الإسلام والأخلاق والرأسمالية


فئة :  قراءات في كتب

الإسلام والأخلاق والرأسمالية

 الإسلام والأخلاق والرأسمالية

باتريك بلين، أطروحة جامعية، معهد الدراسات السياسية ليون 2، شتنبر 2012، 76 ص.


هذه الرسالة الجامعية جديرة بالقراءة لاعتبارين اثنين: الأول لأنّها تضع الأزمات الاقتصادية التي يعرفها العالم منذ العام 2008، (تضعها) في سياق العولمة الرأسمالية التي أفرزها سلوك محدد بالسوق، يفتقر إلى منطق الثقة ومن ثمة إلى آليات "الحكامة الأخلاقية" التي لا يستطيع اقتصاد السوق أن يقوم بدونها، فما بالك أن يستقيم.

أما الاعتبار الثاني فكامن في أنّ دراسات من هذا النوع لا تحتكم فقط إلى الأبعاد الاقتصادية "محددًا" للنشاط الإنساني، بل تذهب إلى حد الدفع بضرورة أن تكون هذه الأبعاد محكومة بالنشاط ذاته في شكله وفي مضمونه، كما في طبيعته وخلفيته. ولعل هذا "الوعي الجديد" هو الذي أدى بالسياسات العمومية، في الشمال كما في الجنوب، إلى ابتكار مفاهيم جديدة للتعبير عن ذلك، من قبيل "التنمية المستدامة" و"الاستثمار المسؤول اجتماعيًّا" و"التجارة العادلة" وما سواها.

وعلى الرغم من الصعوبة "النظرية" الثاوية خلف إمكانية الجمع بين الإكراهات الاقتصادية والاعتبارات الأخلاقية في ظل العولمة الليبيرالية الجديدة، فإنّ صاحب الدراسة يرى بأنّ ثمة تيارًا متزايد المد، لا يرى ممانعة كبيرة تذكر بين الاقتصاد والأخلاق: تيار "المالية الإسلامية". لا بل إنّ ثمة من المسؤولين بالغرب من يرى بأنّ هذه المالية قد تكون مخرجًا محتملاً للأزمة، أو على الأقل للتخفيف من حدتها، وفتح السبل أمام ضخ منسوب معين من الأخلاق في مسلسل العولمة الجاري.

وحجة الباحث في ذلك أنّ الشريعة الإسلامية هي في الآن معًا، "قاعدة حياة عملية" و"أخلاق سامية". وليس يترتب على ذلك فحسب أنّ اقتصادًا "علمانيًّا" لا يمكن أن يقوم وفق هذه الرؤية، بل إنّ التشريعات المتأتية من القرآن الكريم لا يمكن أن تفرز "اقتصادًا متخلفاً".

وعليه، فإذا كانت الديانة المسيحية تنادي باستقلالية الاقتصادي عن الديني، فإنّ الديانة الإسلامية تحد من أيّ محاولة لجعل الاقتصاد بعيدًا عن "النموذج الأخلاقي". بيد أنّ صاحب الرسالة يعتبر أنّ الحديث عن "اقتصاد إسلامي" هو أمر غير هين، لأنّ ذلك يستوجب توافر معطيين اثنين:

+ المعطى الأول: وجود سلوك اقتصادي خاص مرتبط بالديانة الإسلامية حصرًا، وكذا توافر بنًى مختلفة من شأنها التعبير عن نموذج اقتصادي متميز، مختلف عن الرأسمالية كما عن الاشتراكية سواء بسواء.

+ المعطى الثاني: بما أنّ الإسلام يغطي كل جوانب الحياة الإنسانية، فإنّه من غير المفيد كثيرًا الحديث عن اقتصاد إسلامي مستقل، أو خارج عن نطاق المجال الديني. بمعنى أنّ قواعد الدين الإسلامي هي المحدد لكل العلاقات الاجتماعية، وعليه فإنّ الاقتصاد بدوره محكوم بهذه القواعد ومعاملاته مبنية عليها بالجملة والتفصيل.

إنّ هذا الترابط العميق بين النظام الاقتصادي وقواعد الدين، نجد له مقابلاً في الديانة المسيحية، لا سيما عندما عمد ماكس فيبر مثلاً إلى ربط "الأخلاق الكالفينية" بظهور شكل من أشكال الرأسمالية (في كتابه المرجعي "الأخلاق البروتستانتية وروح الرأسمالية").

وعلى هذا الأساس، فإنّ السؤال الجوهري الذي يطرحه الباحث هنا هو التالي: في أعقاب سقوط الشيوعية والأزمة الخانقة التي تعيشها الرأسمالية (لا سيما في رافدها المالي والاقتصادي)، هل من الوارد أن يكون الاقتصاد الإسلامي هو "الطريق الثالث" لتجاوز هذه الإخفاقات، لا بل ولتجاوز شعار "الطريق الثالث" الذي رفعه طوني بلير بتسعينات القرن الماضي، لكنه لم يستطع بموجبه إيقاف الرساميل المضارباتية بالأسواق وبالبورصات العالمية؟

يتطلع الباحث إلى معالجة هذه الإشكالية من خلال ثلاثة أجزاء:

+ في الجزء الأول ("الأخلاق الاقتصادية في الفكر العربي/الإسلامي") يعمد الباحث إلى التذكير بأنّ الشريعة هي القاعدة/الأساس للفكر الاقتصادي الإسلامي، وأنّ القرآن الكريم والسنة النبوية هي النصوص الدينية المؤسسة للقيم الكبرى التي أنتجت "أخلاقًا اقتصادية إسلامية متميزة".

بيد أنّ الباحث ينبه هنا إلى أنّ الإسلام (والقرآن على وجه التحديد) ليس كتابًا في الاقتصاد السياسي أو في السياسة الاقتصادية، إنّه يقدم توجيهات مرتبطة بالأخلاق الاقتصادية، لا سيما فيما يتعلق بشرعية الاغتناء، وضرورة أن تكون خاضعة لمتطلبات العدل الاجتماعي ومنظومة القيم والأخلاق.

فالإسلام يحلل الثروة ويشجع عليها، لا بل ويعتبر الفقر عقابًا وتوبيخًا إلهيين. بالتالي، فعدم الاجتهاد بغية الاغتناء هو بمثابة عصيان لله تعالى، كما أنّ التمتع بثروته، والعيش في رغد هما أمران شرعيان أيضًا. لكن ما السبيل للاغتناء وفق تعاليم الإسلام؟

يوضح الباحث، بهذه النقطة، أنّ الإسلام شدد على النشاط التجاري وربطه بالعبادة، لا بل وذهب إلى حد إباحة المتاجرة زمن الحج واعتبر ذلك فضلاً من أفضال الله تعالى.

إلا أنّ الإسلام اشترط أن تكون الرغبة في الثروة متحكمًا فيها، لا بل ومقرونة بالعبادة، إذ "لا مكان في الجنة للغني الكافر". وبقدر اشتراطه للتحكم في الرغبة إياها، فإنّ الإسلام حلل الربح، لكن وفق محذورين اثنين حاسمين: ألا يكون "ربحًا" ربويًّا، ثم ألا يتأتى من اختلال الموازين بين الفرقاء في عملية التبادل.

ثم إنّ الإسلام لا ينطلق في موقفه هذا من مقاربة جزئية، بل يعمد إلى إعمال مقاربة شمولية تتغيى الموازنة بين الروحي والمادي فيما يسميه بـ"الحل الوسط". وهذه الموازنة تجد تجسيدًا لها عمليًّا في مبدأ الزكاة، والذي هو ركن أساس في الإسلام.

الزكاة في الاقتصاد الإسلامي (وفي الإسلام عمومًا) ليست صدقة أو هبة من نوع ما. إنّها وسيلة من وسائل إعادة توزيع المداخيل، وللفقراء بموجبها جانب الأولوية، من منطلق العدل الاجتماعي ومن منطلق التضامن بين شرائح المجتمع المختلفة.

وبقدر ما يشدد الإسلام على الزكاة لدرجة السمو بها إلى ركن من أركانه الخمسة، فإنّه يحرم الربا والاكتناز تحريمًا قاطعًا، ليس باعتبارهما فحسب "دخلاً دون جهد"، بل أيضًا لأنّهما مضاربة على الزمن الذي هو لله وحده.

هذه التوجهات الكبرى هي التي نسج على منوالها وبهديها العلماء المسلمون فيما بعد، من أمثال ابن المقفع والجاحظ ومسكويه والغزالي وابن رشد وابن خلدون وغيرهم. إلا أنّ هؤلاء العلماء لم يشتغلوا على "الأخلاق الاقتصادية" مباشرة، بقدر ما كانوا يتعرضون لها عند معالجتهم لقضايا أخرى، فلسفية أو فقهية أو سياسية أو ما سواها.

ولهذا السبب، فإنّ صاحب الرسالة يرى بأنّه كانت ثمة حقًّا بوادر اقتصاد سياسي إسلامي، لكنّها لم تبلغ مستويات متقدمة من العلمية كما كان عليه الشأن بعد ذلك عند الغرب.

+ في الجزء الثاني ("نحو انبعاث رأسمالية إسلامية؟") ينتقل الباحث إلى الفترة المعاصرة حيث عرفت "المالية الإسلامية"، لا سيما منذ بداية الألفية الثالثة، تطورات كبرى على مستوى الارتكاز على الدين أداةً لضبط الميدان الاقتصادي.

يتساءل الباحث في هذا الجزء من الدراسة عن طبيعة "العقلية الإسلامية"، وهل هي قادرة على تجاوز الممانعة بين الإسلام والرأسمالية والتي لطالما تم رفعها هنا أو هناك. بهذه النقطة، يلاحظ الباحث أنّ تطور الرأسمالية في البلدان العربية/الإسلامية قد عرف صعوبات جمة، ليس فقط لأنّها "سلعة مستوردة" متعذرة التطويع، بل أيضًا لاستعصاء إقامة بنًى صناعية وتجارية على أنقاض ما خلفه الاستعمار بهذا البلد العربي/الإسلامي أو ذاك.

وهذا الاستعصاء يبدو لبعضهم، بنظر الباحث دائمًا، نابعًا من اعتبارات نفسية وسوسيولوجية وأخلاقية، حالت مجتمعة دون تطوير ذهنية المقاولة وبعث روح المجازفة والبحث على المصلحة الذاتية الخالصة. ويبدو لهم كامنًا أيضًا في جانب إكراه تحريم الربا الذي حال برأيهم دون بروز البنوك والمؤسسات المالية ثم انتشارها.

إلا أنّ الباحث يعرض بالمقابل لآراء مفكرين آخرين رأوا العكس من ذلك، إذ اعتبروا أنّ العديد من الآيات القرآنية تمجد "المسؤولية الإنسانية" والحرية الفردية. كما رأوا أنّ العديد من الآيات تدفع بالتوكل كتحفيز ديني على الفعل، وليس من باب الاتكال الذي يحيل على التكاسل وذم قيمة العمل.

فماكسيم رودنسون مثلاً يرى أنّ الإسلام دين العقل والعقلانية، بدليل أنّ القرآن أتى برأيه، على ذكر كلمة "عقل" أكثر من خمسين مرة. كما أنّ برونو إيسيان يقر بعدم تنافي عقلانية الفاعل الاقتصادي مع طبيعة إيمانه بالديانة الإسلامية. بالتالي، فبقدر ما وجد كالفان عناصر في المذهب البروتستانتي تشجع على المبادرة والمقاولة، فإنّه ثمة أيضًا العديد من العناصر التي تذهب في الاتجاه نفسه داخل الديانة الإسلامية. والدليل على ذلك، أنّ الإسلام مليء بالآيات التي تسمو بالملكية الخاصة وبالتجارة وبالربح وبمجازاة الكد والاجتهاد وبما سواها.

ثم إنّ نظام التمويل في الإسلام هو بدوره، برأي الباحث، عقلاني إذا لم يكن في مجمله، فعلى الأقل من زاوية مساهمة الفاعلين في حالات الربح كما في حالات الخسارة. هو تحفيزي من هذا المنظور وإلى حد بعيد، لا بل إنّه يتضمن عناصر العقلانية التي تستوجبها عملية توزيع وسائل الإنتاج، تمامًا أو تقريبًا كما هو عليه الحال في النظام الرأسمالي.

على النقيض من ذلك، يذهب بعض الاقتصاديين المسلمين، من أمثال المودودي، إلى القول بأنّ الرأسمالية وإن كانت أساس التراكم وخلق الثروة، فهي قد أفرزت ولا تزال تفرز لاتوازنات اقتصادية ولامساواة اجتماعية لا يمكن مداواتها إلا باعتماد أخلاق الإسلام. بالتالي، فإنّ أزمة الرأسمالية الحالية إنّما منحت لهؤلاء سبلاً واسعةً لاقتراح نموذج في الاقتصاد بديل عنها، لا سيما في مسألة البنوك والتمويلات الإسلامية وغيرها.

+ في الجزء الثالث ("نحو أسلمة الرأسمالية") يركز الباحث على الجانب المالي، حيث يوضح أنّه إذا كانت "المالية الإسلامية" تعتبر "جيبًا" صغيرًا بالسوق بنهاية تسعينات القرن الماضي، فإنّها قد أضحت اليوم ذات قوة تنافسية جدية، وتتطلع إلى تحقيق نسب تطور معتبرة. والسبب في ذلك يعود، برأي الباحث إلى قدرة هذه المالية على التكيف مع نظام العولمة الجاري، وقدرتها أيضًا على تطويع نظام العقود السائد بالغرب كي لا يتجاوز الخطوط الحمر التي حددتها الشريعة.

بالآن ذاته، فإنّ التشريعات الموجودة ببلدان الغرب، والتي تعمل على تشجيع المالية الإسلامية لفائدة مواطنيها المسلمين أو لصالح الجاليات المقيمة بها، لا تضع في "الحرج" القانون العلماني الذي يسري على المعاملات المالية القائمة بوجه عام.

بالتالي، فقد بتنا، يتابع الباحث، بإزاء مؤسسات مالية إسلامية، تأخذ بعين الاعتبار الأخلاق الإسلامية، لكنّها لا تضع تمييزات أخلاقية أو مذهبية على مستوى قرارات الاستثمار والتجارة.

بالآن ذاته، فقد استفادت المالية الإسلامية من الإبداعات التكنولوجية التي طالت المجال المالي، فأصبح بمقدور المؤسسات البنكية الإسلامية أن تميز في نظام الصكوك مثلاً بين الأصل والفائدة، وتعمل على تسويقهما بطريقة منفصلة. فضلاً عن أنّ بروز أشكال التمويل التشاركية (حيث القارض والمقترض مرهونين) قد غدت ممكنة بفضل هذه التطورات، لا بل إنّها باتت مطلوبة بحكم المنسوب الأخلاقي المتضمن بها، وأيضًا ضعف نسبة المخاطرة في ركوب ناصيتها.

من جهة أخرى، فعندما يتحدث الباحث عن "أسلمة الرأسمالية" فهو لا يقصد فقط التوسع الجغرافي الذي أضحى للاقتصاد الإسلامي في ظل هيمنة الرأسمالية، بل أيضًا انفتاح المجال ذاته على غير المسلمين، ليبلغ حجمه بالتالي أكثر من 500 مليار دولار أواخر العام 2012، أي عشر مرات ما كان عليه أواسط ثمانينات القرن الماضي.

وهو الأمر الذي دفع غوردن براون، رئيس وزراء بريطانيا الأسبق إلى القول: "إنّنا نريد ونعمل على أن نحول لندن إلى بوابة غربية ومركز عالمي للمالية الإسلامية".