلقة"[13]. والانهيار الذي تعرّض له المبنيان يفوق بأبعاده الرمزية ما تعرّض له البنتاجون لأنّه، على حدّ تعبيره، هو صورة لانهيار نسق كامل.

يتكشّف من ذلك التحليل إذن، أن بودريار لا يحمّل الطرف المعتدي كافة المسؤولية الأخلاقية عن الحدث، بل هو يحمل بالمثل الطرف المعتدى عليه ذات القدر من المسؤولية. فما حدث هو أحد نتائج النظام الأحادي، وهو يقول في هذا الصدد: "عندما يأخذ نظام ما لنفسه كلّ الأوراق، فهو يدفع بالآخر إلى تغيير قواعد اللعبة. والقواعد الجديدة متوحّشة لا ريب، لأنّ طبيعة هذا التحدي هي نفسها متوحّشة".[14]

إنّ المشهد الذي تحيل عليه أحداث البرجين تحكمه مفارقة تبلغ حد التداخل بين الشجب الأخلاقي والاتحاد المقدس ضد الإرهاب، وبين التهليل الاستثنائي لرؤية هذه القوّة الفائقة العالميّة، وهي تدمّر نفسها بنفسها وكأنّها ترتكب انتحارا مشهودا، ذلك "أنّها نظرا لقوّتها التي لا تحتمل، أججت كلّ هذا العنف المبثوث في أرجاء العالم، وهي التي أثارت هذه المخيّلة الإرهابية التي تسكننا جميعا"[15]. ووفق هذه النظرة، فإنّ الحدث يتعدّى بكثير مجرّد الحقد على قوّة عالمية مسيطرة، فمن المنطق أن يؤجّج تفاقم قوّة القوّة وتركّزها الرغبة في تدميرها، وأن تكون شريكة في تدميرها الخاص، فالغرب الذي يتصرّف، حسب بودريار، كما لو أنّه في موقع (الله) ذي القدرة الإلهيّة الكلية والشرعية الأخلاقية المطلقة يغدو انتحاريا، ويعلن الحرب على نفسه، وكان انهيار برجي مركز التجارة، وكأنّه تواطؤ غير متوقع بين الطرفين، المعتدي والمعتدى عليه. ويعتقد بودريار أنّ النّظام العالمي المهيمن يستلزم ضرورةَ وجود إرهاب، كي يستمرّ في العمل والسيطرة لأنّه وبدون نقيضه سينهار هذا النّظام، بل إنّ تواطؤا عميقا ينشأ بين الخصمين، ويتساءل بهذا المعنى عمّن يستخدم الآخر.

وقد حاولت وسائل الإعلام، بحسب بودريار، أن تلصق تهمة الإرهاب بالإسلام، فالنظام العالمي، المتمثل في شبكة المصالح الرأسمالية العالمية، لابد أن يخلق لذاته عدوا محدد المعالم يستطيع من خلاله أن يحقق مصالحه، فكان هذا العدو هو الإرهاب، وكيما يصبح محدد المعالم تم إلصاقه بالإسلام. في حين أن هذا الارتباط غير حقيقي في جوهره، لأن الإرهاب تم توليده من داخل النظام ذاته ولم يأت من خارجه "لا يتعلق الأمر بصدام الحضارات أو الأديان، كما يتعدى بكثير محاولة اختزاله في المواجهة بين الولايات المتحدة الأمريكية والإسلام. صحيح أن هناك تقابلا بينهما، لكنه تقابل يكشف، عبر طيف أمريكا (التي ربما كانت مركز العولمة، لكنها بالتأكيد ليست بمفردها) وعبر طيف الإسلام (الذي لا يرادف أيضا الإرهاب)، أن العولمة تخوض صراعا مع ذاتها"[16]. ويستطرد بودريار قائلا: "الحرب تلازم كل نظام عالمي وكل سيطرة مهيمنة، ولو كان الإسلام يسيطر على العالم لوقف الإرهاب ضد الإسلام"[17].

***

كان الفيلسوف الهيجلي والمنظر الثقافي سلافوي جيجك من المفكرين الذين اهتموا في تحليلهم للإسلام بما أطلق عليه "صناعة صورة الإسلام" التي ارتبطت في الولايات المتحدة، والغرب عمومًا، بالإرهاب أو الفاشية، في حين أن الأصولية الإسلامية لها وضع مختلف، لأنها لا تحيل على الإسلام ذاته بقدر ما تحيل على القهر الذي مارسه الغرب على الشعوب الإسلامية. ولهذا، فإن الحديث عن "فاشية إسلامية" هو نوع من التزييف الأيديولوجي، فالفاشية هي الفاشية. أما الحركات الإسلامية، فلا يمكن فهمها خارج السياق التاريخي وفي علاقتها بالليبرالية، لأن الأصولية محايثة لليبرالية، وهي رد فعل زائف عليها. إن أهمية جيجك في خريطة الاستشراق الجديدة تتمثل في قيامه بتفكيك الصورة المعاصرة للإسلام في الغرب، انطلاقا من تفكيكه لمفاهيم صارت اليوم مستقرة وراسخة كـ"الأصولية الإسلامية" و"النازية العربية" و"الفاشية الدينية"، ليكشف في نهاية المطاف أن تلك المفاهيم ما هي إلا الوجه الآخر للأيديولوجيا الغربية الليبرالية[18].

في كتابه الإسلام والحداثة[19] يربط جيجك بين إرهابيي باريس والأقلية المسلمة في أوروبا. فالإرهابيون بالنسبة إليه، يتصرفون كردة فعل على تهميش هذه الأقلية. لكن واقع الأمر يقول غير ذلك. فآخر شيء يفكر فيه أمثال هؤلاء الإرهابيين هو العمل لما فيه مصلحة الأقلية المسلمة في أوروبا والدفاع عن حقوقها. إنهم يقضون على تلك الحقوق، أو ما تبقى منها، ويجعلون حياة الأقلية المسلمة، التي غادرت بلدانها التي لم تعد بلداناً، أصعب مما كانت عليه من قبل، ويساهمون في انتشار أفكار اليمين المتطرف ووصولها إلى وسط المجتمع.

يقارن جيجك بين الإرهابيين وهتلر، وهي مقارنة نلتقيها دائماً في كتابات كتاب الإسلاموفوبيا في السياق الفرنسي، الذين يتحدثون عن الإسلام كفاشية خضراء. أما قراءته التحليلية للإرهاب كتعبير عن هزيمة الإرهابيين وضعفهم أمام عالم لا يفهمونه، فإنها تظل، لا ريب، أحادية التوجه. فالإرهابي ليس ذلك فقط. إنه نتاج حداثة عنيفة، ونتاج نزعات السيطرة التي تشكلها والتي تنظر إلى العالم، بطبيعته وثقافته وشعوبه، كموضوع للسيطرة. وفي هذا المعنى، فإن العنف الذي يصدر عن الإرهابي، أو بالأحرى الذي يصدر عبر الإرهابي، هو عنف موضوعي أكثر منه عنفاً ذاتياً. بل إن تصور الإرهابي عن دينه، يظل تصوراً حديثاً، لأنه يقوم على استهلاك أعمى وتصور سطحي. وربما كان جيجك محقًا في ربطه بين صعود الأصولية ونهاية المشروع اليساري في المجتمعات الإسلامية، أو فشل مشروع التحديث في الأطراف. لكن يتوجب التأكيد في هذا السياق، على أن المركز لم يكن متفقاً على تحديث الأطراف وتطوّرها. فالمنطق الكلياني للسوق لا يسمح بظهور منافسين جدد، كما الحال مع الصين مثلاً، لأن من شأن ذلك أن يهدد السيطرة الكاملة للرأسمالية الغربية.

الخاتمة:

ما يمكن أن يخلص إليه المتتبع لحضور الإسلام في كتابات معظم فلاسفة ما بعد البنيوية، أنه لم يكن ثمة جهد منظم حقيقي للتعرف عليه أو دراسته بشكل منهجي. في الواقع، لم تكن صورة الإسلام حاضرة بشكل قوي في تلك الكتابات، وعلى المتتبع لها أن يبذل جهدًا كبيرًا في البحث عنها وسط هذا الكم الضخم من المؤلفات. لكن هذا الغياب لم يكن قاصرًا على الإسلام فقط، بل امتد ليشمل الأديان الأخرى كافة. ويبدو أن الحساسية ما بعد الحداثية تجاه قضايا الميتافيزيقا قد أثرت بصورة كبيرة على المزاج الفلسفي ما بعد البنيوي في الابتعاد عن البحث في قضايا الأديان بصفة عامة. لم يحضر الإسلام إلا بصورة عارضة في مؤلفات فلاسفة ما بعد الحداثة؛ كنقيض في بعض قيمه للقيم المسيحية (نيشته)، أو في ارتباطه بحراك اجتماعي محدد (فوكو)، أو في سياق مناقشة مفهوم التعددية الثقافية (دريدا)، أو في علاقته بالإرهاب (بودريار وجيجك).


[1] نيتشه، عدو المسيح، ترجمة جورج ديب (بيروت: دار الحوار، 2005) ص ص 179، 180

[2] صفات الإنسان الأعلى واردة في كتابه هكذا تكلم زرادشت على نحو متناثر وفي مواضع مختلفة من الكتاب.

[3] محمد إقبال، تجديد التفكير الديني في الإسلام، ترجمة عباس محمود (القاهرة: دار الهداية، 1968) ص 13

[4] فريدريك نيتشه، هكذا تكلم زرادشت، ترجمة فليكس فارس (القاهرة: مؤسسة هنداوي للثقافة والنشر، 2011) ص 90

[5] أرماندو سلفاتوري، مقاربة فوكو للإسلام، نرجمة أحمد خريس، منشورة على الموقع الآتي:

http://thaqafat.com/2016/01/29535

[6] السابق، نفس الموضع.

[7] السابق، نفس الموضع.

[8] زهير الخويلدي، مدنية الإسلام في مواجهة عولمة الإرهاب (لندن: إصدارات إي- كتب، 2016) ص 335

[9] السابق، ص 336

[10] Mustafa Cherif, L Islam et l Occident, Rencontre avec Jacques Derrida, Ed. Odile Jacob, Paris, 2006, p 115

[11] التيجاني بولعوالي، صورة الإسلام في المنظور الفلسفي التفكيكي، دراسة منشورة على موقع مؤسسة مؤمنون بلا حدود.

https://www.mominoun.com/articles/صورة-الإسلام-في-المنظور-الفلسفي-التفكيكي-4723

[12] السابق، نفس الموضع.

[13] Jean Baudrillard, J. The Spirit of Terrorism and Requiem for the Twin Towers. Trans. C. Turner (London: Verso. 2002) p 89.

[14] Jean Baudrillard, ibid, p 91

[15] Ibid, 94

[16] Ibid, p 94

[17] Ibid, p 98

[18] Ian Almond, The New Orientalists Postmodern Representations Of Islam From Foucault To Baudrillard (New York: I.B. Tauris, 2007) p 25

[19] عن رشيد بوطيب، جيجك حيال الإسلام والحداثة والإرهاب، مقال منشور على الرابط:

http://www.alhayat.com/article/815430/جيجيك-حيال-الإسلام-والحداثة-والإرهاب