الإسهام الروحي والإنساني للإسلام في أوروبا


فئة :  ترجمات

الإسهام الروحي والإنساني للإسلام في أوروبا

 

1- الأسس الدينية لأوروبا

لقد تم طمس الإسهام الإسلامي في تشكيل الهوية الدينية والروحية لأوروبا، كما تم حجب إسهام الحضارة العربية والإسلامية في نهضة العالم الحديث؛ فأوروبا ليست فقط وليدة الثقافة الإغريقية - اللاتينية والثقافة اليهودية - المسيحية كما يطيب للبعض إيهامنا في بعض الأحيان.

يتعين على أوروبا إنعاش ذاكرتها لتسلط الضوء بشكل خاص على "التراث المنسي" للإسلام. لقد ثم في الواقع، الاضطلاع بهذا الأمر في العقود الأخيرة، ولا ينبغي القيام بهذا العمل في إطار نزعة دينية ومجتمعية ضيقة، بل في إطار من الانفتاح العلمي والثقافي.

ويجب التذكير في البدء، بأن الحضور المادي للإسلام في قارتنا الأوروبية يبقى قديما وعميقا على حد سواء؛ فإذا كان معروفا لدى الجميع أن إسبانيا ظلت في معظمها بلداً إسلامياً لما يقارب ثمانية قرون، فإن الحال ليس كذلك فيما يخص صقلية التي عايشت الإسلام لمدة تناهز أربعة قرون، حيث كانت مدينة باليرمو تضم 300 مسجد في القرن العاشر، كما كانت هناك مساجد أخرى في جنوب إيطاليا؛ ففي هذه المناطق من أوروبا، لم ينطفئ إشعاع الثقافة العربية الإسلامية بعد رحيل العرب، بل استمر في التألق لعدة قرون.

وعلاوة على ذلك، لأوروبا الشرقية خبرة كبيرة في التعايش مع الإسلام الذي تجذر في منطقة البلقان منذ القرن الرابع عشر إثر التوسع العثماني، وعايشت روسيا الإسلام منذ القرن الحادي عشر حين انتشر في أوروبا ممتداً إلى جبال الأورال الروسية.

في بادئ الأمر، انصب الإسهام الديني في أوروبا خلال القرن الوسيط على مجال اللاهوت والفلسفة، وأثر علماء مسلمون كابن سينا، الغزالي وابن رشد وأيضا المعتزلة بشكل عميق في الفكر القروسطي اللاتيني (القروسطي: نسبة للقرن الوسيط)، وأثارت قضية توافق أو تعارض الفكر الإغريقي مع العقيدة الدينية بشكل سريع جدلا كبيرا داخل الإسلام، والذي سرعان ما انتقل النقاش والجدل بخصوص هذه المواضيع إلى علماء اللاهوت الأوروبيين؛ كميمونيد عند اليهود والقديس توما الإكويني عند المسيحيين. إن تأثير الفكر الإسلامي في الفلسفة الكلامية واللاهوت المسيحي فسح المجال لظهور تيارين في أوروبا: تيار ابن سينا اللاتيني، وتيار الرشدية اللاتينية (فلسفة ابن رشد). فمن خلال الترجمات العربية، ينبغي التذكير بذلك، اكتشف الغرب الفلسفة اليونانية، ولا سيما فلسفة أرسطو وأفلاطون وأفلوطين، إذ لم يقتصر عمل العلماء المسلمين على لعب دور الوسيط الثقافي، بل ساهموا بكل تأكيد عن طريق نبوغهم العلمي والروحي والإنساني. في القرن الثالث عشر، حين وقع الإمبراطور فريدريك الثاني فريسة لقلق ميتافيزيقي، فوجد جواباً لأسئلته الفلسفية في فكر الأندلسي الصوفي محمد بن عبد الحق بن سبعين الذي عاش في مدينة سبتة المغربية. لقد تتلمذ علماء ورجال الأدب الأوروبيين- لاتينيين وجرمانيين أو سلافيين- في مدرسة الفكر الإسلامي متشربين بعض الأصول الدينية.

نعرف أن "الكوميديا الإلهية" لدانتي تدين بالكثير لكتاب "السلم المحمدي"، والتي بُثت في إيطاليا في رواية شعبية تحكي قصة صعود النبي (ص) إلى السماء السابعة. فضلا عن هذا، قام الإسلام بإخصاب الفكر القروسطي في مجالات الروحانية والتصوف. وإذا كانت الصوفية العراقية رابعة العدوية لم تترك بلا شك سوى أسطورة ذهبية في بلاط الملك سان لويس، فإن التصوف قد غذى المذهب الروحاني ذا الطابع الصليبي كما هو شأن فرسان الهيكل (جماعة محاربة من الصليبين عرفهم العرب باسم الداوية).

ومنذ انتشار أعمال الكاهن الإسباني أسين بلاسيوس في أوائل القرن العشرين، ثم الاعتراف بتأثير التصوف المغاربي على فكر الصوفيين الإسبان كالقديس جون دو لاكروا والقديسة تيريزا أفيلا؛ وذلك عن طريق الروحانيين اليهود. لقد أكد بعض الباحثين الغربيين- وليس المسلمين- أن كتاب "التمارين الروحية" لإغناطيو سلويو لا يبقى مديناً للمناهج المسارية[1] للصوفيين. ألم يُولد "المعلم الأكبر" للروحانية الإسلامية، ابن عربي (المتوفى سنة 1240م) بإسبانيا؟.

بغض النظر عن التأثيرات أو الاقتباسات، يمكن للمرء أن يلاحظ أن اليهود والمسلمين والمسيحيين، قد تعايشوا مع بعضهم البعض في أقاليم متاخمة كانت تحت الحكم الإسلامي، وإذا بقيت الأندلس نموذجا مثاليا- أحيانا نموذجا مؤمثلا- للتعايش السلمي المثمر بين الديانات الثلاث، فإن آسيا الصغرى ودول البلقان شهدت أيضاً ولادة لعلاقات اتسمت بالتعايش بين الأديان، خصوصاً بين الرهبان وجماعة الدراويش.

2- النزعة الإنسانية الروحية للإسلام

بُني مفهوم "النزعة الإنسانية" غالباً، منذ عصر النهضة، على أساس نزعة عقلانية متسمة بنزعة لا غنوصية (لا أدرية، مذهب اللأدريين القائلين بإنكار قيمة العقل وقدرته على المعرفة)، بل إلحادية. ومنذ تلك الحقبة، اُعتبرت الروحانية غير عقلانية واعتباطية، لكن الروحانية الحقيقية انبنت على العقل: تنزع الروحانية لتكون فوق عتبة العقل كنقيض للروحانية غير العقلانية، وتستند النزعة الإنسانية الروحية للإسلام على فكرة قرآنية مفادها "أن الإنسان خليفة الله في أرضه" وعلى عقيدة مركزية للوحدانية الإلهية (التوحيد)؛ أي الوعي بوحدة جميع مناحي الحياة. لقد ساد الانسجام في القرون الأولى للإسلام بين الإيمان والعقل، والدين والعلم، والنظر في الحاجات البشرية والتشبث بالدار الآخرة.

إن الانحطاط السياسي والاجتماعي والثقافي الذي يعيشه في الوقت الراهن العالم العربي الإسلامي- والذي يتم فيه التلاعب بالدين- لا يقلل في شيء من القيم الكونية التي يحملها الإسلام، القيم الكفيلة بإخصاب أراضي جديدة كما حدث على مرّ العصور. في هذا الصدد، يمكن للعقيدة الإسلامية القائمة على الوحدانية مساعدة أوروبا للخروج من مأزق زائف بين الإنسانية والروحية.

يٙعتبر الإسلام في الواقع تعدد الشعوب والأديان تعبيرا عن حكمة إنسانية، كما أكد النبي (ص) كونية رسالة الوحي، حين قال: "نحن معاشر الأنبياء إخوة ديننا واحد". وفي الأزمنة التي يسود فيها التشدد الديني، فإن الاعتراف بالتعدد الديني يجب أن يُترجم بالاحترام التام لمعتقدات الآخرين، وتلك هي قيم الإسلام السمحة، ثم نشر هذه الكونية عن طريق الصوفيين الذين صاغوا عن طريق السمو الروحي "الوحدة المفارقة[2] للأديان"؛ للصوفيين بخصوص هذه المسألة إسهامات كبيرة. ومن البديهي أن هذا المنظور الكوني الشاسع والغني تتم خيانته في بعض الأحيان من طرف بعض علماء الإسلام، كما عرف هذا المنظور نكوصاً بسبب الجهل الذي رافق تقهقر المجتمعات الإسلامية.

للحفاظ على السيطرة على الجماهير أو الخوف من فقدان التأثير على الآخرين، تخلّى رجال الدين على نحو متزايد عن البعد الكوني والروحي للإسلام، فاقتصروا فقط على ممارسة الشعائر الدينية.

لن يكون بمقدور أية كنيسة اليوم أن تكتفي فقط بتقنين الشعائر الدينية تحت طائلة الخوف من فقدان الحظوة والمصداقية؛ لأن جزءا كبيرا من البشرية في حاجة فعلية للإشباع الروحي. في الممارسة الدينية أو الروحية التي تتفتح في أوروبا، ينتقد الباحثون بشكل متزايد الكنائس عموماً؛ وذلك لجنوحها للسيطرة على الرعية بدل أن تسهم في سمو النفس البشرية وتربيتها.

في الختام، ينبغي الإشارة إلى المشكل المطروح بخصوص عودة الإسلام إلى أوروبا؛ ذلك أن الإسلام يعود إلى هذه القارة في سياق عالمي مشحون بالتوتر الجيو- سياسي، وتكتسي عودة الإسلام طابع المدافع عن المظلومين ضد الأغنياء والقوة الأمريكية العظمى. في أوروبا، يؤثر البوار والجهل الديني على الجميع، بما في ذلك المسلمين، وكثير من الناس يجهلون الطابع الكوني والثري للدين، إذا استمرت الإنسانية في هذا التجاهل، فإنها ستسهم في تنامي الأصولية التي لا أحد بطبيعة الحال له مصلحة في إيديولوجيتها.

لهذا السبب، ثمة حاجة ملحة لتكوين المسلمين المؤمنين في السياق الثقافي الأوروبي الذي يبقى سياقهم أيضا، وليس فقط الاقتصار على "الأئمة" كمعادل سلبي للكهنة. منذ عدة عقود، يعلق العلماء والشيوخ آمالاً عريضة على الإسلام المنتشر في أوروبا. إذا كان هذا الأمر بكل تأكيد حظا للإسلام، فإنه أيضاً حظ لأوروبا: سيكون بمقدور أوروبا إبراز الإرث المنسي للإسلام، الذي يمكّنها من التعرف على الأصول السامية والشرقية للديانات التوحيدية الثلاث التي تسكنها، وبالتالي تتعرف على تعدديتها الإثنية والدينية.

[1]- مسارة "احتفالات كانت تقام لإيقاف عضو جديد على بعض أسرار الديانات القديمة والجمعيات السرية الحديثة.

[2]- مفارق: وصف يطلق للدلالة على سمو الله على المخلوقات ومفارقته لها.

للاطلاع على الملف كاملا المرجو الضغط هنا


مقالات ذات صلة

المزيد