إشكاليات تعدّد المعنى في النصّ القرآني من خلال كتاب: "تعدّد المعنى في القرآن: بحث في أسس تعدّد المعنى في اللّغة من خلال تفاسير القرآن"


فئة :  قراءات في كتب

إشكاليات تعدّد المعنى في النصّ القرآني من خلال كتاب: "تعدّد المعنى في القرآن: بحث في أسس تعدّد المعنى في اللّغة من خلال تفاسير القرآن"

إشكاليات تعدّد المعنى في النصّ القرآني من خلال كتاب:

"تعدّد المعنى في القرآن: بحث في أسس تعدّد المعنى في اللّغة من خلال تفاسير القرآن" لألفة يوسف


يُعدّ البحث في المعنى القرآنيّ مبحثاً أصيلاً في الثقافة العربيّة الإسلاميّة، له علاقاتوطيدة بمباحث متعدّدة الاختصاصات، مثل علم الكلام وعلم التفسير وعلم البلاغة،...، وهي دوائر ثقافيّة متداخلة يصعب الفصل بينها في الثقافة العربية الإسلامية، ولعلّ هذا التداخل أحد أهمّ الصعوبات التي تواجه الباحث في شأن "المعنى القرآنيّ".

ونحن إذا ما تأمّلنا البحوث المعاصرة المتصلة بالمسألة ألفيناها تسعى إلى تناول المسألة من منظور تقليدي يتمّ فيه ربط الظواهر البلاغية والنحوية بظاهرة الإعجاز القرآني حيناً، أو اعتماد المباحث اللغوية والبلاغية مداخل لفهم مقاصد النصّ القرآني في المستوى الفقهي (الأحكام،...) حينا آخر. وقلّ أنْ وجدنا محاولات تفكّر في النص القرآني باعتباره خطابا قائما على أقوال لغويّة تنطوي على تعدّد للمعنى، على النحو الذي فعلت ألفة يوسف في كتابها "تعدّد المعنى في القرآن" والذي هو في الأصلأطروحة دكتوراه دولة في اللّغة والآداب العربيّة بعنوان "تعدّد المعنى في القرآن: بحث في أسس تعدّد المعنى في اللغة من خلال تفاسير القرآن"، وقد تمّ إنجاز هذا البحث في حرم الجامعة التونسيّة بإشراف من الأستاذ عبد السلام المسدّي، وقد توّلت مناقشة البحث في يوم 11 يونيو سنة 2002 لجنة علميّة من أهل الاختصاص يتقدّمها الأستاذ عبد القادر المهيري.

وقد رأى هذا العمل النّور بعد أشهر قليلة من تاريخ مناقشته في طبعة أولى نشرت بتونس في مارس 2003 نشراً مشتركاً بين دار سحر للنشر وكليّة الآداب بمنّوبة. وفي الكتاب تناولت الباحثة دقيق الإشكاليات المتعلّقة بـ"تعدّد المعنى في القرآن" باعتماد مقاربة واضحة المعالم راعت فيها خصوصيّات المبحث الذي تتصدّى له بالدرس، وقد بدت ألفة يوسف في كتابها واعية وعياً تامّاً بقيمة الرهانات المعرفيّة والحضاريّة المتّصلة بالمبحث، فالخوض في إشكاليات المعنى في القرآن الكريم لم يكن من المباحث الجديدة، بيد أنّ الرؤية المنهجيّة والتصوّر العام الذي انطلقت منه الباحثة هما مدار الطرافة، وعليهما قام رهان البحث –في تقديرنا-، وإليهما يعزى نجاح الكتاب وانتشاره، إذ لقي البحث صدى كبيراً في نفوس القرّاء وانتشاراً واسعاً في صفوف المختصّين وغير أهل الاختصاص ممّن شغلهم موضوع الكتاب وحرّك سواكنهم واستثار عقولهم وزرع فيهم بذرة الحيرة والسؤال.

ولئن كان هذا البحث مندرجا من جهة التخصّص الدقيق في ميدان اللّغة واللّسانيات، فإنّه يطلّ برأسه - بحكم الموضوع الذي يدور في فلكه - على مجال الدراسات الحضاريّة في معناها الواسع بما في ذلك أمّهات المواضيع الموصولة بالأديان ونصوصها المقدّسة، لذلك فكتاب الدكتورة ألفة يوسف الذي نحن بصدد تقديمه يقع في منزلة بين المنزلتين على نحو ما ذكرنا، فهو يسع من قضايا اللّغة عميقها وجديدها ومن أسئلة الحضارة والفكر العلميّ المعاصر خطيرها ودقيقها لا سيّما إذا كان المبحوث فيه "تعدّد المعنى" في النصّ القرآنيّ ذاته الذي ينظر إليه أغلب الفقهاء وأكثر المفسّرين وشقّ كبير من رجال الدين والدّعاة المسلمين على أساس أنّ له معنى ثابتاً واحداً مطلقا مقدّسا، لأنّه كلام نابع من مصدر إلهيّ متعال، فليس له من معنى إلاّ معنى أوحد ذاك الذي قصده اللّه متناسين أنّ المعنى في القرآن الكريم هو في نهاية الأمر حصيلة تفاعل العقل البشريّ مع هذا النصّ فهماً وتفسيراً وتأويلاً. ومن هذا المنطلق سعت ألفة يوسف إلى استقصاء أسس تعدّد المعنى في القرآن الكريم من منظور لغويّ ألسنيّ من خلال كتب تفسير القرآن، وعلى أساس رهان البحث وموضوعه ومجالات دراسته أقامت الباحثة عملها على قسمين كبيرين بينهما رباط دقيق وثيق، فلقد خصّصت القسم الأوّل لتناول "أسس تعدّد المعنى الماصدقي في اللّغة من خلال تفاسير القرآن". أمّا في القسم، فتعلّقت همّتها بتدبّر قضيّة "أسس تعدّد المعنى التأويليّ في اللّغة من خلال تفاسير القرآن".

ونظراً إلى تشعّب مسالك هذا البحث وتفرّع الإشكالات فيه إلى أدقّ الجزئيّات وزّعت ألفة يوسف مادّة كلّ قسم إلى بابين مهمّين؛ انقسم كلّ باب منهما إلى جملة من الفصول انقسمت بدورها إلى مباحث عديدة فعناصر...، وذلك على النحو الآتي: القسم، فالباب، فالفصل، فالمبحث، فالعنصر(الترقيم الرومانيّ)، فعناصر صغرى (الترقيم العربيّ) فعناصر أصغر(باعتماد الحروف العربيّة). وقد توزّع القسمان المكوّنان للكتاب على النحو الموالي:

وسمت ألفة يوسف القسم الأوّل بـ "أسس تعدّد المعنى الماصدقي في اللغة من خلال تفاسير القرآن"

احتوى القسم الأوّل من الكتاب على بابين، مدار أولّهما على بيان "أسس تعدّد المعنى الماصدقي على الوضع" (ص 25 ص210). أمّا ثانيهما، فقد انبنى على استصفاء "أسس تعدّد المعنى الماصدقي الوارد على المجاز" (ص211 ص288). قام الباب الأوّل على ثلاثة فصول يحكمها منطق التدرّج من النظرفي"أسس تعدّد معنى القول انطلاقا من تعدّد معنى الكلمة والمركّب (المنظور المعجمي)" (ص26 ص154) إلى النظر في "أسس تعدّد معنى الكلام انطلاقا من تعدّد المعاني النحويّة (المستوى النحوي)" (ص154 ص199)، فإلى استجلاء "أسس تعدّد معنى القول الضمنيّ الوضعيّ: مسألة الاقتضاء".(ص200 ص210)

في حين بُني الباب الثاني أسس تعدّد المعنى الماصدقي الوارد على المجاز(ص211ص288) الموصول بأسس البحث في تعدّد المعنى الما صدقي المجازيّ على فصلين الخيط الرابط بينهما يحكمه الانتقال من معالجة "الاختلاف في تعيين بعض المعاني أَواردة هي على المجاز أم على الحقيقة" (ص 221 ص 257) إلى محاولة تفسير "الاختلاف في تعيين المعاني الماصدقيّة المجازيّة". ( ص257 ص 288)

القسم الثاني: "أسس تعدّد المعنى التأويلي في اللغة من خلال تفاسير القرآن" (ص 295 ص 406) فقد ضمّ بابين، في الباب الأوّل تصدّت ألفة يوسف لبعض المعاني التأويليّة (من دوال المعاني التأويليّة (ص 298 ص24 3)، وأمّا الباب الثاني "من المعاني التأويلية وأسس تعدّدها" (ص 324 ص 395) فخصّصته للنظر في بعض المعاني التأويليّة وبيان أسس تعد تلك المعاني، وقد جاء الباب الأوّل "من دوال المعاني التأويلية" في فصلين اهتمّت الباحثة في أوّلهما"بدوالّ اللّفظ التأويليّة" (ص 298 ص 311) اهتمامها في ثانيهما"بدوالّ المعنى الماصدقي التأويليّة" (ص 311 ص 243). أمّا الباب الثاني "من المعاني التأويليّة وأسس تعدّدها" من القسم الثاني من الكتاب، فأقامته الباحثة على فصلين يشدّ أحدهما برقاب الآخر في نسق علميّ أساسه الترابط والتدرّج، وآية ذلك أنّ الفصل الأوّل ورد لدراسة بعض "أسس تعدّد المعاني التأويليّة وفق أصنافها" (ص327 ص 378 )،وأنّ الفصل الثاني أفرد لاستخلاص بعض "أسس تعدّد المعاني التأويليّة في ذاتها أي بقطع النظر عن أصنافها" ( ص 378 ص 395). يشتمل الكتاب على مقدّمة عامّة وخاتمة عامّة وعلى قسمين متفاوتين في مستوى الحجم (امتدّ القسم الأوّل من ص 23 إلى ص 294، وبذلك بلغت صفحاته 271 ص) (أمّا الثاني فامتدّ من ص295 إلى ص 398 وبذلك بلغت صفحاته ص 103)ولكنّهما متناسقان في ما يتّصل بالوظيفة، وفضلاً عن إيراد الباحثة فهرس المصادر والمراجع وفهرساً مفصّلاً لمحتويات المسائل المدروسة فقد أوردت فهرساً للآيات القرآنيّة وآخر للأعلام وثبتا مصطلحيّا ضبطت فيه أهمّ المفاهيم والمصطلحات المعتمدة في عملها مرتّبة وفق حروف الجذر، ممّا يكشف عن الصرامة العلميّة والدقة المنهجيّة ومقتضيات البحث الأكاديميّ التي أخذت ألفة يوسف نفسها باتّباعها على امتداد أطروحتها.

ثمّ إنّ قارئ هذا العمل قراءة متأنية لا يملك إلاّ أن يبدي - على الأقلّ - ملاحظتين تتّصل الأولى بعمق المادة العلميّة المعتمدة في معالجة إشكالات البحث وغزارتها ودقّتها واختلاف مجالاتها ومصادرها، وهو ما يدلّ على سعة اطلاع الباحثة على أمّهات المراجع الموصولة بمجال تخصّصها في لغات مختلفة وعلى تمرّسها بآليّات البحث الأكاديميّ الرصين، والملاحظة الثانية مرتبطة بإحكام بناء أركان هذا العمل الجامعيّ، رغم تشعّب المباحث وعمقها وتنوّعها، فعين القارئ لا تخطئ مدى ترابط الأقسام والأبواب والفصول والمباحث ومدى قدرة الباحثة على التدرّج في طرح المسائل المقترنة ببحثها وفي معالجتها معالجة تطبيقيّة بالاحتكام إلى القرآن الكريم وكتب التفسير الحافّة به والناشئة حوله، وقد أبدت في ذلك كلّه مهارة منهجيّة فائقة تجلّت في حسن تعاملها مع النصوص المدروسة بتفكيكها تفكيكا دقيقا في ضوء الرهانات المعرفيّة القائم عليها عملها كما تجلّت في مرونة المنهج الاستقرائيّ الذي وظّفته في التصدّي للمسائل المبحوث فيه، وهو منهج لم يسقط على مادّة البحث إسقاطا آليّا على نحو ما نجده في بعض البحوث الأكاديميّة التي تعلي من صوت المنهج والنظريّة على حساب النصّ، بل طبيعة النصّ المدروس- وهو القرآن الكريم وما اقترن به من مدوّنة تفاسير- هي التي استدعت المنهج الاستقرائيّ الناهض على الملاحظة والمقارنة والاستنباط والاستنتاج بالأساس.

ليس من الممكن الإتيان على جميع مباحث هذا الكتاب وما أفضت إليه من نتائج جزئيّة وكليّة تأليفيّة في تقديم موجز هذا شأنه، وليس من المتاح أيضا تفصيل كلّ الإشكالات الدائر عليها موضوعه؛ فالكلام عليها باب إن توزّع القول فيه طال، لذلك حسبنا في مثل هذا المقام أنّ نتحدّث عن الإشكالات الكبرى التي تقود هذا العمل وعن المفاهيم العلميّة الأساسيّة التي توجّهه وعن كبار النتائج التي أسلم إليها وربّما في مرحلة أخيرة عن الآفاق المعرفيّة التي يفتحها أمام أرباب الاختصاص وجمهور الباحثين، ومن هنا تتأتّى قيمة الأعمال الجامعيّة الجادّة والرائدة.

قام هذا البحث على إشكال مركزيّ منطلقه فرضيّة علميّة مفادها أنّ المعنى القرآنيّ الذي "تجسّم دون تقطيع المعنى واللّفظ ودون تعجيم التاريخ، هو ذاك الوارد في أمّ الكتاب: "وإنّه في أمّ الكتاب لدينا لعليّ حكيم" (القرآن الكريم، سورة الزخرف 43/4) أي في اللّوح المحفوظ: "بل هو قرآن مجيد في لوح محفوظ" (القرآن الكريم، سورة البروج 85 /21-22)". (ص 404)

والذي يترتّب على ذلك أنّ هذا المعنى الأصليّ بعد نزول القرآن على الرسول صلّى الله عليه وسلّم وبعد اندراجه في التاريخ وتعجيمه وإضفاء المعنى عليه فهماً وتفسيراً وتأويلاً من قبل العقل البشريّ قدره التعدّد الذي اجتهدت ألفة يوسف في البحث عن أسسه وأسبابه جيئة وذهاباً بين القرآن الكريم وكتب التفسير الساعية إلى استكشاف المعاني الثاوية فيه.

والذي يعزّز من وجاهة الطرح الذي تتبنّاه الباحثة بشأن تعدّد المعنى في القرآن الكريم غياب باثّ هذا النص المقدّس الرسول محمّد بعد وفاته "غياباً ماديّاً مطلقاً" (ص 405)، لذلك نهض الرسول صلّى الله عليه وسلّم في حياته بدور الوسيط بين السماء والأرض، باعتباره المتّصل البشريّ الوحيد بالباثّ، فقام "بتحديد بعض المعاني التي قصدها الله، فكانت معاني قليلة يقبل بعضها تعدّد المعنى" (ص 405)على حدّ تعبير ألفة يوسف، والذي عسّر على المفسرين عملهم في استجلاء معاني القرآن الكريم وتفسيرها اندثار أيّ اتّصال بباثّ القول الأصليّ؛ أي الله بعد وفاة الرسول، ويضاف إلى ذلك إشكال آخر يتّصل بمعاني الكلام وكيفيّة بناء مقاصدها، ومفاد ذلك "أنّ تحديد المتكلّم لمعاني كلامه لا يمكّن من تحديد المقصود فضلاً عن أن يغيب ذلك التحديد" (ص 405) كما تذهب إلى ذلك ألفة يوسف، وعليه اعتبرت صاحبة كتاب "تعدّد المعنى في القرآن" أنّ جميع تفاسير القرآن لا تعدو أن تكون معاني ثواني ممكنة "لا يعقل أنْ يدّعي أحدها موافقته للمعنى الأوّل" (ص 405)زد على ذلك أنّ المعنى الأصليّ الإلهيّ يبقى معنى منشوداً مستحيلاً لا يمكن أن يقال، وهذا المعنى الأصليّ ينضوي في نظريّة جاك لاكان في علم النفس التحليليّ إلى مدار الواقعيّ الذي هو المحال الذي لا تدركه الحواسّ،"وهو الغائب دائما عن التمثيل الذي يحاول الإحاطة به" (ص 406)على نحو ما ترى ألفة يوسف، وإذا كان ذلك على الشكل الذي بيّنته الدارسة جاز القول بأنّ المعنى الذي تتحدّث عنه كتب التفاسير، إنّما هو معنى تمثيليّ رمزيّ يستنبطه قارئ النصّ القرآنيّ، ومن ثمّ ليس هو المعنى الإلهيّ الأصليّ، بل هو تمثيل رمزيّ له عبر اللّغة، وتبعاً لذلك فالمعنى محكوم بالضرورة بالتعدّد، وهذه الحقيقة العلميّة متى أسقطها بعض المفسّرين قديما وحديثا من اعتباراتهم أثناء تدبّرهم المعنى في القرآن الكريم عملوا على "نفي الشرخ القائم بالضرورة بين الواقعيّ والرمزيّ وذلك بتصوّر مستحيل لقول يعبّر عن الواقع تعبيرا مطلقا وبتصوّر مستحيل لمعنى واحد مطلق ينشئه متكلّم ويمتلكه متقبّل".(ص 406)

هكذا يقوم هذا الكتاب على جملة من الإشكالات الدقيقة أصلها في اللّغة وفرعها في الحضارة والفكر، فقضيّة المعنى في علاقتها بالمتكلّم والقول بمختلف العناصر المرتبطة به من أهمّ القضايا المثارة اليوم في الدراسات اللّسانيّة والتداوليّة والأدبيّة والحضاريّة، فاهتمام يوسف بالمعنى يندرج في إطار تجديد دراسته وإعادة النظر فيه في ضوء المفاتيح العلميّة الجديدة المقترحة من علوم اللّسان وفلسفة اللّغة ونظريّات الخطاب وعلم النّفس التحليليّ والاتّجاه العرفانيّ. لذلك اقتحمت الباحثة غمار هذا الموضوع الشائك والمحرج في الثقافة العربيّة الإسلاميّة – أي موضوع تعدّد المعنى في القرآن- يحدوها الأمل في إيجاد تفسير علميّ مقنع لما حفلت به بعض كتب تفاسير القرآن من تعدّد للمعنى يسعى شقّ كبير من علماء الدين قديماً وحديثاً إلى إنكاره أو تجاهله. وممّا يدلّ على طرافة موضوع المعنى وعسره وجدّته في البحث العلميّ المعاصر في ميدان اللّغات والآداب والفنون والإنسانيّات تنظيم كليّة الآداب بمنّوبة سنة 1999 ندوة علميّة دوليّة عنوانها "المعنى وتشكّله" لتدارس هذه المسألة المهمّة في حياة الإنسان طالما أنّه الكائن الوحيد الذي يتمثّل الكون تمثّلا لغويّا معبّراً عن ذلك التمثّل بكلام حمّال لمعان مختلفة منها ما يساق على الحقيقة ومنها ما يساق على المجاز. فالباحثة واعية بخطورة الموضوع الذي تعالج وبقيمة الرهانات المعرفيّة والفكريّة التي تسمو إليها وتهفو إلى بلوغها في هذه الرسالة الجامعيّة، ولقد تزوّدت من أجل ذلك بجملة من المفاهيم والمنطلقات جعلتها حجر زاوية في عملها.

بدأت ألفة يوسف في تشقيق مبحث المعنى بالنظر في مفهوم العلامة اللّغويّة بوصفها الإطار الأكبر الذي يتشكّل فيه المعنى في أيّ لغة من اللّغات، وقد ضبطت وفق أحدث النظريّات اللّسانيّة في تعريف العلامة ثلاثة عناصر أساسيّة هي جما ع العلامة على النحو الآتي:

العنصر الأوّل في العلامة هو المستوى الظاهر من القول ويدخل مجال التّعبير.

العنصر الثاني هو المستوى الضمنيّ للقول أي إنّه ما يعبّر عنه القول ويدخل مجال المعنى.

العنصر الثالث هو ما يحيل عليه القول في الواقع ويدخل مجال المرجع.

وتتبنّى صاحبة هذا الكتاب في نهاية المطاف تعريف بيرس (pierce) للعلامة، والذي يختزلها في ثلاثة عناصر، أوّلها الممثل بوصفه الذات المحسوسة التي تمثّل أي إنّه في مجال القول العنصر الظاهر المجسّم حسيّا في الصوت والكتابة، وثاني العناصر الموضوع، وهو ما تقوم مقامه العلامة؛ أي ببساطة بعض الواقع الذي تدلّ عليه العلامة اللّغويّة، وآخر عنصر هو المفسّر الذي من شأنه أن يزيل اللبس والخفاء. فنحن اقتحمنا الآن مجال المعنى عبر المفسّر، باعتباره الفكرة التي تولد في الذهن، فكلّما فسّرنا علامة لغويّة بإيجاد معناها وجدنا أنفسنا نقدّم علامة جديدة ليست لغويّة بالضرورة.

وأبرز خصائص المعنى على نحو ما ذكرت ألفة يوسف"أنّه غائب فهو ليس ملموساً ولا ظاهراً إذ لا يظهر مباشرة، بل عبر علامة أخرى"، وتخرج الباحثة من دائرة المعنى ما يترتّب على الكلام من عمل تأثير بالقول (acte perlocutoire) (ص 9)كأنْ نقول: "التدخين مضرّ بالصحّة" فيعمل المخاطب على الإقلاع عن التدخين، فهذا العمل المترتّب على كلامنا لا يدخل في نطاق المعنى؛ فالمعنى كامن في القول في حدّ ذاته أو في القول المضمّن فيه، وأمّا العمل المتولّد منه في الكون الخارجيّ أيّ غير اللغويّ فليس من المعنى في شيء. ومن ثمّ لا يخرج المعنى في أيّ قول عن المعنى الأصليّ في أصل الوضع وعن المعنى الثاني المنجز وفق المقام والعلاقة بين المتكلّم والمخاطب. ولمّا كان للمعنى عناصر متعدّدة مختلفة سعت الباحثة إلى حدّها ممّا مكّنها بعد ذلك من تصنيف المعنى إلى أقسامه التي ستقيم عليها يوسف الخطوط الكبرى والصغرى لبحثها في تعدّد المعنى في القرآن على الشكل الآتي:

المعنى الماصدقي: وهو المستند الواقعيّ الذي لا بدّ من معرفته لفهم العلامة، وهو"مصطلح منطقيّ يعني مجموع الموضوعات التي يدلّ عليها المعنى أو الأفراد الداخلين تحت صنف أو كليّ". (ص 9)

المعنى التأويليّ:"يشمل كلّ ما يستتبعه القول إذا ما استثنينا المعنى الماصدقي، فتدخل ضمنه كلّ دلالات المعنى على شخص المتكلّم أو على إطار الكلام... وجميع الأقوال قابلة، لأن يكون لها معان تأويليّة. (ص 12). ومن ثمّ "لا يخرج أيّ معنى لأيّ قول لغويّ عن صنفي لمعاني هذين" (ص 12)، فعلى هذه المفاهيم المركزيّة بنت الباحثة دراستها لتعدّد المعنى في القرآن، فهي تسير في أطروحتها على منهج واضح وتفيد من جهاز نظريّ ومفهومي دقيق ممّا يسّر لها الخلوص إلى نتائج مهمّة بقدر ما عملت على مراجعة بعض الأفكار الشائعة والمسلّمات التي يدين بها رجال الدين وبعض المفكرين المسلمين فتحت أمام الباحثين والمجتهدين من رجال الفكر مسالك جديدة في التعامل مع المعنى في شتّى النصوص وفي مختلف ضروب الخطاب.

ولقد أثبتت الباحثة في القسم الأوّل من كتابها أنّ أسس تعدّد المعنى الما صدقيّ تختلف وفق حضور المعنى في السّياق والمقام أو غيابه. فضبطت أسّين عند حضور المعنى في السياق على هذا النحو:

- وجود أكثر من سياق قابل لأن يكون مفسّرا للقول والاختلاف في السياق المفيد منهما، ويمكن أن نسم هذا التعدّد بالانتشاريّ.

- الاتّفاق في السياق المفيد والاختلاف في معناه؛ أي تعدّد معنى السياق المفسّر، وهو تعّدد بنفس أسس تعدّد معنى القول، ويمكن أنْ نسم هذا التعدّد بالموضعيّ.

وتعتبر غياب المعرفة المشتركة بالمقام سواء أكان عامّا أم خاصّا. وتذهب إلى أنّ من ضروب تعدّد المعنى ما لا علاقة له بمعرفة المقام من أسس تعدّد المعنى الماصدقيّ للقول الواحد، فيستند في مثل هذه الحال إلى دلالة القول بالوضع على أكثر من معنىواحد "أي يستند إلى الاشتراك متجسّماً في الكلمات أو في التراكيب أو في المعاني النحويّة، غير أنّ هذه المعاني قائمة بالقوّة خارج القول، ويظلّ المقام هو العنصر الذي يحدّد من تلك المعاني الوضعيّة بعضها التي قد يفيدها القول". (ص 293)

وقد قاد النظر في القسم الثاني، الباحثة إلى اعتبار المعنى التّأويليّ متحقّقاً هو أيضا ضمن علاقة استدلال "ولكنّها تقوم بين القول بلفظه ومعناه الما صدقي من جهة ومعناه التأويليّ الممكن من جهة أخرى" (ص 396). ثمّ قادها تدبّر أبرز دوالّ المعاني التأويليّة وبيان بعض أسس تعدّد هذه المعاني إلى استخلاص"أنّ سائر المعاني التأويليّة لا تكون إلاّ إمكاناً يبحث في سبب القول ويعبّر عن تعدّد وجهات النظر إلى الموضوع الواحد وتعدّد إمكانات تعليقه بمواضيع أخرى إن آنيّا أو زمانيّا". (ص 397)

وملاك الأمر بالنسبة إلى ألفة يوسف، أنّ وجود معنى القرآن الأصليّ مجرّد افتراض وأنّ فهمنا للوح المحفوظ وأمّ الكتاب ليس سوى إمكان، وعليه فاللفظ"عاجز عن تمثيل المعنى الأوّل قبله فضلا عن تمثيل المعنى الأصليّ". (ص 406)

إنّ المزّية في هذا العمل الأكاديميّ ليست كامنةً في النتائج المهمّة المتوصّل إليها بخصوص موضوع تعدّد المعنى في القرآن الكريم، بقدر ما هي ماثلة في طرح الأسئلة وإثارة القضايا وفتح آفاق جديدة أمام الباحثين في التعامل مع مسألة المعنى في النصوص المقدّسة وفي سائر النصوص دينيّة كانت أو لغويّة أو أدبيّة أو فلسفيّة إلخ... ومن خصال هذا التعامل التحلّي بالموضوعيّة العلميّة والاستناد إلى جهاز معرفيّ دقيق يبحث في أسباب تعدّد المعنى في القول من منظور لغويّ ألسنيّ معاصر، فحسب ألفة يوسف في هذا الكتاب أنّها استثارت تفكير الباحثين ودعتهم إلى مراجعة بعض المسلّمات والأفكار المتزمّتة وحفّزتهم على تحديث المنهج والرؤية في معالجة قضيّة المعنى وما أدراك ما المعنى، هذا المتصوّر الذهنيّ الذي يستعصي على الضبط والتحديد، فيجافي الصواب من يدّعي أنّه أمسك بالمعنى الأصليّ المقصود في أيّ قول ومن يزعم بأنّه يعلم بمضمونه علم اليقين على النحو الذي صدر عن قائله الأوّل، فما بالك ببعض علماء الدّين الذين يدّعون أنهم أقدر الناس على النفاذ إلى المعنى القرآنيّ الأصليّ الإلهيّ وأعينهم في غطاء عن الحديث النبويّ الشريف الذي يلحّ فيه الرسول على أنّ القرآن الكريم يأتي يوم القيامة بكرا كأن لم يفسّره أحد من قبل، وفي هذا دليل قاطع على نسبيّة معانيه وتعدّدها مثلما فهمها العقل البشريّ.