الائتلاف والاختلاف بين المسيحيّة والإسلام: قراءة في كتاب أحمد الحذيري


فئة :  قراءات في كتب

الائتلاف والاختلاف بين المسيحيّة والإسلام:  قراءة في كتاب أحمد الحذيري

"الائتلاف والاختلاف بين المسيحيّة والإسلام" كتاب للدكتور أحمد الحذيري [1] صادر سنة 2012 ضمن منشورات كارم الشريف بدعم من وزارة الثقافة والمحافظة على التراث (تونس)، ويحتوي الكتاب على مئتين وعشرين صفحة توزّعت على عشرة فصول متفاوتة في حجمها وزمن كتابتها، ذلك أنّ الكتاب على نحو ما بيّن المؤلّف في المقدّمة في أصله "مقالات وبحوث تختلف طولاً وقصرًا [على أنّ ما يجمع بينها] تعلّقها بالديانتين المسيحيّة والإسلام التقاءً واختلافًا لأنّها تطرح مسائل وقضايا تهمّ الدينين اتصالاً وانفصالاً". ص 11

وتنقسم مقالات الكتاب إلى ثلاثة أنواع فبعضها منشور في مجلات وجرائد عربية وبعضها نُشر في الكتاب لأوّل مرة وبعضها الآخر ترجمات لمقالات قام بها باحثون غربيون.

وقد جاءت مقالات الكتاب على النحو الآتي:

المقال الأوّل: من مظاهر التدين الشعبي في مصر: الموالد المسيحيّة والإسلامية نموذجًا (من ص 17 إلى ص 62)

المقال الثاني: التّبنّي في المسيحية والإسلام (من ص 63 إلى ص 76)

المقال الثالث: شهادة مسيحيّ: انتشار الإسلام بحدّ السيف بين الحقيقة والافتراء (من ص 77 إلى ص 86)

المقال الرابع: اِرفعوا أيديكم عن المسيحيين العرب (من ص 87 إلى ص 104)

المقال الخامس: أيّ خطاب قرآني عن المسيح؟ (من ص 105 إلى ص 112 نص مترجم)

المقال السادس: الفكر الديني المعاصر بين العقيدة والإيديولوجيا (من ص 113 إلى ص 134)

المقال السابع: يسوع المسيح عيسى "ابن مريم" في الأناجيل والقرآن بين الخلاص والإخلاص (من ص 135 إلى ص 150)

المقال الثامن: النزعة الكونية في الفكر العربي المعاصر: إدوارد سعيد نموذجًا (من ص 151 إلى ص 164)

المقال التاسع: نحو ميثاق لائكي جديد؟ (من ص 165 إلى ص 196 نص مترجم)

المقال العاشر: المواطن الكوني ومرجعيّات القيم في ظلّ الثورة الرّقميّة (من ص 197 إلى ص 210)

لقد اتصلت مقالات الكتاب بجملة من القضايا الموصولة بالبحث المقارن المعاصر انطلاقًا من فضاءات جغرافية مخصوصة (مصر) أو بالنظر في قضايا معاصرة شديدة الارتباط بالظاهرة الدينية (العقيدة والأيديولوجيا، النزعة الكونية في الفكر المعاصر، اللائكية والدين، الثورة الرقمية والقيم، ...) أو هي تتصل بمقالات وعقائد رئيسة في الأديان الكتابية (منزلة يسوع في الأناجيل والقرآن الكريم، ...).

من هذا المنظور فإنّ الكتاب محاولة للنظر في المؤتلف والمختلف بين المسيحية والإسلام في مستويين مختلفين زمنيًّا (زمن النصوص التأسيسية والتاريخ المعاصر) ومتباعدين في مستوى المجالات (النصوص الدينية والتجربة الدينية)

والمتأمّل في المستوى الأوّل يتجلّى له إلحاح الباحث على إبراز وجوه التقارب بين المسيحية والإسلام، فالدينان يواجهان الإشكاليات نفسها تقريبًا (اللائكية، ...). أمّا في ما يتصل بالمستوى الثاني فإنّ خوض الباحث في أشكال التدين الشعبي، ... قد بيّن له "أنّ الدين الشعبي السائد لدى الشعب المصري هو إلى حدّ ما دين واحد فيه رواسب من الأديان المصرية القديمة ومن التراث المصري القديم ومن المسيحية والإسلام في ذات الآن" ص 11

أدّى هذا التمازج بين التقاليد الدينية في المستوى الشعبي إلى بناء رؤية تفهّمية للإسلام وللمسيحية وللعلاقات التي يجب أن تكون بين أتباعهما بعيدًا عن المسلمات العقائدية التي أرست دعائمها النصوص التأسيسية في الديانتين.

ولم يخرج الباحث عن هذا الأفق المعرفي في المقال الثاني الذي تطرّق فيه إلى قضية "التبنّي" في المسيحية والإسلام، وفيه بيّن أنّ التّبنّي في المسيحية لم يكن ركنًا من أركان الإيمان المسيحيّ، وإنّما شُرّع للتّبنّي في المسيحيّة بناءً على قياس مخصوص بين مفهوم التّبنّي الإلهي للمؤمنين بالمسيح والتّبنّي بين المؤمنين. وقد لاحظ أنّ التّبنّي في المسيحيّة قد تأثّر إلى حدّ كبير بالقانون الروماني الذي عُدّ القاعدة التي بنى عليها البابا نيقولا الأوّل الرؤية المسيحية للتبنّي باعتباره جزءًا من الحقّ الكنسي في حين قامت مسألة التبنّي في الإسلام على مسلمات مغايرة تداخل فيها العرف بالنص، فلئن كان النص القرآني قد صرّح بوضوح بتحريم التّبنّي فإنّ هذا التحريم في تقدير الباحث كان في فترة متأخّرة من الإسلام، وهو ما جعله يسأل عن الأسباب التي دعت الإسلام/القرآن الكريم إلى التراجع عمّا سكت عنه في البداية، فأيّ معنى لتحريم ما كان مباحًا عند العرب قبل الإسلام وفي بدايته، فإذا بالمسألة موصولة بالأساس بأسباب نزول بعض آيات القرآن الكريم (زواج زيد بن ثابت من زينب بن جحش وزاوج النبي منها بعد أنْ طلّقها زيد راجع أسباب نزول سورة الأحزاب 33/37-40)

أمّا المقال الثالث ففيه تطرق الباحث إلى قراءة لكتاب "انتشار الإسلام بحدّ السيف بين الحقيقة والافتراء" لنبيل لوقا ببّاوي المفكّر المصري المسيحي الأرثوذكسي الّذي بيّن في كتابه الافتراءات التي تعرض لها – وما يزال- الإسلام الّذي تمّ تصويره باعتباره دينًا يدعو إلى ممارسة العنف والإقصاء، فإذا بالعنف الذي تعرّض له المسيحيون لم يكن على يد بعض المسلمين دائمًا وإنّما كان في أغلب الأحيان على يد الرومان والمسيحيين أنفسهم (عنف الكاثوليك ضد البروتستانت)، فإذا بالاضطهاد الديني الذي مارسه بعض المسلمين كان الاستثناء الدال على التجاوز الواضح لمبادئ الإسلام ولما ساد من ممارسات تاريخية تؤكّد أنّ الإسلام لم ينظر إلى المسيحيين نظرة احتقار أو استصغار ولم يسع إلى اضطهادهم على نحو ما زعم بعض المستشرقين المتحاملين على الإسلام.

إنّ وقوف الأستاذ أحمد الحذيري على كتاب نبيل لوقا ببّاوي هو بمنزلة النظر في شهادة مسيحي يقرّ بأنّ الصورة النمطية حول الإسلام التي مدارها على القول إنّ الناس قد دفعوا إلى الدخول في الإسلام إكراهًا وخوفًا تحت تهديد السيف، رؤية لا يعتدّ بها لما فيها من كذب وزيف، ومن شأن نشر تلك الرؤية أنْ يبني جدارًا يمنع من الدخول في حوار بنّاء بين أتباع الديانتين، وهي مسألة توسّع في أبعادها في المقال الرابع الذي خصصه الباحث للنظر في مسألة الأقلية الدينية في المنطقة العربية. وقد انطلق الأستاذ أحمد الحذيري في معالجة هذه المسألة من واقع المسيحيين العرب "موضّحًا أنّ تناول الغرب لمسألة الطائفية كانت الغاية منه تجزئة المجتمعات العربية وتقسيمها، فليس للمسلمين مصلحة في اضطهاد الأقباط وليس للمسلمين في مصر رغبة في تصفية المسيحيين، ذلك أنّ المصري المسلم لا يسأل أخاه في الوطن عن دينه أو عن أصله، وما الزعم بأنّ المسيحيين في مصر مهدّدون بالتصفية ومعرضون للقمع إلاّ جزء من المشروع الصهيوني الذي يقوم على مبدأ فرّق تسدّ، ويُعدّ مسيحيو مصر أهم الطوائف التي يستهدفها المشروع الصهيوني القائم بالأساس على المطالبة بنقل المسيحيين إلى إسرائيل "ووضعهم في حالة حرب دائمة" ص 98 من منطلق أنّ "الأمن الاستراتيجي الإسرائيلي لا تضمنه إلا العلاقات الاستراتيجية مع أقلّيات المنطقة" ص 99

ويرى الباحث أنّ المخرج من هذه المؤامرة يكون بإرساء حقّ المشاركة السياسية باعتباره مقومًّا أساسيًّا من مقوّمات المواطنة، وهو بذلك يصرح بضرورة فكّ الارتباط بين الدولة والدين أي بين السلطة الدينية والسلطة الدنيوية في البلاد العربية.

وقد تناول الباحث بعدًا آخر للعلاقة التي يجب أن تقوم بين المؤسستين (السياسية والدينية) في المقال السابع الموسوم بـ "الفكر الديني المعاصر بين العقيدة والإيديولوجيا" الذي دعا فيه إلى التخلّص من النزعة الثبوتية ومقاومة النزعة الضيّقة التي تروم الانغلاق على مسلمات غير واضحة، وهو بذلك يؤكّد أنّ التحرر من تلك النزعات يمثّل حلقة مهمّة من حلقات المشروع الإسلامي الحقيقي الذي يمكّننا من تجديد علاقتنا بعقائدنا وبنصوصنا في إطار رؤية نقدية واضحة المعالم تأخذ في الحسبان مقتضيات الحداثة.

ويضرب الباحث في المقال التاسع تجربة إدوادر سعيد مثالاً بليغًا دالاًّ على مميزات النزعة الكونية في الفكر العربي المعاصر الّذي ظل إلى زمن غير بعيد أسير سلطة النص بدلاً من الانغماس في الواقع العربي، ولعل إدوارد سعيد الفلسطيني المسيحي الأنموذج الذي استطاع من خلال تحديد ماهية المثقف رسم معالم الطريق الذي يجب أن يسير فيه المثقّف والمفكّر العربي، فإدوار سعيد لم "لم يضع طِلْبَتَهُ ولم يجعل غاية مراده أنْ تكون له قدرة الغرب بل سعى إلى تجاوزها في ميدانه المخصوص ولم يرض بها مرجعًا أو مقياسًا أو رخصةً لمعانقة الكونية فحقق الكونية من غير التوسل بالغرب" ص 164. ولم يكتف سعيد بذلك بل سعى إلى تعرية "الثقافة الإمبريالية" الغربية الساعية عبر الاستشراق إلى خلق أنموذج كوني يخفي وراءه أطماعًا استعمارية قوامها السلطة والسيطرة والقوّة.

الأنموذج الكوني في تقدير أحمد الحذيري له أبعاد وتجلّيات منها "المواطن الكوني" الذي خصص له المقال الأخير من الكتاب، وفي هذا المقال بيّن مواصفات المواطن الكوني وصلته بمرجعيات القيم في ظل الثورة الرقمية، هذه الثورة التي فرضت واقعًا جديدًا وأرست نمطًا حياتيًّا لم نألفه من قبل، بما جعل البشرية تئن تحت وطأة التكنولوجيا، فإذا بالإنسان يصبح عبدًا لها يدمن عليها ويفقد كل قيمه الأخلاقية والإنسانية بفعل تعدد المواقع الإباحية والمواقع الداعية للعنف بما يمثّل خطرًا حقيقيًّا على منظومة القيم التي يجب علينا العودة إليها باعتبارها نبعًا من ينابيع الحياة السوّيّة، ففي النصوص التأسيسية للأديان (اليهودية، المسيحيّة، الإسلام، ...) قيم معنوية وعقلية وأخلاقية وجمالية... بالإمكان الاستناد إليها لرسم ملامح المواطن الكوني، ذلك أنّ "الكونية مبادئ وقيم لا تلغي الخصوصيات بل تحفظها لتغني بها المخزون الإنساني وتحمي هويّات الشعوب" ص 203، فلا راحة ولا طمـأنينة للإنسان المعاصر ما لم يدّخر له من الزاد الروحي قيمًا ومُثُلاً بها يواجه سطوة الثورة الرقمية.

فإذا بالسؤال الذي يجب الإجابة عنه اليوم كيف تتمّ العودة إلى الأخلاق، سؤال انطلق منه جان بوبيرو Jean Baubérot في مشروعه التأسيسي لـ "ميثاق لائكي جديد" تولّى أحمد الحذيري تعريبه، ومن أهم ما جاء في هذا الميثاق أنّ دراسة تاريخ الأديان في ظل مقاربة مقارنية يُساهم بقسط وافر في بناء رؤية جديدة لمنزلة الدين في حياة الفرد والجماعة، ومن شأن ذلك أيضًا أنْ يغيّر مواقفنا تجاه الآخر المغاير دينيًّا، فإذا بالميثاق اللائكي يوفّر للأديان ما لم يوفّره الخطاب الديني التقليدي. أمّا في ما يتصل بالمحور الثالث من الكتاب فننزّل المقال الخامس والمقال السابع، ويدور هذان المقالان في فلك الرؤية الإسلامية والمسيحية للمسيح يسوع/ عيسى بن مريم.

وما يلاحظ أنّ هذين المقالين يتكاملان في مستوى المحتوى وإنْ كان الأوّل تعريبًا لمقال ألّفه الباحث الألماني ميخائيل جوزيف ماركس ونشره على أعمدة العدد 193 من مجلة عالم الكتاب المقدّس Le Monde de la Bible في حين كان المقال الثاني من تأليف الأستاذ أحمد الحذيري، ومن أهم وجوه التكامل الحاصل بين المقالين أنّ الأول سعى إلى النظر في شخصية عيسى من منطلق النص القرآني بردّ الرواية القرآنية إلى رواية إنجيلية قانونية وغير قانونية إنجيل جاك من جهة، وبالتوسّع في خصائص الرؤية القرآنية حول المسيح من خلال النظر في علاقة المسيح بآدم (آدم الجديد) وما حفّ بموته من أحداث من جهة أخرى. وقد انتهى ميخائيل جوزيف ماركس في هذا البحث إلى قراءة واضحة أكّد من خلالها أنّ للنص القرآني رؤية خاصة به يصعب معها القول إنّ القرآن كان امتدادًا للروايات المسيحية، أو هو خروج عنها بقدر ما تؤكّد أنّ "اللاهوت الإسلامي [قد..] اكتسب قيمة ذاتية عبر تناوله لشخصية يسوع المُؤوّلة من جديد أو قل المعدّلة" ص 112، في حين كان مدار الاشتغال في المقال الثاني وجوه الاتفاق والاختلاف بين الأناجيل والقرآن الكريم في ما يتصل بمختلف جوانب حياة يسوع/ عيسى بدءًا من أصله الاجتماعي وظروف نشأته وبداية تكوّنه وممارسته الوعظ والإرشاد ومضامين رسالته وصولاً إلى نهايته مصلوبًا/ فقيامته معرّجًا على ماهية يسوع بين البنوّة والألوهية.

وما يلفت الانتباه في هذا المقال أنّ الباحث ركّز البحث - على عكس ما يوحي بذلك العنوان- على الخطاب الإنجيلي. فالباحث بيّن في ثنايا المقال التغييرات التي عرفتها رسالة المسيح بين الدعوة والتبشير أي بين ما قام به يسوع في حياته وما نسجه الرسل حوله من بعده، معتبرًا بولس المؤسس الحقيقي للديانة المسيحية، فلئن كان يسوع مدار العقيدة المسيحية فإنّ بولس هو واضع تلك العقائد استنادًا إلى عقائد عديدة راجت في الفضاءات الدينية المجاورة لليهود.

لقد استطاع بولس بفضل الاقتباس وضع "فلسفة جديدة هي فلسفة الفادي المخلّص لمغفرة خطايا الذنوب للإنسان" ص 145

وبذلك وضع الأستاذ أحمد الحذيري رؤية بحثية واضحة المعالم قوامها ضرورة الوعي بظروف تشكّل النصوص المقدّسة والعوامل المؤثّرة في تدوينها.


[1] عمل المرحوم أحمد الحذيري أستاذًا محاضرًا بكلية الآداب والعلوم الإنسانية بسوسة، متحصّل على شهادة التبريز وشهاد الدكتوراه دولة في اللغة العربية وآدابها (2007) عن بحث حمل عنوان "المسيحيون المصريون وعلاقاتهم بالمسلمين من 1908 إلى 1990 بحث سياسي اجتماعي عقائدي"، وهو متحصل أيضًا على شهادة التبريز في الاختصاص نفسه (1986) إلى جانب تحصله على شهادات جامعية في اللغة الأنجليزية وفي اللغة الألمانية واللغة الفرنسية، وهو ما أتاح له التدريس في اختصاصات عديدة في الجامعة التونسية منها الحضارة والترجمة والأديان المقارنة.