الإسلاميون والحكم : من الارتجال إلى الاستعجال


فئة :  مقالات

الإسلاميون والحكم : من الارتجال إلى الاستعجال

الإسلاميون والحكم : من الارتجال إلى الاستعجال

تمهيد:

ما أفرزته تداعيات الربيع العربي من متغيرات وأحداث، يعيد النظر في أكثر من سؤال بخصوص العمل السياسي الإسلامي، وما أسفرت عنه تجارب الإسلاميين في سياق مشاركتهم على المستوى العربي خصوصا، يوحي بوجود خلل ما، إما في المنهج أو في أصحاب المشروع أو في المجتمع أو فيها جميعا، بلغة منطق المسؤولية للقضية. ولتفكيك السؤال، يتطلب من حاملي المشروع الإسلامي الوقوف لحظة تأمل، مع استصحاب جرأة في النقد بعد مرور زهاء قرن من العمل. ومن أكثر الأسئلة إثارة، سؤال المشاركة السياسية المباشرة للحركات الإحيائية الإسلامية، ومدى نجاعة ذلك الاختيار المنهجي لديها.

تحاول هذه الورقة قدر الإمكان البحث في سؤال علاقة الإسلاميين بالحكم.

أولاً: في الرهان على الدولة

تتجدد إثارة سؤال الرهان على الدولة في التغيير الاجتماعي، كما أثير من قبل مع سقوط الخلافة العثمانية وظهور الحركات الإحيائية، لكن إذا كانت إثارته في السابق تعود إلى الغياب المطلق لنموذج يهتدى به كاختيار من بين خيارات التغيير في تقويم السؤال، فإنها اليوم، وخصوصاً بعد المتغيرات الجديدة بالمجال العربي والإسلامي، تبدو أكثر إلحاحًا، بالنظر إلى الاستعصاء المضني الذي خلفه جدل الدين والدولة.

وقد راكمت المحاولات الأخيرة للإسلاميين في التدبير السياسي لشؤون البلد تجارب مهمة تستحق وقفة تأملية تقويمية، وإن لم تكتمل شروط تلك التجارب، إنما ذلك النقصان لا يعفي من التساؤل، لأن حدود السؤال قد تنتهي فقط في منتصفها، كقولنا لماذا لم تكتمل أو ما علل إخفاق تلك البدايات؟

وفي مقابل هذا السؤال يطرح السؤال التالي: لماذا نجحت بعض التجارب نسبياً، ولم تنجح الأخرى؟ وحتى نكون جد منسجمين مع عرض السؤال، لماذا أخفق رهان الإسلاميين على الدولة في البلاد العربية؟

ثانياً: فشل أم إفشال

بداية، قد نكون إلى الظلم أقرب لو تركنا للأنظار العامة تقييمها بالفشل على تجربة الإسلاميين الأخيرة، خصوصا بعد ما سمي بالربيع العربي، لأن الإسلاميين الذين راهنوا على الدولة لم يمتلكوا الدولة ولا مؤسساتها، هذا أولاً، ثم لأن هذه المدة القصيرة جدّاً لا تعدل شيئا في سلم التحولات التاريخية ثانياً، لكن المتغيرات الخطيرة التي حدثت فيما بعد الانتقال الديمقراطي السليم بمصر مثلا، تدفعنا إلى تساؤل من داخل النسق الفكري للإسلاميين، ومحوره محاكمة العقل السياسي الإسلامي الذي أخفق في القراءة الإستراتيجية المستندة على ذلك الرهان؛ بمعنى أن الاختيار التغييري، انطلاقا من مؤسسات الدولة، لم يكن صائباً لسببين:

إما أن القراءة الاختيارية لم تكن دقيقة خلال مرحلة متعينة؛ بمعنى كانت تحكمها الارتجالية، أو أن الشروط الواجب استصحابها والاستناد إليها لاستثمار الاختيار الرهاني على الدولة، لم تكن واردة ومتوفرة؛ بمعنى أن القراءة مطبوعة بالاستعجالية.

وهذا يقودنا حتماً، إلى المساءلة الخارجية، وهي المتعلقة بسؤال الإفشال. ولعل ما حدث في القطر المصري، فيه من المؤشرات ما لا يدع مجالاً للرَّيْب والتردد، في محاولات إفشال التجربة الإسلامية في مهدها، إنما في الجهة المقابلة من هذا التأكيد لا يعفي العقل السياسي الإسلامي من تخطيئه ومحاسبته على خطئه، ولو نظريا، لضعف قراءاته المطلوبة أو لحماسة مغامراته المزيدة التي حجبت عنه ما يمكن أن يحاك أو يدبر من وراء ذلك الستار، رغم أنه لدغ مرات ومرات من جحر الديمقراطية والعمل السياسي؛ فإقرار الإسلاميين منذ بدايات الانتفاضات العربية، ببعدهم عن وقود نارها وشعلاتها الأولى، كان سبباً كافياً ووجيهاً لإعادة قراءة خياراتهم السياسية قبل الدخول في معترك الانتخابات، حتى ولو أسفرت عن زعامتهم واكتساحهم لمعتركها، لأن رهانات الصراع العالمي لها افتراضاتها المتعددة واحتمالاتها المختلفة، والشعوب المنتفضة لأجل الحرية والكرامة لا يمكن لها الاستمرار في انتفاضتها لأجل شيء آخر، قبل تربيتها على أولويات جديدة، وقبل وعيها بطبيعة الصراع الدولي والحضاري المرسوم، إما ظهوراً أو خفاء.

وكل الذي قيل هنا، على افتراض انسجام الشعب في اختياراته الانتخابية، وفقهه للتحديات المحتملة لإيصاله الإسلاميين إلى الحكم، أما إذا كانت اختياراته مبنية على استبدال عقابي، أو استبدال يائس أو استبدال عاطفي حماسي، فهنا مشكلة أخرى يتحمل الإسلاميون وبالها طيلة قرن، تقريباً، من البناء والتكوين للشعب، أين صرفت أيامها؟ وكيف دبرت سنواتها؟ وما طبيعة المناهج المعتمدة في اختياراتها التربوية؟

ثالثاً: أوهام الإسلاميين السرابية

كشفت التجارب السياسية للإسلاميين العرب في العمل الحكومي، أن العقل السياسي الطامح إلى الحكم، كانت تغلب عليه استصحابات وهمية، تكشفت أبعادها السرابية المهولة بعد المضايقات الداخلية والخارجية لتجربتهم الجنينية، وتعتبر هذه الأوهام محددات خطيرة منحت العقل السياسي فسحة للتفكير ملياً قبل الوقوع في الاختيارات المسبوقة. ويمكن إجمالها في ثلاثة:

1- وهم التجاوب الشعبي:

لا شك فيأن الإخفاقات المتكررة للنماذج السياسية المختلفة عن الإسلامية، قد أكسبت الإسلاميين تعاطفاً واستقطاباً حادّاً، نتج عنه ابتعاد ونفور من تلك النماذج، لانعدام مصداقيتها وضعف تدابيرها على مستوى الحريات الإنسانية أو إنجازاتها الاجتماعية أو السياسية، وفي ظل هذا الاستبدال العاطفي السياسي، تولد لدى الإسلاميين مزيد ثقة عند الشعوب، في أحقيتها بالعمل السياسي التدبيري لشؤون البلاد، وإمكانية تميزها ونجاحها إذا ما مكنت من أصواتها ورعايتها.

إن هذا الانتقال السياسي لدى الشعوب، على المستوى العاطفي، لم يكن انتقالاً سياسياً حتى، بل له أن يكون تربويا متجذراً، يصلح لأن تبنى عليه مواقف تتوج بالتضحية من أجل الاختيارات، أو تنتهي بالصمود في وجه الأمواج العاتية التي قد تعصف بالرصيد السياسي الذي يحوزه الحزب الإسلامي فيما بعد.

إضافة إلى ذلك كله، امتزج ذلك السيل العاطفي والانحياز السياسي بطبيعة الانتماء الديني والانسجام الفكري مع الإسلاميين، ومدى القرب العقدي بينهما.

كل ذلك الانحياز الشعبي للإسلاميين الناتج عن الإخفاقات للخصوم، والخسارات المتكررة للمناوئين السياسيين، والتماهي التاريخي بين المخيال الشعبي والخطاب السياسي للإسلاميين، ولد لدى الإسلاميين وهماً حقيقياً، يتمثل في إمكانية التجاوب المطلق بين الشعوب واختياراتهم السياسية، والتعلق بمشاريعهم السياسية، مهما كانت الحالات السياسية والمآلات الاجتماعية والنهايات الإستراتيجية، وذلك ما لم يتحقق على الأقل خلال التجارب السياسية الأخيرة للإسلاميين، وما لم تؤكد المتغيرات الأخيرة.

مع اعتقاد كل طيف حيازة التعاطف الكلي للشعب معه، وخذ أي مثل قطري لذلك؛ ففي مصر يعتبر حزب الحرية والعدالة أنه يحوز ثقة الشعب المصري، وحزب النور هو الآخر يعتز بتلك الثقة، وكذلك الأحزاب الأخرى الإسلامية، وفي المغرب أيضاً لا تسمع من حزب العدالة والتنمية إلا تعاطف الشعب الكبير معه، والاعتقاد نفسه تجده لدى حركة العدل والإحسان، وهكذا.

2- وهم الثقة الزائدة في الذات:

هناك علاقة بين هذا الوهم والذي سبقه، من حيث اعتبار الإسلاميين لإطلاقية التمثل الديني الإسلامي لدى الشعوب العربية، وأن الإسلاميين بعد انتصاراتهم الانتخابية أو السياسية مهما كانت، بإمكانهم التجاوب السياسي مع كل فئات المجتمع بشكل سلس ودون صعوبات تذكر، مع مزيد ثقة في الذات، بناء على اعتقاد إسلامية الشعب، وتماهيه مع التدين غير المتعارض مع العمل السياسي؛ أي أن الإسلام دين ودولة.

لكن الذي يجعلنا نشكك في هذا الاعتقاد، ويجعلنا نرفعه إلى درجة الوهم، أمرين اثنين:

الأول: هو عاصفة المظاهرات التي خرجت بعد فوز الإسلاميين في بعض الأقطار العربية، تنديداً بوصولهم للحكم، والتي يعلن فيها المتظاهرونعدم قبولهم تطبيق الشريعة، ضاربين بلغةالديمقراطية عرض البحر، ونموذج القطر التونسي مثال لذلك. ولا تقبل دعوى التحشيد السياسي مبرراً لتلك المظاهرات المناوئة، لأن أمر التعلق بالمشروع الإسلامي يفترض فيه التمتع بثقافة مضادة ووقائية تجاه كل محاولات الإفشال.

الثاني: هو التمايز الكبير الذي نلحظه بين التيارات الإسلامية نفسها، وهوة الخلاف المرسومة بين أطيافها وتلاوينها، إذ كيف يمكن التعويل على الشعب في مناصرة المشروع السياسي الإسلامي من قبل قوى مختلفة أحيانا ومتضاربة أحيانا أخرى، لها ترجمات على مستوى الجماهير والقاعدة الشعبية.

إن هذه الثقة المبالغ فيها من قبل الإسلاميين منحتهم جرعة زائدة في الإقدام، واستعجال العمل السياسي الحكمي المباشر، مع خلطهم الكبير بين المعارك المصيرية على عهد النبوة، والمعارك السياسية المبتذلة التي يخوضونها في المشاركات الحزبية، بالاستناد إلى أحاديث النصرة ونصوص التمكين.

3- وهم الحرية في تقرير المصير:

إن وهم الثقة الزائدة في الذات بالاستنصار بالشعب الناخب للدفاع المطلق عن المشروع السياسي الإسلامي الذي يحمله الإسلاميون، تمخض عنه تداعيات تتعلق بزعم القدرة على تحرير الدولة من القوى المختلفة التي تحول دون استمرار العمل السياسي الناجح، وقد تبين من خلال التجربة الأخيرة الحضور القوي لقوى مؤثرة، كشفت عن مقدار ذلك الوهم الزائف، ويمكن اختزالها في قوتين:

الأولى: قوة خارجية تتمتع بتحرك خطير، وتتحكم في الخيوط الخفية الرابطة للعبة السياسية، ليس من الهين التخلص من آثارها ومواجهة تحدياتها المربكة.

الثانية: قوة داخلية خفية، وهي ما يسمى بالدولة العميقة التي يعتقد بعد كل استحقاق انتخابي رجوعها إلى المواقع الطبيعية، إما في المعارضة البناءة للوطن أو الاصطفاف في عملية بناء الوعي الشعبي من جديد.

لكن حصول العكس، أكد لدى القوى الإسلامية حجم ذلك الوهم المتبدد الذي حول عملية البناء والتشييد للعمران السياسي من جديد إلى مناكفات وصراعات على مواقع الأحقية، وعلى عراك الإقناع بصحة مسلسل سياسي كان الإسلاميون يرفضونه كليا؛ وهو الأمر الذي لم يضعه الإسلاميون الذين يخوضون تجربتهم الانتخابية المبتدئة لأجل الحكم في الاعتبار السياسي؛ المقرون بفقه السياق الدولي الذي تجري فيه مثل تلك الأحداث الكبرى، من قبيل تسلم الإسلاميين مقاليد السلطة في البلاد العربية والإسلامية.

4- وهم يسَّر تطبيق الشريعة:

على افتراض تجاوز الإسلاميين لمرحلة القراءة السليمة للشريعة، ومرحلة فهم نصوصها المختلفة الثبوت قرآنا وسنة، وكذا مرحلة فقه أحكامها ومقاصدها العليا والدنيا، بالاستعانة بفقهائهم الشرعيين، على افتراض تجاوزهم لكل تلك المراحل الضرورية، ما أظن أن مرحلة تنزيل الشريعة وتطبيقها أقل يسرا، وأدنى إمكانية، وأقل فقها من سابقاتها. لكن الإسلاميين بدخولهم باب العمل السياسي، ورهانهم على الدولة في تنزيل الأحكام الشرعية وتطبيقها، غالبا ما يتملكهم وهمٌ ليس بالهين في هذه المسألة، إذ تبين الشواهد العلمية التاريخية المتتالية أن تنزيل الشريعة أصعب بكثير مما يسبقها من خطوات، وتحتاج إلى فقه من نوع آخر مرتبط بفقه الواقع، والمتغيرات الحضارية والإنسانية بحسب الحالات والمآلات والسياقات المحلية والإقليمية والدولية، كل بحسب المجال الذي يحكمه. ويمكن بيان مناطات هذا الوهم لدى الإسلاميين في الجوانب الآتية:

من حيث يسر ذلك دولياً: أما دوليا؛ فقد لاحظنا أن القوى الدولية العميقة لن تترك مجالا ممكناً، إلا وحاولت الدخول منه لإجهاض أية تجربة من تجارب الإسلام السياسي، الحامل لذلك المشروع لتطبيق الشريعة.

من حيث إمكانية ذلك محليا: وأما محلياً؛ فقد تبين مما سبق أن القوى المحلية العميقة ما فتئت تنغص على الإسلاميين استكمال المشروع السياسي في استثمار الشريعة على مستوى المجتمع.

من حيث فقه ذلك عمليا: وأما عمليا؛ فإن تنزيل الأحكام الشرعية، وخصوصاً تلك المتعلقة بالتدبير السياسي، من شورى ومجالس نيابية وبيعة، وغير ذلك من الاجتهادات المرتبطة بالفقه السياسي وما شاكلها، ليس بالأمر اليسير تطبيقه في واقع سياسي مختلف ومغاير، ناهيك عن تلك الأحكام المتعلقة بالحدود والعقوبات الشرعية التي غالبا ما تثار فزاعة في وجه الإسلاميين.

رابعاً: ماذا لو أجل الإسلاميون المشاركة في الحكم؟

بناء على ما ذكر من أوهام سرابية، استحكمت عقل الإسلاميين السياسي في مشاركته اللعبة الديمقراطية، يحق لنا عرض السؤال الأساس، ماذا لو لم يستعجل الإسلاميون المشاركة في الحكم؟ وبمفهوم المخالفة، ماذا لو أجل الإسلاميون مشاركتهم تلك؟

إن السؤال في حد ذاته ضرب من الاحتمال والاعتقاد، لأنه ببساطة لا يمكن قراءة المعاكسات المحلية والدولية على ذلك الاختيار المعروض المحتمل، لكن مبلغ التفكير في المسألة لا يخرج عن مجرد الترجيح العقلي بين الاختيارين، الاختيار الأول بدت مساوئه بل جناياته التي جرّت أضراراً على مكتسبات كثيرة من تراكمات من العمل القاعدي والتربوي والثقافي، وحالة مصر ليست عنا ببعيدة في هذا السياق، ويبقى الخيار الثاني، وهو الأرجح في اعتقادي، لأنه على الأقل سيوفر على الأمة طاقاتها البشرية المهدورة ثمناً للاختيار الأول، إضافة إلى الجهود المبذولة والأوقات الثمينة، صحيح أن العمل الإسلامي يضع التضحيات بالوقت والوسع والطاقات، وحتى النفس في الاعتبار التربوي لأفراده ومجموعاته، إنما لا ينبغي إغفال البعد الإستراتيجي في العمل الإسلامي، والتخطيط الهندسي وفق رؤية وتصور يضمن على الأقل استمراريته، دون تراجع على المستويات الأساسية والمكونات الاجتماعية لحركة تنظيمية. وتلك هي العلة في المسألة، لأن المشاركة في الحكم أو مباشرة الحكم ينبغي أن يكون تتويجاً لكل تلك الخطوات، وبعد الاشتغال على كل تلك المستويات التربوية والثقافية والاجتماعية والاقتصادية، حتى تسلم المشاركة ويحق لها التمكين.

لن نستطيع التنبؤ برجاحة منطق التأجيل وإستراتيجية التأني، والاكتفاء بمجرد المراقبة والمتابعة من بعيد للشأن السياسي المباشر. لكن ما يمكن تأكيده على الأقل في جانب المقارنة النظرية؛ هو الاحتفاظ بمكتسبات كثيرة قد تقوي من عضد الحركة الإسلامية، وتزيد تشوفاً في تعلق الشعوب بها لبكرية تجربتها على المستوى السياسي، ولأنها لم تحرق كل أوراقها سواء مع الداخل أو الخارج؛ أي مع الخصوم الداخليين والخصوم الخارجيين.

خامساً: هل فشل رهان الدولة؟

إذا كانت التجربة المصرية المحترفة في العمل الإسلامي، بل أم التجارب على المستوى التنظيمي، من حيث فعل البناء وقوة الشعبية وإستراتيجية التنظيم، قد وقع لها ما وقع، وأمام أنظار العالم المعترف بنتائج الانتخابات النزيهة، فإن إجهاض أية تجربة إسلامية غيرها ليس بالأمر اليسير، ولا الأمر الغريب أو حتى المحال.

ما يعني أن رهان عدد من الحركات الإحيائية الإسلامية على المشاركة السياسية، وانجرار عدد منها إلى العمل السياسي باعتباره أولوية، أضحى أمراً مشكوكاً فيه بنسب كبيرة، وهي بذلك تؤكد اتفاقها على مركزية الدولة أو المسؤولية المباشرة للسلطة السياسية في تغيير أوضاع الأمة، على اعتبار حاجة التنظيم الاجتماعي والمؤسسات الجماعية إلى الضبط المؤسسي القائم على قواعد ومبادئ قانونية يحتكم إليها.

غير أن نظريات ومشاريع الإحياء المعاصرة النبيهة لم تعد مقتنعة بالرهان على المدخل السياسي، المتمثل خصوصًا في محورية الدولة ومركزيتها في نهضة الأمة، وتغيير أوضاعها نحو الأفضل، لأمورٍ عِدَّة:

أولاً: أن الأمة عبر مسيرتها منحت الأولوية للمدخل التربوي والتأهيلي لأفراد المجتمع، حتى يتسنى تيسير أمر الإصلاح والإحياء؛ فكان تغيير الوضع الاجتماعي، وكذا السياسي، ينبعث من إرادة الأمة، ومن داخلها.

ثانياً: لعدم جدوى الرهان على مؤسسة الدولة، واختياره المسلكي في تحسين الوضع عبر تاريخ الأمة؛ وهو المفضي في أغلب الحالات إلى صراعات داخلية وأهلية على السلطة.

ثالثًا: لأهمية بعض المسالك الأخرى، كالمسلك الثقافي والاجتماعي في توعية أفراد المجتمع، وترشيدهم بمقاصد الإصلاح، ومرامي التغيير المراد إحداثه في المجتمع.

رابعًا: وهذا كله إذا وضعنا في عين الاعتبار قيمة الدولة، ومركزيتها، أما مشاريع التغيير المرتبطة بالرهان على مؤسسة الدولة، فهي أشبه بالرهان على السراب[1] لتلاشي مفهوم الدولة من جهة، ولإقالتها من مجموعة من الشروط السلطوية التي تمنحها أهلية التكفل بعملية التغيير والإصلاح عمومًا، من جهة ثانية.

ختام القول:

بعد هذه المرافعة تجاه العمل السياسي الإسلامي المرابط لأجل مؤسسة الدولة، يحق لنا أن ندعو كل الغيورين على العمل الإسلامي إلى التخلي عن المنطق السياسي المباشر، والعودة إلى مواقعها التربوية والدعوية والثقافية والمدنية عموما، واستمرارها في مرحلة البناء والتكوين للأمة، أفراداً وجماعات، وإعادة اللحمة للنسيج الاجتماعي، والتركيز على العلم بكل أنواعه، وتلك كلها ضروب من العمل السياسي، غير أنها عمل سياسي غير مباشر، وهو المنهج الذي دعت إليه جماعة من العلماء والمربين المخلصين قبل أن يحدث ما حدث، ولا يغُرّنّ المصِرِّين على العمل السياسي المباشر مسألة الاستعجال في قطف ثمار الدعوة والتربية والبناء في أقرب لحظة، لأن جنْيها قد لا يكون من اختصاص أو من نصيب منْ غرَس الفسيلة، وتلك هي سنة الله في كونه، ولكن من طبائع أهل السياسة أنهم قوم يستعجلون.


[1]- راجع: النكاز، ميمون، "ملاحظات حول فكر ومشاريع النهضة، أنظار حول الرؤية والمنهج"، مجلة المنعطف، وجدة، المغرب، ع18،19(س2001/1422)، ص 123